وقعة الجمل
تأليف
ضامن بن شدقم بن علي الحسيني المدني
متوفى بعد 1082 هـ
تحقيق : السيد تحسين آل شبيب الموسوي
( 5 )
بسم الله الرحمن الرحيم
( 6 )
( 7 )
الى شهداء الحق والفضيلة . .
الى الذين سقطوا بسهام الغدر . .
في معارك :
الجمل . .
وصفين . .
والنهروان . .
أهدي جهدي المتواضع
( 8 )
( 9 )
الحمد لله ناصر الحق ومخزي الباطل ، وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين ، وعلى آله الاخيار المنتجبين .
ان الفتنة التي ظهرت بالبصرة بعد بيعة الامام علي عليه السلام بمدة قليلة كان سببها ما احدثه طلحة والزبير من نكث بيعتهما التي بايعا بها امير المؤمنين عليه السلام طائعين غير مكرهين ، ثم خروجهما من المدينة الى مكة يظهران العمرة ، ثم اجتماعهما بعائشة التي كانت تراقب الوضع السياسي عن كثب في المدينة ، ثم التحاق عمال عثمان الهاربين من الامصار بأموال المسلمين بهما ، وقد اجمعوا في اجتماعهم على الطلب بدم عثمان ، فأجابهم الى مرادهم الغوغاء الذين استهوتهم الفتنة .
وكان رأي الجماعة التوجه الى الشام والالتحاق بمعاوية ، لكن محاولة عبد الله بن كريز بن عامر ، عامل عثمان الهارب من البصرة ان يغير وجهة القوم الى البصرة ، باعتباره كان عاملا لعثمان عليها ، ولعثمان فيها انصار ، بعدها قرر القوم التوجه الى البصرة بعد ان زودهم يعلى بن امية والي عثمان على اليمن الذي هرب ايضا بأموالها والتحق بهم
( 10 )
بستمائة بعير وستمائة الف درهم ، وكذلك جهزهم ابن عامر بمال كثير .
لكن لنعد الى الوراء قليلا لنرى حقيقة هؤلاء القوم الذين يحملون الضغائن في صدورهم لال بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والذين اخبر بهم صلى الله عليه وآله وسلم في اكثر من موضع ، ففي رواية انس بن مالك ، قال : ان النبي وضع رأسه على منكبي علي فبكى ، فقال له : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : « ضغائن في صدور اقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا » (1) .
وروي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذات يوم جالسا ، وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام ، فقال لهم : « كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى ؟ فقال الحسين عليه السلام : أنموت موتا أو نقتل ؟ فقال : بل تقتل يا بني ظلما ، ويقتل أخوك ظلما ، وتشرد ذراريكم في الارض ، فقال الحسين عليه السلام : ومن يقتلنا يا رسول الله ؟ قال : شرار الناس » (2) الحديث .
وعلى الرغم من هذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يحذر الامة من انتهاك كرامة اهل بيته ، ويتوعد كل من يفعل بهم ذلك أن يكون مصيره النار لا محالة ، ثم خص جماعة منهم بالتحذير كما فعل مع الزبير حين قال له : « إنك ستخرج عليه وانت ظالم له » (3) ، كما حذر
عائشة من أن
____________
(1) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام علي ) 2 : 321 - 327 .
(2) الارشاد 2 : 13 .
(3) مروج الذهب م 2 : 371 .
( 11 )
تكون هي التي تنبحها كلاب الحوأب .
لكن كل تحذيرات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعبأ بها القوم ، فكان صلى الله عليه وآله وسلم على يقين بأن اشرار الامة ستمتهن كرامة اهل بيته ( سلام الله عليهم ) لذا صلى الله عليه وآله وسلم اخبر عليا عليه السلام بأنه سيكون له يوم مع أراذل الامة ، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لسهيل بن عمرو لطلبه على رد من أسلم من مواليهم :
« لتنتهين يا معشر قريش أو ليبعث الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ، فقال له بعض أصحابه : من يا رسول الله ؟ هو فلان ؟ قال : لا . قال : ففلان ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف في الحجرة ، فنظروا فإذا علي عليه السلام في الحجرة يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله » (1) .
كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم للامام علي عليه السلام : « تقاتل يا علي على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله » (2) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لامير المؤمنين عليه السلام : « تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين » (3) . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « علي مع الحق والحق مع
____________
(1) انظر : تذكرة الخواص : 40 ، كشف الغمة 1 : 335 ، اُسد الغابة 4 : 26 ، اعلام الورى : 189 ، مناقب الخوارزمي : 128 ، مجمع الزوائد 5 : 186 ، فرائد السمطين 1 : 162 .
(2) حلية الاولياء 1 : 67 ، مناقب ابن المغازلي : 298 ، الصواعق المحرقة : 123 .
(3) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 80 .
( 12 )
علي ، اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار » (1) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : « قاتل الله من قاتلك ، وعادى من عاداك » (2) .
اذن ما حقيقة هؤلاء الذين يقاتلون امير المؤمنين عليه السلام ، وما حقيقة هؤلاء الناكثين الذين امر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام بقتالهم .
نقول : النكث في اللغة ، هو نكث الاكسية والغزل ، قريب من النقض ، واستعير لنقض العهد ، قال الله تعالى : ( وإن نكثوا أيمانهم (3) ـ إذا هم ينكثون ) ، والنكث كالنقض ، والنكيثة كالنقيضة ، وكل خصلة نكث فيها القوم يقال لها نكيثة ، قال الشاعر : « متى يك أمر للنكيثة أشهد » (4) .
وعلى هذا الاساس فكل من صفق على يد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام بالبيعة ثم نكث بيعته فهو مشمول بأخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا بقتاله . ولاشك أن طلحة والزبير كانا من الذين خصهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها السلام بكلمة « الناكثين » في صدر الحديث الانف الذكر .
فأين هم من احاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحق امير المومنين عليه السلام ؟
____________
(1) اعلام الورى : 159 ، تاريخ بغداد 14 : 321 ، المستدرك 3 : 124 .
(2) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 81 .
(3) التوبة (9) : 12 .
(4) اساس البلاغة : 472 ، المفردات في غريب القرآن : 504 .
( 13 )
واين هم من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعلن للملأ : « إن وليتم عليا يسلك بكم الطريق المستقيم » (1) .
لكن الرسول العظيم يرى كل هذه الامور من وراء ستر رقيق ، ويخبر اهل بيته وعترته بما تؤول إليه امورهم بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي رواية عن الامام علي عليه السلام ، يقول : « عهد الي رسول الله : ان الامة ستغدر بك » (2) ، لذلك لم يجد الامام عليه السلام بدا من قتال القوم كما قال : « ما وجدت بدا من قتال القوم أو الكفر بما انزل الله » (3) .
بعد هذه المقدمة القصيرة ، هل نطمئن الى ان طلحة والزبير هم حقيقة من الذين بشروا بالجنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ عند العودة الى احاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حق اهل بيته وما تناقله الرواة على مستوى جميع المذاهب ، والروايات التي جاءت مستفيضة ومتواترة وحسنة الاسناد ، وكذا الروايات الكثيرة المسندة في حق من نصب العداوة والبغضاء لاله صلى الله عليه وآله وسلم .
نجد بأن حقيقة التبشير بالجنة لا اساس لها من الصحة ، وإن كان بعض فرق السنة والجماعة روجوا لهذا الحديث ، وجاءوا بتأويلات باهتة حفظا لماء الوجه ، فقالوا : إن ذلك من الاجتهاد ، وعمل كل فريق منهم على رأيه ، فكان بذلك مأجورا وعند الله تعالى مشكورا ، وإن كانوا
____________
(1) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام علي عليه السلام ) 3 : 90 ـ 94 .
(2) المصدر السابق 3 : 148 ـ 161 .
(3) المصدر السابق 3 : 220 ـ 221 .
( 14 )
قد سفكوا فيه الدماء وبذلوا فيه الاموال (1) .
ونقول : فأي اجر في سفك الدماء وانتهاك المحارم ، والخروج على الامام العادل ، وشق عصا المسلمين وسرقة بيوت اموالهم ؟
فإذا كان الشك يداخلهم في قتال علي عليه السلام ، فالحافظ ابن عساكر يخبرنا في رواية بسند عن عبيدالله بن ابي الجعد ، قال : سئل جابر بن عبد الله عن قتال علي ، فقال : ما يشك في قتال علي الا كافر (2) .
وإذا سلمنا بأن حديث العشرة المبشرين في الجنة صحيح ومتفق عليه ، فالامام علي عليه السلام احد المبشرين بالجنة ، وطلحة والزبير هما ايضا من المبشرين بالجنة ، فمن خلال فتنة الجمل ، فيجب ان يكون احد الطرفين المتحاربين على حق والاخر على باطل ، فقتلي صاحب الحق شهداء ويدخلون الجنة ، وقتلى الباطل اشقياء ويدخلون النار ، فمن غير المعقول ان يكون كلا الطرفين على حق ، وتهرق في سبيلهما الدماء ، وإذا عرضنا الموضوع على الدين والعقل فأي منهما صاحب الحق والعدل ؟ وهذا مما لا يحتاج الى زيادة تفكير ، وقد جاءت الاية الكريمة مصداقا لقوله تعالى : ( يوم نحشر كل امة بإمامهم ) (3) فيحشر قتلى علي مع علي ويستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحشر قتلى الطرف الثاني
____________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 58 .
(2) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام علي عليه السلام ) 3 : 420 - 143 .
(3) الاسراء (17) : 71 .
( 15 )
امثال بني ضبة وغيرهم يتقدمهما طلحة والزبير ، والله يعلم اي زواية يشغلون ! وهو مما يعزز قولنا كما جاء في رواية ابن المغازلي ، قال : أخبرنا احمد بن محمد بن عبد الوهاب اذنا ، عن القاضي ابي الفرج احمد بن علي ، قال : حدثنا أبو غانم سهل بن اسماعيل بن بلبل ، قال : حدثنا أبو القاسم الطائي ، قال : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا العباس بن بكار ، عن عبد الله بن المثنى ، عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن ابيه ، عن جده ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنم ، لم يجز إلا من معه كتاب ولاية علي بن ابي طالب » (1) .
والمعروف ان طلحة والزبير وامثالهم مزقوا هذا الكتاب وجحدوا فيه ، وجعلوه خلف ظهورهم ، فأنى لهم وعبور الصراط ؟
طلحة والزبير يؤلبان على عثمان
من المواقف التي ساهمت في زيادة حدة التوتر ما بين موقف الثوار المتشدد الذي يطالب عثمان بأصلاحات أو بخلع نفسه ، وبين عثمان الذي كان متصلبا ايضا في مواقفه تجاه مطالبهم ، حتى شددوا عليه قبضة الحصار المفروض والذي دام أربعين يوما ، وموقفا طلحة والربير اللذين ساهما في الوقيعة به وادى ذلك الى مقتله .
يروي الشيخ المفيد ( اعلا الله مقامه ) انه قال : ( ولما أبى عثمان ان
____________
(1) مناقب ابن المغازلي : 242 ، العمدة : 369 .
( 16 )
يخلع نفسه تولى طلحة والزبير حصاره ، والناس معهما على ذلك ، فحصروه حصرا شديدا ، ومنعوه الماء ، فأنفذ الى علي عليه السلام يقول : إن طلحة والزبير قد قتلاني بالعطش ، والموت بالسلاح احسن . فخرج علي عليه السلام معتمدا على يد المسور بن مخرمة الزهري حتى دخل على طلحة بن عبيدالله ، وهو جالس في داره يبري نبلا وعليه قميص هندي فلما رآه طلحة رحب به ووسع له على الوسادة . فقال له علي عليه السلام : « إن عثمان قد أرسل إلي أنكم قد قتلتموه عطشا وان ذلك ليس بالحسن ، والقتل بالسلاح أحسن له ، وكنت آليت على نفسي أن لا أرد عنه أحدا بعد أهل مصر ، وأنا أحب ان تدخلوا عليه الماء حتى تروا رأيكم فيه » . فقال طلحة : لا والله لا نعمة عين له ، ولا نتركه يأكل ويشرب ! فقال علي عليه السلام : « ما كنت أظن أن اكلم أحدا من قريش فيردني ، دع ما كنت فيه يا طلحة ». فقال طلحة : ما كنت أنت يا علي في ذلك من شيء . فقام علي عليه السلام مغضبا ، وقال : « ستعلم يابن الحضرمية (1) أكون في ذلك من شيء أم لا ! ثم انصرف » (2) .
وروى أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشي أيضا ، قال : حدثني يزيد بن ابي زياد ، عن عبد الرحمن بن ابي ليلى ، قال : والله إني لأنظر
____________
(1) الحضرمية : هي ام طلحة ، وهي الصعبة بنت عبد الله بن عباد بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عوين بن مالك بن الخزرج بن اياد بن الصدف بن حضرموت من كندة يعرف ابوها عبد الله بالحضرمي . انظر : طبقات ابن سعد 3 : 214 ، الاستيعاب 2 : 219 .
(2) تاريخ الطبري 4 : 385 ، التمهيد والبيان : 152 ، العقد الفريد 2 : 267 .
( 17 )
الى طلحة ، وعثمان محصور ، وهو على فرس أدهم ، وبيده الرمح يجول حول الدار ، وكأني أنظر الى بياض ما وراء الدرع (1) .
وفي رواية ابن الاثير ، قال : وقد قيل ان عليا كان عند حصر عثمان بخيبر ، فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة ، وكان ممن له أثر فيه ! فلما قدم علي أتاه عثمان ، وقال له : أما بعد فإن لي حق الاسلام وحق الاخاء والقرابة والصهر ، ولو لم يكن من ذلك شيء وكنا في الجاهلية ، لكان عارا على بني عبد مناف ان ينتزع أخو بني تيم ، يعني طلحة ، أمرهم ، فقال له علي : « سيأتيك الخبر » ، ثم خرج الى المسجد فرأى أسامة فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة ، وهو في خلوة من الناس ، فقال له : « يا طلحة ما هذا الامر الذي وقعت فيه ؟ » فقال : يا ابا الحسن بعدما مس الحزم الطبيين . فانصرف علي حتى اتى بيت المال فقال : ( افتحوه ) فلم يجدوا المفاتيح ، فكسر الباب واعطى الناس ، فانصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده ، وسر بذلك عثمان ، وجاء طلحة فدخل على عثمان وقال له : يا أمير المؤمنين أردت امرا فحال الله بيني وبينه ! فقال عثمان : والله ما جئت تائبا ، ولكن جئت مغلوبا ، الله حسيبك يا طلحة (2) .
وفي رواية اخرى ، قال عبد الله بن عباس بن ابي ربيعة : دخلت
____________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146 .
(2) الكامل في التاريخ : 3 : 167 .
( 18 )
على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه ، فمنهم من يقول : ما تنتظرون به ؟ ومنهم من يقول : انظروا عسى ان يراجع . قال : فبينما نحن واقفون إذ مر طلحة فقال : أين ابن عديس ؟ فقام إليه فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لاصحابه : لا تتركوا احدا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده . فقال لي عثمان : هذا ما أمر به طلحة ، اللهم اكفني طلحة فإنه حمل عليّ هؤلاء وألبهم علي ! والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا وأن يسفك دمه ! (1) .
اما موقف الزبير من قضية حصار عثمان ، فهو لم يكن افضل من صاحبه كما جاء في رواية ابي حذيفة القرشي ، عن الاعمش ، عن حبيب بن ابي ثابت ، عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال : أتيت الزبير ، وهو عند أحجار الزيت ، فقلت له : يا با عبد الله قد حيل بين أهل الدار وبين الماء ، فنظر نحوهم وقال : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ) (2) .
وفي رواية ابي اسحاق قال : لما اشتد بعثمان الحصار عمل بنو أمية على إخراجه ليلا الى مكة وعرف الناس ذلك فجعلوا عليه حرسا ، وكان على الحرس طلحة بن عبيدالله وهو أول من رمى بسهم في دار عثمان ، قال : واطلع عثمان وقد اشتد به الحصار وظمي من العطش فنادى : أيها
____________
(1) المصدر السابق 3 : 174 .
(2) سبأ : 34 ، 54 . العقد الفريد 4 : 299 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146 .
( 19 )
الناس ! أسقونا شربة من الماء وأطعمونا مما رزقكم الله ، فناداه الزبير بن العوام يا نعثل ! لا والله ، لا تذوقه (1) .
وذكر ابن ابي الحديد المعتزلي ، قال ، قال أبو جعفر : وكان لعثمان على طلحة بن عبيدالله خمسون الفا ، فقال طلحة له يوما : قد تهيأ مالك فاقبضه ، فقال : هو لك معونة على مروءتك ، فلما حصر عثمان ، قال علي عليه السلام : « أنشدك الله إلا كففت عن عثمان ! » فقال : لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها . فكان علي عليه السلام يقول : « لحا الله ابن الصعبة ! أعطاه عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل ! » (2) .
بعد هذه الاحاديث الدالة على مساهمة طلحة والزبير مساهمة فعالة ، حتى ضيقوا الخناق عليه ، ومنعوا من دخول الماء إليه ، حتى كان يستنجد عدة مرات بالامام علي عليه السلام ، فيحاول الامام على الرغم من ممانعة طلحة إيصال الماء الى عثمان . فيروي ابن الاثير في هذا الشأن : فقال علي لطلحة : « أريد أن تدخل عليه الروايا ، وغضب غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان » (3) . حتى قتل عثمان بتحريض منهم ، ثم بعدها يتظاهرون بالطلب بدمه الذي هم سفكوه ، بعد مبايعتهم عليا عليه السلام ، فأظهروا الندم ، وأثاروا الفتنة ، وجمعوا من حولهم الغوغاء ، واصحاب النفوس المريضة امثال : مروان بن الحكم ، وسعيد بن
____________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146 .
(2) شرح نهج البلاغة 2 : 161 .
(3) الكامل في التاريخ 3 : 166 .
( 20 )
العاص ، والوليد بن عقبة بن ابي معيط ، وعبد الله بن كريز بن عامر ، ويعلى بن أمية ، وغيرهم من امثالهم كثير .
فما عسانا ان نقول لقوم جاهدوا رد تلك الشبهات عن تلك الزمرة الناكثة ، وما عسانا ان نقول لهم وحججهم خاوية امام وثائق التاريخ الدامغة .
وعائشة ايضا
واما عائشة فلها النصيب الاوفر في تأليب الناس وتحريضهم على الفتك بعثمان . قال الشيخ المفيد رحمه الله : ( فهو أظهر مما وردت به الاخبار من تأليب طلحة والزبير ، فمن ذلك ، ما رواه محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن مشايخه ، عن حكيم بن عبد الله ، قال : دخلت يوما بالمدينة المسجد ، فإذا كف مرتفعة وصاحب الكف يقول : أيها الناس ! العهد قريب ، هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وآله وقميصه ، كأني أرى ذلك القميص يلوح وأن فيكم فرعون هذه الأمة ، فإذا هي عائشة ، وعثمان يقول لها : اسكتي ! ثم يقول للناس : إنها امرأة وعقلها عقل النساء فلا تصغوا الى قولها ) (1) .
وروى الحسن بن سعد قال : ( رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودين من وراء حجلتها ، وعثمان قائم ، ثم قالت : يا عثمان أقم ما
____________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 147 .
( 21 )
في هذا الكتاب ، فقال : لتنتهن عما انت عليه أو لأدخلن عليك جمر النار ! فقالت له عائشة : أما والله ، لئن فلعت ذلك بنساء النبي صلى الله عليه وآله ليلعنك الله ورسوله ! وهذا قميص رسول الله لم يتغير وقد غيرت سنته يا نعثل (1) !
وروى ليث بن ابي سليم ، عن ثابت الانصاري ، عن ابن ابي عامر مولى الانصار ، قال : كنت في المسجد فمر عثمان فنادته عائشة : يا غدر ! يا فجر ! أخفرت أمانتك ، وضيعت رعيتك ، ولولا الصلوات الخمس لمشى اليك الرجال حتى يذبحوك ذبح الشاة !
فقال عثمان : ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) (2) .
هذه بعض الاحاديث اقتصرنا عليها في بيان موقف السيدة عائشة من مسألة الثورة على عثمان التي ادت الى مصرعه .
لكن لماذا هذا الانقلاب المفاجئ للسيدة عائشة بعد قتل عثمان ، وتولي امير المؤمنين عليه السلام لمقاليد الخلافة ؟ حتى صارت تجمع رؤوس
____________
(1) انظر المصدر السابق م 1 : 147 .
« وكان اعداء عثمان يسمونه نعثلا ، تشبيها برجل من مصر ، كان طويل اللحية اسمه نعثل ، وقيل النعثل : الشيخ الاحمقُ ) . انظر : النهاية 5 : 80 .
(2) التحريم : 66 . وانظر : الفتوح م 1 : 419 ، الايضاح : 141 .
( 22 )
الشقاق من حولها ، وتعبىء الجيوش لمخالفة الامام واظهار الفتنة ، وتكتب الرسائل الى بعض الشخصيات تطالبهم بنقض البيعة والالتحاق بها مع من تجمع حولها من المنافقين والاشرار تطالب بدم عثمان ، وكانت قبل سماعها تولي الامام امير المؤمنين الخلافة فرحة مسرورة تود لو ان طلحة أو الزبير توليا هذا الامر من بعد عثمان . يذكر انه لما قتل عثمان بن عفان خرج النعاة الى الافاق ، فلما وصل بعضهم الى مكة سمعت بذلك عائشة فاستبشرت بقتله وقالت : قتلته اعماله ، إنه احرق كتاب الله ، وامات سنة رسول الله صلى الله عليه وآله فقتله الله ، قالت : ومن بايع الناس ؟ فقال لها الناعي : لم ابرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبيدالله نعاجا لعثمان ، وعمل مفاتيح لابواب بيت المال ، ولا شك ان الناس قد بايعوه . فقالت : إيها ذا الاصبع ! قد وجدوك لها كافيا وبها محسنا . ثم قالت : شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي لأتوجه الى منزلي . فلما شد رحلها واستوت على مركبها سارت حتى بلغت سرفا (1) ـ موضع معروف بهذا الاسم ـ لقيها عبيد بن ام كلاب (2) ، فقالت له : ما الخبر ؟ فقال : قتل عثمان . فقالت : قتل نعثل ؟ فقال : قتل نعثل ! فقالت : خبرني عن قصته وكيف كان أمره ؟ فقال : لما احاط الناس بالدار وبه رأيت طلحة بن عبيدالله قد غلب على الامر ، واتخذ مفاتيح
____________
(1) سرف : بفتح اوله وكسر ثانيه ، على ستة اميال من مكة من طريق مر . معجم ما استعجم م 1 : 735 .
(2) في الكامل في التاريخ 3 : 206 عبيد بن ابي سلمة ، وهو ابن ام كلاب .
( 23 )
على بيوت الاموال والخزائن ، وتهيأ ليبايع له ، فلما قتل عثمان مال الناس الى علي بن ابي طالب عليه السلام ، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره ، وخرجوا في طلب علي يقدمهم الاشتر ، ومحمد بن ابي بكر ، وعمار بن ياسر حتى أتوا عليا عليه السلام وهو في بيت سكن فيه ، فقالوا له : بايعنا على الطاعة لك ، فتلكأ ساعة ، فقال الاشتر : يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك ، فبايع قبل ان تختلف الناس ، قال : وفي الجماعة طلحة والزبير فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي كلام قبل ذلك ، فقال الاشتر لطلحة : قم يا طلحة فبايع ، قم يا زبير فبايع ، فما تنتظران ؟
فقاما فبايعا وأنا أرى أيديهما على يده يصفقانها ببيعته ، ثم صعد علي بن ابي طالب عليه السلام المنبر فتكلم بكلام لا احفظه ، إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد ، فلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم ما جرى بعدي .
فقالت : يا اخا بني بكر ، انت رأيت طلحة بايع عليا ؟ فقلت : إي والله ، رأيته بايعه ، وما قلت إلا ما رأيت ، طلحة والزبير أول من بايعه . فقالت : إنا لله ! أكره ـ والله ـ الرجل ، وغصب علي بن ابي طالب أمرهم وقتل خليفة الله مظلوما ! ردوا بغالي ، ردوا بغالي . فرجعت الى مكة ، قال : وسرت معها فجعلت تسألني في المسير وجعلت أخبرها بما كان ، فقالت لي : هذا بعدي وما كنت أظن أن الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه يوم اُحُد .
قلت : فإن كان بالبلاء فصاحبه الذي بويع أشد بلاء وعناء .