وهو مصرع أميرالمؤمنين عليه السلام إخواني ، قرّطوا آذان الإيمان بفكّ أقفالها ، وشنّفوا مسامع الإذعان بحلّ أغلالها ، وخففوا ظهور الإيقان بحطّ أثقالها ، وتيقّنوا أنّ الحكيم الأكمل لم يخلق الخلق بلا فائدة ، وتصوّروا أن الحاكم الأعدل لا يظلم في الأحكام النافذة ، واعلموا أنّ الغنيّ الجواد لا يرغب إلى رفد سواه ، وتحققوا أنّ الكريم المتفضّل لا يرجع فيما أسداه ، والطبع السليم أوجب شكر المنعم ، والعقل المستقيم حتّم حمد الرازق المتكرّم ، والشكر على جسيم الفواضل ضروريّ الوجوب ، والحمد لربّ الفضائل أمر مندوب . فأعظم منن الله على العباد إرشادهم إلى طريق الرشاد ، وأجسم مواهب الملك الجواد إيصال عبده إلى جادة السداد ، ليفيض عليه نوالَيه ، حيث قد منحه بأصغَريه ، وكشف عن محجّبات عقله حجاب المتشكّكين ، وناداه بعد فتح باب المعرفة : ( اُدخلوها بسلام آمنين ) (1) . وعلة هذه النعمة وأصلها ومعناها وصورتها هي الولاية لأميرالمؤمنين عليه السلام ، وبها يصل العبد إلى غاية المرام ، وذلك لأنّ أميرالمؤمنين عليه السلام أخو النبي ووصيّه ، ونائب الحق تعالى ووليه ، وأسد الله وعليّه ، ومختاره ورضيّه ، الذي واسى النبي وساواه ، وبمهجته في الملّمات وقاه ، وأجابه حين دعاه ولبّاه ، وشيّد الدين بعزمه وبناه ، وكان بيت النبوّة مرباه ومنشاه ، وشمس الرسالة عرشه ومرتقاه ، وغُصنَي الجلالة ولداه ، فكم نصر الرسول وحماه ، وغسّل النبي وواراه ، وقام بدَينه ____________ (1) سورة الحجر : 15 : 46 . وقضاه ، ولد الحرم وفتاه ، ربيب الكرم ومنشاه ، من أباد جميع الشرك وأفناه . وشقيــق بنعته وخير من اقتفى * منهاجـه وبه اقتــدى ولـه تلا مولى به قبـل المهيمـن آدمــا * لمـا دعــا وبـه توسـل أوّلا وبه استقــرّ الفُلك من طوفانـه * لمــا دعــا نوح بـه وتوسّلا وبه خبت نار الخليـل فأصبحت * بردا وقـد أذكت ضرامـا مُشعلا وبه دعــا يعقوب حين أصابه * من فقد يوسف ما شجــاه وأذهلا وبه دعا الصديق يوسف إذ هوى * في هُوّة وأقــام أسفــل أسفلا وبــه أمـاط الله ضُـرّ نبيـه * أيوب وهــو المستكيـن المبتلا وبه دعا موسى فأوضحت العصا * طُرقــا ولُجّه بَحرهـا طام ملا وبه دعا عيسـى فأحيــا ميّتـا * مـن قبــره وانشقّ عنه الجَندلا وبه دعا داود حيــن غشاهــم * جالـوت مقتحما يقــود الجَحفلا لقّاه دامغــة فغــادر شلــوه * ملقــىً وولّــى جَمعُه مُستجفلا العالم العلمَ الرضـيّ المرتضـى * نُـور الهدي سيف العليّ أخو العُلى روى أبو مخنف (1) بإسناده عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن مولد علي عليه السلام ، قال : « يا جابر ، سألت عجيبا عن خير مولود ، اعلم أنّ الله لما أراد أن يخلقني ويخلق عليا قبل كلّ شيء ، خلق دُرّة عظيمة أكبر من الدنيا عشر مرات ، ثم إن الله تعالى استودعنا في تلك الدرّة ، فمكثنا فيها مئة ألف عام ، نسبّح الله تعالى ونقدّسه ، فلما أراد إيجاد الموجودات نظر إلى الدرّة بعين التكوين فذابت وانفجرت نصفين ، فجعلني ربي في النصف الذي احتوى على النبوة ، وجعل عليّا في النصف الذي احتوى على الإمامة . ____________ (1) ما عثرت على كتاب أبي مخنف ، وما وجدت الحديث في مقتله ، ولأبي مخنف كتب كثيرة لم تصل إلينا ، انظر رجال النجاشي ورجال الشيخ . ثم إن الله تعالى خلق القلم وقال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي ولي الله . فلما فرغ القلم من كتابة الأسماء قال : يا رب ، من هؤلاء الذي قرنت اسمهما باسمك ؟ قال الله تعالى : يا قلم ، محمد نبيي وخاتم الأنبياء ، وعليّ وليّي وخليفتي في عبادي ، لولاهما ما خلقت خلقي ، فمن أحبّهما أحببته ، ومن أبغضهما أبغضته » (1) . فلا غرو ولا عجب من ارتقائه مفارق الجلال ، وحلوله في قمم الكمال ، فهو الاسم الأعظم الذي تنفعل به الكائنات ، والحاكم المتصرّف في سائر الموجودات ، وهو الأول بالأنوار ، الظاهر بالأدوار ، الباطن بالأسرار ، الآخر بالآثار ، وذلك مقام الرب العليّ . نطقت فيه كلمته ، وظهرت عنه مشيئته ، فهو كهو بوجوب الطاعة وامتثال الأمر والرفعة على الموجودات والحكم على البريّات ، وليس هو هو بالذات المقدسة المنزّهة عن الأشباه والأمثال المتعالية عن الصور والمثال ، اللهم لا فرق بينك وبينه إلا أنه عبدك وخلقك .
____________ (1) رواه المحدث البحراني في مدينة المعاجز : 2 : 367 برقم 610 مع إضافات كثيرة عن أبي مخنف . فاقدحوا يا ذوي البصائر زند متواريات الأحزان بين الجوانح ، واستشبّوا متّقدات الأشجان في رؤوس رواسي الجوارح ، واتركوا متموّجات الأجفان في رياض الخدود سوافح ، واقطعوا جرثومات السلوان بباترات هذه الفوادح ، واسقوا ايكات الإطمئنان بمنهمر هذه القوادح ، وصوّحوا روضات الافتتان بسمائم الوجد اللوافح ، وتذكّروا ما وقع على علة الإمكان من الأرزاء الجوائح وما لاقاه من الخطوب التي يحقّ لسماع ذكرها أن تسكن النفوس الضرائح . روي في كتاب المناقب مرفوعا إلى فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين عليه السلام قالت : لما دخلت الكعبة شرّفها لله تعالى انسدّ الباب وإذا أنا بخمس نسوة كأنهن الأقمار وعليهنّ ثياب الحرير والإستبرق ، فسلّمن عليّ وجلسن إلى جنبي ، فلما وضعت بولدي أميرالمؤمنين عليه السلام خرّ ساجدا لله يتضرّع إلى ربّه ، ثم رفع رأسه الشريف وأذّن وأقام وشهد لله بالوحدانية ولرسول الله بالنبوّة والرسالة ، ولنفسه بالخلافة والولاية ، فبينما أنا كذلك وإذا برسول الله قد دخل ، فلما بصر به ولدي قال : « السلام عليك يا رسول الله ، ورحمة الله وبركاته » . فقال النبي : « وعليك السلام يا أخي وشقيقي ومن أقرّ الله به عيني » . فقال : « يا نبي الله ، أتأذن لي أن أقرأ » ؟ فقال صلى الله عليه وآله : « اقرأ » . فابتدأ بصحف آدم فقرأها حتى لو حضر شيث لأقرّ أنه أعلم بها منه ، ثم تلى صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور ، ثم تلا : ( بسم الله الرحمن الرحيم * قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون ) (1) . فقال النبي صلى الله عليه وآله : « قد أفلح المؤمنون بك ، أنت أميرهم ، تميرهم من علمك ، الحمد لله الذي جمع بيننا » . فنطق الإمام بلسان فصيح وقال : « مدّ يدك يا رسول الله ، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك محمد عبده ورسوله ، بك تختم النبوة ، وبي تختم الولاية » (2) . ____________ (1) المؤمنون : 23 : 1 ـ 2 . (2) ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 75 مختصرا . وكان مولده عليه السلام ليلة الجمعة ثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل (1) . وروي في كتاب الأربعين عن أنس بن مالك قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : « يا علي ، يا ولي ، يا ديان ، يا هادي ، يا سيد ، يا صديق ، يا زاهد ، يا فتى ، يا طيب ، يا طاهر ، مرّ أنت وشيعتك إلى الجنة بغير حساب » (2) . وروى صاحب كتاب النخب (3) قال : تشاجر رجال في إمامة علي بن أبي طالب ، فجاءوا إلى شريك (4) فسألوه ، فقال لهم : حدثني سليمان الأعمش ، عن حذيفة بن اليمان ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : « إنّ الله تبارك وتعالى خلق عليّاً قضيباً في الجنة ، فمن تمسك به فهو من أهلها » . فاستعظم الرجال ذلك ، فجاءوا إلى ابن دراج (5) فأخبروه ، فقال : لا تعجبوا ، حدثني الأعمش ، عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « إنّ الله خلق قضيبا من نور في بطنان عرشه ، لا يناله إلا عليّ ومن تولاه » . ____________ (1) الإرشاد للشيخ المفيد : 1 : 5 . (2) ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 47 و68 ، وابن شاذان في مئة منقبة : ص 138 في المنقبة 83 ، والخوارزمي في مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام : ص 319 في الفصل 19 ح 323 مع اختلاف قليل . (3) أي نخب المناقب لآل أبي طالب ، منتخب من مناقب آل أبي طالب تصنيف محمد بن علي ابن شهر آشوب ، والناخب هو أبو عبدالله الحسين بن جبير تلميذ نجيب الدين علي بن فرج الذي كان تلميذ ابن شهر آشوب . ( الذريعة : ج 24 ص 88 رقم 462 ) . (4) هو شريك بن عبدالله بن الحارث النخعي الكوفي ، استقضاه المنصور على الكوفة سنة 153 ، وتوفي بها في سنة 177 . (5) هو أبو محمد نوح بن درّاج النخعي القاضي من أصحاب أبي حنيفة ، كان أبوه حائكا من النبط ، ولي نوح القضاء بالكوفة وأصيبت عيناه فكان يقضي واستمرّ ثلاث لا يعلم أحد بعماه ، توفي سنة 182 . فقال الرجال : هذا من ذاك ! نمضي إلى وكيع (1) ، فجاؤه وأعلموه ، فقال : لا تعجبوا ، حدثني الأعمش ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « أركان العرش لاينالها إلا عليّ وشيعته » . فاعترفوا أولئك الرجال بفضل علي (2) . ومن كتاب المناقب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إن لله عمودا من نور يضيء لأهل الجنة كالشمس لأهل الدنيا ، لايناله إلا علي وشيعته ، وإنّ حلقة باب الجنة لمن ياقوتة حمراء طولها خمسون عاما ، إذا نقرت طنّت وقالت في طنينها : يا علي » (3) . ولله درّ من قال من الرجال الأبدال : لا جدّه تيــم بـن مـرّة لا ولا * أبواه مـن نســل النفيل تنسّلا ومكسّر الأصنام لم يسجد لهــا * متعفّـرا فــوق الثرى متذلّلا لكن لـه سجدت مخافــة بأسه * لما علـى كتف النبي عليّ علا تلك الفضيلة لم يفـز شرفـا بها * إلا الخليـل أبوه في عصر خلا إذ كسّر الأصنـام حين خلا بها * سرّا وولّـى خائفـا مستعجـلا فتميّز العلميـن بينهمــا وقس * تجد الوصيّ بها الشجاع الأفضلا وانظر ترى أزكى البريّة مولـدا * والفعــل متبـع ! أبـاه الأوّلا وهو القؤول وقوله الصدق الذي * لا عيب فيه لمن وعـى وتأملا ____________ (1) هو أبو سفيان وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ، ولد بالكوفة سنة 129 وتوفي سنة 197 . (2) ورواه القاضي النعمان في شرح الأخبار : 2 : 269 رقم 577 ، والبرسي في مشارق أنوار اليقين 47 و 68 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 3 : 233 في محبته عليه السلام ، وعنه المجلسي في البحار : 39 : 259 في باب أنّ حبّه إيمان وبغضه كفر . (3) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : 48 و 68 ، والديلمي في إرشاد القلوب : 2 : 259 في فضائله عليه السلام . لحكمت في قوم الكليـم بمقتضى * توراتهم حكمــا بليغـا فيصلا في ما من أسدلت عليه ستورها الفضائح ، وتوّجت هامته القبائح ، إلى كم أنت عن مركز الهداية نازح ، وحتى متى تدّعي معرفة الناسخ ، ومن أين لك علم التناسخ ، وقدمك في طريق الحقّ غير راسخ ، أما علمت أنّ اسم الله الأعظم ينزل في كلّ تركيب ، وكلمة الله تظهر في كل صورة وتفعل كلّ عجيب ، فما لك لا تشكّ في قول محمد صلى الله عليه وآله : « أنا الفاتح الخاتم » ؟ وترتاب في قول عليّ : « أنا البصير العالم » ؟ أليس هما قسيمي النور وواحدي الذات في عالم الظهور ؟! روي في كتاب المجالس (1) عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب عليه السلام قال : « كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفّي فيه وكان رأسه في حجري والعباس يذبّ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأغمي عليه إغماءة ثم فتح عينيه فقال : يا عباس ، يا عم رسول الله ، اقبل وصيتي واضمن دَيني وعدَتي . فقال له العباس : يا نبي الله ، أنا شيخ ذو عيال كثير غير ذي مال ممدود ، وأنت أجود من السحاب الهاطل والريح المرسلة ، فاصرف عني ذلك إلى من أطوق منّي . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أما أنّي سأعطيها لمن يأخذ بحقها ومن لا يقول مثل ما تقول ، يا علي ، هاكها لا يخالطك فيها أحد ، يا علي ، اقبل وصيّتي وانجز مواعيدي ، يا علي ، اخلفني في أهلي وبلّغ عنّي من بعدي » . ____________ (1) رواه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس 27 الحديث 1 ، وفي المجلس 22 الحديث 12 . وروى نحوه الشيخ الصدوق في باب 131 « العلة التي من أجلها أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عليّ عليه السلام دون غيره » من علل الشرائع : ص 166 ح 1 وفي ص 168 ح 3 بسندين عن زيد بن علي . انظر ترتيب الأمالي : ج 2 ص 560 ح 1051 و 1052 . ولاحظ المناقب لابن شهر آشوب : 1 : 293 عنوان : « فصل في وفاته صلى الله عليه وآله » . فقال علي عليه السلام : « فلما نعى إليّ نفسه وجف فؤادي وألقى عليّ بقوله البكاء فلم أقدر أن أجيبه بشيء ، ثم عاد لقوله فقال : يا عليّ ، أو تقبل وصيّتي » ؟ قال : « وقلت ـ وقد خنقتني العبرة ولم أكد أن أبِن ـ : نعم يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وآله : يا بلال ، آتني بسوادي ، آتني بذي الفقار ودرعي ذا الفضول ، آتني بمغفري ذات الجبين ورايتي العقاب ، وآتني بالفترة والممشوق . فأتى بذلك إلا درعة كانت يومئذ مرتهنة . ثم قال : آتني بالمرتجز والعضباء ، وآتني باليعفور والذلول . فأتى بها وأوقفها بالباب . ثم قال : آتني بالأتحميّة والسحاب . فأتاه بهما ، فلم يزل يدعو بشيء شيء ، فافتقد عصابة كان يشدّ بها بطنه ، فطلبها فأتي بها إليه والبيت غاص يومئذ بمَن فيه . ثم قال : يا عليّ ، قُم فاقبض هذا في حياة منّي وشهادة من البيت كيلا ينازعك أحد من بعدي . فقمت وما كدت أمشي على قدم حتى استودعت ذلك جميعا منزلي . فقال صلى الله عليه وآله : يا علي ، أجلسني . فأجلسته وسنّدته إلى صدري وإنّ رأسه ليثقل ضعفا وهو يقول : يسمع أقصى أهل بيتي وأدناهم : إن أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضي دَيني وينجز موعدي . يا بني هاشم ويا بني عبدالمطلب ، لا تبغضوه ولا تخالفوا عن أمره فتضلوا ، ولا ترغبوا عنه فتكفروا ، اضجعني يا علي . فأضجعته . فقال : يا بلال ، آتني بولدي الحسن والحسين . فانطلق فجاء بهما ، فأسندهما الى صدره فجعل يشمّهما حتى ظننت أنهما غمّاه وتأهّبت لآخذهما عنه ، فقال : دعهما يا علي أشمّهما ويشمّاني ، ويتزوّدان منّي وأتزوّد منهما ، فسيليقيان من بعدي زلزالا وأمورا عضالا ، فلعن الله من يجفيهما ، اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين » . وروي في كتاب المشارق (1) بحذف الإسناد إلى سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمان بن سمرة قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في مرض الموت فقلت : بأبي أنت وأمّي (2) يا رسول الله أرشدني إلى النجاة . قال : فقال لي : « إذا اختلفت الأهواء ، وافترقت الآراء ، فعليك بعلي بن أبي طالب ، فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم بعدي ، والفاروق بين الحق والباطل ، من سأله أجابه ومن استهداه (3) أرشده ، ومن طلب الحق عنده وجده ، ومن التمس الهدى لديه صادفه ، ومن لجأ إليه آمنه ، ومن تمسّك به نجاه ، ومن اقتدى به هداه . يابن سمرة ، سلم من سلّم له ووالاه ، وهلك من ردّ عليه وعاداه . يابن سمرة ، إن عليا مني وأنا منه ، روحه روحي وطينته طينتي ، وهو أخي وأنا أخوه ، وزوجته سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وإبناه (4) سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين هم أسباط النبيين ، تاسعهم قائمهم يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا » . ولله در من قال من الرجال على الآل : وبدّلوا قولـه يـوم الغديـر لهــم * غدرا وما عدلوا في الحكم بل عدلوا وذاك إذ فيهم الهادي البشيــر قضى * وما تهيّــا له لحــد 7 ولا غسل مـالوا إليهـا سراعا والوصيّ برزء * المــصطفى عـنهم لاه ومعتـزل ____________ (1) مشارق أنوار اليقين : ص 56 . ورواه الشيخ الصدوق في أماليه : المجلس 7 الحديث 3 ، وفي كمال الدين : ص 257 باب 24 ح 1 ، وعنه البحار : 36 : 226 باب 41 ح 2 . (2) من قوله : « دخلت » إلى هنا غير موجود في المصدر . (3) في المصدر : « استرشده » . (4) في المصدر : « وابناؤه » . وخاطبوه أميرالمؤمنيــن وقـد * تيقّنــوا أنـه في ذاك منتحل واجمعوا الأمر فيما بينهم وعزت * لهــم أمانيهم والجهل والأمل أن يحرقوا منزل الزهراء فاطمة * فيـا له حادث مستصعب جلل بيت لمن كان جبرائيل سادسهـم * من غير ما سبب بالنار يشتعل واُخرج المرتضى من عقر منزله * بيـن الأراذل محتفّـا به وُكل يا للرجال لدين قــلّ ناصـره * ودولة ملكت ملاكهــا السفل فهذه الفادحة التي زعزعت ركون بيت الرسالة ، والجائحة التي صوّحت منابت العلم والدلالة ، والصاعقة التي أبادت أرباب الإيمان ، والبائقة التي أرغمت معاطس حملة القرآن ، والنائبة التي جلبت سحائب البلا على الأكرمين الفضلاء ، والصائبة التي هدّت رواسي الشرف بكربلاء ، فأقسم بربّ الأرباب ، ومن عنده علم الكتاب ، لولا اعتراض ابن الخطاب ، على النبيّ الأوّاب ، في كتابة الكتاب ، والدلالة على الصواب ، لما ذلّت من المسلمين الرقاب ، ولاكرع الحسين من مواضي الحراب كؤس الأوصاب ، ولا هتكت النصاب أستار الصون والاحتجاب عن مخدّرات أبي تراب ، ولا علت صهوات الركّاب من غير أحلاس ولا أقتاب ، ولا شهّرت في الرحاب من غير سجف ولا حجاب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون . روي في كتاب الإكمال عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : لما ضرب ابن ملجم أبي طالب عليه السلام على قرنه قال : « احملوني إلى موضع مصلاّي من منزلي » . فحملناه وهو مدنف ، والناس من خلفه قد أشرفوا على الهلاك من كثرة البكاء ، فالتفت إليه ابنه الحسين عليه السلام وهو يبكي ، فقال له : « يا أبتاه من لنا بعدك ؟ يا أبتاه ، إن يومك كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، من أجلك تعلّمت البكاء ، فعزيز عليّ أن أراك هكذا » . فناداه وقال : « ادن منّي يا بُنيّ » . فدنا منه وقد قرحت عيناهما بالبكاء ، فمسح دموع الحسين بيده الشريفة ووضع يده على فؤاده وقال : « ربط الله على قلبك بالصبر ، وأجزل لك ولإخوانك عظيم الأجر ، فسكّن يا بُنيّ روعتك واهدا من البكاء ، فإنّ الله قد آجرك على عظيم مصابك » . ثم أمر بإدخاله إلى حجرته ، فأدخل إليها فجلس في محرابه ، فأقلبت إليه زينب وأم كلثوم حتى جلستا إلى جانبه على فراشه وهما يندبانه ويقولان : « من للصغير حتى يكبر يا أبتاه ؟ ومَن للكبير بين الملأ يا أبتاه ؟ ومن للضعيف حاميا ومجيرا يا أبتاه ؟ حزننا عليك طويل المدى يا أبتاه ، وعبرتنا عليك لا ترقا (1) يا أبتاه » . فضجّ الناس بالبكاء والعويل ، ففاضت دموع أميرالمؤمنين عليه السلام عند ذلك وجعل يقلّب طرفه في أهل بيته وأولاده (2) . وفي الكتاب المذكور عن الأصبغ بن نباتة قال : لما ضرب أميرالمؤمنين عليه السلام غدونا نفرا من أصحابنا نريد الإذن عليه ، فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء من داخل البيت فبكينا ، فخرج إلينا الحسن عليه السلام وقال : « يقول لكم أبي : انصرفوا إلى منازلكم » . فانصرف القوم غيري ، فاشتدّ البكاء من منزله عليه السلام ، فبكيت ، فخرج الحسن عليه السلام وقال : « ألم أقل لكم : انصرفوا » ؟ فقلت : والله يا ابن رسول الله إن رجلي لا تتابعني ونفسي لا تطاوعني على أن أنصرف حتى أرى أميرالمؤمنين . فدخل الحسن فلم يلبث إذ خرج وقال لي « ادخل » . فدخلت عليه فإذا هو مسنّد معصّب الرأس بعمامة صفراء قد نزف واصفرّ لونه ، ما أدري وجهه أصفر أم العمامة أصفر ! فانكببت على قدميه أقبّلهما وبكيت ، فقال لي : « لاتبك يا أصبغ ، ____________ (1) رقأ الدمع : جفّ وانقطع . (2) رواه المجلسي في البحار : 42 : 288 ح 58 عن بعض الكتب القديمة مع اختلاف في بعض الألفاظ . فوالله إنها الجنة » . فقلت : والله يا أميرالمؤمنين جعلت فداك إني أعلم أنك تصير إلى الجنة وإنما أبكي لفقداني إياك يا أميرالمؤمنين (1) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كنت عند أميرالمؤمنين ليلة إحدى وعشرين من أول الليل إلى آخره أريد أن أسأله عن سبعين مسألة ، فرأيته قد ثقل حاله فلم أسأله عن شيء ، فابتدأني وقال : « يا ابن عباس عندك سبعون مسألة تريد أن تسأل عنها ، فلِمَ لا تذكرها » ؟ فقلت : اشفاقا عليك يا مولاي . فقال عليه السلام : إنّ شرح المسألة الفلانيّة كذا ، وشرح المسألة الفلانيّة كذا ، ولم يزل يذكرها إلى آخرها ، ولم أذكر له شيئا منها ، وأوصانا بالأحكام التي أوصاه بها رسول الله صلى الله عليه وآله . هذا ونحن ننظر إلى عينيه قد غارتا في أمّ رأسه من شدة السمّ ، فعظم ذلك علينا ، فدعا بالحسن والحسين عليهما السلام وجميع أولاده وأهل بيته وودّعهم وقال : « يا أبا محمد ، ويا أبا عبدالله ، كأنّي بكما وقد خرجت عليكما الفتن من هاهنا وهاهنا من بعدي ، فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين » . ثم أغمي عليه وأفاق وقال : « هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وعمّي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم يقولون : عجّل قدومك علينا ، فإنا إليك مشتاقون » . ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : « أستودعكم الله جميعا ، سدّدكم الله جميعا ، الله خليفتي عليكم ، وكفى به خليفة » . ____________ (1) ورواه المفيد في أماليه : المجلس 42 ح 3 ، وعنه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس 5 الحديث 4 مع إضافات في آخره . وانظر ترتيب الأمالي للشيخ محمد جواد المحمودي : 4 : 614 . ورواه عنهما المجلسي في البحار : 42 : 204 ح 8 . ثم قال : « وعليكم السلام يا رسل ربّي » . ثم قال : « ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) (1) ، ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) (2) » . وهناك عرق جبينه فمسحه بيده الشريفة ، فقال له الحسن عليه السلام : « ما لي أراك يا أبت تمسح جبينك » ؟ فقال عليه السلام : « نعم يا بُنيّ ، إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وقلّ أنينه » . ثم قرأ : ( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) (3) ، وقال : « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله » . وما زال يذكر الله حتى قضى نحبه ، صلوات الله وسلامه عليه . وكان ذلك ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان المكرّم أربعين من الهجرة (4) . ولله در من قال : ويسرّون بغضـه وهــو لا * تقبــل إلا بحبــه الأعمـال وتحال الأخبــار والله يدري * كيف كانت يوم الغديــر الحال وبسبطين تابعيـه فمسمــوم * عليــه ثـرى البقيــع يهال درسوا قبره ليخفى على الزوّا * ر هيهات كيف يخفــى الهلال وشهيد بالطفّ أبكى السماوات * وكــادت لــه تزول الجبـال يا غليلي له وقد حرّم المــاء * عليـه وهــو الشراب الحلال قطعت وصلة النبــيّ بـأن * تقطــع من أهل بيته الأوصال ____________ (1) سورة الصافات : 37 : 61 . (2) سورة النحل : 16 : 128 . (3) سورة يونس : 10 : 49 . (4) كما في إرشاد المفيد : 1 : 9 باب 1 . وقال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين : ص 54 : سنة أربعين في ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، أمر تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا ، فعلى مثل هذا الإمام الأروع ، والهمام السّميدع ، فلتهجر لّذات الصفا ، ويكدر موارد البشر الأصفى ، أو لا تكونون يا أرباب الوفا ، وشركائي في الحزن والأسى ، كمن لبس لهذه الأرزا ، لباس المحنة والعزا ، وهجر خرائد المسرّة والهنا ، فأنشد وأنشأ ، ولله درّه من منشد في الورى . |