( مساور الشاري )


كان سبب خروج مساور بن عبد الحميد بن مساور الشاري البجلي الموصلي بالبوازيج يروي ان شرطة الموصل كان برأسها حسين بن بكير فحبس ابناً لمساور اسمه حوثرة . وكان حبسه بالحديثة . وكان حوثرة جميلاً فكان حسين بن بكير يخرجه من الحبس ليلاً ويحضره عنده ويرده الى الحبس نهاراً . فكتب حوثرة الى ابيه مساور وهو بالبوازيج يقول له أنا بالنهار محبوس وبالليل عروس . فغضب لذلك وقلق وخرج وبايعه جماعة وقصد الحديثة فاختفى حسين بن بكير . واخرج مساور ابنه حوثرة وكثر جمعه من الأكراد والأعراب وصار الى الموصل فنزل بالجانب الشرقي . وكان الوالي عليها يومئذ عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن اهبان الخزاعي (1) قال وعبر رجلان من اهل الموصل الى مساور فقاتلا فقتلا وعاد مساور وكره القتال وسمع ابنه يرتجز :
____________
(1) كان اهبان صحابياً .
( 202 )

انا الغلام البجلي الشـاري * اخرجني جوركم من داري

وأتى الخبر بمسير مساور الى كرخ حدان وبلغ بندار الطري فصار الى مساور وكان معه ثلثمائة فارس ومع الخوارج سبعمائة فاشتد القتال بينهم وحمل الخوارج حملة اقتطعوا من أصحاب بندار اكثر من ماءة فصبروا لهم وقاتلوهم حتى قتلوا جميعاً . فانهزم بندار وأصحابه وجعل الخوارج يقطعونهم قطعة بعد قطعة فقتلوهم وأمعن بندار في الهرب فطلبوه ولحقوه فقتلوه ونصبوا رأسه ولجأ من أصحابه نحو من خمسين رجلاً . وسار مساور نحو حلوان فقاتله أهلها فقتل منهم اربعمائة اسنا وقتلوا من أصحابه جماعة وقتل عدة من حجاج خراسان كانوا بحلوان وقال مساور في ذلك :

فجعت العـراق ببندارها * وخـرت البلاد بأقطارها
حلـوان صبحتها غـارة * فقبلت غـرار غـرارها
وعقبة بالموصل احجرته * وطوقته الذل فـي كارها

قال واستولى مساور على أكثر اعمال الموصل وقوي أمره . فجمع له الحسن بن ايوب بن عمر بن الخطاب العدوي التغلبي . وكان خليفة ابيه بالموصل عسكراً كثيراً منهم حمدان بن حمدون جد الامراء الحمدانية وغيره . وسار الى مساور وعبر اليه نهر الزاب فتأخر عنه مساور عن موضعه ونزل بموضع يقال له وادي الريات وهو واد عميق .


( 203 )

فسار الحسن في طلبه فالتقوا هناك واقتتلوا أشد القتال . فانهزم عسكر الموصل وكثر القتل فيهم وسقط كثير منهم في الوادي فهلك فيه اكثر من القتلى ونجا الحسن فوصل الى حرة من أعمال اربل اليوم ونجا محمد بن علي بن السيد فظن الخوراد انه الحسن فتبعوه فقاتلهم فقتل وكان شجاعاً فارساً . قال : وعظم شأن مساور حتى خافه الناس . وقصد الموصل ونزل بظاهرها عند الدير الأعلى . فاستتر أمير البلاد وهو عبدالله بن سليمان لضعفه عن مقاتلته . ووجه مساور جمعاً الى دار عبدالله أمير البلاد فأحرقها ودخل الموصل بغير حرب وصلى الجمعة في المسجد الجامع . قال فوضع ابهامه في اذنيه وكبر ست تكبيرات وخطب بعد الصلاة . وكان قد جعل على درج المنبر من أصحابه من يحرسه بالسيوف وكذلك في الصلاة . ثم فارق الموصل ورجع الى الحديثة لأنه كان اتخذها دار هجرته .
قال وخالف أحد الخوارج اسمه عبيدة من بني زهير العمروي على مساور في توبة الخاطىء فقال مساور تقبل توبته . وقال عبيدة لا تقبل فجمع عبيدة جمعاً كبيراً وسار الى مساور وتقدم اليه مساور من الحديثة فالتقوا بنواحي جهينة بالق بالقرب من الموصل واقتتلوا أشد قتال فأسفرت النتيجة عن قتل عبيدة وفل جمعة واستولى مساور على كثير من العراق . حتى انه منع الأموال على الخليفة وضاقت على الجند أرزاقهم . ولما ولي المعتمد الخلافة سير مفلحاً الى قتال مساور في عسكر كبير حسن العدة فلما قارب


( 204 )

الحديثة فارقها مساور وقصد جبلين يقال لأحدهما زيني وللآخر عامر . وهما بالقرب من الحديثة فتبعه مقلح فعصف عليه مساور وهو في أربعة آلاف فارس فاقتتل هو ومفلح وجرت وقفات عديدة بينهما . ثم اصبحوا يوماً وطلبوا مساوراً فلم يجدوه . وكان قد سار الى الحديثة ورجع مفلح الى الموصل فأحسن السيرة في أهلها . ثم تأهب للقاء

مساور فلما قارب الحديثة فارقها مساور

. ثم رحل عنها مفلح ، وفي سنة ست وخمسين وماءتين التقى بغابمساور الخارجي بخانقين وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة .
وفي سنة سبع وخمسين وماءتين . خرج علي بن مساور الخارجي وخارجي آخر اسمه طوق من بني زهير فاجتمع اليه أربعة آلاف فسار الى أذرمة فحاربه أهلها فظفر بهم فدخلها بالسيف وأخذ جارية بكراً فجعلها فيئاً وافتضها في المسجد . فجمع عليه الحسن بن ايوب بن احمد العدوي جمعاً كثيراً فحاربه فقتله وقطع رأسه وانفذه الى سامراء ، وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين سار مسرور الى البوازيج فلقى مساوراً هناك فكان فيها ما بينهما وقعة أسر فيها من اصحاب مسرور جماعة ثم انصرف مسرور الى سامراء وفي سنة ستين وماءتين قتل رجل من اصحاب مساور الشاري محمد بن هرون بن المعمر رآه يريد سامراء فقتله وحمل رأسه الى مساور فطلبت ربيعة بثاره فندب مسرور البلخي


( 205 )

وغيره الى أخذ الطرق على مساور فلم يتيسر له ذلك ، وفي سنة احدى وستين وماءتين قتل مساور الشاري يحيى بن جعفر الذي كان يلي خراسان . فسار مسرور البلخي في طلبه وتبعه ابو احمد وهو الموفق بن المتوكل فسار مساور من بين ايديهما فلم يدركاه . وفي سنة ثلاث وستين وماءتين رحل الى البوازيج يريد لقاء عسكر قد سار اليه من عند الخليفة وجاءه حتفه فمات حينذاك .


( 206 )

( الحرب بين الخوارج أنفسهم )


لما هلك مساور طلب الخوارج أن يبايعوا محمد بن خرزاد فامتنع فبايعوا هرون بن عبدالله البجلي . قال ابن الأثير جمع بن خرزاد أصحابه وسار الى هرون محارباً له فنزل واسط وهي محلة بالقرب من الموصل وكان يركب البقر لئلا يفر من القتل ويلبس الصوف الغليظ ويرقع ثيابه وكان كثير العبادة والنسك ويجلس على الأرض ليس بينها وبينه حائل . فلما نزل واسط خرج اليه وجوه أهل الموصل وكان هرون بمعلثايا يجمع لحرب محمد . فلما سمع بنزول محمد عند الموصل سار اليه ورحل ابن خرزاد نحوه فالتقوا بالقرب من قرية شمرخ فاقتتلوا قتالاً شديداً كان فيه مبارزة وحملات كثيرة فانهزم هرون وقتل من أصحابه نحو مائتي رجل منهم جماعة من الفرسان المشهورين . مضى هرون منهزماً فعبر دجلة الى العرب قاصداً بني تغلب فنصروه واجتمعوا اليه ورجع ابن خرزاد من حيث أقبل وعاد هارون


( 207 )

الى الحديثة فاجتمع عليه خلق كثير . وكاتب أصحاب بن خرزاد واستمالهم فأتاه منهم الكثير ولم يبق مع ابن خرزاد الا عشيرته من الشمردلية وهم من أهل شهر زور . وإنما فارقه أصحابه لأنه كان خشن العيش وهو ببلد شهر زور وهو بلد كثير الأعداء من الأكراد وغيرهم وكان هرون ببلد الموصل قد صلح حاله وحال أصحابه فلما راى أصحاب ابن خرزاد ذلك مالوا اليه وقصدوه وواقع ابن خرزاد بنواحي شهر زور والأكراد الجلالية وغيرهم . فقتل وتفرد هرون بالرياسة على الخوارج وقوي وكثر أتباعه وغلبوا وذلك سنة سبع وستين وماءتين .


( 208 )

( صاحب الزنج الخارجي )


قال : أرباب التاريخ . خرج في عهد المهدي . صاحب الزنج بالبصرة (1) وكان من كبار أصحاب الفتن في العهد العباسي ، وكان يزعم انه علي بن احمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (ع) . وأكثر الناس يقولون انه دعى آل ابي طالب ، قال المسعودي في مروج الذهب (2) كان صاحب الزنج . من أهل قرية من أعمال الري . يقال لها . وزق . وظهر من فعله ما دل على تصديق ما رمى به . انه كان يرى رأي الأزارقة . من الخوارج . لأن أفعاله في قتل النساء والأطفال وغيرهم . من الشيخ الفاني وغيره ممن لا يستحق القتال يشهد بذلك عليه . وله خطبة . يقول في أولها . الله اكبر . الله اكبر . لا
____________
(1) كان خروج صاحب الزنج سنة خمس وخمسين ومأتين . وقيل سنة سبعين ومأتين ؟ .
(2) ج4 ص135 . طبع دار الرجاء .

( 209 )

اله الا الله والله اكبر . الا لا حكم إلا لله . وكان يرى الذنوب كلها شركاً . وكان أنصاره الزنج .
قال : المسعودي : وشخص الموفق لمحاربة صاحب الزنج في صفر سنة سبع وستين ومأتين . وقدم الموفق ابنه أبا العباس في ربيع الآخر الى الأهواز فأصلح ما افسده الزنج . ثم عاد الى البصرة . فلم يزل منازلاً لصاحب الزنج . قد التف حوله سودان البصرة ورعاعها . فنزل البطائح وامتلك البصرة . والأهواز . وأغار على واسط . وبلغ عدد جيشه ثلاث مئة الف مقاتل . وعجز عن قتاله الخلفاء . وكان يقتل الصغير والكبير . والذكر والأنثى . ويحرق ويخرب . وكان قد جعل مقامه في قصر اتخذه بالمختارة وقد كان أتى بالبصرة في وقعة واحدة على قتل ثلاث مئة ألف من الناس وآخر أمره قتله الموفق . وقطع رأسه . وحمله الى بغداد . وطيف به البلدان . وكان قتله سنة سبعين ومأتين لليلتين خلتا من شهر صفر . وكانت أيامه أربع عشر سنة وأربعة أشهر وستة أيام في أيام المعتمد .


( 210 )

( وقايع ابو يزيد الخارجي )


كان ابو يزيد الخارجي واسم والده كنداد . من مدينة توزر من قسطيلية . وكان أبوه يختلف الى بلاد السودان للتجارة . فولد بها أبو زيد من جارية هوارية . فاتى به الى توزر . ونشأ بها فتعلم القرآن . حتى كبر وترعرع وصار يخالط جماعة من النكارية (1) . فمالت نفسه الى مذهبهم . ثم سافر الى تاهرت . فأقام بها يعلم الصبيان . الى ان خرج ابو عبدالله الشيعي الى سجلماسة في طلب المهدي وكان أبو زيد من مذهبه تكفير أهل المل الملة واستباحة الأموال والخروج على السلطان . فابتدأ يحتسب على الناس في أفعالهم ومذاهبهم . فصار له جماعة يعظمونه . وذلك في ايام المهدي سنة ست عشرة وثلثمائة . ولم يزل


____________
(1) النكار . هم خوراد الأندلس وهم من الأباضية : وان جل اهل عمان اليوم اباضية .
( 211 )

على ذلك الى أن اشتدت شوكته وكثر تبعه في ايام القائم ولد المهدي . فصار يغير ويحرق ويفسد ويغزو البلدان فيهدم ويحرق ويقتل . حتى انه قتل الأطفال وأخذ النساء ورعب منه الناس وخافته القبائل واستولى على بلدان كثيرة والقيروان وقتل أهلها وحارب الكتاميين . وعمل أعمالاً عظيمة . وقتل ميسور قائد جيش القائم . وحمل رأسه وطيف بالقيروان . حتى خافه القائم ومن معه بالمهدية وفتح سوسة وقتل الرجال وسبى النساء وأحرق البيوت وشق فروج النساء . وبقر البطون حتى ما ترك موضعاً بأفريقية معموراً . وقد حاصر المهدية غير مرة . وتفرق اهل المهدية أيدي سبأ . وتفرق من أصحابه جماعة وصاروا الى المهدية بسبب عداوة كانت بينهم وبين أقوام سعوا بهم اليه . فخرجوا من المهدية مع أصحاب القائم فقاتلوا أصحاب ابي يزيد فظفروا . فتفرق عند ذلك أصحاب أبي يزيد ولم يبق معه الا القليل فشخص الى القيروان ليجمع بها البربر فخرج أهل المهدية وانتهبوا ثقله . فلما وصل الى القيروان سدس صفر . فنزل المصلى . ولم يخرج اليه أحد من أهلها سوى عاملة وخرج الصبيان يلعبون حوله ويضحكون منه . ثم ما مرت أيام حتى خرجوا اليه . وذلك لما ألان لهم القول وخوفهم صولة القائم . وتسامع الناس فأتاه العسكر من كل ناحية فنهب البلدان ووضع السيف بالرقاب وأكثر الحريق


( 212 )

والخراب . ودخل تونس في العشرين من صفر بعسكره سنة أربع وثلاثين وثلثمائة فنهبوا جميع ما فيها وسبوا النساء والأطفال وقتلوا الرجال وهدموا المساجد ولجأ كثير من الناس الى البحر فغرق . فسير اليهم القائم عسكراً الى تونس فخرج اليهم أصحاب ابي يزيد واقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم عسكر القائم هزيمة عظيمة . ثم عدلوا على عسكر ابي يزيد فهزموه ودخلوا تونس وأخرجوا من فيها من عسكر ابي يزيد . وكان لأبي يزيد ولد اسمه أيوب . فلما بلغه الخبر جهز جيشاً جراراً وقصد تونس . فدخلها وأحرق ما بقي فيها وقتل أناساً بها . وتوجه الى باجة ـ فقتل من اصحاب القائم . ودخلها بالسيف فأحرقها وكان هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف . وحمل عسكر القائم على ابي يزيد ثلاث حملات . وفي الحملة الثالثة تغلبوا على أبي يزيد وحاصر أبو يزيد بلدة سوسة . وكان بها عسكراً للقائم وعمل في تلك الوقعة الدبابات والمنجنيقات . فقتل من أهل سوسة خلق كثير وفي ذلك الحين فوض القائم العهد الى ولده اسماعيل المنصور . وتوفي القائم فكتم المنصور موت ابيه خوفاً من ابي يزيد لقربه وهو على مدينة سوسة ، وعمل المنصور المراكب وشحنها بالرحال واستعمل عليها رشيقاً الكاتب . ويعقوب بن اسحاق . ووصاهما أن لا يقاتلا حتى يأمرهما ثم سار من


( 213 )

الغد يريد سوسة . فسألوا أن يعود ولا يخاطر بنفسه فعاد وارسل رشيق ويعقوب بالحد في القتال . فوصلوا سوسة . وقد أعد ابو يزيد الحطب لإحراق السور وعمل دبابة . فالقى رشيق النار في الحطب الذي جمعه ابو يزيد وفي الدبابة فأظلم الجو بالدخان واشتعلت النار . فلما رأى ذلك أبو يزيد وأصحابه خافوا فانهزم أبو يزيد واصحابه . وجد في الهرب حتى دخل القيروان من يومه . وفل جيشه على يد رشيق وأصحابه ولما وصل الى القيروان منعه أهلها من الدخول اليها . فرحل ابو يزيد الى سبيبة . وهي على مسافة يومين من القيروان . فنزلها ولما بلغ الخبر لأبي منصور بفتح القيروان أعطى أهلها بالامان . ثم ان ابا يزيد جمع عساكره وارسل سرية الى القيروان فقاتلهم أصحاب المنصور . ورجعوا مفلولين . وسار ابو يزيد بنفسه مع شجعان أصحابه الى القيروان . وكان المنصور قد خندق عليها ففرق أبو يزيد عسكره ثلاث فرق وباشر الحرب بنفسه وكان الظفر للمنصور . وكان يوماً مشهوداً . قال ورحل ابو يزيد عن القيروان في أواخر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة ونادى المنصور من أتى برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار . ووقعت حرب أخرى بينهما وكان الظفر مرة


( 214 )

لهذا ومرة لهذا . وصار ابو يزيد يرسل السرايا فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة . ثم انه أرسل الى المنصور يسال أن يسلم اليه حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان . وأخذهم المنصور . فان فعل ذلك دخل في طاعته على أن يؤمنه وعياله وأصحابه وحلف له بأغلظ الايمان على ذلك فأجابه المنصور الى ما طلب وأحضرهم اليه مكرمين بعد أن وصلهم وأحسن كسوتهم وأكرمهم . فلما وصلوا اليه نكث جميع ما عقده . وقال انما وجههم خوفاً وانقضت سنة أربع وثلاثين وثلثمائة . ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلثمائة وهم على حالهم في القتال ففي خامس المحرم منها زحف أبو يزيد . وركب المنصور . وكان بين الفريقين قتال ما سمع بمثله وأسفرت الحرب عن هزيمة ابي يزيد الى تاه مديت . وقتل من اصحابه ما لا يحصى . فكان ما أخذه أطفال أهل القيروان من رؤس القتلى عشرة آلاف رأس . قال وتجهز المنصور في أثره . وكان كلما قصد موضعاً يتحصن فيه سبقه المنصور حتى وصل طبنة فوصلت رسل محمد بن خزر الزناتي . وهو من أعيان أصحاب ابي يزيد يطلب الأمان فأمنه المنصور . وأمره أن يرصد أبا يزيد . واستمر الهرب بأبي يزيد حتى وصل الى جبل للبربر يسمى برزال . وأهله على مذهبه وسلك الرمان ليختفي أثره . فاجتمع معه خلق كثير فعاد الى


( 215 )

نواحي مقبرة . والمنصور بها فكمن ابو يزيد أصحابه . فلما وصل عسكر المنصور رآهم فحذروا منهم . فعبىء حينئذ أبو يزيد أصحابه واقتتلوا حتى انهزم أبو يزيد الى جبل سالات . ورحل المنصور في أثره فدخل مدينة المسيلة ورحل في أثر ابي يزيد في جبال وعرة وأودية عميقة خشنة الأرض فاراد الدخول وراءه فعرفه الادلاء أن هذه الأرض لم يسلكها جيش قط . واشتد الأمر على العسكر فبلغ عليق الدابة دينار ونصف وقربة الماء دينارين . وان ما وراء ذلك رمال وفقار بلاد السودان ليس فيها عمارة وان أبا يزيد اختار الموت جوعاً وعطشاً على القتل بالسيف . فلما سمع ذلك رجع الى بلاد صنهاجة فاتصل به أميرها زيرى بن مناد الصنهاجي الحميري جد بني باديس ملوك افريقية . فأكرمه المنصور وأحسن اليه . قال ووصل كتاب محمد بن خزر يذكر الموضع الذي فيه أبو يزيد من الرمال فقصده المنصور فهرب منه يريد بلاد السودان . وتحصن في جبال كتامة . وصار يعبث هناك ويختطف الناس . فسار المنصور عاشر شعبان اليه . فلم ينزل أبو يزيد فلما عاد نزل الى ساقة العسكر . فرجع المنصور ووقعت الحرب فانهزم ابو يزيد وأسلم أولاده واصحابه ولحقه فارسان فعقرا فرسه وسقط عنه فأركبه بعض اصحابه ولحقه زيرى بن مناد فطعنه فالقاه وكثر القتال عليه فخلصه اصحابه وخلصوا معه . وتبعهم أصحاب


( 216 )

المنصور فقتلوا منهم ما يزيد على عشرة آلاف . ثم سار المنصور في أثره فلحقه واقتتل الفريقان ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وخشونته . ثم انهزم أبو يزيد فالتجأ الى قلعة كتامة وهي منيعة فاحتمى بها . وجاء أكثر أصحاب ابي يزيد يطلبون الأمان . فأمنهم المنصور . وسار الى قلعة كتامة فحصر أبا يزيد فيها . وفرق جنده حولها حتى انهزم أصحاب ابي يزيد ودخل هو وأولاده وأعيان أصحابه الى قصر في القلعة فاجتمعوا فيه فاحترقت أبوابه وأدركهم القتل . وأمر المنصور باشعال النار في شعاري الجبل وبين يديه لئلا يهرب ابو يزيد . فصار الليل كالنهار . فلما كان آخر الليل خرج أصحابه وهم يحملونه على أيديهم وحملوا على الناس حملة منكرة . فأفرجوا لهم فنجوا به ونزل من القلعة خلق كثير فأخذوا واخروا بخروج ابي يزيد . فأمر المنصور . فسجد شكراً لله تعالى والناس يكبرون حوله وبقي عنده الى سلخ المحرم سنة ست وثلاثين وثلثمائة . فمات من الجراح الذي به . وأمر بادخاله في قفص عمل له وجعل معه قردين يلعبان عليه وأمر بسلخ جلده وحشاه تبناً وكتب الى سائر البلاد بالبشارة في ذلك .


( 217 )

( خروج فضل الخارجي بعد ابيه )

لما هلك أبو يزيد . خرج فضل بن ابي يزيد على المنصور بن القائم وأفسد وقطع الطريق فغدر به بعض أصحابه وقتله وحمل راسه الى المنصور وذلك سنة ست وثلاثين وثلثمائة .

( فتكات الخوارج )

فتك عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي بسيد الأولين والآخرين ونفس سيد المرسلين وأول المسلمين . في أشرف الشهور ـ شهر رمضان وفي أشرف الليالي ـ ليلة القدر ـ وفي أشرف الأوقات ـ بين الطلوعين وفي مكان شريف ـ في مسجد الكوفة ـ في محرابه بين يدي ربه بين السجدتين ضربه بسيفه فشق رأسه الشريف ومضى السيف الى موضع سجوده من غرته المباركة فخضبت بدمائه كريمته الشريفة . وأفجع الإسلام والمسلمين عامة بقتله . وكان الشقي ابن ملجم شقيق عاقر ناقة صالح قد سقى سيفه السم فقضى امير المؤمنين من ضربته . والبس الاسلام ابراد الحداد لهذا الفتك العظيم وذلك في سنة 40 هجـ .


( 218 )

( فتكهم بعبد الله بن خباب )


هو عبدالله بن خباب بن الارت التميمي وكان خباب لحقه سبأ في الجاهلية فبيع بمكة فاشترته امرأة من خزاعة واعتقته فهو تميمي بالنسب خزاعي بالولاء زهري بالحلف ، وكان قيناً يعمل السيوف في الجاهلية وكان فاضلاً من المهاجرين الأولين شهد بدراً وما بعدها المشاهد مع النبي (ص) وكان قديم الاسلام ممن عذب في الله وصبر على دينه وحدث عمراً عما لقي من الأذى في بدء الإسلام ، قال : سأل خباباً عما لقي من المشركين . فقال انظر الى ظهري فنظر ثم قال ما رأيت كاليوم . قال خباب لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها فما أطفأها الا ودك ظهري ، قال ابن حجر وشهد مع علي صفين والنهروان ، قيل مات سنة تسع وثلاثين وصلى الله علي بن ابي طالب ، وقيل بل مات سنة تسع عشرة بالمدينة وصلى عليه عمر (1) وولده المقتول
____________
(1) الاستيعاب بهامش الاصابة ج1 ص423 .
( 219 )

بسيوف الخوارج عبدالله بن خباب سبق ذكر مقتله في ص41 ذبحوه فوق خنزير وقالوا والله ما ذبحنا لك ولهذا الخنزير الا واحداً وبقروا بطن زوجته وهي حامل وذبحوها وذبحوا الجنين ، قال أرباب التاريخ ولما التقى الجمعان يوم النهروان استنطقهم علي (ع) بقتل عبدالله فأقروا كلهم كتيبة كتيبة فقال (ع) لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا وأنا قادر على قتلهم به لقتلتهم .


( 220 )

( فتكهم بخارجة )


هو خارجة بن حذافة بن غانم ، امه فاطمة بنت عمره بن بحرية العدوية كان أحد الفرسان . وكان يعد بألف فارس وهو من مسلمة الفتح وأمد به عمر عمرو بن العاص فشهد معه مصر واختط بها . وكان على شرطة عمرو بن العاص . يقال : ان عمرو بن العاص استخلفه على الصلاة ليلة قتل علي بن أبي طالب فقتله الخارجي الذي انتدب لقتل عمرو بن العاص . وقال أردت عمرواً واراد الله خارجة (1) اقول : رأيي ان هذه المؤامرة كانت مدبرة من عمرو بن العاص نفسه على قتل علي ومعاوية لتكون الخلافة له بعدهما . دبرها مع ابن ملجم المنتدب لقتل علي ومع المنتدب لقتل معاوية بحيث كان المنتدب لقتله لا يعلم ذلك ، كما دبر الحزب الأموي من قبل الحيلة بقتل عمر بن الخطاب ( رض )
____________
(1) الاصابة لابن حجر العسقلاني ج1 ص399 .
( 221 )

ليفضي الأمر الى عثمان : للمؤلف .

الحكـم لله اذ ينجـوا معـاوية * ورأس سيـده بـالسيف يـنقسم
ويفلت الرجس عمر وفي تغيبه * عمــداً وخارجة بالغدر يخترم



( 222 )

( فتكهم بالخلال )


هو ابو سلمة حفص بن سليمان الهمداني ، مولى السبيع ، كان وزيراً للسفاح ، اول خلفاء العباسيين ، وكان الخلال هذا أول من وقع عليه اسم الوزير . وشهر بالوزارة ولم يكن قبله من يعرف بهذا الاسم وهو الذي بذل اموالاً طائلة له في تكوين الدولة الهاشمية . واتهموه بالتشيع قتله الخوارج . ويقال حرض عليه ابو مسلم الخراساني جماعة . فخطبوه بأسيافهم ليلاً وذلك عند منصرفه من مجلس السمر مع السفاح بالأنبار في رجب سنة 132 هجـ هكذا ذكره ابن خلكان .


( 223 )

( فتكهم بالمثلم بن مشرح الباهلي )


هو المثلم بن مشرح . كان يقال له ابن سعاد اسم امه ، ذكر أرباب التاريخ انه ذكر لعبيد الله بن زياد رجل من سدوس يقال له ـ خالد بن عباد ـ . وكان من نساك الخوارج . فوجه اليه فأخذه ، فأتاه رجل من اهل ـ فوز ـ فكذب عنه . وقال هو صهري . وفي ضمني فخلني عنه فلم يزل الرجل يفقده حتى تغيب فأتى ابن زياد فاخبره . فلم يزل يبعث الى خالد بن عباد حتى ظفر بن فأخذه . فقال له أين كنت في غيبتك هذه ؟ قال : كنت عند قوم يذكرون الله فيسجدون له ويذكرون أئمة الجور فيتبرؤن منهم . قال ادللني عليهم . قال : اذن يسعدوا ويشقى . ولم اكن لأروعهم فلم يزل به حتى عزم على قتله . وأمر به فأخرج الي رحبة تعرف برحبة ـ الترتيبي ـ وكانت الشرطة تتفادى عن قتله . حتى اتى ـ المثلم بن مشرح الباهلي . وكان من الشرطة فتقدم اليه فقتله فأتمر به الخوارج أن يقتلوه وكان


( 224 )

مغرما باللقاح يتبعها فيشتريها من مضانها ، فبعثوا اليه رجلاً في هيئة الفتيان عليه درع زعفراني فلقيه ـ بالمربد ـ وهو يسأل عن لقحة صيفي فقال له الفتى ان كنت تبتع فعندي ما يغنيك عن غيره فامض معي فمضى ـ المثلم ـ معه على فرسه يمشي أمامه حتى أتى به بني سعد فدخل داراً وقال له ادخل على فرسك فلما دخل وتوغل في الدار غلق الباب وثارت به الخوارج . فاعتوره حريث بن حجل وكهمش بن طلق الصريمي فقتلاه . وجعلا دراهم كانت معه في بطنه ودفناه في ناحية الدار وحكا آثار الدم . وخليا فرسه في الليل . فأصبحت الغد في المربط . وتجسس عنه الباهليون فلم يروا له أثراً . فأتهموا بني سدوس به . وأخذوا من السدوسيين أربع ديات . ولم يعلم بمكان المثلم . حتى خرج مرداس وأصحابه . فلما وافقهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث . وقال : اهاهنا من باهلة أحد ؟ قالوا : نعم . قال أعداء الله أخذتم للمثلم من بني سدوس أربع ديات وأنا قتلته وجعلت دراهم كانت معه في بطنه . وهو في موضع كذا مدفون . ولما انهزم ابن زرعة صاروا الى الدار فأصابوا أشلاءه .


( 225 )

( فتكهم بمعن بن زائدة )


كان معن بن زائدة الشيباني يكنى بأبي الوليد . وقد اشتهر بالكرم والجود والحلم والشجاعة والمروءة والنجدة والفصاحة والذكاء والشعر ، حتى قيل فيه . حدث عن معن ولا حرج . وكان قد أدرك الدولتين الأموية والعباسية . فأحرز فيهما الشأن الخطير والمنصب الرفيع . وقد اتصل في أيام بني أمية بيزيد بن عمرو بن هبيرة الفزاري امير العراقين لبني امية . ولما اديل للعباسيين من الأمويين ، ثار ابن هبيرة واشترك معه معن في هذه المعركة وأبلى فيها بلاء حسناً . وقد حاربهما المنصور حرباً تشيب لها الولدان حتى حصرهما في مدينة واسط : ولم يزل يشدد عليهما الحصار حتى قتل ابن هبيرة وفر معن واختفى . فصار المنصور يطلبه أشد الطلب وجعل لمن يمسكه أو يدل عليه جائزة سنية ، ولما ثار الخراسانيون على المنصور في مدينة الهاشمية ـ قرب الكوفة ـ وجرت بينهم وبين حاشية المنصور


( 226 )

معركة هائلة كادوا يقتلونه فيها ، كان معن حينذاك متوارياً على مقربة منهم ، فخرج من مخبئه وهو متلثم ودخل المعركة شاهراً سيفه وأخذ يقاتل الثائرين قدام المنصور حتى مزقهم كل ممزق ، ولما انكشفت الحالة عن المنصور قال له : ( من أنت لله ابوك ؟ ) فأجاب « أنا طلبتك يا امير المؤمنين ، انا معن بن زائدة » فقال المنصور : قد آمنك الله على نفسك ومالك ومثلك من يصطنع ، ثم أخذه معه وخلع عليه وحباه وزينه : ومما يروى من نجدته . ما ذكره المؤرخون . أنا المنصور أهدر دم رجل من أهل الكوفة كان يسعى مع الخوارج بفساد دولته وجعل لمن يدل عليه مئة ألف درهم ، ثم ظهر الرجل متنكراً في بغداد فعرفه أحد البغداديين وتمسك به وصاح « هذا بغية امير المؤمنين » وفيما هما على تلك الحال مر معن فاستجار به الرجل فأمر معن البغدادي الى الخليفة وأعلمه الخبر فغضب الخليفة واستدعى معناً في الساعة . ولما وصل أمر المنصور الى معن . جمع أهل بيته وأقاربه ومواليه وقال لهم « أقسمت عليكم الا يصل مكروه الى هذا الرجل وفيكم عين تطرف » ثم سار الى الخليفة . وعندما دخل عليه رآه محتدماً غيظاً . فلما أنبه المنصور على فعلته . قال : يا أمير المؤمنين . كم مرة تقدم في دولتكم بلائي وحسن عنائي ! وكم مرة


( 227 )

خاطرت بدمي أفما رأيتموني أهلاً لأن يوهب لي رجل استجار بي بين الناس لوهمه أني من عبيد امير المؤمنين . وكذلك أنا ؟ فمر بما شئت وها أنذا بين يديك » فسكن غضب المنصور وقال له ( أجرناه لك يا معن ) ولم يزل بالخليفة يسترضيه حتى أخذ منه مئة الف درهم عطية للرجل المغضوب عليه . ثم عاد الى منزله وقال للرجل « يا رجل خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة الخلفاء في امورهم بعد الآن ، وكان من الكرم ما يضيق المجال عن ذكره . فان اخبراه بالكرم مسطورة في مضانها . وكذلك مقالة الشعراء فيه ، قال ارباب التاريخ وفي ستة مئة وخمس وعشرين هجرية . أدخل الى منزله بعض الصناع ليعملوا له عملاً فاندس بينهم بعض الخوراج فقتلوه غيلة وهو يحتجم فتبعهم ابن اخيه يزيد وقتلهم على بكرة أبيهم ، فكان لقتله رنة أسىً في الدولة العباسية . ورثته الشعراء بمراث مشجية .


( 228 )

( فتكهم بعيسى بن جعفر )


بعث هرون الرشيد عيسى بن جعفر بن عمه واخو زبيدة الى عمان عاملاً عليها في ستة آلاف مقاتل فخرج اليه والي صحار وهو مقارش بن محمد اليحمدي فالتقوا ( بحتى ) فانهزم عيسى بن جعفر وسار الى مراكبه بالبحر فتبعه الخوارج في ثلاث سفن فأسروا عيسى وجيء به الى صحار فحبس بها بأمر من الامام الوارث . قال الراوي وبعد ذلك انطلق جماعة من حيث لا يعلم الإمام حتى أتوا الى صحار فتسوروا السجن على عيسى بن جعفر فقتلوه في السجن .


( 229 )

( فتكهم بعامل سوآرء )


قال ابن ابي الحديد : مرّ شبيب في طريقه الى الكوفة على سورآء فالتفت الى أصحابه وقال : ايكم يأتيني برأس عاملها . فانتدب اليه قطين . وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه فكانوا خمسة وساروا حتى انتهوا الى دار الخراج والعمال فيها . فقالوا اجيبوا الأمير فقال الناس أي امير قالوا أمير قد خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيباً . فاغتر بذلك عامل سورآء فخرج اليهم . فلما خالطهم شهروا السيوف وحكموا وخبطوه بها حتى قتلوه وقبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال ولحقوا بشبيب فلما رأى شبيب البدر . قال : أتيتمونا بفتنة المسلمين هلم يا غلام الحربة فخرق بها البدر وأمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها فمرت رائحة والمال يتناثر من البدر حتى وردت الصراة . فقال ان كان بقي شيء فاقذفوه في الماء .