فأدخلني إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا بني إن الله عزّ وجلّ قال ( إني جاعل في الأرض خليفة ) (1) وإن الله عزّ وجلّ إذا قال قولاً وفى به » (2).
وروي أيضاً عن أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار ... عن داود الرقي قال « قلت لأبي الحسن موسى : إني قد كبرت سني ودق عظمي وإني سألت أباك فأخبرني بك فأخبرني من بعدك فقال : هذا أبو الحسن الرضا » (3).
فهذه كلها نصوص للتدليل على إمامة الرضا وقد أسهبت المصادر الإمامية في كلامها على إمامة الرضا نتيجة لما ساد تلك الفترة من الإختلافات وظهور الدعوات والفرق المتعددة حول الإمامة كما مر بنا (4).
فعلي بن موسى الرضا هو الإمام بعد أبيه « لفضله على جماعة إخوته وأهل بيته وظهور علمه وورعه وإجتماع الخاصة والعامة على ذلك فيه ومعرفتهم به منه ولنص أبيه على إمامته من بعده وإشارته إليه بذلك (5).
ويبدو أنه قد أصبح لعلم الإمام أهمية خاصة سيما وأن الرضا عاش أيام المأمون وقد بينا ما حفل به عصر المأمون من التيارات الفكرية المختلفة وتشجيع المأمون للحركة الثقافية.
ويحدثنا الصدوق عن كثرة المناظرات التي كانت تدور بين الرضا والمتكلمين من أهل الفرق المختلفة وأغلب هذه المناظرات كانت حول
____________
(1) سورة البقرة 2 : 30.
(2) الكليني : الكافي ج 1 ص 312.
(3) ن. م ج 1 ص 312.
(4) انظر عن دلائل إمامة الرضا ما أورده الصدوق حيث ذكر ثمانية وعشرين نصاً وقد أخذ عن الكليني مع إختلاف في الأسانيد والألفاظ ، عيون أخبار الرضا ج 1 ص 21 ـ 40 وقد أخذ المفيد أيضاً عن الكليني في باب إمامة الرضا وأورد نفس الروايات الإرشاد ص 304 وما بعدها ، وكذا فعل الطوسي انظر الغيبة ص 24 وما بعدها وانظر أيضاً الطبرسي أعلام الورى ص 303 وما بعدها حيث أخذ عن الكليني أيضاً أما الأربلي في كشف الغمة في معرفة الأئمة فقد أخذ عن المفيد كما أخذ عن الكليني ج 3 ص 63 ـ 66.
(5) المفيد : الإرشاد ص 304.

( 257 )

مسألة الإمامة ومنزلة آل البيت من النبي ووراثتهم له.
ويذكر الصدوق : « إن المأمون كان يجلب على الرضا متكلمي الفرق والأهواء المضلة وكل من سمع به حرصاً على انقطاع الرضا عن الحجة مع واحد منهم وذلك حسداً منه له ولمنزلته من العلم فكان لا يكلم أحداً إلا أقر له بالفضل وألزم الحجة له عليه » (1).
فمن جملة المناظرات التي ذكرها الصدوق أن الرضا سئل عن العترة أهم الآل أم غير الآل فقال : « هم الآل فقالت العلماء : فهذا رسول الله يؤثر عنه أنه قال : أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لا يمكن دفعه آل محمد أمته فقال أبو الحسن : أخبروني فهل تحرم الصدقة على الآل قالوا : نعم قال : فتحرم على الأمة قالوا : لا قال : هذا فرق بين الآل والأمة ... أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المضطفين المهتدين دون سائرهم قالوا : ومن يا أبا الحسن فقال : من قول الله ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهم النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) (2) فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين ‌» (3).
كما يذكر الصدوق أن مناظرة جرت في مجلس المأمون بين الرضا وعدد من العلماء بين فيها الرضا فضل آل البيت ومنزلتهم فقد سأل المأمون عن معنى الآية : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) (4) فقالت العلماء : أراد الله بذلك الأمة كلها فسأل المأمون الرضا عن ذلك فقال : أراد الله العترة الطاهرة لأنه لو أراد الأمة لكانت أجمعها في الجنة بقول الله : ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) (5) ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال : ( جنات عدن
____________
(1) الصدوق : التوحيد ص 329 ـ 330.
(2) سورة الحديد 57 : 26.
(3) الصدوق : عيون أخبار الرضا ج 1 ص 230 وانظر الطبري : بشارة المصطفى ص 282.
(4) سورة فاطر 35 : 32.
(5) سورة فاطر 35 : 32.

( 258 )

يدخلونها ... ) (1) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم ، فقال المأمون : من العترة الطاهرة فقال الرضا : الذين وصفهم الله في كتابه فقال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ... ) (2) وهم الذين قال فيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي (3).
وآية التطهير وحديث الثقلين من أهم الأدلة عند الشيعة الإمامية في حصر الإمامة في علي وأولاده كما مر بنا ، وبهذا احتج الرضا على المأمون وأكد أن الوراثة فيهم لا لغيرهم.
كما أن الرضا بين أنهم أمس برسول الله من غيرهم فيذكر المفيد أن المأمون سأل الرضا قال « يا أبا الحسن ... إني فكرت في أمرنا وأمركم ونسبنا ونسبكم فوجدت الفضلية فيه واحدة ورأيت أختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً على الهوى والعصبية ... فقال الرضا : لو أن الله بعث محمداً فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الأكمام فخطب إليك ابنتك أكنت تزوجه إياها فقال : يا سبحان الله وهل أحد يرغب عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال الرضا : افتراه يحل له أن يخطب إلي قال : فسكت المأمون ثم قال : أنتم والله أمس برسول الله رحماً » (4).
وهكذا استطاع الرضا أن يؤكد حقه بالإمامة لاتصاله برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووراثته إياه.
ونظراً للإختلافات في أمر الإمامة فقد
أوضح الرضا الإمامة ومنزلة الإمام ودلائله ورتبته وصفاته.
ففي وصف الإمامة قال « إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً بإختيارهم ، إن الإمامة خص الله عزّ وجلّ بها
____________
(1) سورة النمل 16 : 31.
(2) سورة الأحزاب 33 : 33.
(3) الصدوق : عيون أخبار الرضا ج 1 ص 229.
(4) المفيد : الفصول المختارة من العيون والمحاسن ج 1 ص 15 ـ 16.

( 259 )

إبراهيم الخليل بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها جلّ ذكره فقال : ( إني جاعلك للناس إماماً ) (1) ، فقال الخليل سروراً بها ( ومن ذريتي ) (2) قال الله تبارك وتعالى ( لا ينال عهدي الظالمين ) (3) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) (4).
فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض حتى ورثها الله تعالى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال جل وتعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) (5) فكانت له خاصة فقلدها صلّى الله عليه وآله وسلّم علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين أتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى : ( وقال الذين اوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) (6) فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد » (7).
يبدو من هذا أن الإمامة عهد من الله وليس بإختيار البشر ولا ينالها الظالمون وأنها في الصفوة من ذرية الأنبياء وقد أورثها الله محمداً صلّى الله عليه وآله وسلم ثم قلدها صلّى الله عليه وآله وسلم علياً ثم إختار الله لها من ذرية علي الأصفياء.
ويقول أيضاً في الإمامة « إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وارث الأوصياء ان الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ومقام أمير المؤمنين ( علي )
____________
(1) سورة البقرة 2 : 124.
(2) سورة البقرة 2 : 124.
(3) سورة البقرة 2 : 124.
(4) سورة الأنبياء 21 : 72.
(5) سورة آل عمران 3 : 68.
(6) سورة الروم 30 : 56.
(7) الكليني : الكافي ج 1 ص 199.

( 260 )

وميراث الحسن والحسين » (1).
كما أن وجود الإمام واجب لأن « بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف » (2).
كما أن من واجبات الإمام أن يحل حلال الله ويحرم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، والحجة البالغة » (3).
أما صفات الإمام فهي : « الإمام البدر المنير ، السراج الزاهر ، النور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى ... الشمس المضيئة والسماء الظليلة ... الأنيس الرفيق الوالد الشفيق ... أمين الله في خلقه وحجته على عباده وخليفته في بلاده والداعي إلى الله ، والذاب عن حرم الله.
الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب ، المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ... وهو واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ... » (4).
ولما كانت هذه الصفات غير متوفرة إلا في آل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لذلك فقد خصهم الله تعالى بالإمامة دون غيرهم.
فهكذا أبان الرضا الإمامة وشروطها وصفات الإمام وقد أصبحت هذه المبادئ فيما بعد من المبادئ الأساسية حيث بنيت عليها نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية كما سنرى.
إلا أن الشيعة اختلفت في أمر إمامة علي بن موسى الرضا كما اختلفت في إمامة من سبقه.
____________
(1) الكليني : الكافي ج 1 ص 200.
(2) ن. م ج 1 ص 200.
(3) ن. م ج ف 1 ص 200.
(4) الكليني : الكافي ج 1 ص 200 ـ 201 وانظر أيضاً الصدوق : عيون أخبار الرضا ج 1 ص 216 ـ 222 فقد ذكر ما جاء في الكليني مع بعض الإضافات.

( 261 )

فلما توفي علي بن موسى الرضا سنة 203 هـ (1). افترقت الشيعة بعد وفاته فصارت فرقاً منهم من قال أن الإمامة انتقلت إلى أحمد بن موسى بن جعفر أوصى إليه وإلى الرضا وأجازوها في أخوين ، وأن أبوه جعله الوصي بعد علي بن موسى ومالوا إلى رأي شبيه برأي الفطحية (2).
وظهرت فرقة ثانية يسميهم سعد القمي المؤلفة من الشيعة ويقول : « قد كانوا نصروا الحق قطعوا على إمامة علي بن موسى بعد وقوفهم على موسى وإنكار موته فصدقوا موته وقالوا بإمامة الرضا فلما توفي رجعوا إلى القول على موسى بن جعفر » (3).
وفرقة ثالثة يسميهم النوبختي المحدثة ويقول : « وكانوا من أهل الأرجاء وأصحاب الحديث فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر وبعده بعلي بن موسى وصاروا شيعة رغبة في الدنيا وتصنعاً ، فلما توفي علي بن موسى رجعوا إلى ما كانوا عليه » (4).
ويعلل سعد القمي سبب إختلاف الفرقتين اللتين قالت إحداهما بإمامة أحمد بن موسى والاُخرى بالوقف على الرضا ، لأن الرضا توفي وابنه محمد ( الجواد ) ابن سبع سنين فستصغروه وقالوا : « لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغاً ولو جاز أن يكلف غير بالغ فكذلك لا يعقل أن يفهم القضاء بين دقيقة وجليلة وغامض الأحكام وشرائع الدين وجميع ما أتى به النبي وما يحتاج إليه جميع الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها طفل غير بالغ ... » (5) ولما تولى علي بن موسى الرضا العهد للمأمون يقول النوبختي « وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء منهم والبصراء فدخلوا في إمامة علي بن موسى عندما أظهر المأمون فضله وعقد بيعته تصنعاً للدنيا واستكانوا الناس بذلك دهراً فلما توفي علي بن موسى رجعوا إلى قومهم الزيدية » (6).
____________
(1) ابن طولون : الأئمة الإثني عشر ص 98.
(2) النوبختي : فرق الشيعة ص 72.
(3) سعد القمي : المقالات والفرق ص 94.
(4) النوبختي : فرق الشيعة ص 72.
(5) سعد القمي : المقالات والفرق ص 95.
(6) النوبختي : فرق الشيعة ص 73.

( 262 )

د ـ إمامة محمد بن علي الجواد :
أما الشيعة أصحاب الرضا فقالت « الإمام بعد علي بن موسى ابنه محمد بن علي ولم يكن إلى غيره ... واتبعوا الوصية والمنهاج الأول من لدن النبي » (1) ويبدو أن المنهاج الأول يقصد به القول بإمامة علي والحسن والحسين وأولاد الحسين كما نص النبي عليهم ، أي الطريق الذي سارت عليه الشيعة الإمامية.
ولكن يبدو كما تذكر كتب الفرق أن الشيعة التي قالت بإمامة محمد ابن علي بن موسى ( الجواد ) لم تكن جماعة واحدة وقد بين سعد القمي سبب اختلافهم فقال : « ثم إن الذين قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن علي ( الجواد ) اختلفوا في كيفية علمه وكيف وجه ذلك لحداثة سنه ضرباً من الاختلاف فقال بعضهم لبعض : الإمام لا يكون إلا عالماً وأبو جعفر غير بالغ وأبوه قد توفي كيف علم ومن أين علم » (2).
وجماعة قالت : « إنه أخذ العلم عن أبيه وهو الذي علمه ومنه تعلم ولا يجوز غير ذلك » (3).
ولم توافق أكثرية الشيعة على ذلك فأنكروه وقالوا : « لم يكن ذلك من قبل أبيه وتعليمه أياه لأن أباه حمل إلى خراسان وأبو جعفر ابن أربع سنين وأشهر ومن كان في هذا السن فليس في حد من يستفرغ تعليم معرفة دقيق علوم الدين ولكن الله علمه ذلك عنه البلوغ بضروب مما تدل جهات علم الإمام مثل الإلهام والنكت في القلب والنقر في الأذن والرؤيا في النوم والملك المحدث له ووجود رفع النار له والعمود والمصباح وعرض الأعمال عليه لأن ذلك كله قد صح بالأخبار الصحيحة أنها من علامات علوم الإمام وجهاتها ، فأما قبل البلوغ فهو إمام على معنى أن الأمر له دون غيره وأنه لا يصلح في ذلك الوقت لموضع الإمامة غيره إذ قد أوصى أبوه
____________
(1) سعد القمي : المقالات والفرق ص 93.
(2) سعد القمي : المقالات والفرق ص 96.
(3) ن. م ص 97.

( 263 )

إليه وقلدنا إمامته إذ لا ولد لأبيه غيره » (1).
فهنا نلاحظ التأكيد على علم الإمام لأن عصر الإمام محمد الجواد كان استمراراً لعصر أبيه الرضا قد حفل بمختلف التيارات الثقافية ، كما يلاحظ إن فكرة الإمامة بدأت تتضح في بعض خطواتها الأساسية كصفات الإمام فهذه الصفات لم تظهر إلا في هذه الفترة.
ويقول النوبختي أن هناك جماعة من الشيعة قالت : « الإمام يكون غير بالغ ولو قلت سنه لأنه حجة لله فقد يجوز أن يعلم وإن كان صبياً ويجوز عليه الأسباب التي ذكرت مثل الإلهام والنكت والرؤيا .. كل ذلك جائز عليه ... واعتلوا في ذلك بيحيى بن زكريا وأن الله أتاه الحكم صبياً وبأسباب عيسى بن مريم .. وبعلم سليمان بن داود حكماً من غير تعليم » (2).
وقالت جماعة من الشيعة بمقالة الجماعة السابقة إلا أنهم قالوا إن محمد الجواد لم يتعلم من أبيه « ولكن انه علم ذلك عند البلوغ من كتب أبيه وما ورثه من الأصول والفروع وبعض هذه الفرقة يجوز له القياس في الأحكام ويزعم أن القياس جائز للرسول والأنبياء والأئمة ، وكان يونس بن عبد الرحمن (3) يقول : إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يستخرج ويستنبط بوقوع ما أنزل عليه ... فزعموا أن ذلك جائز للإمام أن يقيس على الأصول التي في يده لأنه معصوم من الخطأ والزلل والعمد فلا يجوز أن يخطئ في القياس » (4).
ونلاحظ هنا ظهور فكرة عصمة الإمام وعدم جواز الخطأ عليه في هذه الفترة وقد صارت العصمة فيما بعد من المبادئ الأساسية للشيعة الإمامية.
____________
(1) سعد القمي : المقالات . والفرق ص 97.
(2) النوبختي : فرق الشيعة ص 76.
(3) يونس بن عبد الرحمن ، اشتهر بالعلم والفتيا روى عن موسى بن جعفر وابنه الرضا وكان 4 وكيلاً للرضا يرجع إليه أصحابه في أخذ الفتيا . انظر النجاشي : الرجال ص 348.
(4) النوبختي : فرق الشيعة ص 76.

( 264 )

ويعلل النوبختي قول هذه الفرقة بجواز القياس للأئمة فيقول : « وإنما صاروا إلى هذه المقالة لضيق الأمر عليهم في علم الإمام وكيفية تعليمه إذ ليس هو ببالغ عندهم » (1).
أما الشيعة التي قالت بإمامة إبي جعفر محمد بن علي ( الجواد ) فقد استدلت على إمامته بالأدلة التالية.
فيذكر الكليني عن علي بن محمد ... عن يحيى بن حبيب الزيات قال « أخبرني من كان عند أبي الحسن الرضا جالساً فلما نهضوا قال له : ألقوا أبا جعفر فسلموا عليه وأحدثوا به عهداً فلما نهض القوم التفت إلي فقال : يرحم الله المفضل إنه كان ليقنع بدون هذا » (2).
يبدو لنا من كلام الرضا أن الشيعة كانت في شك من أمر الإمامة لمحمد الجواد فحاول تأكيدها.
ويبدوا أن لصغر سن محمد الجواد سبباً دعا الشيعة إلى الشك بإمامته فيروي الكليني عن محمد بن يحيى ... عن معمر بن خلاد قال « سمعت الرضا وذكر شيئاً فقال : ما حاجتكم إلى ذلك ، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني ، وقال : إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة » (3).
ويورد الكليني أيضاً عن أحمد بن مهران ... عن ابن قياماً الواسطي قال « دخلت على علي بن موسى فقلت له أيكون إمامان ؟ قال لا إلا واحدهما صامت فقلت له : هو ذا أنت ليس لك صامت ولم يكن ولد له أبو جعفر ( الجواد ) بعد فقال لي : والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله ، ويحق به الباطل وأهله ، فولد له بعد سنة أبو جعفر وكان ابن قياماً واقفياً » (4).
____________
(1) النوبختي : فرق الشيعة ص 76.
(2) الكليني : الكافي ج 1 ص 320.
(3) ن. م ج 1 ص 321.
(4) ن. م ج 1 ص 321.

( 265 )

وعن محمد بن يحيى ... عن صفوان بن يحيى قال « قلت للرضا : قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول يهب الله لي غلاماً فقد وهبه الله لك ، فأقر عيوننا ، فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه فقلت : جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين ، فقال : وما يضره من ذلك فقد قام عيسى بالحجة وهو ابن ثلاث سنين » (1).
وروى عن الحسين بن محمد ... عن معمر بن خلاد قال « سمعت إسماعيل بن إبراهيم يقول للرضا : ان ابني في لسانه ثقل ، فأنا أبعث به إليك غداً فتمسح على رأسه وتدعو له فإنه مولاك ، فقال : هو مولى أبي جعفر فابعث به غداً إليه » (2). وعن الحسين بن محمد عن الخيراني عن أبيه قال « كنت واقفاً بين يدي أبا الحسن بخراسان فقال له قائل : يا سيدي إن كان كون فإلى من ؟ قال : إلى أبي جعفر ابني ، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر فقال أبو الحسن : إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبياً ، صاحب شريعة مبتدئة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر » (3).
ويذكر المسعودي في إمامة محمد الجواد رواية عن الحميري ... عن حنان بن سدير قال « قلت للرضا يكون امام ليس له عقب فقال لي : أما أنه لا يولد لي إلا واحد ولكن الله ينشئ منه ذرية كثيرة ولم يزل أبو جعفر محمد بن علي مع حداثته وصباه يدير أمر الرضا بالمدينة ويأمر الموالي وينهاهم ولا يخالف عليه أحد منهم (4).
كما يذكر المسعودي أن الناس بعد وفاة الرضا احتاروا فيمن يقصدون للسؤال بعده فاجتمعوا إليه وسألوه عدة أسئلة فأجابهم بإجابات والده فاعترفوا له بالإمامة (5). كما يذكر مناقشة دارت بين محمد الجواد
____________
(1) الكليني : الكافي ج 1 ص 321.
(2) ن. م ج 1 ص 321.
(3) ن. م ج 1 ص 322.
(4) المسعودي : إثبات الوصية ص 179.
(5) المسعودي : إثبات الوصية ص 180 ـ 181.

( 266 )

ويحيى بن أكثم تغلب فيها محمد الجواد وأقر له يحيى بالفضل العلم (1).
ويبدوا من هذا أن علم الإمام أصبح ذا أهمية في إثبات إمامته وكون معرفة الإمام بالعلوم شرطاً لإمامته.
أما الصدوق فيذكر عدة روايات في الدلالة على إمامة محمد الجواد فذكر عن أبي الحسين بن محمد بن أبي عباد وكان يكتب للرضا ضمه إليه الفضل بن سهل قال « ما كان يذكر محمداً ابنه إلا بكنيه يقول : كتب إلي أبو جعفر وكنت أكتب إلى أبي جعفر وهو وصيي بالمدينة فيخاطبه بالتعظيم وترد كتب أبي جعفر في نهاية البلاغة والحسن فسمعته يقول : أبو جعفر وصيي وخليفتي في أهلي من بعدي » (2).
وعن جعفر بن محمد النوافلي قال أتيت الرضا وهو بقنطرة أربق فسلمت عليه ، ثم جلست وقلت ... إن أناساً يزعمون أن أباك حي ، فقال : كذبوا لعنهم الله ولو كان حياً ما قسم ميراثه ولا نكح نساؤه ، ولكنه والله ذاقه الموت كما ذاقة علي بن أبي طالب قال فقلت له ما تأمرني ؟ قال عليك بابني محمد من بعدي ، وأما أنا فإني ذاهب في وجه الأرض لا أرجع منه ... » (3).
ويقول المفيد في إمامة محمد بن علي الجواد « وكان الإمام بعد الرضا علي بن موسى ابنه محمد بن علي الرضا بالنص عليه الإشارة من أبيه إليه وتكامل الفضل فيه » (4).
كما يذكر من روى النص عن أبي الحسن الرضا على ابنه أبي جعفر بالإمامة فيعدد قسماً منهم مثل علي بن جعفر بن محمد الصادق ، صفوان ابن يحيى ، معمر بن خلاد ، الحسين بن بشار ، ابن قياماً الواسطي ، الحسن ابن الجهم ... (5).
____________
(1) المسعودي : إثبات الوصية ص 183.
(2) الصدوق : عيون أخبار الرضا ج 2 ص 240.
(3) ن. م ج 2 ص 216.
(4) المفيد : الإرشاد ص 316.
(5) المفيد : الإرشاد ص 317 ، كما ذكر المفيد نصوص إمامة محمد الجواد كما ذكرها الكليني مع إختلاف في الأسانيد ص 317 ـ 319.

( 267 )

فالإمام بعد أبي الحسن الرضا ابنه أبو جعفر محمد الجوادج « لنص أبيه عليه وإشارته إليه » (1).
أما ابن شهر آشوب فيقول : « والدليل على إمامته القطع على العصمة ووجوب كونه أعلم الخلق بالشريعة واعتبار القول بإمامة الاثني عشر وتواتر الشيعة » (2) فابن شهر آشوب هنا يعطي صفات الامام وأهم هذه الصفات العصمة من الأخطاء والعلم بالشريعة وقد أصبحت هذه فيما بعد من شروط الإمامة عند الشيعة الإمامية.

هـ إمامة علي بن محمد الهادي :
ولما توفي محمد الجواد سنة 220 هـ (3) . قالت الشيعة أصحاب محمد الجواد الذين ثبتوا على إمامته إلى القول بإمامة ابنه ووصية علي بن محمد ( الهادي ) « فلم يزالوا على ذلك إلا نفر منهم يسير عدلوا عنه إلى القول بإمامة أخيه موسى بن محمد (4) ، ثم لم يثبتوا على ذلك قليلاً حتى رجعوا إلى إمامة علي بن محمد ورفضوا إمامة موسى لأن موسى كذبهم وتبرأ منهم وما ادعى إمامة لنفسه ... » (5).
أما الشيعة الذين قالوا بإمامة علي بن محمد ( الهادي ) فقد استدلوا على إمامته بوصية أبيه محمد الجواد وبأدلة اُخرى.
فيذكر الكليني عن محمد بن جعفر الكوفي ... عن محمد بن الحسين الواسطي أنه سمع أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر ( محمد الجواد ) « إن أبا جعفر محمد بن علي ( الجواد ) أوصى إلى علي ( الهادي )
____________
(1) النيسابوري : روضة الواعظين ج 1 ص 282 ، كما يذكر قسماً من الأدلة التي ذكرها الكليني في النص على إمامة الجواد ج 1 ص 282.
(2) ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 380 وانظر أيضاً عن إمامة الجواد ما ذكره الطبرسي في أعلام الورى فقد أورد النصوص التي ذكرها الكليني ص 330 ، وكذا فعل الأربلي فقد أخذ عن الكليني والمفيد ، انظر كشف الغمة ج 3 ص 142 ـ 144.
(3) النوبختي : فرق الشيعة ص 71.
(4) موسى بن محمد الجواد ويلقب بالمبرقع له عقب بقم يقال لهم الرضويون ، انظر ابن شدقم : زهرة المقول ص 61.
(5) سعد القمي : المقالات والفرق ص 99.

( 268 )

ابنه بنفسه وإخوته وجعل أمر موسى إذا بلغ إليه وجعل عبد الله المساور قائماً على تركته من الضياع والأموال والنفقات إلى أن يبلغ علي بن محمد » (1).
كما ذكر عن الحسين بن محمد ، إن محمد الجواد قال « إني ماض والأمر صائر إلى ابني علي وله عليكم ما كان لي عليكم » (2).
أما المسعودي فيذكر عن الحميري عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه : « إن أبا جعفر لما أراد الشخوص من المدينة إلى العراق أجلس أبا الحسن في حجره وقال له : ما الذي تحب أن يهدى إليك من طرائف العراق فقال : سيفا كأنه شعلة ثم التفت إلى موسى ابنه فقال : ما تحب أنت من طرائف العراق فقال له : فرش بيت ، فقال أبو جعفر : أشبهني أبو الحسن ( الهادي ) وأشبه هذا أمه » (3).
ويقول المفيد « وكان الإمام بعد أبي جعفر ابنه أبا الحسن علي بن محمد ( الهادي ) لإجتماع خصال الإمامة فيه وتكامل فضله وأنه لا وارث لمقام أبيه سواه وثبوت النص عليه بالإمامة والإشارة إليه من أبيه بالخلافة » (4).
ويستدل ابن شهر آشوب على إمامته بإجماع الإمامية على ذلك ، وطريق النص ، والعصمة ، ونص النبي على إمامة الأئمة الاثني عشر ، والنص من آبائه على إمامته » (5).
ويقول الطبرسي : « إن إجماع الشيعة على إمامته وعدم من يدعي فيه إمامته غيره غناء عن إيراد الأخبار في ذلك ، هذا وضرورة أئمتنا في هذه الأزمنة في خوفهم من أعدائهم وتقيتهم منهم أحوجت شيعتهم في معرفة
____________
(1) الكليني : الكافي ج 1 ص 325.
(2) ن. م ج 1 ص 324.
(3) المسعودي : إثبات الوصية ص 187.
(4) المفيد الإرشاد ص 327 ، ثم يعتمد في ذكر بقية الأدلة على الكليني ص 327 ـ 329.
(5) ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 402.

( 269 )

نصوصهم على من بعدهم » (1).
ويبدو من هذا أن فكرة الإمامة بدأت بالوضوح إلا أن الشيعة حاولت معرفة الإمام لشدة السلطة لا سيما وأن علي الهادي عاش أيام المتوكل وقد لاحظنا مما مر كيف عامل المتوكل الشيعة.
وقد ظهرت في أيام محمد بن علي ( الهادي ) النميرية وهذه الفرقة خرجت عن إمامة علي الهادي فيذكر النوبختي أنهم قالوا « بنبوة رجل يقال له محمد بن نصير النميري وكان يدعي أنه نبي بعثه أبو الحسن العسكري وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية ويقول بالإباحة للمحارم » (2).
ويذكر النوبختي أيضاً « وكان يقوي أسباب هذا النميري محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات فلما توفي قيل له في علته وقد كان اعتقل لسانه : لمن هذا الأمر من بعدك ؟ فقال : لأحمد فلم يدروا من هو فافترقوا ثلاث فرق ، فرقة قالت أنه ابنه أحمد وفرقة قالت هو أحمد بن موسى بن الحسن بن الفرات ، وفرقة قالت أحمد بن أبي الحسين محمد بن محمد بن بشر بن زيد فتفرقوا فلا يرجعون إلى شيء » (3).
فلما توفي علي بن محمد ظهرت فرقة من الشيعة قال « بإمامة ابنه محمد وكان قد توفي في حياة أبيه بسر من رأى وزعموا أنه حي لم يمت واعتلوا في ذلك بأن أباه أشار إليه وأعلمهم أنه الإمام بعده والإمام لا يجوز عليه الكذب ولا يجوز البداء فيه ، وإن كانت وفاته في حياة أبيه فإنه لم يمت في الحقيقة ولكن أباه خاف عليه فغيبه ، وهو المهدي القائم وقالوا فيه بمثل مقالة أصحاب إسماعيل بن جعفر » (4).
وظهرت فرقة ثانية قالت بإمامة جعفر بن علي وقالوا : « أوصى إليه
____________
(1) الطبرسي : أعلام الورى بأعلام الهدى ص 341.
(2) النوبختي : فرق الشيعة ص 78.
(3) النوبختي : فرق الشيعة ص 78.
(4) سعد القمي : المقالات والفرق ص 101.

( 270 )

أبوه بعد مضي ابنه محمد وأوجب إمامته وأظهر أمره وأنكروا إمامة أخيه محمد وقالوا : إنما فعل ذلك أبوه اتقاء عليه ودفاعاً عنه وكان الإمام في الحقيقة جعفر بن علي وهؤلاء هم الجعفرية الخلص » (1).
ونلاحظ أن الإختلافات وظهور الفرق المتعددة بدأت تنحصر في فرقة أو فرقتين وهذا يدل على وضوح فكرة الإمامة وفكرة تسلسل الائمة.

و ـ إمامة الحسن بن علي العسكري :
أما الشيعة أصحاب علي بن محمد الهادي فقالوا بإمامة ابنه الحسن ابن علي العسكري ، وثبتوا له الإمامة بوصية أبيه إليه (2).
واستدلت الجماعة التي قالت بإمامته كما استدلوا على إمامة من سبقه ، بالنص عليه من أبيه . فقد ذكر الكليني عن علي بن محمد ... عن يحيى بن يسار القنبري قال « أوصى أبو الحسن ( الهادي ) إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي » (3).
وعن علي بن عمر النوافلي قال « كنت مع أبي الحسن في صحن داره فمر بنا ابنه محمداً فقلت له : جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك ؟ فقال : لا صاحبكم بعدي الحسن » (4).
وروي عن عبد الله بن محمد الأصفهاني قال « قال أبو الحسن : صاحبكم بعدي الذي يصلي علي قال ولم نعرف أبا محمد ( العسكري ) قبل ذلك ، قال : فخرج أبو محمد فصلى عليه » (5).
ولما كان الحسن العسكري أكبر أولاد أبيه فقد عهد إليه بالإمامة يؤيد هذا ما رواه الكليني عن علي بن مهزيار : قال : « قلت لأبي الحسن : إن كان كون وأعوذ بالله فإلى من ؟ قال عهدي إلى الأكبر من ولدي » (6).
____________
(1) سعد القمي : المقالات والفرق ص 101.
(2) سعد القمي : المقالات والفرق ص 101.
(3) الكليني : الكافي ج 1 ص 325.
(4) ن. م ج 1 ص 325.
(5) ن. م ج 1 ص 326.

( 271 )

وكذلك روي عن علي بن عمرو العطار قال « دخلت على أبي الحسن العسكري وأبو جعفر ابنه في الأحياء وأنا أظن أنه هو ، فقلت له : جعلت فداك من أخص من ولدك ؟ فقال : لا تخصوا أحداً حتى يخرج إليكم أمري قال فكتبت إليه بعد فيمن يكون هذا الأمر ؟ قال فكتب إلي : في الكبير من ولدي قال وكان أبو محمد أكبر من أبي جعفر » (1).
ويروي الكليني عن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسن الأفطس أنهم حضروا يوم وفاة محمد إلى ابي الحسن علي يعزونه قالوا : « قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس إذ نظر إلى الحسن بن علي قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه ، فنظر إليه أبو الحسن بعد ساعة فقال : يا بني أحدث الله عزّ وجلّ شكراً فقد أحدث فيه أمراً فبكى الفتى وحمد الله واسترجع ، وقال : الحمد لله رب العالمين وأنا أسأل الله تمام نعمته لنا فيك وإنا لله وإنا إليه لراجعون ، فسألنا عنه فقيل هذا الحسن ابنه وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجع فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة أقامه مقامه » (2).
ويؤكد المفيد إمامة الحسن العسكري ويقول : « وكان الإمام بعد أبي الحسن علي بن محمد ابنه أبا محمد الحسن بن علي لاجتماع خلال الفضل فيه وتقدمه على كافة أهل عصره فيما يوجب له الإمامة ويقتضي له الرياسة » (3).
أما ما هي الشروط التي توجب الإمامة فهي : العلم ، والزهد ، كمال العقل ، والعصمة ، والشجاعة ، والكرم ، وكثرة الأعمال المقربة إلى الله عزّ وجلّ ثم النص (4).
____________
(1) الكليني : الكافي ج 1 ص 326.
(2) الكليني : الكافي ج 1 ص 326.
(3) المفيد : الإرشاد ص 334 ، ثم يذكر نفس روايات الكليني في الدلالة على إمامة الحسن العسكري ص 335 ـ 338 ؟
(4) المفيد : الإرشاد ص 334.

( 272 )

ويبدو من هذا أن فكرة الإمامة قد وضحت وأن هناك شروطاً يجب توفرها لتعقد الإمامة.
ويقول ابن شهر آشوب في إمامة الحسن العسكري « ويستدل على إمامته بطريق العصمة والنصوص ، وبما استدل على أمير المؤمنين علي بعد النبي بلا فصل وكل من قطع على ذلك قطع على أن الإمام بعد علي بن محمد التقي ( علي الهادي ) الحسن العسكري لأنه لم يحدث فرقة أخرى بعد الرضا وقد صحت إمامته وطريق النص من آبائه من الموالف والمخالف » (1).
وتوفي الحسن بن علي العسكري سنة 260 هـ ولم ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر (2) وأمه وهي أم ولد ، ثم افترق أصحابه من بعده خمس عشرة فرقة (3) . ويجعلها النوبختي أربع عشرة فرقة (4).
الفرقة الأولى قالت : إن الحسن بن علي ( العسكري ) حي لم يمت وإنما غاب وهو القائم ولا يجوز أن يموت الإمام ولا ولد له ولا خلف معروف ظاهر لأن الأرض لا تخلو من إمام ... والحسن بن علي قد ثبتت وصيته بالإمامة وأشار أبوه إليه بالإمامة (5).
فنلاحظ هنا أهمية الإمامة بالنسبة الشيعة لذلك يجب أن لا تخلو الأرض من إمام كما يلاحظ أنه بعد وفاة كل امام تظهر جماعة تقول بالوقف عليه وقد قالت هذه الفرقة بمقالة شبيهة بمقالة الواقفة على موسى
____________
(1) ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 462.
(2) جعفر بن علي أخو الحسن العسكري ويلقب زق الخمر لأنه كان يشرب الخمر ظاهراً ونادم المتوكل العباسي وكان المتوكل يريد بمنادمته الغض من أخيه الحسن العسكري ، ويلقب عنه الإمامية الكذاب لأنه ادعى ميراث أخيه الحسن . ابن شدقم : زهرة المقول ص 61.
(3) سعد القمي : المقالات والفرق ص 102.
(4) النوبختي : فرق الشيعة ص 79.
(5) سعد القمي : المقالات والفرق ص 106.

( 273 )

ابن جعفر ، إلا أنهم خطأوا من وقف على موسى لأنه توفي عن بضع عشر ذكرا وقالوا : « إنما يجوز الوقف على من ظهرت وفاته ولا خلف له بين ظاهر فيجب الوقوف عليه ، لأنه لا يجوز موت إمام بلا خلف عدل ظاهر من ولد لصلبه ، ولو جاز أن يقف على موسى وله أولاد ذكور معروفون مشهورون لكانت الواقفة على أمير المؤمنين علي ومن بعده ولد » (1).
وعللت هذه الفرقة قولها بالوقف فقالوا : « فلما وجدنا فقد إمام قد ثبتت إمامته عن أبيه ولم نجد له خلفاً أشار إليه مشهوراً معروفاً ، صح أن الحسن بن علي غاب وأنه حي لم يمت » (2).
أما الفرقة الثانية قالت : « إن الحسن بن علي ( العسكري ) مات وعاد بعد موته وهو القائم واعتلوا برواية اعتلت بها فرقة من واقفة موسى بن جعفر رووها عن أبيه أنه قال « سمي القائم قائماً لأنه يقوم بعدما يموت ، فالحسن بن علي قد مات ولا شك في موته ولا خلف له ، ولا وصي موجود فلا شك أنه القائم وأنه حي بعد الموت لأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر ، فهو غائب مستتر وسيظهر ويملأ الأرض عدلاً » (3).
يتضح من هذا التأكيد على الإمامة ووجوبها فلا يمكن أن تخلو الأرض من إمام ظاهر وإلا فهو غائب مستتر.
وقالت الفرقة الثالثة : إن الحسن بن علي قد صحت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطئ الأخبار التي لا يجوز تكذيب مثلها ... وصح أنه لا خلف له ، فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن بن علي ، وإن الإمامة انقطعت .. كما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد ، واعتلوا في ذلك بخبر يروي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ، وأنه سئل عن الأرض اتخلوا من حجة فقال لا إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم فيرفع عنهم الحجة ... وهذه الفرقة لا توجب قيام القائم ولا
____________
(1) سعد القمي : المقالات والفرق ص 107.
(2) ن. م ص 107.
(3) ن. م ص 107 وانظر : .Montgomery watt : The Reappraisal Abbasid Sh,ism



( 274 )

خروج مهدي وتذهب في ذلك إلى بعض معاني البداء » (1).
والفرقة الرابعة قالت : إن الحسن بن علي قد مات وصح موته وأن الإمامة انقطعت حتى يبعث الله قائماً من آل محمد ، إن شاء بعث الحسن وإن شاء بعث غيره من آباءه ، ولا بد من ذلك لأن قيام القائم وخروج المهدي حتم من الله ، كما أن النبوة انقطعت وأنه لا نبي بعد محمد ولكن يكون فترة كما كانت بين محمد وبين عيسى بن مريم لم يكن فيها رسول ولا نبي ولا إمام فكذلك الأمر يكون في هذه الحال ، لأن وفاة الحسن بن علي قد صحت وصح أنه لا خلف له فقد انقطعت الإمامة ولا عقب له وإذ لا يجوز إلا أن يكون في الأعقاب ولا يجوز أن ينصرف إلى عم ولا ابن عم ولا أخ بعد حسن وحسين فهي منقطعة إلى القائم منهم » (2).
ويلاحظ هنا التأكيد على أن الإمامة لا تكون إلا في الأعقاب بعد الحسن والحسين ووضوح هذه الفكرة.
أما الفرقة الخامسة فقالت : « إن الحسن وجعفر ابنا علي الهادي لم يكونا إمامين ، فإن الإمام كان محمد الميت في أيام إبيه الهادي كما أن علي الهادي لم يوصِ إليهما بالإمامة ولا أشار إليهما وإنما ادعياً ما لم يكن لهما بحق ، لذلك أن الحسن العسكري توفي ولا ولد له كما أن جعفر لا يصلح للإمامة لأنه « ظاهر المجانة والفسق » (3).
ولما كانت شروط الإمام كما مر بنا أن يكون معصوماً من الزلل طاهراً من الآفات عفيفاً لذلك رجعوا إلى « إمامة محمد بن علي إذ لم يظهر منه إلا العفاف والصلاح وإذ قد ثبتت إشارة أبيه إليه بالإمامة والإمام لا يشير إلى غير إمام (4).
كما ذكر بعضهم أن الحسن بن علي العسكري حي لم يمت وأن أباه
____________
(1) سعد القمي : المقالات والفرق ص 107 ـ 108.
(2) ن. م ص 108.
(3) ن. م ص 109 وانظر : .Montgomery wett : The Reappaisal of Abbasid shiism


(4) سعد القمي : المقالات والفرق ص 109.

( 275 )

غيبه وستره خوفاً عليه (1).
أما الفرقة السادسة فقالت : إن الحسن ( العسكري ) توفي ولا عقب له والإمام بعده جعفر بن علي أخوه وإليه أوصى أبوه ومنه قبل جعفر الوصية وعنه صارت إليه الإمامة (2).
وهؤلاء شابهوا مذهب الفطحية في عبد الله وموسى ابني جعفر ( الصادق ) وزعموا أن هذا من طريق البداء كما بدا لله في إسماعيل بن جعفر فأماته وجعل الإمامة في عبد الله وموسى ، فكذلك جعلها في الحسن ثم بدا له أن يكون في عقبه فجعلها في أخيه جعفر جعفر الإمام من بعد الحسن بن علي ( العسكري ) (3).
وقالت الفرقة السابعة : إن جعفر بن علي هو الإمام وأن إمامته كانت من قبل أبيه علي بن محمد ( الهادي ) وأن القول بإمامة أخيه الحسن خطأ وجب الرجوع عنه إلى إمامة جعفر لأن الإمامة لا يجوز أن تكون فيمن لا خلف له والحسن ( العسكري ) قد توفي ولا عقب له وقالوا : « وإن الإمام بإجماعنا جميعاً لا يموت إلا عن خلف ظاهر معروف يوصي إليه ويقيمه مقامه بالإمامة ، فالإمامة لا ترجع في أخوين بعد حسن وحسين ، فالإمام لا محالة جعفر بوصية أبيه إليه » (4).
الفرقة الثامنة : قالت بمثل مقالة الفطحية « إن الحسن بن علي توفي وهو إمام بوصية أبيه إليه ، وإن الإمامة لا تكون إلا في الأكبر من ولد الإمام ممن بقي منهم بعد أبيه ، لا ممن مات في حياة أبيه ولا في ولده ولا أشار أبوه إليه لأن من ثبتت إمامته لا يموت أبداً وخلف له من صلبه والإمام لا يوصي إلى ابن ابن ولا يجوز ذلك فالإمام بعد الحسن بن علي جعفر أخوه ولا يجوز غيره إذ لا ولد للحسن معروف ولا أخ إلا جعفر في وصية أبيه كما أوصى جعفر بن محمد إلى عبد الله لمكان الأكبر » (5).
____________
(1) سعد القمي : المقالات والفرق ص 109.
(2) ن. م ص 110.
(3) ن. م ص 110.
(4) ن. م ص 110 ـ 111.
(5) سعد القمي : المقالات والفرق ص 111.