( وقعة الاهواز وهلاك شبيب )
قال أرباب التاريخ مكث شبيب بكرمان بعد واقعة الأنبار . حتى جبر واستراش هو وأصحابه . وقد وجه الحجاج سفيان بن الأبرد على الناس وكان قد قسم فيهم اموالاً عظيمة واعطى الجرحى وكل ذي بلاء فأقبل سفيان بالعسكر واستقبله شبيب وأصحابه بدجيل الاهواز وعليه جسر معقود : فعبر الى سفيان فوجده قد نزل بالرجال . وجعل مضاض بن صيفي على خيل . وبشر بن حيان الفهري على ميمنته . وعمر بن هبيرة الفزاري على ميسرته . وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس هو في كتيبة وسويد بن سليم في كتيبة وقعنب في كتيبة وخلف المجلل في عسكره . فلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان . وقعنب وهو في ميسرته على ميمنة سفيان . وحمل هو على سفيان . ثم اضطربوا ملياً حتى رجعت الخوارج الى مكانها الذي كانوا فيه . فقال يزيد السكسكي . وكان
( 173 )
من أصحاب سفيان يؤمئذ كر علينا شبيب وأصحابه اكثر من ثلاثين كرة ولا يزول من صفنا أحد . فقال لنا سفيان لا تحملوا عليهم متفرقين ولكن لتزحف عليهم الرجال زحفاً ففعلنا وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم الى الجسر فقاتلونا عليه أشد قتال ما يكون لقوم قط . ثم نزل شبيب ونزل معه نحو مائة رجل فما هو الا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب والطعن شيئاً ما رأينا مثله قط ولا ظنناه يكون . فلما رأى سفيان انه لا يقدر عليهم ولا يأمن ظفرهم دعا الرماة فقال ارشقوهم بالنبل فرشقوهم بالنبل . وذلك عند السماء . وكان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار فرشقهم أصحابه . وقد كان سفيان صفهم على حدة وعليهم أمير فلما رشقوهم شدوا عليهم فشددنا نحن وشغلناهم عنهم . فلما رأوا ذلك ركب شبيب واصحابه وكروا على أصحابه النبل كرة شديدة صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين رامياً . ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا فقال سفيان بن الأبرد لاصحابه يا قوم دعوهم لا تتبعوهم يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم . قال فكففنا عنهم وليس شىء أحب الينا من أن ينصرفوا عنا . قال زفر بن لقيط الخارجي . فلما انتهينا الى الجسر . قال شبيب اعبروا معاشر المسلمين فاذا أصبحنا باكرناهم ان شاء الله تعالى . قال : فعبرنا أمامه وتخلف في آخرنا وأقبل يعبر الجسر وتحته
( 174 )
حصان جموح وبين يديه فرس أنثى ما ذيانة فنزا حصانه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة وزن حافر فرس شبيب عن جرف السفينة فسقط في الماء فسمعناه يقول لما سقط ( ليقضي الله امراً كان مفعولاً ) واغتمس في الماء ثم ارتفع فقال ( ذلك تقدير العزيز العليم ) ثم اغتمس في الماء فلم يرتفع وغرق . وحدث قوم من أصحاب سفيان قالوا سمعنا صوت الخوارج يقولون غرق امير المؤمنين . فعبرنا الى عسكرهم فاذا هو ليس فيه صافر ولا اثر . فنزلنا فيه . وطلبنا شبيباً حتى استخرجناه من الماس وعليه الدرع فيزعم الناس أنهم شقوا بطنه وأخرجوا قلبه فكان مجتمعاً صلباً كالصخرة وانه كان يضرب به الأرض فينبو ويثب قامة الانسان وبعث برأسه وبمن كان قد أسر من أصحابه الى الحجاج فقال بعض اولئك الأسرى .
ابرأ الى الله من عمر وشيعته * ومن علي ومن اصحاب صفين
ومن معاوية الطاغي وشيعته * لا بارك الله في القوم الملاعين .
قال فأمر الحجاج بقتله . ويحكى ان أم شبيب كانت لا تصدق أحداً نعاه اليها . وقد كان قيل لها مراراً انه قد قتل فلا تقبل . فلما قيل لها انه قد غرق بكت فقيل لها في ذلك فقالت رأيت في المنام حين ولدته انه خرجت من فرجي نار
( 175 )
ملأت الافاق . ثم سقطت في ماء فخمدت فعلمت انه لا يهلك الا بالغرق .
قال أرباب التاريخ . ثم أمر سفيان باعادة الجسر وعبره وقصد من بقي من أصحابه . وكانوا قد بايعوا أم شبيب . فلم يزل بهم حتى قتل اكثرهم ، وقتلت ام شبيب . قال الاسفراييني . ومن عجائب حال الخوارج انهم خرجوا على أم المؤمنين عائشة وقالوا لم خرجت من بيتها والله تعالى يقول ( وقرن في بيوتكن ) ثم صاروا تبعاً لغزالة وجهيزة وجوزوا إمامتهن .
( 176 )
( وقعة الضحاك بن قيس )
كان الضحاك بن قيس من رؤساء الخوارج . وكان من أمره أن جاء الى واسط (1) وحاصر بها عبدالله بن عمر بن عبد العزيز ، فرأى عبدالله بن عمر أن لا طاقة له عليه أرسل اليه أن مقامكم علي ليس بشيء هذا مروان فسر اليه . فان قاتلته فانا معك . فصالحه علي ذلك . وكان مروان بكفر توتا من أرض الجزيرة ، قال الطبري ارتحل الضحاك حتى دخل الكوفة فكاتبه أهل الموصل ودعوه الى أن يقدم اليهم وعليها يومئذ عامل لمروان وهو رجل من بني شيبان من الجزيرة . يقال له القطران بن أكمه . فارتحل اليها ولما وصلها فتح اهل الموصل المدينة للضحاك ، وقاتلهم القطران في عدة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا . واستولى الضحاك على الموصل وكورها وبلغ مروان خبره
____________
(1) وذلك في سنة 128 هجرية .
( 177 )
وهو محاصر حمص مشتغل بقتال أهلها . فكتب الى ابنه عبدالله وهو خليفته بالجزيرة يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه الى مدينة نصيبين . يشغل الضحاك عن توسط الجزيرة . فشخص عبدالله الى نصيبين في جماعة روابطه . وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية . وخلف بحران قائداً في ألف . أو نحو ذلك . قال : وسار الضحاك من الموصل الى عبدالله بنصيبين . فقاتله . فلم يكن له قوة لكثرة من مع الضحاك . وكان معه مائة وعشرون ألف وحاصر نصيبين . قال ووجه قائدين من قواده . يقال لهما عبد الملك بن بشر التغلبي وبدر الذكواني في خمسة آلاف حتى وردا الرقة . فقاتلهم من بها من خيل مروان . وهم نحو من خمسمائة فارس . ووجه مروان حين بلغه نزولهم الرقة . خيلا من روابطه . فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضحاك منصرفين اليه فأتبعهم خيله فاستسقطوا من ساقتهم نيفاً وثلاثين رجلاً . فقطعهم مروان حين قدم الرقة ومضى صامداً الى الضحاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغز . من أرض كفرتوثا . فقاتله يومه ذلك فلما كان عند المساء ترجل الضحاك وترجل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف واهل عسكره اكثرهم لا يعلمون بما كان منه وأحدقت بهم خيول مروان . فألحوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة . وانصرف من بقي من أصحاب
( 178 )
الضحاك الى عسكرهم . ولم يعلم مروان ولا اصحاب الضحاك . ان الضحاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل وجاءهم بعض من عاينه حين ترجل فأخبرهم بخبره ومقتله . فبكوه وناحوا عليه . وخرج عبد الملك بن بشر التغلبي القائد الذي كان وجهه في عسكرهم الى الرقة حتى دخل عسكر مروان ودخل عليه فأعلمه أن الضحاك قتل . فأرسل معه رسلاً من حرسه معهم النيران والشمع الى موضع المعركة . فقلبا القتلى حتى استخرجوه فاحتملوه حتى أتوا به مروان وفي وجهه اكثر من عشرين ضربة فكبر أهل عسكر مروان فعرف أهل عسكر الضحاك انهم قد علموا بذلك . وبعث مروان برأسه من ليلته الى مدائن الجزيرة فطيف به فيها .
( 179 )
( وقعة الخيبرى )
لما كانت الواقعة بين الضحاك وبين مروان . وأسفرت عن قتل الضحاك صار الخوارج حول الخيبري وبايعوه واقاموا يومئذ وغادوه من بعد الغد وصافوه وصافهم . قال : وحمل الخيبري على مروان في نحو من اربعمائة فارس من الشراة فهزم مروان وهو في القلب . وخرج من المعسكر هارباً . ودخل الخيبري . يا خيبري . ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا الى حجرة مروان فقطعوا أطنابها وجلس الخيبري على فرشه . وميمنة مروان عليها ابنه ثابتة على حالها وميسرته ثابتة عليها اسحاق بن مسلم العقيلي . فلما رأى أهل العسكر بعمد الخيام فقتلوا الخيبري وأصحابه جميعاً في حجرة مروان وحولها وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزماً . فانصرف الى عسكره ورد خيوله عن مواضعها ومواقفها . وبات ليلته تلك في عسكره ، .
( 180 )
( واقعة شيبان اليشكري )
قال الطبري وبعد قتل الخيبري بايع عسكره شيبان بن عبد العزيز اليشكري ابا الدلفاء وكان الخيبري قد تزوج اخت شيبان . فاجتمع اليه أصحابه وحارب مروان وطالت الحرب بينهما . وابن هبيرة بواسط فقتل عبيدة بن سوار . ونفى الخوارج ومعه رؤوس قواد اهل الشام . وأهل الجزيرة . فوجه عامر بن ضبارة في أربعة ألاف مدداً لمروان فأخذ على المدائن . وبلغ مسيره شيبان فخاف أن يأتيهم مروان . فوجه اليه الجون بن كلاب الشيباني ليشغله فالتقيا بالسن . فحصر الجون عامراً أياماً . قال أبو سعيد فأخرجناهم والله واضطررناهم الى قتالنا . وقد كانوا خافونا وأرادوا الهرب منا . فلم ندع لهم مسلكاً . فقال لهم عامر أنتم ميتون لا محالة فموتوا كراماً فصدمونا صدمة لم يقم لها شيء وقتلوا رئيسنا الجون بن كلاب وانكشفنا حتى لحقنا بشيبان . وابن ضبارة في آثارنا . حتى نزل منا قريباً . وكنا
( 181 )
نقاتل من وجهين . نزل ابن ضبارة من ورائنا مما يلي العراق . ومروان أمامنا مما يلي الشام فقطع عنا المادة والميرة . فغلت أسعارنا حتى بلغ الرغيف درهماً . ثم ذهب الرغيف فلا يشتري بغال ولا رخيص . فقال حبيب بن جدرة لشيبان يا أمير المؤمنين انك في ضيق من المعاش فلو انتقلت الى غير هذا الموضع ففعل ومضى الى شهرزور من أرض الموصل . فعاب ذلك عليه أصحابه واختلفت كلمتهم . ثم ان شيبان خرج من الموصل ولحق بارض فارس فوجه مروان في أثره عامر بن ضبارة . ثم صار الى جزيرة ابن كاوان ومضى شيبان بمن معه حتى صار الى عمان فقتله جلندي بن مسعود بن جيفر بن جلندي الأزدي سنة 129 هجـ . وقد كان شيبان الحروري قد أشغل رأي مروان وأقلقه . وفي الوقت نفسه كانت وقائع أبو مسلم الخراساني في خراسان مع عامل مروان ـ نصر بن سيار ـ .
( 182 )
( واقعة قديد )
قال أبو الفرج . كان عبدالله بن يحيى من حضرموت وكان مجتهداً عالماً .
فكاتب جماعة من الأباضية بالبصرة وغيرها يشاورهم في الخروج فكتبوا اليه ان استطعت ان لا تقيم يوماً واحداً فافعل ، وشخص اليه المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة بن المسعودي في رجال من الأباضية فقدموا عليه حضرموت فحضوه على الخروج ، فعندها دعا عبدالله أصحابه فبايعوه وقصد دار الإمارة . وعلى حضرموت يومئذ ابراهيم بن جبلة بن مخزمة الكندي . فأخذه وحبسه يوماً ثم أطلقه ، فأتى صنعاء ، قال : وأقام عبدالله بحضرموت وكثر جمعه وسمعه طالب الحق ثم استخلف على حضرموت عبدالله بن سعيد الحضرمي ، وتوجه الى صنعاء وذلك سنة تسعة عشر ومأة .
( 183 )
قال : وقصد عبدالله صنعاء في الفين . وعاملها يومئذ القاسم بن عمرو الثقفي ـ أخو يوسف فوقعت بينهم مناوشات فانتصر عبدالله بن يحيى على القاسم فدخل الى صنعاء واستولى على الخزائن والأموال فاحرزها ، واستولى على بلاد اليمن ، واقام بصنعاء أشهراً يحسن السيرة ويلين جانبه لهم ويخطبهم ويعظهم . حتى كثر جمعه . وأتته الشراة من كل جانب ، فلما كان في وقت الحج ، وجه أبا حمزة المختار بن عوف . وبلخ بن عقبة . وأبرهة بن الصباح الى مكة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف . وأمره أن يقيم بمكة الى صدور الناس . وتوجه بلغ الى الشام . فأقبل المختار الى مكة يوم التروية . وعليها وعلى المدينة . عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان بن محمد بن مروان . فكره عبد الوحد قتالهم . وفزع الناس منهم حين رأوهم . وقد طلعوا عليهم بعرفة ومعهم اعلام سود على رؤوس الرماح . وقالوا لهم ما لكم وما حالكم فأخبروهم بخلافهم لمروان . والتبري منهم . فراسلهم عبد الواحد في أن لا يعطوا على الناس حجهم . فقال أبو حمزة . نحن بحجنا أضن وعليه أشح حتى ينفر الناس النفر الأخير . وأصبحوا من الغد ووقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة ودفع عبد الواحد بالناس . فلما كانوا بمنى . قيل لعبد الواحد قد اخطأت فيهم . ولو حملت عليهم الحاج . ما كانوا الا اكلة
( 184 )
رأس . وبعث عبد الواحد الى حمزة . عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ومحمد بن عمر بن عثمان ، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وعبيد الله بن عمر بن حفص العمري ، وربيعة بن عبد الرحمن ، ورجلاً أمثالهم ، فلما قربوا من أبي حمزة أخذتهم مسالحه . فادخلوا على أبي حمزة فوجدوه جالساً وعليه أزار قطري . قد ربط نحوره في قفاه . فلما دنوا تقدم اليه عبدالله بن الحسن العلوي ، ومحمد بن عبدالله العثماني ، فلما انتسبا له عبس في وجهيهما وما أظهر الكرامة لهما ، ثم تقدم اليه البكري والعمري فانتسبا له فهش اليهما . وتبسم في وجهيهما . وقال : والله ما خرجنا الا لنسير سيرة ابويكما . فقال : عبدالله بن الحسن والله ما جئناك لنفاخر بين آبائنا . ولكن الأمير بعثنا اليك برسالة وهذا ربيعه يخبركما . فلما أخبره ربيعة . قال له ان الأمير يخاف نقض العهد . قال معاذ الله والله لا أفعل . ولكن الى أن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم . فخرجوا من عنده ، وخلى مكة لأبي حمزة . فدخلها بغير قتال . فقال بعض الشعراء يهجو عبد الواحد .
زار الحجيج عصابة قد خالفوا * ديـن الاله ففـر عبـد الواحد
ترك الامارة والمواسم هـارباً * ومـضى يخبط كالبعير الشارد
( 185 )
فلـو ان والـده يخبر امه * لصقت خلايقه بعرف الوالد
ثم مضى عبد الواحد الى المدينة . ودعى بالديوان فضرب على الناس البعث وزادهم في العطاء عشرة عشرة واستعمل على الجيش عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان ، فخرجوا قلقيهم . جزر منحورة فتشأم الناس بها . فلما كانوا بالعقيق علق لواء عبد العزيز بسمرة فانكسر الرمح فتشأموا بذلك أيضاً ، ثم ساروا الى ـ قديد ـ وقد نزل بها قوم معتزلون ليسوا بأصحاب حرب . وأكثرهم تجار أغمار قد خرجوا في المصبغات والثياب الناعمة واللهو . لا يظنون أن للخوارج شوكة . ولا يشكون في أنهم في أيديهم . وقال رجل منهم من قريش . لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء . ولكنهم داهنوا في دين الله . والله لنظفرن ولنسيرن الى أهل الطايف فلنسبينهم ، ثم قال : من يشرى مني سبى أهل الطايف ، قال أبو الفرج فكان هذا الرجل أول المنهزمين ، فلما وصل المدينة . ودخل داره أراد أن يقول لجاريته أغلقي الباب . قال لها : غاق ناق دهشاً . فلقبه أهل المدينة بعد ذلك غاق ناق ، ولم تفهم الجارية قوله . حتى أومى اليها بيده فأغلقت الباب .
قال : وكان عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة . فمر به أمية بن عتبة بن سعيد بن العاص فرحب به وضحك
( 186 )
اليه . ثم مر به عمارة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه ولم يلتفت اليه . فقال عمران بن مطيع . وكان ابن خالته ، سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش فلم تنظر اليه ولم تكلمه ؟ ومر بك غلام بني امية فضحكت اليه ولا طفته ؟ أما والله لو التقى الجمعان لعلمت أيهما اصبر . قال فكان امية بن عتبة أول من انهزم وركب فرسه ومضى ، وقال لغلامه يا مجيب اما والله لئن اخرت هذه الا كلب من الشراة اني لعاجز ، وأما عمارة بن مصعب بن الزبير فقاتل يومئذ حتى قتل . وكان يحمل ويتمثل .
وانـي اذا ظـن الأميـر بــاذنـه * على الاذن من نفسي اذا شئت قادر (1)
قال : ولما بلغ أبا حمزة اقبال أهل المدينة استخلف على مكة أبرهة بن الصباح وأشخص اليهم . وعلى مقدمته بلخ بن عقبة . فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها وأهل المدينة نزول ـ بقديد ـ قال : لأصحابه أنكم ملاقوا غداً أهل المدينة ، وأميرهم فيما بلغني ابن عثمان . اول من خالف سنى الخلفاء وبدل سنة رسول الله (ص) وقد وضح
____________
(1) البيت من شعر الأغر بن حماد اليشكري .
( 187 )
الصبح لذي عينين اكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن ووطنوا انفسكم على الموت وصبحهم غداة الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة .
قال : ابو الفرج . وقال عبد العزيز لغلامه في تلك الليلة ابغنا علفاً قال هو غال . فقال : ويحك البواكي عينا غداً أغلا .
قال : وارسل ابو حمزة اليهم بلخ بن عقبة ليدعوهم فأتاهم في ثلاثين راكباً فذكرهم الله وسألهم أن يكفوا عنهم . وقال لهم خلوا سبيلنا الى الشام لنسير الى من ظلمكم . وجار في الحكم عليكم . ولا تجعلوا أحدنا بكم فانا لا نريد قتالكم فشتمهم اهل المدينة . وقالوا يا أعداء الله نحن نخليكم ونترككم تفسدون في الأرض . فقال الخوارج . يا أعداء الله نحن نفسد في الأرض وإنما خرجنا لنكف الفساد . ونقاتل من قاتلنا منكم واستأثر بالفيء فناظروا لأنفسكم واخلعوا من لم يجعل الله له الطاعة . فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فادخلوا في السلم وعاونوا أهل الحق فنادا عبد العزيز ما تقول في عثمان . قال : قد برىء منه المسلمون قبلي وأنا متبع آثارهم ومقتد بهم . ارجع الى أصحابك فليس بيننا وبينكم الا السيف . فرجع الى ابي حمزة فاخبر . فقال : كفوا عنهم . ولا
( 188 )
تقاتلوهم حتى يبدءوكم بالقتال . فواقفوهم ولم يقاتلوهم . فرمى رجل من أهل المدينة بسهم في عسكر أبي حمزة فجرح منهم رجلاً ، فقال أبو حمزة شأنكم الآن فقد حل قتالهم فحملوا عليهم فثبت بعضهم لبعض ، وراية قريش مع ابراهيم بن عبدالله بن مطيع . ثم انكشف أهل المدينة . فلم يتبعوهم ، وكان على عامتهم صخر بن الجهم ابن حذيفة العدوي فكبر وكبر الناس فقاتلوا قليلاً ، ثم انهزموا . فلم يبعدوا حتى كبر ثانية فثبت معه ناس وقاتلوا ثم انهزموا هزيمة لم يبق بعدهم منهم باقية ، فقال علي بن الحصين لأبي حمزة اتبع آثار القوم أو دعني اتبعهم فاقتل المدبر وأدفف على الجريح فان هؤلاء شر علينا من أهل الشام . ولم قد جاء أهل الشام غداً لرأيت من هؤلاء ما تكره . قال لا افعل ولا أخالف سيرة أسلافنا وأخذ جماعة منهم اسرى ، وأراد اطلاقهم . فمنعه على بن الحصين . وقال أن لكل زمان سيرة . وهؤلاء لم يؤسروا وهم هراب وإنما أسروا وهم يقاتلون . ولو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم . وهكذا الآن .
وكان ابو حمزة اذا رأى رجلاً من قريش قتله واذا رأى رجلاً من الأنصار أطلقه . قال ابو الفرج وذلك لأن قريشاً كانوا اكثر الجيش . وبهم كانت الشوكة .
( 189 )
قال ابن ابي الحديد : وقد بلغت قتلى قديد الفين ومائتين رجلاً ، بينهم من قريش أربع مائة وخمسون رجلاً ، ومن الأنصار ثمانون رجلاً ، ومن الموالي وسائر الناس ألف وسبعمائة رجل : قال : وكان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزى بن قصي اربعون رجلاً ، وكانت نائحة أهل المدينة تقول :
مـا للزمـان ومـاليه * أفنت ـ قديد ـ رجاليه
فـلا بـكين سريـرة * ولا بكيـن عــلانيـه
ولا بكين علـى قديـد * بســوء مـا اولانيـه
ولا عولـن اذا خلوت * مـع الكـلاب العـاوية
ذكر الطبري ان وقعة قديد كانت سنة 130 هجـ .
( 190 )
( وقائع ابو حمزة الخارجي ومقتله )
لما انقضت واقعة ـ قديد ـ واسفر النصر للخوارج على أهل المدينة دخل ابو حمزة قائد جيش الخوارج الى المدينة ـ وخطب على منبر هاولام أهل المدينة وشتم بني امية . ومن انتمى اليهم واظهر معايبهم وصرح بكفرهم وامر أهل المدينة بلعنهم وذكر شيعة آل ابي طالب وعاب عليهم ، واثنى على قتلاه في ـ قديد ـ (1) ثم خرج من المدينة الى مكة وخلف المفضل الأزدي في جماعة من اصحابه معه : قال : وبعث مروان بن محمد عبد الملك بن عطية السعدي في أربعة آلاف من أهل الشام . وفيهم فرسان عسكره ووجوههم لحرب ابي حمزة . وعبدالله بن يحيى ، وأمر ابن عطية بالجد في المسير وأعطى كل رجل من الجيش مائة دينار وفرساً عربياً وبغلاً لثقله ، فخرج ابن
____________
(1) سوف نورد خطبته التي ألقاها بالمدينة . بعد هذا الفصل .
( 191 )
عطية بالجيش .
قال : ابو الفرج . وقد كان خرج بلخ بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية . فلقيه بوادي القرى لايام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة فتوافقوا . ودعاهم بلخ الى الكتاب والسنة . وذكر بني أمية وظلمهم فشتمه أهل الشام . وقالوا يا أعداء الله انتم أحق بهذا ممن ذكرتم فحمل بلخ واصحابه عليهم وانكشفت طائفة من أهل الشام . وثبت ابن عطية في عصبة صبروا معه . فناداهم يا أهل الشام يا أهل الحفاظ ناضلوا عن دينكم وأميركم واصبروا وقاتلوا قتالاً شديداً . فقتل بلخ واكثر أصحابه . وانحازت قطعة من أصحابه نحو الماية الى جبل اعتصموا به . فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام . فقتل منهم سبعين رجلاً ونجا ثلاثون ؛ وجاؤا الى ابي حمزة ، وكان آنذاك بالمدينة . وقد اغتموا وجزعوا من ذلك الخبر وقالوا فررنا من الزحف . فقال لهم ابو حمزة لا تجزعوا فانا لكم فئة . والا أبحرتم . وخرج أبو حمزة الى مكة . فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أهل المدينة الى قتال المفضل خليفة ابي حمزة على المدينة فلم يجد لديه أحد . لأن القتل كان قد أسرع في الناس . وخرج وجوه أهل البدعة . فاجتمع الىعمر البربر والزنوج وأهل السوق فقاتل بهم الشراة . فقتل المفضل وعامة أصحابه وهرب الباقون .
( 192 )
فلم يبق منهم أحد .
قال ولما قدم ابن عطية ، أتاه عمر بن عبد الرحمن ، فقال : أصلحك الله أني جمعت قضى وقضيضي فقاتلت هؤلاء الشراة ، فلقبه أهل المدينة قضى وقضيضي .
قال : ابو الفرج ، وأقام ابن عطية بالمدينة شهراً وابو حمزة مقيم بمكة ثم توجه اليه . فقال علي بن الحصين العبدي لأبي حمزة . اني كنت أشرت عليك يوم ـ قديد ـ وقبله ان تقتل الاسرى ، فلم تفعل حتى قتلوا المفضل وأصحابنا المقيمين معه بالمدينة . وأنا اشير عليك الآن أن تضع السيف في أهل مكة فانهم كفرة فجرة . ولو قد قدم ابن عطية لكانوا أشد عليك من أهل المدينة . فقال : لا أرى ذلك لأنهم قد دخلوا في الطاعة وأقروا بالحكم ووجب لهم حق الولاية . فقال : انهم سيغدرون . فقال : ومن نكث فانما ينكث على نفسه ، قال وقدم ابن عطية مكة . فصير اصحابه فرقتين ولقى الخوارج من وجهين . فكان هو بازاء ابي حمزة في اسفل مكة وجعل طائفة اخرى بالابطح بازاء أبرهة بن الصباح . فقتل ابرهة كمن له ابن هبار وهو على خيل دمشق . فقتله عند بئرام ميمون ، قال والتقى ابن عطية بأبي حمزة . فخرج اهل مكة بأجمعهم مع ابن عطية وتكاثر الناس على ابي حمزة فقتل على فم الشعب وقتلت معه امرأته . وكانت ترتجز :
انـا الجديعاء وبـنت الأعلم * من يسألن اسمي فاسمي مريم
( 193 )
بعت سواري بقضيب مخدم
وقتلت الخوارج قتلاً ذريعاً . وأسر منهم اربعماءة ، فقال لهم ابن عطية ويلكم ما دعاكم الى الخروج مع هذا ؟ فقالوا ضمن لنا ( الكنة ) اي الجنة فقتلهم كلهم . وصلب ابا حمزة وابرهة بن الصباح على الخيف .
قال ابو الفرج : وحدثني بعض اصحابنا انه رأى رجلاً واقفاً على سطح داره يرمى بالحجارة قوم ابي حمزة بمكة . فقيل له كيف تدري لمن ترمي مع اختلاط الناس ؟ . فقال : ما أبالي ان رميت . انما يقع حجري في شام او شار . والله ما ابالي ايهما قتلت .
ودخل علي بن الحصين داراً من دور قريش . فاحدق اهل الشام بها ، فرمى بنفسه عليهم وقاتلهم ، فأسر ، ثم قتل وصلب مع ابي حمزة . فلم يزالوا مصلوبين حتى افضى الأمر الى بني هاشم في خلافة ابي العباس .
قال : ولما أراد أبو حمزة الخروج من المدينة خطب في الناس ، وقال يا أهل المدينة أنا خارجون لحرب مروان فان نظهر عليه نعدل في احكامكم ونحملكم على سنة نبيكم . وان يكن ما تمنيتم لنا . فسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون ، قال : واتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة فبايعوه ، منهم بشكست النحوي . فلما جاء خبر قتله . وثب الناس على أصحابه فقتلوهم . وكان من جملة من قتل بشكست النحوي . فطلبوه فرقى في درجة دار لحقوه . وهو
( 194 )
يصيح يا عباد الله فيم تقتلوني فجروه وقتلوه .
قال أبو الفرج : وخرج ابن عطية الى الطائف . واتى قتل ابي حمزة الى عبدالله بن يحيى طالب الحق وهو بصنعاء . فاقبل في اصحابه يريد حرب ابن عطية . فشخص ابن عطية اليه . والتقوا فقتل بين الفريقين جمع كثير . ورحل عبدالله بن يحيى في الف رجل فقاتلوا حتى قتلوا كلهم . وقتل عبدالله بن يحيى ، وبعث ابن عطية رأسه الى مروان بن محمد .
قال ابو الفرج : وأقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج حتى أتاه كتاب مروان يأمره بالتعجيل الى مكة فيحج بالناس فشخص الى مكة مستعجلاً ومخففاً في تسعة عر فارساً . وندم مروان على ما كتبه وقال : قتلت ابن عطية . وسوف يخرج مستعجلاً مخففاً من اليمن ليلحق الحج فيقتله الخوارج . فكان كما قال صاجفه في طريقه جماعة متلفقة فمن كان منهم اباضياً ، قال ما ننتظر ان ندرك ثأر اخواننا ومن لم يكن منهم اباضياً ظن انه اباضي منهزم من ابن عطية فصمد له سعيد ، وحمانه ابنا الأخنس الكنديان في جماعة من قومهما كانوا على رأي الخوارج فعطف ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف وطعنه حمانه فصرعه . فنزل اليه سعيد وقعد على صدره . فقال له ابن عطية هل لك ان تكون أكرم العرب أسيراً ؟ فقال سعيد يا عدو الله اتظن الله يهملك أو تطمع في الحياة وقد قتلت طالب الحق ، وأبا حمزة ، وبلحا ، وأبرهة . ثم ذبحه . وقتل أصحابه كلهم .
( 195 )
( خطبة ابي حمزة )
قال ابو الفرج الاصبهاني في أغانيه . خطب ابو حمزة بالمدينة على منبر الرسول . وكان سبب خطبته هذه أن اهل المدنية عابوا عليه اصحابه لحداثة أسنانهم وخفة أحلامهم . فصعد المنبر وقال : يأ أهل المدينة قد بلغتني مقالتكم في أصحابي . ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم لاحسنت أدبكم . ويحكم ان رسول الله (ص) انزل اليه الكتاب وبين فيه السنن وشرع له في الشرايع . وبين له في ما يأتي وما يذر . فلم يكن يتقدم الا بأمر الله ولا يحجم الا عن أمر الله حتى قبضه الله اليه وقد أدى الذي عليه . لم يدعكم من أمركم في شبهة . ثم قام من بعده ابوبكر فأخذ بسنته وقاتل اهل الردة وشمر في أمر الله حتى قبضه الله اليه والأمة عنه راضية رحمة الله عليه ومغفرته . ثم ولى بعده عمر فأخذ بسنة صاحبه . وجند الأجناد ومصر الأمصار وجبي الفيىء وقسمه بين أهله وشمر عن ساقيه وحسر عن ذراعيه . وضرب في الخمر ثمانين . وقام في شهر رمضان وغزا العدو في بلادهم وفتح المدائن والحصون حتى قبضه الله اليه
( 196 )
والأمة عنه راضية رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته ، ثم ولي من بعده عثمان بن عفان فعمل في ست سنين بسنة صاحبيه ثم أحدث احداثاً أبطل آخرها أولها . واضطرب حبل الدين بعدها فطلبها كل امرىء لنفسه وأسر كل رجل منهم سريرة ابداها الله عنه حتى مضى على ذلك (1) ثم ولى معاوية بن ابي سفيان لعين رسول الله (ص) وابن لعينه . وجلف من الأعراب وبقية من الأحزاب مؤلف طليق فسفك الدم الحرام . واتخذ عباد الله خولاً ومال الله دولاً وبغى دينه عوجاً ودغلا . وأحل الفرج الحرام وعمل بما يشتهيه حتى مضى لسبيله . ثم ولى بعد ابنه يزيد يزيد الفجور ويزيد الصقور ويزيد الفهود ويزيد الصيود ويزيد القرود فخالف القرآن واتبع الكهان ونادم القرود وعمل بما يشتهيه حتى مضى على ذلك .
ثم ولي مروان بن الحكم طريد لعين رسول الله وابن لعينه فاسق في بطنه وفرجه ، ثم تداولها بنو مروان بعده أهل بيت اللعنة طرداء رسول الله وقدم الطلقاء ليسوا من الهاجرين والانصار ولا التابعين باحسان فأكلوا مال الله اكلا ولعبوا بدين الله لعباً . واتخذوا عباد الله عبيداً يورث ذلك اكبرهم منهم الأصغر . فيا لها امة ما اضيعها وأضعفها
____________
(1) روى هذه الخطبة بتغيير الجاحظ في البيان والتبيين . وبعد ان سرد أبو حمزة ذكر عثمان قال وولى علي بن ابي طالب فلم يبلغ من الحق قصداً ولم يرفع له مناراً ثم مضى لسبيله رضي الله تعالى عنه .
( 197 )
والحمد لله رب العالمين . ثم مضوا على ذلك من اعمالهم واستخفافهم بكتاب الله تعالى قد نبذوه وراء ظهورهم ، وقد ولى منهم عمر بن عبد العزيز فبلغ ولم يدك وعجز عن الذي أظهره حتى مضى لسبيله . ثم ولى يزيد بن عبد الملك غلام ضعيف سفيه غير مأمون على شيء من امور المسلمين لم يبلغ اشده ولم يؤنس رشده وقد قال الله عز وجل ( فان آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم أموالهم ) فأمر امة محمد احكامهم وفروجها ودمائها اعظم من ذلك كله وان كان ذلك عند الله عظيماً ، مأبون في بطنه وفرجه يشرب الحرام ويأكل الحرام ويلبس الحرام . يلبس بردتين قد حيكتا له على أهلها بالف دينار وأكثر واقل قد أخذت من غير حلها وصرفت في غير وجهها بعد أن ضربت فيها الأبشار وحلقت فيها الاشعار . واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح ولا لنبي مرسل ثم يجلس ما لم يحل الله لعبد صالح ولا لنبي مرسل ثم يجلس حبابة عن يمينه . وسلامة عن شماله تغنيانه بمزامير الشيطان ويشرب الخمر الصراح . المحرمة نصاً بعينها . حتى اذا أخذت مأخذها فيه وخالطت روحه ولحمه ودمه وغلبت سورتها على عقله مزق حلتيه . ثم التفت اليهما فقال : أتأذنان لي في أن أطير ؟ نعم فطر الى النار الى لعنة الله لا يردك الله ، ثم ذكر بني امية وأعمالهم وسيرهم . فقال : اصابوا امرة ضائعة وقوماً طغاماً جهالاً لا يفرقون بين الضلالة والهدى ويرون ان بني امية أرباب لهم . فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى ويقتلون على الغضب ويأخذون
( 198 )
بالظن ويعطلون الحدود بالشفاعات ويؤمنون الخونة ويقصون ذوي الأمانة ويأخذون الصدقة على غير فرضها ويضعونها في غير موضعها . فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما انزل الله : وأما اخواننا من هذه الشيع فليسوا بأخواننا في الدين لكن سمعت الله عز وجل : قال في كتابه ( انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) شيعة ظاهرت بكتاب الله وأعلنت الفرية على الله لا يرجعون الى نظر نافد في القرآن ولا عقل بالغ في الفقه ولا تفتيش عن حقيقة الصواب . قد قلدوا أمرهم أهواءهم وجعلوا دينهم عصبية لحزب لزموه وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم غياً كان أو رشداً . ضلالاً أو هدى . ينتظرون الدول في رجعة الموتى ويؤمنون بالبعث قبل الساعة ويدعون علم الغيب لمخلوق لا يعلم ما في داخل بيته بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه . ينقمون المعاصي على أهلها ويعلمون اذا ظهروا بها ولا يعرفون المخرج منها . جفاة في الدين . قليلة عقولهم . قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم وزعموا ان موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة . قاتلهم الله أنا يؤفكون . فأي هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون . أو بأي مذاهبهم تقتدون ، يا أهل المدينة بلغتني مقالتكم في أصحابي وما عبتموه من حداثة أسنانهم ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله (ص) الا احداثاً ؟ شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم . ثقيلة عن الباطل
( 199 )
أرجلهم انضاء عبادة . قد نظر الله اليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على اجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية من ذكر الله بكى شوقاً وكلما مر بآية من ذكر الله شهق خوفاً . كان زفير جهنم بين اذنيه . قد أكلت الأرض جباههم وركبهم ووصلوا كلال الليل بكلال النهار مصفرة ألوانهم ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيتم . انضاء عبادة موفون بعهد الله منتجزون لوعد الله . قد شروا انفسهم حتى اذا التقت الكتيبتان وأبرقت سيوفهما وفوقت سهامهما وأشرعت رماحهما تلقوا شبا الأسنة وشائك السهام وظباة السيوف بنحورهم ووجوههم وصدورهم . فمض الشاب منهم حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه واختضبت محاسن وجهه بالدماء وعفر جبينه بالثرى والنحطت عليه الطير من السماء . وتمزقه سباع الارض . فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله . وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد . ثم بكى وقال : آه آه على فراق الاخوان . رحمة الله على تلك الأبدان وأدخل الله ارواحهم الجنان .
اقول : لو أمعنا النظر الى هذه الخطبة لراينا أبا حمزة صدق في أولها بكلامه عن بني امية حيث تطرق الى شنايعهم وهذا شيء لا ينكر وكتب المسلمين طافحة بأكثر مما قال : ولكنه كذب ودلس في فقراتها الأخيرة حيث انتحل أكثر كلامه من خطب الإمام علي (ع) المثبتة في
( 200 )
نهج البلاغة (1) فوصف اصحابه بما يقارب وصف امير المؤمنين لأصحابه في استطراد خطبته التي ذكر (ع) فيها عمار بن ياسر ، وابن التيهان وذا الشهادتين . وجاراه بها حتى في حالة التأوه . ولكن اين هذا من ذاك ذاك كلام سيد البلغاء وخريج مدرسة سيد البشر في وصف جماعة من الصحابة المقدمين . وهذا كلام خارجي مارق عن الدين في شرذمة من المارقة . ليت شعري فلو كان أصحاب ابي حمزة كما وصفهم بهذا الكلام فلماذا استحلوا قتل الرضع والنساء وهتكوا الحرمات وشقوا بطون الحبالى وسفكوا الدماء البريئة . ولكن أبا حمزة بلباقة لسانه وباظهاره التقشف أراد أن يستميل اهل المدينة اليه . وان يكونوا تبعاً له مارقين خارجين .
____________
(1) كثير من امثار ابي حمزة انتحلوا من كلام امير المؤمنين (ع) او استعانوا به في خطبهم فنسب اليهم ما استشهدوا به من كلامه (ع) حتى ان بعض المؤرخين الذين لم يسبروا النهج صاروا يسندون بعض خطب الامام علي (ع) الى غيره . هذا الجاحظ ذكر خطبة علي (ع) التي أولها ( أما بعد فاني احذركم الدنيا فانها حلوة خضرة الخ ) اسندها الى قطري ابن الفجاءة الخارجي ، وجاء آخر وأسند خطبة علي (ع) الشهيرة لمعاوية التي يقول في ألها : ( أيها الناس انا اصبحنا في دهر عنود الخ ) فنقده الناقد البصير الجاحظ ، قال : بعد سردها هي بكلام على اشبه . وبمذهبه في تصنيف الناس ) الى ان قال : انا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد ؛ ومن قوله (ع) أين القوم الذين دعوا الى الإسلام الخ .