وهو مصرع موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام استوحشوا من الرقباء إن كنتم عشّاقا ، وجانبوا الوشاة إن رمتم من المحبوب وفاقا ، وتذّللوا له تكونوا عنده مكرمين وأطيعوه فيما أمركم تصيروا محترمين ، واعلموا أن المحبوب متى عصي جفا ، ومتى خولف قلى . فشمّروا ذيول الجد والاجتهاد ، وتجافوا عن ناعم الفراش و المهاد ، وانهجوا ملحوب الرضا ، وسلّموا المحتوم القدر والقضاء ، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداءه ، وأحبوا أحبّاءه وأبغضوا بغضاءه ، واعتقدوا بنيات صادقة أنّ حب محمد وآله عليهم السلام حب الله ، ورضاهم اختياره ورضاه ، وهم حجته ومحجته ، وأعلام الهدى ورايته ، وفضله ورحمته ، وعين اليقين وحقيقته ، وصراط الحق وعصمته ، ومبدأ الوجود وغايته ، وقدرة الله ومشيئته ، وأم الكتاب وخاتمته ، وفصل الخطاب ودلالته ، وخزنة الوحي وحفظته ، وأمنة الذكر وتراجمته ، ومعدن التنزيل ونهايته . فهم الكواكب العلوية ، والأنوار العلوية المشرقة من شمس العصمة الفاطمية في سماء العظمة المحمدية ، والأغصان النبوية النابتة في الدوحة الأحمدية ، والأسرار ____________ (1) سورة آل عمران : 3 : 92 . الإلهية المودعة في الهياكل البشرية ، والذرية الزكية والعترة الهاشمية المهدية ، أولئك هم خير البرية . وهم العترة الطاهرون ، والأئمة المعصومون ، والذرية الأكرمون ، والخلفاء الراشدون ، والكبراء الصديقون ، والأوصياء المنتجبون ، والأسباط المرضيّون ، والهداة المهديون . وهم حجة الله على الأولين والآخرين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، آل طه ويس ، كتب الله أسماءهم على الأحجار ، وعلى أوراق الأشجار ، وعلى أجنحة الأطيار ، وعلى أبواب الجنة والنار ، وعلى العرش والأفلاك ، وعلى أجنحة الأملاك ، وعلى حجب الجلال ، وسرادقات العز والإجلال ، وباسمهم تسبيح الأطيار ، وتسغفر لشيعتهم الحيتان في لجج البحار ، ولله در من قال ، ولقد أجاد في المقال : خصها من كمالــه بالمعالــي * وبأعلــى أسمــائـه سماها لم يكونوا للعـرش إلا كنــوزا * خافيــات سبحـان من أبداها كم لهـم ألسـن عن الله تنبــئ * هـي أقلام حكمــة قـد براها فهم الأعين الصحيحــات تهدى * كــل نفس مكفوفــة عيناها علمــاء أئمــة حكمـــاء * يهتدى النجم باتّباع هواهـا قادة علمهــم ورأي حجــاهــم * مسمـع كل حكمة منظراهــا ما ابالي ولو أهليت علــى الأ * رض السماوات بعد نيلي ولاها من يباريهم وفي الشمس معنـى * مجهــد متعب لمـن باراهـا ورثوا من محمد سبـق أولاهـا * وحازوا ما لــم تحـز أخراها آيـة الله حكمــة الله سيف الله * والرحمــة التــي أهداهــا روى كمال الدين في كتاب مطالب السؤول أن مولد الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام كان ليلة السابع من شهر صفر سنة ثمان وعشرين ومئة . وهو الإمام الكبير القدر ، والعظيم الشأن ، والكثير التهجد ، الجادّ في الاجتهاد ، المشهود له بالكرامات ، والمواظب على الطاعات ، يبيت الليل ساجدا وقائما ، ويقطع النهار متصدّقا صائما ، ولفرط حلمه عن المتعدّين عليه دعي كاظما . كان يجازي المسيء إليه بإحسانه ، ويقابل الجاني عليه بعفوه وغفرانه ، وقد اشتهر بين الفريقين بالعبد الصالح ، وعرف في العراقين بباب الحوائج والمنائح . فهذه الكرامات العالية المقدار ، الخارقة للعوائد في كلّ الأعصار ، هي على التحقيق حلية المناقب ، وزينة المزايا والرغائب ، لا يؤتاها إلا من أفاضت عليه العناية الربانية أنوار التأييد ، وهطلت عليه التوفيقات السبحانية رذاذ التقديس والتسديد ، ( وما يلقّيها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم ) (1) . (2) وروي في الكافي عن محمد بن العباس بإسناده عن جميل بن درّاج قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : أتأذن لي أن أحدّث الناس بحديث جابر ؟ (3) قال : « لا تحدّث به السفلة فيذيعـ[و]ه ، أما (4) تقرأ : : ( إن إلينا إيابهم * ثم إنّ علينا حسابهم ) » . قلت : بلى . قال : « إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين ولانا الله حساب شيعتنا ، فما كان بينهم وبين الله حكمنا على الله فيه ، فأجاز حكومتنا ، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم ، فوهبوه لنا ، وما كان بيننا وبينهم فنحن أولى من عفى وصفح » (5) . ____________ (1) سورة فصلت : 41 : 35 . (2) مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي : ص 289 وفي ط : 292 الباب السابع ، مع اختلاف في بعض الألفاظ . (3) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟ (4) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟ (5) رواه محمد بن العباس كما في تأويل الآيات للاسترابادي : 2 : 788 ح 7 ، وعنه البحراني في البرهان : 4 : 456 ح 6 ، والمجلسي في البحار : 8 : 50 ح 57 من باب الشفاعة من كتاب وروى في كتاب مشارق الأنوار عن الأصبغ بن نباتة قال : خطب أميرالمؤمنين عليه السلام فقال في خطبته : « أنا أخو رسول الله ، ووارث علمه ، ومعدن حكمه ، وصاحب سره ، وما أنزل الله حرفا في كتاب من كتبه إلا وقد صار إليّ ، وزادني علما منه ، وأعطيت (1) علم الأنساب والأسباب ، وأعطيت ألف مفتاح يفتح كلّ مفتاح ألف باب ، وأمددت (2) بعلم القدر ، وإنّ ذلك يجري في الأوصياء من بعدي ما جرى الليل والنهار ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين . أعطينا الصراط ، والميزان ، واللواء ، والكوثر . نحن المقدّمون على بني آدم يوم القيامة ، نحن المحاسبون للخلق ، نحن منزلوهم منازلهم ، نحن معذّبوا أهل النار » (3) . وروي في الكتاب المذكور عن نافع ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : « يا عليّ ، أنت نذير أمّتي و[ أنت ] هاديها ، وأنت صاحب حوضي و[ أنت ] ساقيه ، وأنت يا عليّ ذو قرنيها وصاحب طرفيها (4) ، ولك الآخرة والأولى ، فأنت يوم القيامة الساقي ، والحسن الذائد ، والحسين الأمين (5) ، وعلي ____________ = العدل والمعاد وفي ج 24 ص 267 ح 34 من باب الآيات الدالة على رفعة شأنهم . والفقرة الأخيرة من الحديث ورد نحوها عن الصادق عليه السلام ، كما في تفسير فرات الكوفي : ص 552 ح 707 . ورواه فرات باختصار عن الإمام الكاظم عليه السلام في الحديث 706 من تفسيره : ص 551 . (1) في المصدر : « وزاد لي علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، أعطيت » . (2) في المصدر : « ومددت » . (3) مشارق أنوار اليقين للبرسي : ص 164 مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات كثيرة . ورواه البحراني في معالم الزلفى : 1 : 178 . (4) في المصدر : « ذو قرنيها وكلا طرفيها » . (5) في المصدر : « الحسين الآمر » . بن الحسين الفارض ، ومحمد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمد السابق (1) ، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمنافقين (2) ، وعلي بن موسى مرتّب المؤمنين ، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في منازلهم (3) ، وعلي بن محمد خطيب أهل الجنة ، والحسن بن علي جامعهم [ حيث يإذن الله لمن يشاء ويرضى ] ، والمهدي عجّل الله فرجه شفيعهم يوم القيامة حيث لا يأذن الله إلا لمن يشاء ويرضى » (4) . ولله درّ من قال : بهم نـال الهدايــة ذو ضلال * وهم نهج الدرايــة والرشـاد وهم عصم المرجّى ثم غـوث * يفـوق الغيث في السنة الجماد محظتهم المـودة غيــر وان * وأرجوا الأجر في صدق الوداد وكم عاندت فيهـم من عــدوّ * وفيهـم لا أخاف من العنــاد ومن يك ذا مراد فـي أمــور * فإنّ ولاهُــم أقصـى مرادي أرجّيهم لآخرتــي وأبغــي * بهم نيل المطالــب في المعاد وما قدّمت مــن زاد سواهـم * ونعــم الزاد يوم البعث زادي مناقبهم قد طبقت المشارق والمغارب ، وفضائلهم أعجزت الأعاجم والأعارب ، وفواضلهم غمّرت المتفسكل والذاهب ، ونوائلهم عمت البعيد والصاحب ، وتناولت الأهل والأجانب . فكم لهم من أياد هطلت بسيوب الإفضال ، ورشحت على رياض الوجود ____________ (1) في المصدر : « السائق » . (2) في المصدر : « السائق » . (3) في المصدر : « السائق » . (4) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 180 ـ 181 وما بين المعقوفين منه ، وعنه المجلسي في البحار : 27 : 313 . ورواه البحراني في معالم الزلفى : 1 : 177 . بودق النوال ، وكم لهم من ألسن تنبئ عن ذي الجلال ، وأقلام حكمة برتها أيدي الكبير المتعال ، وعلوم لم تحط بها قلوب الرجال ، قد استعذب منها الرحيق الزلال ، وفاض منها العذب السلسال . فهم والله الفيوض السجّال ، وهم علل الوجود في القدم والأزال ، وهم المميّزون بين الحرام والحلال ، صلوات الله وسلامه عليهم على ممرّ الأيام والليال . روي في كتاب كشف الغمة عن علي بن أبي حمزة البطائني قال : خرج أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام في بعض الأيام [ من المدينة ] إلى ضيعة له خارجة عن المدينة فصحبته وكان عليه السلام راكبا على بغلة وأنا على حمار [ لي ] ، فلما صرنا في بعض الطريق اعترضنا أسد فأحجمت أنا عنه [ خوفا ] وأقدم أبو الحسن عليه السلام [ غير مكترث به ، فرأيت الأسد يتذلّل لأبي الحسن ويهمهم ، فوقف له أبو الحسن عليه السلام ] عليه كالمصغى [ إلى همهمته ] ، فوضع الأسد يده على كفل بغلته ، فرعبت نفسي من ذلك رعبا عظيما ، فمكثت هنيئة ثم تنحّى عن الطريق ، فحوّل أبو الحسن عليه السلام وجهه إلى القبلة وجعل يدعو ، فحرّك شفتيه بما لم أفهم ، ثم أومأ بيده إلى الأسد أن امض ، فهمهم الأسد همهمة طويلة وأبو الحسن عليه السلام يقول : « آمين آمين » ، فانصرف الأسد حتى غاب عنا ، ومضى أبو الحسن عليه السلام لوجهه ، فلما بعدنا عن الموضع قلت له جعلت فداك ، ما شأن هذا الأسد ؟ فقد خفت منه والله عليك ، وعجبت من شأنك معه ! قال أبو الحسن عليه السلام : « إنه خرج يشكو إليّ عسر ولادة لبوته (1) وسألني أن أسأل الله [ تعالى ] أن يفرّج عنها ففعلت [ ذلك ] ، فألقى الله في روعي أنها تلد [ له ] ذكرا فخبّرته بذلك ، فقال لي : امض في حفظ الله ، فلا سلّط الله عليك ولا على ذريّتك ولا على [ أحد من ] شيعتك شيئا من السباع ، فقلت آمين » (2) . ____________ (1) في المصدر : « عسر الولادة على لبوته » . (2) كشف الغمة : 3 : 17 مع اختلاف في الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه . = وروي في الكتاب المذكور عن محمد بن عبدالله السكري (1) قال : قدمت المدينة أطلب دينا فأعياني فقلت : لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى عليه السلام فشكوت إليه ، فأتيته [ بنقمى ] (2) في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام بيده منسف فيه قديد مجزّع (3) ليس معه غيره ، فوضعه فأكل وأكلت معه ، وسألني عن حاجتي فذكرت له قصّتي ، فدخل فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج ، ثم قال لغلامه : « اذهب » ، ومدّ يده فدفع إليّ صُرّة فيها ثلاث مئة دينار ، ثم قام وعاد إلى ضيعته ، وقمت وركبت وانصرفت (4) . وروي في الكتاب المذكور أنّ رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه السلام ويسبّه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام فقال له أصحابه : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك وزجرهم أشدّ الزجر ، وسأل عن العمري فأخبر أنه خرج إلى زرع له ، فخرج إليه ودخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري : لا توطئ زرعنا ، فتوطّاه أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه ، فنزل وجلس وباسطه وضاحكه وقال : « كم غرمت على زرعك هذا » ؟ ____________ = ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 229 ـ 230 ، والراوندي في الخرائج : 2 : 649 | 1 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : 456 | 384 ، والفتّال في روضة الواعظين : ص 214 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 323 ثم قال : وقد نظم ذلك : ثم لما رأى الإمــام أتــاه * وتجافــى عنه وهاب وأكبر وهو طاو ثلاث هذا هو الحق * وما لـم أقلـه أوفـى وأكثر (1) في بعض نسخ المصدر : « البكري » . (2) قال الحموي في مادة « نقم » من معجم البلدان : نَقمى ـ بالتحريك والقصر ـ : موضع من أعراض المدينة كان لأبي طالب . (3) مجزع : أي مقطع . (4) كشف الغمّة : 3 : 18 وما بين المعقوفين منه . ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 233 ، والخطيب في تاريخ بغداد : 13 : 28 وعنه المزي في تهذيب الكمال : 29 : 45 . قال : مئتي دينار . قال : « فكم ترجو أن تحصل فيه (1) » ؟ قال : لست أعلم الغيب . قال : « إنما قلت لك : كم ترجو » ؟ قال : أن تجيء فيه مئتي دينار . فاخرج له أبو الحسن عليه السلام صرّة فيها ثلاث مئة دينار وقال : « هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك ما ترجوه » . قال : فقام العمري وقبّل رأس الإمام وسأله أن يصفح عما فرط منه ، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف إلى بيته ، ثم خرج إلى المسجد فوجد العمري جالسا هناك ، فلما نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالته . قال : فوثب إليه أصحابه وقالوا : ما قصّتك ؟ قد كنت تقول غير هذا . فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو إلى أبي الحسن عليه السلام ، فخاصموه ، فلما رجع أبو الحسن عليه السلام إلى داره قال لأصحابه الذين أشارو بقتل العمري : « كيف رأيتم ؟ أصلحت أمره وكفيتكم (2) شره » (3) . ولله درّ من قال من الرجال الأبدال على الآل : وغدت تنشر الفضائــل عنـه * كلّ قــوم على اختلاف لغاها ____________ (1) في المصدر : « أن يحصل منه » . (2) في المصدر : « وكفيت » . (3) كشف الغمة : 3 : 18 . ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 233 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : 413 ، والخطيب في تاريخ بغداد : 13 : 28 وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء : 6 : 271 ، والطبري في دلائل الإمامة : 311 ، والفتّال في روضة الواعظين : 215 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 344 ، والطبرسي في إعلام الورى : 2 : 26 . وتمنّـوه بكــره وأصيــلا * كلّ نفـس مشغوفــة بمناها طربت باسمه الثرى فاستطالت * فــوق علويّة السماء سفلاها ثم أثنت عليـه إنس وجــنّ * وعلـى مثلــه يحـقّ ثناها روي في كتاب كشف الغمة عن أحمد بن عبدالله (1) بن عمار يرفعه إلى مشايخه قالوا : جعل الرشيد ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث ، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال : إن أفضيت إليه الخلافة تزول دولتي ودولة ولدي ، فاحتال على جعفر بن محمد ـ وكان يقول بالإمامة ـ حتى داخله [ وأنس به ] وكان يكثر غشيانه في منزله [ فيقف على أمره ] ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح به قلبه ، ثم قال لبعض ثقاته : تعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرّفني ما أحتاج إليه ؟ فدلّ على عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمد ، فحمل إليه يحيى بن خالد مالا ، وكان موسى عليه السلام يأنس بعليّ بن إسماعيل ويصله ويبرّه ، ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغّبه في قصد الرشيد لعنه الله ويعده بالإحسان إليه ، فعمل على ذلك ، فأحسّ به موسى عليه السلام فدعا به فقال : « إلى أين يا ابن أخي » ؟ قال : إلى بغداد . قال : « وما تصنع » . قال : عليّ دين وأنا مملق . فقال له موسى عليه السلام : « أنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع » . فلم يلتفت إلى ذلك وعمل على الخروج ، فاستدعاه أبو الحسن عليه السلام فقال له : « أنت خارج » ؟ قال : نعم ، لابدّ لي من ذلك . ____________ (1) في المصدر : « عبيد الله » . فقال له : « انظر يا ابن أخي واتّق الله ولا تُؤتَم أطفالي (1) » . وأمر له بثلاث مئة دينار وأربعة آلاف درهم . فلما قام من بين يديه ، قال أبو الحسن عليه السلام لمن حضره : « والله ليسعينّ في دمي وليؤتمنّ (2) أولادي » ! فقالوا : جعلنا الله فداك ، وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ؟! قال : « نعم ، حدثني أبي ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله ، وإني (3) أردت بذلك أن أصله بعد قطعه حتى إذا قطعني قطعه الله » . قالوا : فخرج عليّ بن إسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد ، فتعرّف منه خبر موسى بن جعفر عليه السلام ورفعه إلى الرشيد لعنه الله ، فسأله عن عمه فسعى به إليه وقال : إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وإنه اشترى ضيعة سماها اليسيرية بثلاثين ألف دينار ، فقال له صاحبها وقد أحضره المال : لا آخذ هذا النقد ولا آخذ إلا نقد كذا وكذا ، فأمر بذلك المال فردّ ، وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه . فسمع ذلك منه الرشيد فأمر له بمئتي ألف درهم تثبّت (4) على بعض النواحي ، فاختار بعض كور المشرق ، ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظرهم ، فدخل في بعض تلك الأيام إلى الخلا فزحر زحرة (5) خرجت منها حشوته كلها ، فسقطت وجهدوا في ردّها فلم يقدروا ، فوقع لما به وجاءه المال وهو نزع ، فقال : ما أصنع به وأنا في الموت ؟! ____________ (1) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « أولادي » . (2) في المصدر : « ويؤتمنّ أولادي » . (3) في المصدر : « إنني » . (4) في المصدر : « تسبب » . (5) زحر : أخرج صوته أو نفسه بأنين من عمل أو شدة . ( المعجم الوسيط ) . وخرج الرشيد لعنه الله في تلك السنة إلى الحج وبدأ بالمدينة فقبض على أبي الحسن عليه السلام (1) . وروي عن محمد بن الحسن المعروف بالورّاق ، عن محمد بن أحمد بن السمط قال : حدثني الرواة المذكورون أنّ موسى بن جعفر عليهما السلام كان في حبس هارون الرشيد بمسجد المسيّب من الجانب الغربي بباب الكوفة ، لأنه قد نقل إليه من دار السندي بن شاهك وهي الدار المعروفة بدار ابن عمرويه ، وكان قد فكّر الرشيد في قتله بالسم ، فدعا بالرطب وأكل منه ، ثم أخذ صينيّة ووضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكا ففركه (2) بالسم وأدخله في سم الخياط وأخذ رطبة من تلك الرطب ، وجعل يردّد ذلك السلك المسموم فيها حتى علم أنه قد مكن السمّ منها ، واستكثر من ذلك ، ثم أخرج السلك منها وقال لخادم له : احمل هذه الصينيّة لموسى بن جعفر وقل له : إن أميرالمؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغّص لك ، وهو يقسم عليك بحقّه لما أكلته عن آخر رطبة لأني اخترته لك بيدي ، ولا تتركه يبقي منه شيئا ولا يطعم منه أحدا . فأتاه الخادم وأبلغه الرسالة ، فقال له موسى : « آتني بخلالة » . فأتاه بها ، وناوله إياها ، وقام بإزائه وهو يأكل الرطب ، وكان للرشيد كلبة أعزّ عليه من كل ما في مملكته ، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها من ذهب وفضة وجواهر منظومة حتى عادت إلى موسى بن جعفر عليه السلام فبادر بالخلالة إلى الرطبة المسمومة فغرزها (3) ورمى بها إلى الكلبة ، فأكلتها الكلبة فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وعوت وتقطّعت قطعا ، واستوفى موسى باقي الرطب ، وحمل الخادم ____________ (1) كشف الغمة : 3 : 20 في سبب شهادته عليه السلام . ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 237 ـ 243 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : 414 ـ 418 ، والشيخ الطوسي في الغيبة : 26 ـ 31 ح 6 . (2) أخذ سلكا ففركه : أي أخذ خيطا فدلكه . (3) غرزها : أي فأدخلها . الصينية وصار بها إلى الرشيد ، فقال له : أكل الرطب عن آخره ؟ قال : نعم . قال : فكيف رأيته ؟ قال : ما أنكرت منه شيئا . ثم ورد عليه خبر الكلبة وأنها تهرّت وماتت ، فقلق هارون الرشيد لعنه الله لذلك قلقا شديدا واستعظمه ، فوقف على الكلبة فوجدها متهرّية بالسم ، فأحضر الخادم ودعا بالسيف وقال : أصدقني عن خبر الرطب وإلا قتلتك . فقال : يا أميرالمؤمنين ، إني حملت الرطب إلى موسى بن جعفر فأبلغته كلامك وقمت بإزائه ، فطلب خلالة فأعطيته ، فأقبل يغرز رطبة رطبة ويأكلها حتى مرّت به الكلبة ، فغرز رطبة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها وأكل هو باقي الرطب وكان ما ترى . فقال الرشيد لعنه الله : ما ربحنا من موسى إلا أن أطعمناه جيد الرطب وضيّعنا سمّنا وقتل كلبتنا ، ما في موسى في حيلة ! ثم إن موسى بن جعفر عليه السلام بعد ثلاثة أيام دعا بمسيّب الخادم وكان به موكّلا ، فقال له : « يا مسيّب » . فقال : لبيك يا مولاي . قال : « اعلم أني ظاعن (1) في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله لأعهد إلى من فيها يعمل بعدي به » (2) . قال المسيب : قلت : يا مولاي ، كيف تأمرني والحرس معي على الأبواب أن أفتح لك الأبواب وأقفالها ؟! فقال عليه السلام : « يا مسيب ، أضعفت نفسك في الله عزوجل وفينا »(3) . قال : لا يا سيدي . قال : « فمه » . ____________ (1) الظعن : السير والسفر . (2) الظعن : السير والسفر . (3) في المصدر : « يا مسيب ، ضعف يقينك بالله عزوجل وفينا » . قال المسيب : فقلت : متى يا مولاي ؟ فقال عليه السلام : « يا مسيّب ، إذا مضى من هذه الليلة المقبلة ثلثاها فقف وانظر » . قال المسيّب : فحرّمت على نفسي الاضطجاع تلك الليلة ، ولم أزل راكعا وساجدا ومنتظرا ما وعدني ، فلما مضى من الليلة ثلثاها نعست وأنا جالس ، وإذا أنا بمولاي يحرّكني برجله ، ففزعت وقمت قائما ، فإذا أنا بتلك الجدران المشيّدة والأبنية وما حولها من القصور والحجر قد صارت كلها أرضا والدنيا من حواليها فضاء ، وظننت مولاي أنه قد أخرجني من الحبس الذي كان فيه ، فقلت : مولاي ، أين أنا من الأرض ؟ قال عليه السلام : « في محبسي يا مسيب » . فقلت : يا مولاي ، فخذ لي من ظالمي وظالمك . فقال عليه السلام : « أتخاف من القتل » . فقلت : يا مولاي ، معك لا . فقال عليه السلام : « يا مسيّب ، فاهدأ على جملتك فإني راجع إليك بعد ساعة واحدة ، فإذا ولّيت ذلك فسيعود محبسي إلى بنيانه » . فقلت : يا مولاي ، فالحديد لا تقطعه ؟! فقال عليه السلام : « يا مسيب ، ويحك الان الله الحديد لعبده داود عليه السلام ، فكيف يتصعّب علينا الحديد » ؟! قال المسيب : ثم خطا بين يديّ خطوة ، فلم أدر كيف غاب عن بصري ، ثم ارتفع البنيان وعادت القصور إلى ما كان عليه ، واشتدّ اهتمامي بنفسي ، وعلمت أن وعده الحقّ ، فلم يمض إلا ساعة كما حدّ لي حتى رأيت الجدران قد خرّت إلى الأرض سجودا وإذا أنا بسيّدي عليه السلام قد عاد إلى محبسه في الحبس وعاد الحديد إلى رجله ، فخررت ساجداً لوجهي بين يديه ، فقال : « ارفع رأسك يا مسيب ، واعلم أن سيدك راحل إلى الله جل اسمه ثالث هذا اليوم الماضي » . قلت له : يا مولاي : وأين سيدي علي الرضا عليه السلام ؟ قال : « يا مسيب ، شاهد عندي غير غائب ، وحاضر غير بعيد » . قلت : يا سيدي ، فإليه قصدت ؟ فقال عليه السلام :« قصدت والله كل منتجب لله عز وجل على وجه الأرض شرقها وغربها حتى محبّي من الجن في البراري والبحار ومخلصي الملائكة في مقاماتهم وصفوتهم » . فبكيت ، فقال عليه السلام : « لا تبك يا مسيب ، إننا نور لا يطفيء ، إن غبت عنك فهذا عليّ ابني بعدي هو أنا » . فقلت : الحمد لله . ثم إن سيدي عليه السلام في ليلة يوم الثالث دعاني وقال : « يا مسيّب إن سيّدك يصبح في ليلة يومه على ما عرّفتك من الرحيل إلى الله عز وجل مولاه الحقّ تقدّست أسماؤه ، فإذا دعوت بشربة ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخ بطني واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألوانا فخبّر الطاغية بوفاتي ، وإياك أن تظهر على الحديث أحدا إلا بعد وفاتي » . قال المسيب : فلم أزل أترقّب وعده حتى دعا بشربة ماء فشربها ، ثم دعاني وقال : « إن هذا الرجس السندي بن شاهك يقول إنه يتولّى أمري ويدفنني ، لا يكون ذلك أبدا ، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدني بها ولا تعلو على قبري علوّا ، وتجنّبوا زيارتي ، ولا تأخذوا من تربتي لتبرّكوا بها ، فإن كل تربة لنا محرمة ما خلا تربة جدي الحسين عليه السلام ، فإني الله عزوجل جعلها شفاءا لشيعتنا وموالينا » (1) . وتوفّي صلوات الله عليه لخمس بقين من رجب . وقيل : لخمس خلون من رجب ، سنة ثلاث وثمانين ومئة من الهجرة (2) . ____________ (1) ورواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 94 ح 6 من الباب 8 وفي ط المحقق : ص 252 ح 102 مع مغايرات . (2) رواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 286 في تاريخ مولده ومبلغ سنه ووقت وفاته عليه السلام . لعن الله قاتليه والمتؤازرين عليه ، ولله درّ من قال من الرجال على الآل ، ولقد أجاد : لهفي على قمر المعـارف * نكرتـه يدي المنـاكــر لهفـي لشمـس هدايــة * غارت بأطراف المغـاور لهفــي لقطب سما العلا * دارت عليه رحى الدوائـر لهفــي لبيـت محمـد * أقـوى وفيه اليوم صافـر فالويل لهارون الرشيد ، من الإمام الشهيد ، في يوم الوعد والوعيد ، بين يدي العلي الحميد ، يوم يقول لجهنم هل امتلأت ، وتقول هل من مزيد . ثبّتنا الله وإياكم يا إخواني على ولاهم ، ووفّقنا للبراءة من عداهم ، وحشرنا تحت لواهم ، أولا تكونون كمن هدّ ركن صبره بلاهم ، وقام بواجب عزاهم ، وأجاد في رثاهم . ____________ = في تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص 123 ) في الفصل الرابع . |