|
|||
(136)
بالقتل ، أو بالافصاء ، أو بالادانة ، كان في مثل ظروف الحسن تعجلاً للنكبة قبل أوانها ـ كما ألمحنا اليه في غمار الفصل الرابع ـ وسبباً مباشراً لاثارة الشقاق واعلان الخلاف ورفع راية العصيان في نصف جيشه على أقل تقدير ومعنى ذلك القصد الى اشعال نار الثورة في صميم الجيش. ومعنى هذا ان ينقلب الجهاد المقدس الى حرب داخلية شعواء ، هي أقصى ما كان يتمناه معاوية في موقفه من الحسن وأصحابه ، وهي أقصى ما يحذره الحسن في موقفه من معاوية وأحابيله.
وشيء آخر : هو أن الحسن عليه السلام ، لم يكن له من عهده القصير الذي احتوشته فيه النكبات بشتى ألوانها ، مجال للعمل على استصلاح هذه الالوان من الناس ، وجمعهم على رأي واحد. بل ان ذلك لم يكن ـ في وقته ـ من مقدور أحد الا اللّه عزّ وجل ، ذلك لان الصلاح في الاخلاق ليس مما يمكن تزريقه في الزمن القليل ، وانما هو تهذيب الدين وصقال الدهر الطويل ، ولان التيارات المعاكسة التي طلعت على ذلك الجيل بأنواع المغريات ، حالت دون امكان الاصلاح وجمع الاهواء ، الا من طريق المطامع نفسها ، وكان معنى ذلك معالجة الداء بالداء ، وكان من دون هذه الاساليب في عرف الحسن حاجز من أمر اللّه. (137)
(138)
اما ذلك القائد الملتهب بالحماسة للحرب ، والموتور من معاوية بابنيه المقتولين صبراً في اليمن ، فقد كان منذ انفصل بجيشه من دير عبد الرحمن ، لا ينفك يتسقط أخبار الكوفة ، وانه ليعهد في الكوفة دعاوتها الشيعية السائرة على وتيرتها المحببة ، والذاهبة صعداً في نشاطها والتي كان ينتظر من تعبئتها النجدات التي يجب أن لا تنقطع عنه.
ونمى اليه ، وقد انتهى الى « مسكن » وهي النقطة التي التقى عندها الجيشان المتحاربان ، أن الدعاوات النشيطة البارعة في أسباع الكوفة لم تئمر شيئاً جديداً ، الا ان تكون بعض الفصائل من مقاتلة الاطراف أو من متطوعة المدائن نفسها ، قد التحقت بمعسكرها هناك. وبلغه أن المناورات العدوة التي كان يقودها بعض الزعماء الكوفيين هي التي أحبطت المساعي الكثيرة لرجالات الشيعة ، وهي التي عرقلت النفير العام بنطاقه الواسع الذي كان ينتظر نتيجة لذلك النشاط المحسوس. ولم يكن عجيباً ، ان تغيظ هذه الانباء عبيد اللّه بن العباس فتملأ اهابه ثورة على الوضع وحنقاً على الناس. وكان عليه كقائد جيش ضعف أمله بالنجدات القريبة التي كان يعلق عليها أروع آماله ، أن ينتفع من هذا الدرس الذي أملته عليه ظروف الكوفة ، وأن يرجع الى قواته هذه فيوازن بها قوات عدوه التي تنازله وجهاً لوجه ، والتي علم أنها لا تقلّ عن ستين الفاً من أجناد الشام المعروفين (139)
بالطاعة العمياء لأمرائهم وقوادهم.
ولم يكن التفاوت بالعدد مما يستفزه كثيراً ، ولكنه كان شديد العناية بالمزايا المعنوية التي يتحلى بها جنود الفريقين. وكان القائد الحريص على روحية جيشه التي هي كل ما يدخره للقاء عدوه. ولاح له في سبيل موازنته ، اشتراك « الاخلاط » من العناصر المختلفة في جيشه. وانه ليستقبل حرباً لن تجدي فيها غير الكثرة المخلصة من المحاربين الاشداء ، فما شأن الجماعات التي لم تفهم الجهاد الا كوسيلة للغنائم. وتشاءم عبيد اللّه بن عباس ، منذ الساعة الاولى التي يمم بها معسكره في « مسكن » ، تشاؤماً كان له أثره في المراحل القريبة مما استقبله من خطوات. وكان أنكى ما يخافه على مقدّرات جيشه ، أن تتسرب الى صفوفه أخبار التعبئة الفاشلة في الكوفة ، أو أن تحبو اليه أحابيل معاوية بما تحمله من أكاذيب ومواعيد ، وهاهم أولاء وقد جمعهم صعيد واحد ومشارع واحدة واظلتهم سماء مسكن جميعاً ، وماذا يؤمنه من أن يكون مع جنوده أو من جنوده انفسهم من هو بريد معاوية في الافساد عليه وعلى الامام. وكانت أسلحة معاوية ( الباردة ) أروع أسلحته في هذا الميدان بل في سائر ميادينه. وصدق ظن عبيد اللّه. فاذا بباكورة دسائس معاوية تشق طريقها الى معسكر مسكن ، وفي هذا المعسكر من أصحاب الحسن مخلصون ومنافقون ، وآخرون يؤثرون العافية ويتمنون لو صدقت الشائعة الجديدة ، وكانت الشائعة الكاذبة « أن الحسن يكاتب معاوية على الصلح ، فَلمَ تقتلون انفسكم (1) ». 1 ـ شرح النهج ( ج 4 : ص 15 ). (140)
ولم يُجدِ ابن عباس أن يعلم هو وخاصته كذب الشائعة ، واصطدامها بالواقع الذي لا يقبل الشك ، لان الحسن الذي لا يزال يشمّر للحرب في رسله الى الاطراف ، وفي رسائله الى معاوية ، وفي خطبه بالكوفة ، لن يكتب في صلح ولن ينزل عن رأي ارتآه.
ولكنها كانت أحبولة الشيطان الرائعة الصنع. وارتفعت أصوات المخلصين من الانصار ، تدعو الناس الى الهدوء ، وتستمهلهم ريثما يصل بريد المدائن ، ولكنها كانت صيحات في واد ، ونفخات في رماد ، واجتاح الموقف ارتباك مؤسف لا يناسب ساحة قتال. وتخاذل عبيد اللّه للخدعة الخبيثة التي أصابت المحزَّ من موقفه الدقيق. فخلا بنفسه ، وانقبع تحت سماء خيمته البعيدة عن ضوضاء الناس. ورأى ان قيادته هذه ستطوح بمكانته العسكرية الى أبعد الحدود ، فثار لسمعته وحديث الناس عنه ، وندم على قبولها. وكان من دفعات الحدّة التي طبع عليها ، أن لعن الظروف التي عاكسته في رحلته العسكرية هذه والظروف التي خلقت منه قائدا على هذه الجبهة. ثم انطوى على نفسه تحت كابوس من القلق وحب الذات لا يدري ماذا يصنع. ورأى اخيراً [ وكان المخرج الذي بلغته قصارى براعته ] أن يتقدم باستقالته ، نزولاً على حكم ملكاته الانانية التي كان يستكين لها راغباً عامداً. وما يدرينا ، فربما لم يكن له من القابليات الشخصية ما يمكنه من محاسبة نفسه والتفكير في اصلاح ما يمر به من اخطاء أو ما يفجؤه من نكبات. وكان عليه ـ وقد صمم على الاستقالة ـ أن يترك مقر القيادة الى مصيرها الذي لا يعدو رأي الامام ، أو يتخلى عنها لخليفته وهو ( قيس بن سعد بن عبادة الانصاري ). ولكنه فطن ـ ولما يغادر فسطاطه المترفع الذي كان يقع على جانب بعيد من مضارب جنوده ، والذي شهد وحده ثورة القائد المتخاذل ، وسمع (141)
وحده تمتمته الناقمة، وكفرانه الايادى البيض التي استوعب بها مدى جيلين من بني عمه المطهَّرين ـ فطن ، الى أن الاستقالة من عمل ما ، لا تستكمل شرائطها في التشريع الاسلامي ، الا بالاعتراف صريحا « بالاعجز ». ولم يكن الفتى الاناني بالذي يفرّط بشخصيته فيعرضها لسخرية الناس. ورجع الى نفسه من جديد ، ليلتمس المخرج الذي لا يضطره الى مثل هذا الاعتراف.
وكانت رسائل معاوية التي وصلته ليلته هذه والتي خفي عليه أنه تسلمها من يد البريد الذي نشر الشائعة السوداء في معسكره صباحا ، هي الاخرى لا تزال تعنّ له بمغرياتها الجبارة، كلما أدار رأسه في تفكير أو تدبير. و أذهله حين ذكر رسائل معاوية ، الفارق الهائل بين الحلم الجميل المموّه بالذهب ، وبين الحقيقة المرة ، فشلّ تفكيره وشعوره ولم يهتد الى الرأي الذي يناسبه كزعيم هاشمي ينازل أصلب عدو للهاشمية في ميدان موت أو حياة. انه كان بامكانه أن يستقيل وأن يعترف بالعجز غير متلكىء ولا حيران ثم ينتزع معذرته لسمعته وكرامته ، من الاخفاق المحقق الذي كان ينتظر القائد الثاني ، الذي سيستسلم قيادته في ظرف لا يستقيم معه ميدان حرب. وكان بامكانه أن يتجلد في موقفه ، فيتوعد المشاغبين ، ويأخذ بالحزم المصطنع الذي يكون ظاهره العنف وباطنه التوجيه ، بلون من الاوان هذه المناورات الادارية التي كان ينبغي له أن يجيدها كما يجيدها امثاله من رؤساء الناس ، ويتريث قليلا ، ثم ينتظر تعاليمه الاخيرة من ناحية الامام ، ويكون ـ عند ذلك ـ المعذور في دينه وفي سمعته معا. أما ان يتنازل من شموخه كقائد في معسكر امام ، فيساوم رسل معاوية على أجر الهزيمة ، فلا و لا كرامة !!!؟ وكانت رسالة معاوية اليه ، تضرب على وتره الحساس من ناحية حبه (142)
للتعاظم وتطلعه الى السبق ، فيقول له فيها : «ان الحسن سيضطر (1) الى الصلح ، وخير لك أن تكون متبوعا ولا تكون تابعا (2) .. » وجعل له فيها الف الف درهم (3).
وكان معاوية أحرص بشر على استغلال مآزق أعدائه. « وكان ايمان معاوية بالسفالة البشرية ، ايمانا لا حدّ له. وهو ايمان يقوم على الاعتقاد بأنَّ أقوم الناس خلقا ، وأشدهم عزما ، وأنقاهم فضيلة ، قد تستغويه الاطماع ويذله الحرص ، في ساعة من ساعات الضعف الذي يطرأ على النفوس ، وفترة من فترات الشك الذي لا ينفك عن مطاردة الناس ، ولا يسلم من غوائله أفاضل الناس و أعالي البشرية (4) » . وكان فيما حذر به أمير المؤمنين عليه السلام زيادا ، أن قال له : «و ان معاوية يأتي الانسان من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله. فاحذر ثم احذر (5) ». وهكذا صرع الشعور بالخيبة ، والاستسلام للطمع ، الفتى الاصيل. فاذا هو من أبشع صور الخيانة المفضوحة والضعف المخذول. فلا الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله صلى الله عليه اله ومن قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس الى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس و نقمة التاريخ ـ بالذي منعه عن الانحدار الى هذا المنحدر السحيق. 1 ـ اقول : وهذا النص صريح بتكذيب الشائعة التي اجتاحت معسكر « مسكن » « بأن الحسن كاتب معاوية على الصلح ». 2 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 15 ). 3 ـ اليعقوبي ( ج 2 ص 191 ) وشرح النهج ايضا ( ج 4 ص 15 ). 4 ـ على أدهم ـ مجلة العالم العربي ( السنة 11 العدد 2 ص 30 ). 5 ـ ابن الاثير في الكامل ( ج 5 ص 176 ). (143)
ودخل حمى معاوية ليلا ، دخول المنهزم المخذول الذي يعلم في نفسه أي اثم عظيم أتاه.
ثم شاح عنه التاريخ بوجهه ، فلم يذكره الا في قائمته السوداء. وكان ذلك جزاء الخائنين ، الذين يحفرون أجداثهم بايديهم ، ثم يموتون عامدين ، قبل أن يموتوا مرغمين. و خلقت هزيمة عبيدالله بن عباس في « مسكن » جوا من التشاؤم الذريع ، لم يقتصر أثره على مسكن ، ولكنه تجاوزها الى « المدائن » ايضا. فكانت النكبة الفاقرة بكل معانيها. وللمسؤوليات الهائلة التي تدرّج اليها الموقف بعد هذه النكبة ، ما يحمله عبيدالله أمام الله و أمام التاريخ. و تسلم قيادة المقدمة بعد فرار قائدها الاول ، صاحبها الشرعي الذي سبق للامام تعيينه للقيادة بعد عبيدالله ، وهو ( قيس بن سعد بن عبادة الانصارى ) العقيدة المصهورة ، والدهاء المعترف به في تاريخ العرب ، والشخصية الممتازة من بقايا أصحاب (1) علي عليه السلام. شب مع الجهاد ، واستمر على الدرب اللاحب. وأنكر على الاخرين ضعفهم حين ضعفوا ، و نقم عليهم استجابتهم للمغريات وعزوفهم عن الواجب. وما ان دان له المعسكر في مسكن حتى وقف بين صفوفه المتباقية ـ بعد 1 ـ قال مسعودي : « كان قيس بن سعد من الزهد والديانة والميل الى علي بالموضع العظيم. وبلغ من خوفه الله وطاعته اياه ، انه كان يصلي فلما أهوى للسجود اذا في موضع سجوده ثعبان عظيم مطوق ، فمال عن الثعبان برأسه وسجد الى جانبه ، فتطوق الثعبان برقبته ، فلم يقصر من صلاته ولا نقص منها شيئا حتى فرغ ، ثم أخذ الثعبان فرمى به ». قال : « وكذلك ذكر الحسن بن علي بن عبدالله بن المغيرة بن المعمر بن خلاد عن ابي الحسن علي بن موسى الرضا ». وتوفي قيس سنة 85. (144)
حوادث الفرار ـ ليودع سلفه بما هو أهله ، ثم ليبدأ عمله في قيادته الجديدة ، فيدارى ما أحدثته هذه الرجة العنيفة في معنويات جيشه.
فقال: « أيها الناس لا يهولنكم ولا يعظمّن عليكم ، ما صنع هذا الرجل المولّه. ان هذا و أباه أخاه ، لم يأتو بيوم خير قط. أن أباه عم رسول الله خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الانصارى ، فاتى به رسول الله ، فأخذ فداءه ، فقسمه بين المسلمين. و ان اخاه ولاه علي على البصرة ، فسرق ماله ومال المسلمين. فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال. وان هذا ولاه علي على اليمن ، فهرب من بسر بن أرطأة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الان هذا الذى صنع (1) ». وكان قيس الخطيب المؤثر فيما يقصد اليه من تأثير ، ولا سيما اذا اندفع بعاطفة مشبوبة ، كعاطفته عند موقفه الاخير. وكان من تأثيره على سامعيه ، فيما ثلب به عبيدالله بن عباس أن « تنادى الناس : الحمدلله الذي أخرجه من بيننا!! (2) ». أقول : وهكذا كانت التجارب مفاتيح الرجال كما يقول المثل العربي. 1 ـ مقاتل الطالبيين ( ص 35 ). 2 ـ مقاتل الطالبيين (ص 35). (145)
(146)
وجاء الى الحسن عليه السلام بريد مسكن ـ لاول مرة ـ و اذا بكتاب قيس بن سعد و هو يقول :
« انهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها « الجنوبية » بازاء « مسكن » وان معاوية أرسل الى عبيدالله بن العباس ، يرغبه في المصير اليه ، وضمن له الف الف درهم . يعجل له منها النصف ، ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الكوفة . فانسل عبيدالله في الليل ، الى معسكر معاوية في خاصته ، واصبح الناس قد فقدوا اميرهم ، فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في امورهم (1) ». والكتاب في فقرته الاولى ، يشعرنا بان عبيدالله بن عباس لم يراسل (2) الحسن منذ نزل بجيشه عند مسكن . ولا ادري هل في انقطاع اتصال احد القواد عن المركز الاعلى ما يدل على سبق اصرار على التمرد ؟. على اننا لا نعلم على التحقيق الفواصل الزمانية التي تتسع للمراسلات بين نزوله مسكن وبين هروبه الى معاوية. وتتابعت أخبار مسكن مع كتاب قيس و بعده ( واخبار السوء اسرع الاخبار بدارا وأكثرها انتشارا ) ، فبلغ الحسن أن هذه « الخاصة » التي ورد ذكرها في كتاب قيس ، والتي سمتها المصادر الاخرى « اهل الشرف والبيوتات » أو « الوجوه وأهل البيوت » ، كانت شريكة عبيدالله في تدبير خطة الخيانة وعلم ايضا ان بعض هؤلاء سبق عبيدالله الى الهزيمة ـ وتطرفت 1 ـ الارشاد ( ص 170 ) . 2 ـ لان الفقرة هي الخبر الاول الذي وصل الحسن عن نزولهم مسكن. والكتاب من قيس لا من عبيدالله. (147)
بعض الانباء فأوغلت في النكاية بعبيدالله حتى قالت « انه مرّ بالراية (1) ».
وهيأت هذه الحركة العدوة جواً لتمردٍ خبيث ، نشبت عدواه في قوافل اخرى من اجيش ، فنشطوا للفرار و هم يحسبون ان في اتباع اهل الشرف والبيوتات مغنما يخسرونه اذا تخلفوا عنهم . وعمل معاوية اكثر ما يمكن ان يعمل لاثارة هذا التمرد ، ثم لتغذيته بعد اثارته ثم لتوسعته بعد تغذيته ، وكان العارف بنفسيات ابناء البيوت الرعاديد ، الذين غلبهم الترف وانستهم النعمة الوارفة عنعناتهم العربية العنود ، فكان لا ينفك يتوقع انزلاقهم اليه ، ويتوسل اليهم بمختلف الوسائل وانواع الكيد ، حتى لقد نجح في استذلال شموخهم عن طريق المطامع المادية التي تطامن لسحرها كبيرهم المغرور ، فنزل يهرول امامهم ، الى الهوة التي لا يختارها شريف يعتز بشرفه ، ولا قائد يغار على سمعته. وهكذا « جعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبيدالله يتسللون الى معاوية ، الوجوه وأهل البيوتات (2) » و اتباعهم طبعا . ثم صعد عدد الفارين من الزحف ، عن طريق الخيانة لله ولرسوله ولابن رسوله ، الى ثمانية الاف !! [ كما يحدثنا أحمد بن يعقوب في تاريخه ] . قال : « انه ـ يعني معاوية ـ أرسل الى عبيدالله بن عباس ، وجعل له الف الف درهم ، نصار اليه في ثمانية الاف من اصحابه ، واقام قيس بن سعد على محاربته (3) ». نعم ، ثمانية الاف من اثني عشر الفا ! .. انها الثغرة المخيفة في جدار المعسكر الواقف في جبهة القتال أمام 1 ـ البحار ( ج 10 : ص 114 ). 2 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 8 ). 3 ـ اليعقوبي ( ج2 ص 191 ) ، وروضة الشهداء ( ص 115). (148)
ستين الفا من الاعداء الاشداء ، لا ، بل انه الانهيار المخيف ، والنكبة التي تهدد بالكارثة القريبة .
فليتحمل عبيدالله مسؤوليتها الثقيلة في الله ، وفي التاريخ !!. وظن هؤلاء المتسرعون الى الفتنة ، والراكضون بكل اعصابهم الى الهزيمة ، انهم اذا عملو مثل العمل الذي أتاه ابن عم الخليفة واولى الناس برعاية حقه والوفاء ببيعته فانهم غير ملومين ، واصطلحوا على مثل هذا المنطق المفلوج لتبرير عملهم أمام الناس ، ولكن الناس لم ينظروا الى هزيمتهم الا من ناحية اطارها المموّه بالذهب الوهّاج ، ذهب معاوية « الزائف » ، ثم لم يشهدوا من أمجاد « ابناء البيوتات » الا سبقهم لنقض المواثيق التي واثقوا الله عليها ، وبيعهم الدنيا بالدين . وما كان بالقوم ـ وهم يفرون من ميادين الحسن ـ أنهم ينكرون فضله ومزاياه ، أو يجهلون سمسموه وكفاءاته ، ولكنهم كانوا يريدونه لدنياهم ثم لا يجدونه حيث يريدون. وما كان بهم ـ وهم يفرون الى معاوية ـ أنهم وثقوا به وبمواعيده ، وانهم لم يقدروا العاقبة التي قابلهم بها يوم دخل الكوفة فنقض كل عهد و وعد. وما معاوية بالرجل الذي يخفي أمره ، ولا هم من الطبقة الذين يجهلون امثاله وهو اذ ذاك بين سمعهم وبصرهم. اذاً ، فلا بغض الحسن ولا جهلهم له ، ولا حب معاوية ولا ثقتهم به ـ كان هو السبب كله لنفورهم وفرارهم ، ولكنها كانت حوافز أخرى او حوافز من الوان شتى ، دفعت بهؤلاء الموّلهين الى هذا الشكل من الجهر بالسوء الذي لا يزال صداه البغيض يرن في مسمع التاريخ . وما يدرينا فلعلها كانت مراحل مقرّرة ومؤامرات مدبّرة سبق اليها الزعماء المعارضون ، ليتقوا بها المصير الذي كان ينتظرهم ، فيما لو أديل (149)
للكوفة من الشام. وكان من شأن التدابير الواسعة التي اخذ بها الامام في دعوة الاقطار الاسلامية الى الجهاد ، ومن بوادر النشاط الذي تطوع له الشيعة في عضد هذه الدعوة ، ما هو خليق بأن يبعث في نفوس القلقين من الخونة والرؤساء المتبوعين ، الخوف على أنفسهم ومصالحهم ، وان يزدادوا حذرا مما كانوا قد تورطوا فيه من مناورات ومعارضات تجاه معسكرهم في الكوفة. فرأوا في الالتحاق بمعاوية خروجا من هذا الخوف ، وتحريبا سريع الاثر في قوة الجانب الذي يخافونه ، وكان من تنفيذ الخطة في أضيق وقت وعلى اوسع نطاق ، ما يؤيد كونها نتيجة لمؤامرة كثيرة الانصار.
ولعل فهم مأساة الهزيمة على هذا الوجه اقرب الى الواقع ، مما فهمها عليه سائر رواتها من أعدائها ومن اصدقائها. وليس معنى هذا التفسير ، أن معاوية لم يعد أحدا او لم يرش قائدا. كلا ... فانه سخا بالمواعيد حتى أذهلهم ، واعطي القائد وحده مليونا من الدراهم حتى اشترى دينه وكرامته. ولكن الشيء الذي يسترعي النظر ويستدعي التنبيه ، ان حوادث الهزيمة لم تنسب الى اسم صريح اخر غير عبيدالله بن عباس [ قائد المقدمة في مسكن ] أنه قبض من معاوية في سبيل الخيانة نقدا معينا. تري ، فكيف رضي الزعماء الاخرون من معاوية بالوعد دون النقد ، لولا ان يكون الخوف الذي ذكرناه ، هوالذي بعث فيهم روح الهزيمة وزين لهم الاكتفاء بالوعود !!. وللخوف سلطانه على النفوس ، ولاسيما نفوس المترفين من الناس ، فلا بدع اذا قدح في نفوس « أبناء البيوتات » فكرة الخيانة و أوقدتها ـ بعد ذلك ـ مغريات الشام ، في بيئة ليس فيها اغراء بغير الله والعدل الصارم. وهكذا انكشفت كل جماعة من عناصر هذا الجيش عن مكنونها الذي مزف الستار ، وظهر على المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار ، فكان (150)
لحب العافية من قوم وللعصبيات الجاهلية من اخرين وللاهواء والمنازع وأصحابها الاثر المستبين فيما آل اليه الموقف من نتائج واضرار.
وفضحت المطامع أولئك الذين لم يلتحقوا بهذا الجيش الا طمعا بالغنائم ، وسرهم أن يتلقفوا الغنائم من طريق الخيانة في سهولة ويسر ، وكانوا يظنون انهم لن ينالوها الا بعد أن تزيغ قلوبهم هلعا ، من قراع الاسنة و الضرب الدراك. ونزلوا عن هذا الطريق الى الدرك الاسفل من حظوظهم التي تخيروها لانفسهم مغرورين. « فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ». وما كان المسلم الذي يترك امامه ليلتجيء الى البغاة الا شرا من باغ ، واولئك هم المستضعفون في دينهم ، والقلقون في دنياهم ، وان صفوف معاوية لاولى بالمستضعفين القلقين. ومازت النكبة الذين جثموا في مواقعهم ، وثبتو على مبدأ المقاومة لا يلتسمون محيدا عنه ، وصمدوا ولكنهم انما صمدوا للموت المحقق (1) ، ينتظرونه فرحين مطمئنين ، دفاعا عن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، ووفاءً لله ببيعتهم. وكان الصمود للنكبات ، والصبر على الكوارث ، والاستعداد لتحمل الآلام وبذل التضحيات ، أنبل دليل على طيب المعدن ، وصدق النية ، وصلابة العود ، والجدارة بالحياة. وهذه هي نعوت شيعة الحسن الاوفياء. ثم كان لانباء هذه النكبات المروعة في مسكن ، وقعها السيء الذي يناسب خطورتها ، في أوساط الجيش الاخرالذي كان يعسكر في ( المدائن ). 1 ـ قال ابن كثير ( ج 8 ص 19 ) : « قال أبو العريف : كنا في مقدمة الحسن بن علي بمسكن ، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام .. ». |
|||
|