فأُفحم يحيى بن أكثم وسكت ، بعد أن أعيته أجوبة الاِمام عليه السلام عن
إيجاد مخرج لما تورط فيه (1) .
الحدث المعجز إنّما يجريه الله سبحانه وتعالى على يد أنبيائه ورسله
أو أوصيائهم؛ للتدليل على أن النبي المرسل أو الوصي المختار مرتبط
بالسماء بشكل أو بآخر ، وأن المعجزة ـ وهي أمر خارق للعادة الطبيعية ـ
هي تأييد لدعوى النبي بأنّه ينطق عن السماء ، وأن ما يأتي به من تعاليم
إنّما تصدر عن الله تبارك وتعالى؛ وتأييد لدعوى الوصي أو الاِمام
المعصوم أيضاً بأنّه يتصل بالنبوة التي هي بدورها من مختصات السماء .
ولقد وظّف أئمة أهل البيت عليهم السلام المعاجز والكرامات التي كانت تجري
على أيديهم في استقطاب أفراد الاُمّة حول محور الاِمامة ، ثم إرشادهم
وهدايتهم نحو المسار الصحيح .
ومن ذلك ، الخبر الذي يبيّن بجلاء توظيف الاِمام عليه السلام للمعجزة في
هداية الناس إلى طريق الحق ، وإلفات نظرهم إلى عظيم منزلة أئمة أهل
البيت عليهم السلام عند الله سبحانه . فقد جاء عن علي بن خالد ، قال : كنت
بالعسكر ، فبلغني أنّ هناك رجلاً محبوساً أُتي به من ناحية الشام مكبولاً ،
وقالوا : إنّه تنبأ (2) .
قال : فأتيت الباب وداريت البوّابين حتى وصلت إليه ، فإذا رجل له
فهم
فقال : إنّي كنت رجلاً بالشام أعبد الله في الموضع الذي يقال إنّه نُصب
فيه رأس الحسين عليه السلام فبينا أنا ذات ليلة في موضعي مقبلٌ على المحراب
أذكر الله تعالى إذ رأيت شخصاً بين يديّ ، فنظرت إليه . فقال لي : قم ،
فقمت معه فمشى بي قليلاً فإذا أنا في مسجد الكوفة ، قال : فصلّى
فصلّيت معه ثم انصرف وانصرفت معه ، فمشى قليلاً فإذا نحن بمسجد
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلّى وصلّيت معه ، ثم خرج
وخرجت معه فمشى قليلاً فإذا أنا بمكّة ، فطاف بالبيت وطفت معه ، ثم
خرج فمشى قليلاً فإذا أنا بموضعي الذي كنت أعبد الله تعالى فيه بالشام ،
وغاب الشخص عن عيني ، فبقيت متعجِّباً حولاً مما رأيت .
فلما كان في العام المقبل رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به ، ودعاني
فأجبته ، ففعل كما فعل في العام الماضي ، فلمّا أراد مفارقتي بالشام قلت
له : سألتك بحقّ الذي أقدرك على ما رأيت منك إلاّ أخبرتني من أنت ؟
فقال : « أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر » .
فحدّثتُ من كان يصير إليّ بخبره ، فرقي ذلك إلى محمد بن عبدالملك
الزيّات ، فبعث إليّ فأخذني وكبلني في الحديد وحملني إلى العراق
وحبست كما ترى ، وادُّعي عليَّ المحال .
فقلت له : فأرفع عنك قصة إلى محمد بن عبدالملك الزيّات .
فقال : إفعل .
فكتبت عنه قصة شرحت أمره فيها ورفعتها إلى محمد بن عبدالملك
قال علي بن خالد : فغمني ذلك من أمره ورققت له وانصرفت محزوناً
عليه ، فلما كان من الغد باكرت الحبس لاَعلمه بالحال وآمره بالصبر
والعزاء ، فوجدت الجند وأصحاب الحرس وأصحاب السجن وخلقاً
عظيماً من الناس يهرعون ، فسألت عن حالهم فقيل لي : المحمول من
الشام المتنبىَ افتقد البارحة من الحبس ، فلا يُدرى أخُسِفت به الاَرض أو
اختطفته الطير !
وكان هذا الرجل ـ أعني علي بن خالد ـ زيدياً ، فقال بالاِمامة لمّا رأى
ذلك وحسُنَ اعتقاده (1) .
وروي عن القاسم بن المحسن (2) ، قال : كنت فيما بين مكّة والمدينة
فمرَّ بي أعرابي ضعيف الحال ، فسألني شيئاً فرحمته وأخرجت له رغيفاً
فناولته إياه ، فلما مضى عني هبّت ريح شديدة ـ زوبعة ـ فذهبت بعمامتي
من رأسي ، فلم أرها كيف ذهبت ؟ وأين مرّت ؟ فلما دخلت على أبي
جعفر بن الرضا عليه السلام ، فقال لي : « يا قاسم ! ذهبت عمامتك في الطريق ؟ » .
قلت : نعم .
قال : « يا غلام أخرج إليه عمامته » ، فأخرج إليَّ عمامتي بعينها ، قلت:
قال : « تصدقت على الاَعرابي ، فشكر الله لك ، وردّ عمامتك ، وان الله لا
يضيع أجر المحسنين » (1) .
ونقل الإربلي عن القاسم بن عبدالرحمن ـ وكان زيدياً ـ قال : خرجت
إلى بغداد فبينا أنا بها إذ رأيت الناس يتعاودون ويتشرّفون ويقفون قلت :
ما هذا ؟ فقالوا : ابن الرضا ، ابن الرضا .
فقلت : والله لأنظرنّ إليه ، فطلع على بغل ـ أو بغلة ـ فقلت : لعن الله
أصحاب الاِمامة حيث يقولون إنّ الله افترض طاعة هذا .
فعدل إليَّ وقال : « يا قاسم بن عبدالرحمن ( أبَشَراً منّا واحداً نتّبِعُهُ إنّا إذاً
لفي ضلالٍ وسُعرٍ ) (2) » .
فقلت في نفسي : ساحر والله .
فعدل إليَّ فقال : « ( أأُلقي الذكرُ عَلَيهِ من بَينِنا بل هو كذّابٌ أشرٌ ) » (3) .
قال : فانصرفت وقلت بالاِمامة ، وشهدت أنه حجة الله على خلقه
واعتقدت (4) .
إنّ دور الاِمام عليه السلام في المجتمع هو نفس دور الاَنبياء والرسل عليهم السلام ،
يتمثل
ومن خلال استقراء منهج الاَنبياء والرسل في قيادة البشرية وهدايتها
عبر سلسلتهم الطويلة الممتدة منذ بدء الخليقة المتمثلة بالاِنسان الاَول ،
والذي كان نبياً أيضاً ، وحتى الرسالة الخاتمة المتمثلة بأشرف الاَنبياء
والرسل صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو خاتمهم ، نجد أنّ هذا المنهج يعتبر الاِنسان محور
حركته . . .
الاِنسان لا كعقل مجرد ، بل الاِنسان صاحب العقل والروح
والاَحاسيس والمشاعر . . الاِنسان صاحب القلب والعواطف . .
وعليه فمشروع الاَنبياء عليهم السلام وأوصيائهم ـ وخاتمتهم الاَئمة الاثني
عشر عليهم السلام ـ في صياغة الاِنسان وتربيته وصنعه ، يتم من خلال التعامل مع
تلك المقومات الاِنسانية التي ذكرنا بشكل عاطفي وعملي ، وليس
كالفلاسفة الذين يتعاملون ويتجاذبون مع العقول المجردة .
بعد هذه المقدمة الموجزة نستعرض بعض المرويات عن إمامنا جواد
الاَئمة عليه السلام والتي تكشف لنا كيفية توعيته لاَصحابه وشيعته وعموم الاُمّة
وارشادهم إلى السلوك الاِيماني القويم ومن ذلك؛ الخبر الذي أورده ابن
شعبة في تحف العقول حيث نقل أن أبا هاشم الجعفري قال للاِمام أبي
جعفر عليه السلام في يوم تزوج أُم الفضل ابنة المأمون : ( يا مولاي لقد عظمت
علينا بركة هذا اليوم .
فقال عليه السلام : « يا أبا هاشم ! عظمت بركات الله علينا فيه » .
قلت : نعم يا مولاي ، فما أقول في اليوم .
فقال عليه السلام : « تقول فيه خيراً فإنّه يصيبك » .
قلت : يا مولاي أفعل هذا ولا أخالفه .
قال عليه السلام : « إذاً ترشد ولا ترى إلاّ خيراً » ) (1) .
ومن ذلك أيضاً الخبر المروي في تهذيب شيخ الطائفة قدس سره بسنده عن
أبي ثمامة قال : قلت لاَبي جعفر الثاني عليه السلام : إنّي أُريد أن ألزم مكة أو
المدينة ، وعليّ دين ، فما تقول ؟
فقال عليه السلام : « إرجع إلى مؤدي دينك واُنظر أن تلقى الله عزَّ وجلَّ وليس
عليك دين ، إن المؤمن لا يخون » (2) .
وفي الكافي أورد عن ابن مهران ، قال : كتب أبو جعفر الثاني عليه السلام إلى
رجل : « ذكرت مصيبتك بعلي ابنك ، وذكرتَ أنه كان أحبّ ولدك إليك ،
وكذلك الله عزَّ وجلَّ إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله؛ ليعظم به
أجر المصاب بالمصيبة . فأعظم الله أجرك ، وأحسن عزاك ، وربط على
قلبك ، إنّه قدير ، وعجّل الله عليك بالخلف ، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن
شاء الله تعالى » (3) .
ونقل المجلسي في بحاره بسند رفعه إلى بكر بن صالح قال : ( كتب
صهر
فكتب : « قد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر أبيك ، ولست أدع الدّعاء
لك إن شاء الله ، والمداراة خير لك من المكاشفة ، ومع العسر يسر ، فاصبر إن
العاقبة للمتقين ثبتك الله على ولاية من تولّيت ، نحن وأنتم في وديعة الله
الذي لا يضيع ودائعه » .
قال بكر : فعطف الله بقلب أبيه حتى صار لا يخالفه في شيء ) (1) .
وحدّث الشيخ الصدوق عن أبيه قوله : ( حدثني سعد بن عبدالله ، عن
الهيثم بن أبي مسروق النهدي ، عن اسماعيل بن سهل ، قال : كتبت إلى
أبي جعفر الثاني عليه السلام علّمني شيئاً إذا أنا قلته كنت معكم في الدنيا
والآخرة .
قال : فكتب بخطّه أعرفه : « أكثر من تلاوة ( إنّا أنزلناه ) ورطّب شفتيك
بالاستغفار » (2) .
أئمة أهل البيت عليهم السلام هم أزِمّة الحقّ ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق !
إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يُسبقوا . فهم عيش العلم ، وموت الجهل .
فكما أن كلامهم عليهم السلام ، وكلّ كلامهم نور . . ونطقهم حكمة . . فإنّ إمامنا
الجواد عليه السلام ـ وهو أحد أهل البيت النبوي الطاهر ـ له أيضاً كلمات حكيمة ،
ومواعظ نورانية ، وآداب إلهية .
وقد آثرنا ونحن نقترب من خاتمة هذه الدراسة ، نقل قبسات من أنوار
حكمه عليه السلام والتي هي في مضامينها مناهج عمل ، وبرامج توعية وهداية
للسالكين طريق الحق والصلاح .
فمما قاله عليه السلام : « لا تعادِ أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين الله تعالى ،
فإن كان محسناً فإنه لا يسلمه إليك ، وإن كان مسيئاً فإن علمك به يكفيكه ،
فلا تعاده » .
وقال عليه السلام أيضاً : « الثقة بالله تعالى ثمن لكلِّ غالٍ ، وسُلّم إلى كلِّ عالٍ » .
وقال عليه السلام : « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة » .
وقال عليه السلام : « كيف يضيع من الله كافله ؟ ! وكيف ينجو من الله طالبه ؟ ! ومن
انقطع إلى غير الله وكّله الله ـ تعالى ـ إليه ، ومن عمل على غير علم أفسد أكثر
وقال عليه السلام : « استصلاح الاَخيار بإكرامهم ، والاَشرار بتأديبهم ، والمودّة
قرابة مستفادة » .
وقال عليه السلام : « القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح
بالاَعمال » .
وقال عليه السلام : « من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدي عن
الله عزَّ وجلَّ فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد
الشيطان »(2) .
وقال عليه السلام : « لو كانت السموات والاَرض رتقاً على عبد ثم اتقى الله تعالى
لجعل منها مخرجاً » .
وقال عليه السلام : « لا تكن ولياً لله في العلانية ، وعدواً له في السرِّ » .
وقال عليه السلام : « من استغنى بالله افتقر الناس إليه ، ومن اتقى الله أحبه الناس
وإن كرهوا » .
وقال عليه السلام : « لن يستكمل العبد حقيقة الاِيمان حتى يؤثر دينه على
شهوته ، ولن يهلك حتى يؤثر هواه وشهوته على دينه » .
وقال عليه السلام : « عزّ المؤمن غناه عن الناس » .
وقال عليه السلام : « من أطاع هواه أعطى عدوّه مناه » .
وقال عليه السلام : « من هجر المداراة قارنه المكروه ، ومن لم يعرف الموارد ،
أعيته المصادر » (1) .
وقال عليه السلام : « راكب الشهوات لا تُستقال له عثرة » .
وقال عليه السلام : « ما عظمت نعمة الله على عبد إلاّ عظمت عليه مؤونة الناس ،
فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرّض النعمة للزوال » .
وقال عليه السلام : « من كثر همّه سقم جسده » .
وقال عليه السلام : « من لم يرض من أخيه بحسن النية ، لم يرض بالعطية » .
وقال عليه السلام : « أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه؛
لاَنّ لهم أجره وفخره وذكره ، فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنّما يبدأ
فيه بنفسه ، فلا يطلبنّ شكر ما صنع إلى نفسه من غيره » .
وقال عليه السلام : « من أخطأ وجوه المطالب خذلته وجوه الحيل » .
وقال عليه السلام : « من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه » .
وقال عليه السلام : « موت الاِنسان بالذنوب أكثر من موته بالاَجل ، وحياته بالبر
أكثر من حياته بالعمر » .
وقال عليه السلام : « ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله تعالى : كثرة الاستغفار؛ ولين
الجانب؛ وكثرة الصدقة . وثلاث من كنّ فيه لم يندم : ترك العجلة ،
والمشورة؛ والتوكّل على الله عند العزم » .
وقال عليه السلام : « المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال : توفيق من الله ؛ وواعظ من
وقال عليه السلام : « التوبة على أربع دعائم : ندم بالقلب؛ واستغفار باللسان؛
وعمل بالجوارح؛ وعزم أن لا يعود » .
وقال عليه السلام : « أربع من كنّ فيه استكمل الاِيمان : من أعطى لله؛ ومنع في
الله؛ وأحب لله؛ وأبغض فيه » .
وقال عليه السلام : « الجمال في اللسان ، والكمال في العقل » .
وقال عليه السلام : « العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ، والصبر زينة
البلاء ، والتواضع زينة الحسب ، والفصاحة زينة الكلام ، والعدل زينة
الاِيمان ، والسكينة زينة العبادة ، والحفظ زينة الرواية ، وخفض الجناح زينة
العلم ، وحسن الاَدب زينة العقل ، وبسط الوجه زينة الحلم ، والاِيثار زينة
الزهد ، وبذل المجهود زينة النفس ، وكثرة البكاء زينة الخوف ، والتقلل زينة
القناعة ، وترك المن زينة المعروف ، والخشوع زينة الصلاة ، وترك ما لا
يعني زينة الورع » .
وقال عليه السلام : « يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم » .
وقال عليه السلام : « إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له » .
وقال عليه السلام : وقد سُئل عن الحزم : « هو أن تنظر فرصتك وتعاجل ما
أمكنك » (1) .
وقال لبعض الثقات عنده ، وقد أكثر من تقريظه : « أقلل من ذلك ، فإنّ
وقال عليه السلام : « الحسد ماحق للحسنات ، والزهو جالب للمقت ، والعُجب
صادن عن طلب العلم داعٍ إلى التخمّط في الجهل ، والبخل أذم الاَخلاق ،
والطمع سجية سيئة » (2) .
ونقل ابن حمدون ـ أيضاً ـ في تذكرته عن ربيع الاَبرار ، قوله عليه السلام : « إيّاك
والحسد فإنّه يَبين فيك ولا يَبين في عدوّك » (3) .
وقال عليه السلام : « عليكم بطلب العلم ، فإنّ طلبه فريضة ، والبحث عنه نافلة ،
وهو صلة بين الاِخوان ، ودليل على المروءة ، وتحفة في المجالس ،
وصاحب في السفر ، وأُنس في الغربة » (4) .
برحيل المأمون في 13 رجب سنة « 218 هـ » بويع لاَخيه أبي إسحاق
المعتصم محمد بن هارون في شعبان من نفس ذلك العام . ويبدو أن
الاَشهر الاَخيرة من تلك السنة كانت حافلة بحدث البيعة للخليفة الجديد ،
حيث إنّه لم يكن يومها في بغداد عاصمة الخلافة ، إذ كان خرج مع جيش
المأمون لحرب الروم وكان قائداً لاَحد فصائل الجيش .
ولما رجع إلى بغداد في رمضان شغلته الاَشهر الثلاثة الاَخيرة في
ترتيب القواد والوزراء وعمّال الولايات ، وبعض الثورات والتحركات
المضادة . وما أن استتب له أمر الملك وانقادت البلاد له شرقاً وغرباً ،
حتى أخذ يتناهى إلى سمعه بروز نجم الاِمام الجواد عليه السلام ، واستقطابه
لجماهير الاُمّة ، وأخذه بزمام المبادرة شيئاً فشيئاً . وتتسارع التقارير إلى
الحاكم الجديد بتحرك الاِمام أبي جعفر عليه السلام وسط الاُمّة الاِسلامية .
عليه ، يقرر المعتصم العباسي وبمشورة مستشاريه ووزرائه ، ومنهم
ابن أبي دؤاد الاِيادي ، قاضي القضاة المعروف حاله الشخصي ، المبغض
لاَهل البيت النبوي عليهم السلام الذي كان يسيطر على المعتصم وقراراته وسياسته ،
يقرر
لم يكن بد من قبل الاِمام عليه السلام من الاستجابة لهذا الاستدعاء ، الذي
يُشم منه الاِجبار والاِكراه ، وقد أحسّ الاِمام عليه السلام بأن رحلته هذه هي
الاَخيرة التي لا عودة بعدها؛ لذلك فقد خلّف ابنه أبا الحسن الثالث في
المدينة بعد أن اصطحبه معه إلى مكة لاَداء موسم الحجّ ، وأوصى له
بوصاياه وسلّمه مواريث الاِمامة ، وأشهد أصحابه بأنه إمامهم من بعده . .(2)
وتستمر الاستعدادات لترحيل الاِمام إلى بغداد ، ويستمهلهم الاِمام عليه السلام
لحين أداء الموسم ، وفعلاً يؤدي الاِمام الجواد عليه السلام الموسم ، ويترك مكّة
فور أداء المناسك معرجاً على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليخلّف فيها ابنه الوصي
الوريث ، ولكن يبدو أنه عليه السلام خرج من المدينة متجهاً إلى بغداد ولم يزر
جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وكأنه أراد بهذه العملية التعبير عن احتجاجه على
هذا الاستدعاء ، وأن خروجه من مدينة جده إنّما هو مكره عليه .
ويواصل الاِمام عليه السلام رحلته إلى المصير المحتوم وقد أخبر أحد أصحابه
بأنّه غير عائد من رحلته هذه مرة اُخرى (3) . كما روى محمد بن القاسم ،
عن أبيه ، وروى غيره أيضاً ، قال : لمّا خرج ـ الاِمام الجواد عليه السلام ـ من
المدينة في
وأخيراً ينتهي به المسير إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية ، مقرّه
ومثواه الاَخير الاَبدي ، ويدخلها لليلتين بقيتا من المحرم من سنة
« 220هـ »(3) . وما أن وصل إليها وحطّ فيها رحاله حتى أخذ المعتصم يدبّر
ويعمل الحيلة في قتل الاِمام عليه السلام بشكل سرّي؛ ولذلك فقد شكّل مثلثاً
لتدبير عملية الاغتيال بكلِّ هدوء . .
على الرغم من تعدد الروايات في كيفية شهادة الاِمام أبي جعفر
الجواد عليه السلام ، فإنّ أغلبها يجمع على أن الاِمام اغتيل مسموماً ـ ولو أن
البعض توقف في أن يشهد بذلك؛ لعدم ثبوت خبر لديه (4)ـ وأنّ مثلث
الاغتيال قد تمثّل في زوجته أم الفضل زينب بنت المأمون ، وهي المباشر
الاَول التي قدّمت للاِمام عنباً مسموماً ، ثم في أخيها جعفر ، يدبّرهم
ويساعدهم على هذا الاَمر المعتصم بن هارون .
فقد ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين ومنهم المؤرخ الشهير
المسعودي فقال : ( فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق لم يزل المعتصم
وجعفر بن المأمون يدبّرون ويعملون الحيلة في قتله ، فقال جعفر لاُخته أم
الفضل ـ وكانت لاُمّه وأبيه ـ في ذلك؛ لاَنّه وقف على انحرافها عنه
وغيرتها عليه لتفضيله أُم أبي الحسن ابنه عليها ، مع شدّة محبتها له؛
ولاَنّها لم ترزق منه ولد ، فأجابت أخاها جعفراً ) (1) .
وقال غيره : ( ثم إنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه السلام
وأشار إلى ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه؛ لاَنّه وقف على انحرافها عن أبي
جعفر عليه السلام وشدة غيرتها عليه؛ لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها؛ ولاَنّه لم
يرزق منها ولد ، فأجابته إلى ذلك ) (2) .
أما ابن شهر آشوب فقد نقل في مناقبه أنّه : ( لما بويع المعتصم جعل
يتفقد أحواله ، فكتب إلى عبدالملك الزيّات أن ينفذ إليه التقي وأم
الفضل ) (3) .
كما تضاربت الآراء واختلفت في تعيين تاريخ مولده ، كذلك وقع
الاختلاف في تعيين يوم شهادته عليه السلام . ولا يمكن الترجيح على نحو الجزم
بأحد تلك الاَقوال سواء في المولد أو الوفاة ، لكننا نستطيع أن نستقرب
أحد التواريخ المنقولة في المصادر من خلال الاستئناس ببعض القرائن أو
وبناءً على كون عمر الاِمام الجواد عليه السلام عند وفاته قد ضبط في بعض
المصادر بخمس وعشرين سنة ، وشهرين ، وثمانية عشر يوماً (1) ، ولو
رجّح تاريخ مولده في 17 رمضان سنة ( 195 هـ ) (2) ، فإنّ وفاته عليه السلام ستكون
وفق ذلك البناء يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة سنة ( 220 هـ ) (3) .
ومما يعضد هذا الرأي وجود رواية في الكافي في باب الاِشارة والنصّ
على أبي الحسن الثالث عليه السلام : « شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر
أنّ أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، أشهده أنه أوصى إلى عليّ ابنه بنفسه
وأخواته . . إلى أن ينتهي من بعض وصاياه ويؤرخ الوصية بقوله : وذلك يوم
الاَحد لثلاث ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومئتين . . » (4) .
من هذا يتبيّن أن الاِمام عليه السلام حي يرزق في يوم الاَحد ، حيث كتب
وصيته وأشهد عليها ثلاثة من أصحابه المقربين إليه : خادمه ، ومولاه ،
وأحد أبناء عمومته ، ثم كانت بعد ذلك شهادته عليه السلام يوم الثلاثاء .
وقيل : يوم الثلاثاء لست ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة عشرين
ومائتين(5) .
=
أما كيفية وفاته عليه السلام فإنّه اختُلف فيها أيضاً ، فمن قائل بشهادته مسموماً
بعنب رازقي ، ومن قائل بمسموميته في منديل ، وهناك من قال إنّه سُمَّ
بشراب ، أو من قال إنّ المعتصم أشار إلى أعوانه بدعوته إلى مأدبة فقُدِّم له
طعام مسموم فأكل منه ، ومنهم من صرّح بعدم ثبوت خبر موته بالسم ،
وسكت البعض الآخر عن كيفية موته واكتفى بكلمة ( قُبض ) .
ولعلَّ أقدم نصٍّ توفّرنا عليه الخبر الذي أورده العياشي المتوفّى سنة
« 320 هـ » في تفسيره .
قال العياشي : ( . . . قال زرقان : إنّ ابن أبي دؤاد قال : صرت إلى
المعتصم بعد ثلاثة ، فقلت : إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة ، وأنا
أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار .
قال : وما هو ؟
قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لاَمر
واقع من اُمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من
الحكم في ذلك ، وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه ،
وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل
يقول شطر هذه الاُمّة بإمامته ، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم
بحكمه دون حكم الفقهاء !!
قال : فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك
خيراً ، قال : فأمر ( المعتصم ) يوم الرابع فلاناً من كتّاب وزرائه بأن يدعوه
إلى منزله ،
فصار إليه ، فلما أُطعم منها أحسَّ السم ، فدعا بدابته ، فسأله ربّ
المنزل أن يُقيم ، قال : « خروجي من دارك خير لك » .
فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفة حتى قُبض عليه السلام ) (1) .
أما الشيخ المفيد رحمه الله فقد نقل في إرشاده بأنّه عليه السلام : ( قُبض ببغداد ، وكان
سبب وروده إليها إشخاص المعتصم له من المدينة ، فورد بغداد لليلتين
بقيتا من المحرم من سنة عشرين ومئتين ، وتوفي بها في ذي القعدة من
هذه السنة .
وقيل : إنّه مضى مسموماً ، ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به ) (2) .
في حين نجد أن المؤرخ علي بن الحسين المسعودي المتوفّى سنة
« 436 هـ » يقول : ( وقيل : إنّ أُم الفضل بنت المأمون لمّا قدمت معه من
المدينة إلى المعتصم سمّته ) (3) .
وفي موضع آخر ذكر أن مثلث الاغتيال ( المعتصم ـ جعفر ـ أم الفضل )
كانوا قد تشاوروا وتعاونوا على قتل الاِمام والتخلّص منه بعد قدومه إلى
بغداد ، بل ما استدعي إلاّ للغرض ذاته . فقال : ( . . وجعلوا ـ المعتصم بن
والخلفة : ذهاب شهوة الطعام من المرض ، أو الإسهال والتقيؤ نتيجة التسمم .
ولما حضرت الاِمام عليه السلام الوفاة نصّ على أبي الحسن وأوصى إليه ،
وكان قد سلّم المواريث والسلاح إليه بالمدينة ) (1) .
وأضاف ابن شهرآشوب السروي المازندراني ( ت | 588 هـ ) ، وأبو
جعفر محمد بن جرير الطبري الاِمامي ( من أعلام القرن الخامس
الهجري ) ، « إنّ امرأته أم الفضل بنت المأمون سمّته في فرجه بمنديل ،
فلمّا أحس بذلك قال لها : « أبلاك الله بداء لا دواء له » ، فوقعت الاَكلة في
فرجها ، وكانت تنصب للطبيب فينظرون إليها ويسرون ـ أو يشيرون ـ
بالدواء عليها فلا ينفع ذلك حتى ماتت من علّتها ) (2) .
وقال ابن شهرآشوب قبل ذلك أن الاِمام عليه السلام لمّا تجهّز ( وخرج إلى
بغداد فأكرمه ـ أي المعتصم ـ وعظّمه ، وأنفذ أشناس (3) بالتحف إليه وإلى
أم
وبعد ، فهذا إجمال لما ورد في شأن وفاته وكيفيتها ، والذي يبدو
راجحاً هو أن الاِمام عليه السلام قُضي عليه بالسم ، وأن المشاركين في عملية
الاغتيال قد عرفتهم ، وعرفت تدبيرهم . مع العلم أن محاولات سبقت
كانت تدّبر لاغتيال الاِمام؛ لكنّه عليه السلام كان يعلم بها ، وكان حذراً وقد أخذ
بالاحتياط في التعامل سواء مع زوجته أو مع أعوان السلطان في مأكله
ومشربه . ولقد كان متوقعاً هذا الاَمر قبل وقت غير قليل ، فيوم دخل عليه
محمد بن علي الهاشمي صبيحة عرسه في بغداد كان يتوقع هذا أن يأتوا
للاِمام بماء مسموم حين طلب ماءً للشرب .
كما أفلت عليه السلام من محاولة استهدفت سمّه في طعام قدّم له ، فقد نقل
أبو جعفر المشهدي باسناده : ( عن محمد بن القاسم ، عن أبيه ، وعن غير
واحد من أصحابنا أنّه قد سمع عمر بن الفرج أنّه قال : سمعتُ من أبي
جعفر عليه السلام شيئاً لو رآه محمداً أخي لكفر .
فقلت : وما هو أصلحك الله ؟