|
|||
(106)
اليمانية في الكوفة ـ. فعهد الى هؤلاء الثلاثة بالقيادة مرتبين.
وكان عبيد اللّه بن عباس احد اولئك المرتجزين للحرب ، المستهترين بالحياة ، تحفزه الغيرة الدينية ، وتلهبه العنعنات القبلية ، فاذا هو الفولاذ المصهور في تعصّبه للعرش الهاشمي ، وهل هو الا احد سراة الهاشميين ، وقديماً قيل : « ليست الثكلى كالمستأجرة ». وهو في سوابقه امير الحج سنة 36 ( على رواية الاصابة ) أو سنة 39 ( على رواية الطبري ) أو هو امير الحج في السنتين معاً ، وهو والي البحرين ، وعامل اليمن (1) وتوابعها على عهد امير المؤمنين عليه السلام ، والجواد المطعام الذي شهد له الحجيج في مكة ، ثم هو أسبق الناس دعوة الى بيعة الحسن يوم بايعه الناس. فكان ـ على ذلك ـ حرياً بهذه الثقة الغالية التي وضعها فيه ابن عمه الامام عليه السلام (2). 1 ـ وحاول بعضهم الارتياب في سوابق عبيد اللّه هذا ، بحادثة خروجه من اليمن. ومن الحق ان نعترف بضعف حامية اليمن ـ يومئذ ـ عن الصمود لحملة بسر بن ارطأة ، وكان من انشقاق بعض اليمانيين على الحكم الهاشمي ومكاتبتهم معاوية واخراجهم اميرهم ( سعيد بن نمران ) من الجند ومواقفتهم عاملهم ( عبيد اللّه ) ما يشهد لعبيد اللّه بالبراءة من موجبات الريب. ولو أن عبيد اللّه كان قد حاول مواقفة بسر لكان له من عثمانية اليمن من يكفي بسراً أمره ، على ان الرجل لم يفعل بخروجه من اليمن أكثر مما فعله نظراؤه في مكة والمدينة ، حيث فر عاملاها من وجه بسر ، وأغار عامل معاوية على العواصم الثلاث فقتل فيهن زهاء ثلاثين الفاً من الآمنين. وعلمنا ان عبيد اللّه قصد في خروجه من اليمن الى الكوفة ، ولو كان مريباً لما قصد الكوفة وعلمنا ان سعيد بن نمران اعتذر لامير المؤمنين عليه السلام بقوله : « اني دعوت الناس ـ يعني اهل اليمن ـ للحرب وأجابني منهم عصابة فقاتلت قتالاً ضعيفاً وتفرق الناس عني وانصرفت ». اقول : افلا تكون تجربة ابن نمران تصحيحاً لمعذرة ابن عباس ، فالرجل ـ في سوابقه ـ لا غمز فيه ، ولا غرو اذا رضيه الحسن ثقة بسوابقه. 2 ـ يراجع عما ذكرناه من القيادة والحركات السوقية ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 14 ) والارشاد ( ص 168 ـ 169 ) واليعقوبي ( ج 2 ص 191 ). وانفرد اليعقوبي عنهما بعدم ذكر القائد الثالث من قواد المقدمة ، ثم قال : « وأمر الحسن عبيد اللّه بان يعمل بامر قيس بن سعد ورأيه ، فسار الى ناحية الجزيرة ـ يعني بين النهرين ـ واقبل معاوية لما انتهى اليه الخبر بقتل علي (ع) فسار الى « الموصل » بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً والتقى العسكران .. ». ـ اقول : والموصل هذه قرية من قرى « مسكن » دفن بالقرب منها سيدنا ( محمد ابن الامام علي الهادي ) كما اشار اليه الحموي في معجمه وهي غير مدينة الموصل المعروفة. ولا تنافي بين ما رواه اليعقوبي وما رواه الآخرون من تعيين الموقع الذي نزل فيه جيش معاوية في حربه للحسن عليه السلام ، فالموصل والحيوضة والجنوبية كلها من قرى « مسكن » يومئذ ولعل الجيش أشغل هذه القرى كلها فوردت اسماؤها في مختلف الروايات واقتصرت بعضها على اسم دون اسم كما ترى. ونحن انما اخترنا ذكر « الجنوبية » دون غيرها نزولاً على تصريح قيس بن سعد فيما كتب به الى الحسن كما سيأتي في محله. (107)
ودعاه ، فعهد اليه عهده الذي لم يروَ لنا بتمامه ، وانما حملت بعض المصادر صورة مختزلة منه. قال فيه :
« يا ابن عم ! اني باعث معك اثني عشر الفاً من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وأدنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات امير المؤمنين. وسر بهم على شط الفرات ، ثم امض ، حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته ، فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكاً. وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ. واذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك ، فان فعل ، فقاتله. وإن أُصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب فسعيد بن قيس على الناس ». ولقد ترى أن الامام الحسن عليه السلام ، لم يعن في عهده الى عبيد اللّه بشيء ، عنايته بأصحابه ، فمدحهم ، وأطرى بسالتهم ، وأضافهم الى أبيه امير المؤمنين عليه السلام. واراد بكل ذلك تغذية معنوياتهم والهاب حماستهم والتأثير على عواطفهم. ثم أمر قائده بأن يلين لهم جانبه ويبسط لهم وجهه ويفرش لهم جناحه ويدنيهم من مجلسه. وحرصت هذه التعاليم على ايثار الثقة المتبادلة بين القائد والجيش. وأحر بهذه الثقة ـ في حرب (108)
تعوزها
النظم العسكرية التي نعرفها اليوم ـ أن تكون أهم عناصر القوّة المرجوّة للايام
السود. وجاءت جملاً متعاطفة أربعاً يؤكد بعضها بعضاً ، ثم هي لا تعني الا معنى
واحداً. ترى فهل لنا أن نستفيد ، من هذا القصد العامد الى التأكيد ، أنها كانت تحاول
بتكرارها « المؤكد » ، استئصال خلق خاص في عبيد اللّه [ القائد الجديد ] ؟. وفي الجيش ـ
معه ـ أعلام من سراة الناس ، ومن ذوي السوابق والذكريات المجيدة ، الذين لا يهضمون
الخلق المزهوَّ ولا الخشونة الآمرة الناهية في الفتى الهاشمي الذي لا يزيدهم كفاءة ،
ولا يسبقهم جهاداً ، ولا يفضلهم تقوى ، ولا يكبرهم سنّاً (1).
وقوله له ـ بعد ذلك ـ : « وشاور هذين » دليل آخر على القصد على تذليل خلق صعب ، ربما كان يعهده الامام في ابن عمه ، وربما كان يخافه كعائق عن النجاح. أقول : وليس من وجود الخلق المخشوشن في عبيد اللّه ـ اذا صدق الظن ـ ما يعيقه عن استحقاق القيادة ، وقد استدعته اليها ظروف كثيرة أخرى ، على أن بين الخشونة والحياة العسكرية أواصر رحمٍ متينة الحلقات في القديم والحديث. وفي هذه المناسبة ما يفسح المجال للتساؤل عن الحيثيات التي آثر بها الامام الحسن عليه السلام عبيد اللّه بن عباس للقيادة على مقدمته ، وفي الجيش مثل ( قيس بن سعد بن عبادة الانصاري ) الرجل المعترف بكفاءاته العسكرية وباخلاصه الصحيح لاهل البيت عليهم السلام وبأمانته. وللجواب على هذا السؤال ، وجوه : أولها : أن الحسن حين أراد عبيد اللّه للقيادة على « المقدمة » فرض عليه استشارة كلٍّ من قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ كما هو صريح عهده 1 ـ كان عبيد اللّه بن عباس يوم قيادته لهذا الجيش في التاسعة والثلاثين من عمره. (109)
اليه ـ فخرج بذلك من الايثار الذي يؤخذ عليه ، اذا كان في هذا الايثار تبعة يخاف منها على مصلحة الموقف. وأصبحت القيادة ـ على هذا الاسلوب ـ شورى بين ثلاثة ، هم اليق رجاله
لها. اما تقديم قيس على صاحبيه وعلى غيرهما من صحابة وزعماء ، وايثاره بالقيادة وحده
فقد كان ـ في حينه ـ مظنّةً لتنافس الاكفاء الآخرين الذين كان يلفهم جناح هذا
الجيش. وفي هؤلاء الشخصيات المعروفة في قيادتها الميادين وفي اخلاصها وجهادها
وسوابقها ، أمثال أبي أيوب الانصاري وحجر بن عديّ الكندي وعدي بن حاتم الطائي
وأضرابهم ، ممن مرَّ ذكرهم.
لذلك كان تقديم ابن عم الامام ، بل ابن عم النبي صلى اللّه عليه وآله ، وتعيينه « اسماً » ثم الاستفادة من رأي قيس وصاحبه على الاسلوب الذي ذكرنا ، تخلصاً لبقاً ، لا ينبغي الخلاف فيه ، ولا التنافس عليه. وثانيها : انه كان من الاحتياطات الرائعة للوضع العام يوم ذاك ، أن لا يكون القائد في جبهة الحسن الا هاشمياً. وتفسير ذلك ، أن سورة التخاذل التي دارت مع قضية الحسن في الكوفة ، كانت لا تزال نذيرة تشاؤم كثير في حساب الحسن (ع) ، وكان عليه أن يتخذ من التدابير الممكنة كل ما يدفع عنه ـ في حاضره وفي مستقبله ـ لوم الناس وتخطئتهم ونقدهم. ومن السهل على الناس أن يتسرعوا الى التخطئة والنقد متى وجدوا موضعاً للضعف أو منفذاً الى الفشل والحرمان. وكان من المنتظر ان يقولوا فيما لو فشلت قضية الحسن في مسكن أنه لو كان القائد من أهله لكان أولى من غيره بالصبر على المكاره وتحمل العظائم ، ولما آل الامر الى هذا المآل. فكان الاستعداد لغوائل الوضع الراهن بتعيين القائد الهاشمي ، تدبيراً دقيق الملاحظة. وثالثها : (110)
أنه
لن يكون انسان آخر غير عبيد اللّه بن عباس ـ لا قيس ولا ابن قيس ولا غيرهما ـ أشد
حنقاً ولا اعنف تألباً على معاوية منه كأبٍ قتل ولداه ( الصبيّان ) صبراً ، فيما أملته
فاجعة بسر بن ارطأة يوم غارته على اليمن [ والقضية من مشهورات التاريخ ] .
فكان من الاستغلال المناسب جداً ، اختيار هذا القائد الحانق لقتال قاتل ولديه. ورابعها : أن جيش « المقدمة » الذي ولي قيادته عبيد اللّه هذا ، كان أكثره من بقايا الجيش الذي أعدّه أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة لحرب أجناد الشام ، ثم توفي عنه. وكان قيس بن سعد بن عبادة هو قائد (1) ذلك الجيش في زمن أمير المؤمنين (ع) والقائم على مداراته. ولهذه السوابق أثرها في تونيق الروابط الشخصية بين القائد والمقود. وكان من السهل على القائد النافذ في جنوده ، أن يجنح ـ متى شاء ـ الى حرية التصرف التي لا تعبّر عن اتصال ايجابي بالمركز الاعلى ، وهو ما كان يجب التحفظ منه ، كأهم عنصر في الموقف. وعلى أننا نحترم سيدنا قيساً كما يجب له الاحترام ، ولكننا لا ننكر قابلياته الشخصية التي تجوّز عليه هذا اللون من حرية التصرف. ولا ننسى أنه وقف بين صفوفه ـ يوم رجعت له قيادة هذا الجيش في مسكن ـ يخيّرهم بين الالتحاق بالامام على الصلح ، وبين الاستمرار على حرب معاوية بلا امام !! .. فأي احتياط كان أحسن من جعل القيادة في غير هذا الرجل وجعله ـ مع ذلك ـ المستشار العسكري للاستفادة من كفاءاته ودهائه ، وهو ما فعله الامام الحسن تنفيذاً لافضل الرأيين. أقول : ولا يضير هذه السياسة ، تعيين قيس للخلافة على القيادة بعد 1 ـ تاريخ ابن كثير ( ج 8 ص 14 ) وغيره. (111)
عبيد
اللّه بن عباس ، لانه لن يكون بعد مقتل سلفه في ميادين مَسكِن ـ كما كان هو المفروض
في نصوص العهد ـ الا رهن التصميم الذي سار عليه سلفه ، والذي لا تسمح بتغييره ظروف
الحرب القائمة بين الفريقين ، ولعله لن يكون ـ يومئذ ـ الا رهن توجيه الامام ( القائد
الاعلى ) مباشرة ، وقد علمنا ـ مما سبق ـ أن الامام وعدَ مقدمته بالالتحاق بها وشيكاً.
وأيّ محذور ـ بعد هذا ـ من تعيينه للخلالة على القيادة ما دام مقيداً بتصميم خاص ، أو مرتهناً بتسيير الامام واشرافه المباشر. (112)
(113)
(114)
كان في الكوفة من الجيش العامل في أواسط القرن الاول أربعون الفاً ، يغزو كلَّ عام منهم عشرة آلاف ( وهو ما تنص على ذكره المصادر الموثوقة ).
وعلمنا ان أمير المؤمنين علياً عليه السلام كان قد أعدّ للكرّة على جنود الشام أربعين الفاً أو خمسين الفاً ـ على اختلاف الروايتين ـ ثم توفي قبل الزحف بها. والمظنون أن الحصة المدورة من الجيش العامل ، كانت بعض هذه العدة التي كان أمير المؤمنين قد أعدّها لحرب معاوية. ثم انقطع بنا العلم عن موقف هذا الجيش أو ذاك من الحسن بن علي عليهما السلام ، ابان دعوته الى الجهاد. وعلمنا من أكثر من مصدر أن المقدمة التي بعث بها الحسن الى لقاء معاوية في « مسكن » كانت تعدّ اثني عشر الفاً ، والمرجّح أنها فلول الجيش الذي مات عنه أمير المؤمنين (ع) ، فأجاب الحسن منهم من أجاب وتخلّف الباقي. ثم علمنا من مصدر آخر أن الكوفة جاشت في صميم تثاقلها يوم الحسن فجنّدت أربعة آلاف (1) اخرى. فهذه ستة عشر الفاً ، قام على اثباتها النص الذي لا يقبل النقاش. وهناك أرقام اخرى لعدد الجيش ، مرّ عليها المؤرخون وتضمنّتها بعض التصريحات ذات الشأن. ولكنها خاضعة في ثبوتها للتمحيص والمناقشة. وفيما يلي نصوص المصادر التي تشير الى تلك الارقام على اختلافها نعرضها اولاً بحرفها ، ثم نعود أخيراً الى تدقيقها كما يجب. 1 ـ الخرايج والجرايح للراوندي ( ص 228 ). (115)
1 ـ قال في البحار ( ج 10 ص 110 ) :
« ثم وجه ( يعني الحسن ) اليه ( يعني الى معاوية ) قائداً في اربعة آلاف ، وكان من كندة ، وأمره أن يعسكر بالانبار (1) ، ولا يحدث شيئاً حتى يأتيه أمره. فلما توجه الى الانبار ، ونزل بها ، وعلم معاوية بذلك ، بعث اليه رسلاً ، وكتب اليه معهم : انك ان أقبلت اليَّ ، اُولّيك بعض كور الشام والجزيرة ، غير منفس عليك. وأرسل اليه بخمسمائة الف درهم. فقبض الكندي المال ، وقلب على الحسن ، وصار الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته. فبلغ ذلك الحسن فقام خطيباً وقال : هذا الكندي توجه الى معاوية ، وغدر بي وبكم ، وقد أخبرتكم مرة بعد مرة ، انه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا ، وأنا موجّه رجلاً آخر مكانه ، واني أعلم انه سيفعل بي وبكم ، ما فعل صاحبكم ، ولا يراقب اللّه فيّ ولا فيكم. فبعث اليه رجلاً من مراد في أربعة آلاف. وتقدم اليه بمشهد من الناس وتوكد عليه ، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي. فحلف له بالايمان التي لا تقوم لها الجبال انه لا يفعل. فقال الحسن : انه سيغدر. فلما توجه الى الأنبار ، ارسل اليه معاوية رسلاً وكتب اليه بمثل ما كتب الى صاحبه وبعث اليه بخمسة آلاف ( ولعله يريد خمسمائة الف ) درهم ، ومنّاه أيّ ولاية أحب من كور الشام والجزيرة ، فقلب على الحسن ، وأخذ طريقه الى معاوية ، ولم يحفظ ما اخذ عليه من عهود .. ». ثم ذكر بعد هذا العرض ، اتخاذ الحسن النخيلة معسكراً له ، ثم خروجه اليها. 1 ـ مدينة كانت على الفرات ( غربي بغداد ) تبعد عنها عشرة فراسخ سميت بذلك لانها كانت تجمع بها انابير الحنطة والشعير منذ أيام الفرس ، وأقام بها أبو العباس السفاح العباسي الى أن مات ، وجدد بها قصوراً وأبنية ، ثم اندثرت عمارتها. (116)
2 ـ قال ابن أبي الحديد ( ج 4 ص 14 ) :
« وخرج الناس ، فعسكروا ونشطوا للخروج ، وخرج الحسن الى المعسكر ، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس واشخاصهم اليه. فجعل يستحثهم ويخرجهم حتى يلتئم المعسكر. وسار الحسن في عسكر عظيم وعدة حسنة ، حتى نزل دير عبد الرحمن ، فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس. ثم دعا عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب ، فقال له : يا ابن عم اني باعث معك اثني عشر الفاً من فرسان العرب وقراء المصر .. ». 3 ـ روى الزهري فيما ينقله عنه ابن جرير الطبري ( ج 6 ص 94 ) قال : « فخلص معاوية حين فرغ من عبيد اللّه بن عباس والحسن عليه السلام الى مكايدة رجل هو أهم الناس عنده مكايدة ، ومعه أربعون الفاً. وقد نزل معاوية بهم وعمرو وأهل الشام ». 4 ـ وجاء في كلام المسيب بن نجية فيما عاتب به الامام الحسن على صلحه مع معاوية ( على رواية غير واحد من المؤرخين ) ـ والنص للمدائني (1) كما يحدثنا عنه في شرح النهج ( ج 4 ص 6 ) ـ قال : « فقال المسيب بن نجية للحسن عليه السلام : ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون الفاً !. أو قال : « بايعت » على اختلاف النقول. 1 ـ هو ابو الحسن بن محمد بن عبد اللّه بن أبي سيف البصري الاصل. سكن المدائن ثم انتقل الى بغداد وتوفي بها سنة 215 وهو الذي يكثر ابن ابي الحديد النقل عنه في شرح النهج. وله ما يقرب من مائتي كتاب في مختلف الموضوعات رحمه اللّه. (117)
5 ـ قال ابن الاثير في كامله ( ج 3 ص 61 ) :
« كان أمير المؤمنين عليّ قد بايعه اربعون الفاً من عسكره على الموت ، لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل السام. فبينما هو يتجهز للمسير قتل عليه السلام واذا أراد اللّه أمراً فلا مردّ له. فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام اليه ، فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا علياً ، وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية ـ وكان قد نزل مسكن ـ فوصل الحسن الى المدائن ، وجعل قيس بن عبادة الانصاري على مقدمته في اثني عشر الفاً ، وقيل بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد اللّه (1) بن عباس ، فجعل عبد اللّه بن عباس على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة .. ». اقول : وجرى على مثل هذا الحديث « ابن كثير » والظاهر انه اخذه من الكامل حرفياً. 6 ـ كلمة الحسن عليه السلام فيما يرويه عنه المدائني (2) في جواب الرجل الذي قال له : « لقد كنت على النصف فما فعلت ؟ » ، فقال : « أجل ولكني خشيت أن تأتي يوم القيامة سبعون الفاً أو ثمانون الفاً تشخب أوداجهم ، كلهم يستعدي اللّه ، فيم هريق دمه ». 7 ـ ما رواه ابن قتيبة الدينوري في الامامة والسياسة ( ص 151 ) قال : وذكروا انه لما تمت البيعة لمعاوية ، وانصرف راجعاً الى الشام أتاه 1 ـ هو عبيد اللّه لا عبد اللّه ولا قيس كما ذكرنا آنفاً ونبهنا على بواعث الخطأ في ذكر كل منهما. 2 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 7 ) ، وابن كثير ( ج 8 ص 42 ). (118)
ـ يعني أتى الحسن ـ سليمان بن صرد ، وكان غائباً عن الكوفة ، وكان سيد اهل العراق ورأسهم ، فدخل على الحسن فقال : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين ! فقال الحسن : وعليك السلام ، اجلس للّه ابوك. قال : فجلس سليمان وقال : أما بعد فان تعجّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ، ومعك مائة الف مقاتل من أهل العراق ، وكلهم يأخذ العطاء ، مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم ، سوى شيعتك من اهل البصرة واهل الحجاز !! ».
أقول : وروى كل من المرتضى في « تنزيه الانبياء » ، وابن شهراشوب في « مناقبه » والمجلسي في « البحار » النص الكامل لما دار بين سليمان بن صرد ورفاقه ، وبين الحسن عليه السلام. ولم يروِ أحد منهم عن سليمان أو اصحابه فيما عرضوا له من عدد الجيش ، أكثر من اربعين الفاً. فابن قتيبة ينفرد برواية المائة الف عن سليمان ، كما ينفرد بالتعبير عن الصلح بلفظ « البيعة » !. 8 ـ التصريح الذي فاه به زياد ابن أبيه ، يوم كان لا يزال عاملاً للحسن بن علي على فارس ، وذلك فيما أجاب به على تهديد معاوية اياه ، قال : « ان ابن آكلة الاكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الاحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني ، وبيني وبينه ، ابنا رسول اللّه في تسعين الفاً ( وعلى رواية في سبعين الفاً ) واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم ، لا يلتفت أحدهم حتى يموت. أما واللّه لئن وصل اليَّ ليجدني أحمز ضراباً بالسيف (1) ». المناقشة : وهكذا توفرت هذه النصوص بمختلف صيغها ، على أرقام فرضتها في 1 ـ اليعقوبي ( ج 2 ص 194 ) ، وابن الاثير ( ج 3 ص 166 ). ورواه الاول بتسعين الفاً ، والثاني بسبعين الفاً. (119)
موضوع عدد الجيش ، وتدرّج العدد الكبير فيها من أربعين الفاً الى ثمانين الفاً فمائة الف.
والواقع أن المراتب الثلاث بجملتها ، معرضة للشك وخاضعة للتمحيص ، وحتى أدناها. واليك البيان : اما اولاً : فالعدد الاعلى ( وهو مائة الف أو اكثر ، أو تسعون الفاً ) فيما يشير اليه زياد ابن أبيه ( على رواية اليعقوبي ) ، أو فيما ينسب الى سليمان بن صرد ( برواية ينفرد بها الدينوري خلافاً لمؤرخين كثيرين ) مشكوك فيه من جهات : أهمها أن كلاً من هذين الزعيمين ـ سليمان وزياد ـ كانا غائبين عن بيعة الحسن وجهاد الحسن وكوفة الحسن ، طيلة خلافته في الكوفة وكانا قد غادرا مواطنهما في العراق منذ سنتين (1). وأيّ قيمة لتصريح غائبٍ لم يشهد الوضع السائد في الكوفة ، بما كان يجتاح هذه الحاضرة من تحزّب قويّ وتثاقل لئيم فيما واجهت به امامها وصاحب بيعتها. وان زياداً وسليمان اذ يفرضان هذه الاعداد من الجيش فانما يقيسان حاضر الكوفة على ماضيها ، ويظنان أنها جنّدت مع الحسن ما كانت تجنده مع أبيه امير المؤمنين سنة 37 و38 يوم كان كل منهما لا يزال في الكوفة يساهم بنصيبه من تلك الصفوف. هذا اولاً. واما ثانياً ، فقد كان من موقف الرجلين كليهما في اللحظة العاطفية التي اندفعا بها الى هذا التصريح ، ما يبرر لهما الجنوح الى اسلوب المبالغات ، وكانت المبالغة في عدد الجيش تهويلاً قريب التناول من جموح العاطفة الناقمة في سليمان ، وهو ينكر على 1 ـ صرح بغياب سليمان بن صرد عن الكوفة كل من ابن قتيبة في الامامة والسياسة ، والمرتضى في تنزيه الانبياء ونص فيه على غيبته سنتين. واما زياد فكان والي فارس من سنة 39 بعثه اليها عبد اللّه بن عباس وهو اذ ذاك والي البصرة. وكان زياد قبل سنة 39 في البصرة كما صرح به الطبري في حوادث 39. (120)
الامام الحسن عليه السلام الرضا بالصلح ، وقريب التناول ـ كذلك ـ من سياق التهديد والوعيد في زياد وهو يرد في خطابه على تهديد معاوية.
وبعد هذا كله ، فليس في هذين التصريحين ما يصح الركون اليه من احصاء أو تعيين أعداد. وعلمنا ان سليمان هذا ، كان صديق المسيب بن نجية وصاحبه الذي تربطه به وشائج أخرى هي أبعد اثراً من الصداقات الشخصية. وقد مرَّ عليك في النص [ رقم 4 ] قول المسيّب للحسن في معرض العتاب على الصلح : « ومعك اربعون الفاً ». ومن المقطوع عليه أن مثل هذين الصديقين لا يختلفان في قضايا أهل البيت (ع) اختلافهما في هذا التقدير. اذاً ، فما من سبب لشذوذ كلمة ابن صرد ، الا كون راويها الدينوري الذي انفرد في قضية الحسن بعدة روايات لم يهضمها التمحيص الصحيح !. وشاءت المقادير أن لا يفارق الزعيمان الصديقان الدنيا ، حتى يأخذا جوابهما ـ عمليَّاً ـ عن عتابهما الطائش الذي قابلا به امامهما أبا محمد عليه السلام ، فيما أنكرا عليه من الصلح. فبايعهما على الاخذ بثأر الحسين عليه السلام سنة 65 هجري ثمانية عشر الفاً من أهل الكوفة ، ثم لم يكن معهما حين جدّ الجد في ساحة « عين الوردة » غير ثلاثة آلاف ومائة. ومنيا من خذلان الناس بما ذكّرهما بالصميم من قضايا أهل البيت عليهم السلام. ثم استشهد سليمان والمسيب وهما زعيما حركة التوّابين في عين الوردة ، واستشهد معهما ـ يوم ذاك ـ أكثر من كان قد انضوى اليها. واما ثانياً : فالعدد ثمانون الفاً أو سبعون الفاً ، وهو ما تضمنه كلام الحسن في جواب الرجل الذي قال له : « لقد كنت على النصف فما فعلت ؟ ». وكلام الحسن ـ في حقيقته ـ لا يدل على أكثر من عشرين الفاً على |
|||
|