|
|||
(166)
وانصرف الى التفكير ، فما كان ليغيب عنه ما يهدد موقفه من عبءٍ ، بعضه فجيعة. وبعضه هوان ، وبعضه موت لا يشبه موت العظماء.
ولم تكن الحيرة عنده بالغة الغور ، ولكنها كانت بالغة الاسى مشبوبة الاحاسيس ، تخزه و خز الشوك الملتهب ، وتستفزُّه بالحاح الى اختراع المخرج الذي لا يساوره الهوان ، ولا يخضع للفجيعة ، ولا هو من الموت المغتصب ، الذي تربأ عن مطارحته الذكريات الكريمة. وكل ما كانت تحتفل به اللحظة القائمة بين يديه ، هو اللجاجة اللاغبة ، والشائعات الكاذبة ، والاندفاع في تيار الفوضي الرهيب. والحسن بين هذه الهزاهز ، الجبل الذي لا تزعزعه العواصف ، والاماام البر الذي لا يغيظه جهل الجاهلين عليه ، ولا يُحفظه سخط الناقمين منه ، ووقف غير عابئ بما يدور حوله ، ولكن ليسقرئ الخطط فيضع خطته ، وليستعرض الاراء فيبت برأيه. وليس بمقدورنا الان ان نقرأ ـ بتفضيل ـ الافكار التي كانت تحت سيطرته ساعة أذ ، أو كان هو تحت سيطرتها ، ولكنها ـ بالاجمال ـ لم تكن لتعدو « ما يريده الله وما يؤثر عن رسول الله وما يجب لصيانة المبدأ ». أما ما يقوله الناس ، فلم يكن مما يعنيه كثيرا. ولنتذكر دائما ، انه الامام الروحي ، الذي لا يريد الحياة بين الناس الا بمقدار ما تكون الحياة بذلةً في سبيل الله ، ووسيلة للنفع العام ومثلا يحتذى في الاصلاح ونشر الاحسان. فما قيمة ما يقول الناس الى (167)
جنب هذه المعنويات الممعنةفي اتجاهها الى الله. والامام بصفته الروحية التي يقود بها الغير الى الخير ، لايهجس ابدا بغير هذا النوع من التفكير ، ولا ينصرف بخلجاته ومشاعره وعواطفه الى غير الله ، وسيرة النبي (ص) ، والمبدأ الصحيح.
لذلك لم تكن الحيرة عنده ـ كما قلنا ـ بالغة الغور ، لان طريق الله لاحب ، وأسوة رسول الله واضحة ، ولكنها كانت حيرة مريرة المذاق. وكم من المزعج ان يساق الانسان من ظروفه ، ومن حيث لا يد له ، الى وضع لا يسيغه طبع ، تصطلح عليه الازمات ، ثم لا يفتأ يقوم من نفسه على عقُدٍ لا تنقطع الا لتتصل. ذلك هو الوضع « الشاذ » الذي لايعهد الا مع الحيرة ، ولا يطرد في نوازعه الا مع القلق ، ولا تكون النفس معه الا بين الاقدام و الاحجام و اليأس و الرجاء. و للنفس ـ مع هذا الوضع ـ حاجتها القصوى الى التأمل والتفكير ، والى الكلاءة والتثبيت. وللضمير ـ مع هذا الوضع ـ موقفه الدقيق الذي تتفاوت فيه معادن الناس. وايّ نفس كانت هي تلك النفس ، وأيّ ضمير كان هو ذلك الضمير !!؟؟. انها النفس المطمئنة التي ترجع عند كل هول يعصف بها الى ربها راضية مرضية ، لا تستكفي بغيره ، ولا تسترشد بسواه. وانه الضمير الطاهر النقي ، الذي لم يضعف على ثقل الواجب و انما كان ـ على كل حال ـ أصلب من الكارثة. ولم نسمع عن الحسن ان احدا ممن حوله شعر عليه في لحظات مرزأته ، أنه المرزأ في دخيلته او الممتحن في موقفه ، اذ لا حزن ولا انكسار ، وانما كل ظاهراته ثبات و عزم و استقرار ، و حتى في مناجاته لربه فانه كان مثال الصبر واللجأ الى الله والاستكفاء به من دون الناس. وكان من دعائه عليه السلام : «اللهم ياذا القوة والسلطان يا عليَّ المكان ، كيف أخاف و أنت املي ، وكيف أخشى وعليك توكلي. أفرغ علىَّ من صبرك ، وأظهرني على أعدائي بأمرك ، وأيدني بنصرك. اليك اللجا ، وبك الملتجا ، فاجعل لي من أمري فرجا و مخرجا. يا كافي أهل (168)
الحرم من أصحاب الفيل ، والمرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، ارم من عاداني بالتنكيل ! ».
والتمعت على جوانب فِكَرِه اليائسة ، وفي زوايا تاملاته العابسه ؟ اشعاعة من الامل ، كانت جواب دعائه الى الله عزّ و جل ، ففاحت ذكية العرف ، ولاحت مضواءة الملامح ، كأنها نذر البشارة. وكانت مفاجأة غريبة أغلقت في وجهه هموم حاضره كلها فاذا هو بين طوفان من الذكريات التي لا تمتّ الى ظرفه ولا تتصل بأرزاء لحظته. ذكريات تشيع فيها اللذة وتجد فيها النفس الوانا من الامتاع والمؤانسة. وللنفس اذا أفرط بها الالم و أرهقها الفكر والصمت العميق ، انتفاضتها المباركة التي تفرُّ بها من الضيق الى السعة ، ومن اليأس الى الرجاء ، ومن الحيرة الى الدلالة المليئة بالامال. انه ليفكر لحاضره من هذه المزعجات ، ولمستقبله من هذا العدو المستهتر بالمقدسات ، وانه ليظن « بأنه لو وضع يده في يده فسالمه لم يتركه أن يدين لدين جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (1) ». اما هذه المفاجأة الجديدة ، فقد رجعت به الى ثلث قرن مضى وحواليه فاذا هو بين منازل النبوة تتجاذبه ، ومهابط الوحي تتلاقفه ، وحلقات المهاجرين والانصار تحتفل به. رؤيً تملك الحس وأحلام لذيذة تؤاسي الجراح. هذا جده الاعظم ، وهذا سلطان نبوته في قومه ، وهذه نجوم الاي الكريمة تتنزل بين الفينة والفينة. كأنها بريد السماء الى الارض ولا تتنزل الا في بيته ، وهذا أبوه ، وزير النبي والمجاهد الاكبر الذي أخضع صناديد العرب لكلمات الله ، كأنه يرجع الان وقد فتح حصن خبير ، وهذه أمه الطاهرة البتول ، التي باهل بها الرسول فكانت بحق سيدة نساء العالمين. 1 ـ من كلمات الحسن نفسه كما يرويها البحار ( ج 10 ص 107 ). (169)
واذا لم يكن شيء مما يراه الان ، واقعا خارجيا ، فليكن بحقيقته واقعا نفسيا ، جلاه لناظره تيار روحي لا ينقطع بروحه عن هذا الجد وهذين الابوين ، كما كان لا ينقطع عنهم بجسمه ـ في الواقع الخارجي ـ يوم الف الله و فده لمباهلة نصارى نجران ، فكان الوفد هو الحسن و جده و أباه و امه و أخاه ، و يوم دعا رسول الله صلى الله عليه واله بالكساء فلفّه على الصفوة المختارة ( أصحاب الكساء الخمسة ) فكانوا ( الحسنين وأبويهما وجدهما الاعظم ) ، يوم نزلت آية التطهير ففسَّرها النبي (ص) بالخمسة الميامين عليهم السلام.
خصائص من العظمة لا يشاركهم فيها أحد في الاسلام. وتراءت له من وراء أفقه الحزين ، صور ممتعة من طفولته المباركة و صباه الباكر الكريم ، فتطلع منها الى أيامه البيض الحافلة بالنور في المدينة المنوَّرة ، يوم كان يدرج فيها بموقعه الممتاز ، ومقامه المدلّل المرموق بين أقرانه و اترابه ، و يوم كان يلعب و يمرح فيها ، ولكن بين سواعد أبويه العظيمين وعلى صدر جده الاعظم أو على ظهره المقدس او على أعواد منبره الشريف ، و يوم كان يتلقّف الوحي منذ لحظاته الاولى ، ويتعلم كلمات الله من لسان نبيّ الله (ص) ، ويتخرج بعلمه على مصدر العلم ، و يضع النقاط على الحروف ليستقبل سيادته على الناس ، و امامته المفروضة في أعناق المسلمين. و انه ليستمع الى جده حين كان يراود الناس في كل مناسبة على الاعتراف له ـ بلسان أشبه بمباهاة ـ كلما ذكر ابنه الحسن للسيادة و الامامة. و طالما ذكره لمهما في حديثه أو ذكرهما له. كانت عهودا مفعمةً بروح العظمة وبعظمة الروح ، جديرة بأن تهيب بالحسن فيتذكر منها اطيب الذكريات ، وأحفلها بالغبطة والقوة والمكرمات. وكانت الذكرى الاخاذة التي تمكنت بسلطانها من نفسه حتى انتزعت منه ابتسامته الملذوذة غير مظنون الابتسام في ظرفه. انه رأى جده رسول الله صلى الله عليه واله كأنه ينتزعه الان من عاتق أمه فيأخذه بيده , (170)
ويوقفه على قدميه المباركتين ، ثم لا يزال يباغمه بأنشودته المقدسة : « حزقه حزقه ، ترقَّ عينَ بقّه » فيرقى بقدميه الصغيرتين متدرجا حتى يضعهما على صدر جده العظيم ، ويفتح فاه ، اذ يقول له : « افتح فاك » ، فيقبله بفيه ، ثم يقول : « اللهم انى احبه فأحبَّه وأحبَّ من أحبَّه (1) ».
ثم كانت هذه الذكرى مفتاح ذكريات كان من حقها ان تؤنسه و أن تنسيه مزعجات لحظته الاخيرة ، و ان أسطع فترة في حياة كل انسان هي فتره طفولته البريئة بما يعمرها من الروابط المقدسة ـ بينه و بين الاحضان التي يلجأ اليها ، و بينه و بين المجتمع الذي يعيش فيه ـ. و ان ذكريات تلك الفترة من حياة أيّ انسان تبقى خالدة في رأسه و في قلبه و في روحه و لا يمكن نسيانها ابدا. فذكر مرةً جده رسول الله صلى الله عليه واله. وقد وضعه على منكبه الايمن ، و وضع أخاه الحسين على منكبه الايسر ، فاستقبله أبوبكر فقال لهما : « نعم المركب ركبتما ياغلامان ». فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : « ونعم الراكبان هما ، ان هذين الغلامين ريحانتاي من الدنيا ! (2) ». وذكر يوم جثا جده وأركبه على ظهره ، وأركب معه أخاه الحسين ، وقال لهما : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما (3) ». وذكر مرةً اخرى يوم جاء وجده ساجد فركب رقبته وهو في صلاته (4). و يوم جاء وجده راكع ، فأخرج له بين رجليه حتى خرج من الجانب الاخر (5). ويوم قيل لجده : « يا رسول الله انك تصنع بهذا 1 ـ الزمخشري وابن البيع والطبراني وينابيع المودة والاصابة ( ج 2 ص 12 ) وغيرها. 2 ـ كتاب سليم بن قيس ، والبيهقي في المحاسن والمساويء ( ص 49 ) وروى الاخير قول الحميري في نظمه الحديث:
4 ـ الحلية لابي نعيم. 5 ـ الاصابة ( ج 2 ص 11 ). (171)
ـ يعني الحسن ـ شيئا لم تصنعه بأحد » ، فقال : « ان هذا ريحانتي ، وان ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين (1) ».
وذكر ركوبه على رقبة جده (ص) وهو يخطب في مسجده ، حتى لقد كان يرى بريق خلخاليه من أقصى المسجد ، وهما يلمعان على صدر جده العظيم ، ثم لا يزال كذلك حتى يفرغ النبي من خطبته (2). وذكر نزول جده رسول الله صلى الله عليه واله من على منبره فزعا وكان هو قد عثر عند باب المسجد ، فحمله وأخذه معه الى منبره ، ثم قال : « أيها الناس ما الولد الا فتنة (3) ». وذكر جده وهو يقول له غير مرة : « أشبهت خلقي وخلقي (4) ». وذكر يوم استيقظ من نومه ، فاذا جده وأمه يتحدثان ، فأقبل على جده قائلا : « يا جداه اسقني » ، فأخذه جده وقام الى لقحة (5) كانت له ، فاحتلبها ثم جاء بالعُلبة (6) وعلى اللبن رغوة ، ليناوله الحسن ، فاسيتقظ الحسين فقال : « يا أبت اسقني » ، فقال له : « يابُنَّي أخوك أكبر منك ، وقد استسقاني قبلك (7) ». وذكر يوم كان طفلا بين يدي أمه فاطمة عليهما السلام ، ودخل عليها أبوها رسول الله صلى الله عليه واله ، ورآه يلعب ، فقال لها : « ان الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا ، بين فئتين عظيمتين من المسلمين (8) ». وذكر من ملامح سلطانه في صباه ، يوم جاء الى أبي بكر وهو على منبر جده رسول الله صلى الله عليه واله ، فقال له : « انزل عن مجلس أبي ! (9) ». 1 ـ الحلية 2 ـ البحار ( ج 6 ص 58 ). 3 ـ المناقب والترمذي والسمعاني وفضائل أحمد. 4 ـ الغزالي والمكي في الاحياء ، وقوت القلوب . 5 ـ الناقة الكثيرة اللبن. 6 ـ العلبة بضم اوله : اناء من جلد أو خشب. 7 ـ كتاب سليم بن قيس ( ص 98 ). 8 ـ العقد الفريد ( ج 1 ص 194 ) والبيهقي ( ج 1 ص 40 ) ، والبخاري والخطيب والسمعاني والحركوشي والجنابذى وابو نعيم في الحلية وينابيع المودة ومروج الذهب وغيرها. 9 ـ الصواعق المحرقة ( ص 105 ) واخرجه الدار قطني. (172)
وذكر جده وقد أخذه معه الى منبره ، فهو يقبل على الناس مرة ، وعليه مرةّ ، ويقول : « ان ابني هذا سيد ولعل الله ان يصلح به بين فئتين من المسلمين (1) ».
وكانت مناظر وجدان مؤثرة في الحسن ، وذكريات تاريخ ملذوذة في النفس بدلت من وحشة اللحظة ، وخففت من عرامة الخطب ، وكانت كل ذكرى تثير ذكريات ، وكل منظر يمرّ يوقظ مناظر أخريات. وانه ليطمئن الى قول جده صلى الله عليه واله ، كما يطمئن الى محكم التنزيل. وها هو ذا جده العظيم يقول له ، وكان صوته الشريف يرنّ بعذوبته المحببة في اذنه ، ويقول لامه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، و يقول ما لا يحصى كثرة : « ان ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ». ويرجع الحسن الى نفسه فيقول : ترى ، هل أراد رسول الله (ص) ان اصالح اليوم أهل الشام ؟. وهل أهل الشام البغاة ، فئة مسلمة يصح أن يعنيها هذا الحديث ؟. وهل هذه هي الفتنة التي أرادني رسول الله (ص) لاصلاحها ؟. أو قد فدنا الكفاية لقمعها من طريق القوة ؟. كل ذلك كان يراود الحسن ، فيثير في نفسه تفاعلا عنيفا ،ينذر بانقلاب تاريخ ، وكل هذه الاسئلة كانت تنتظر الجواب من الحسن استعدادا للمصير الاخير. وبعثت هذه الذكريات بما فيها التوجيه النبويّ الذي استشعر منه الحسن حماية جده له في أحرج ساعاته ، فكرة الانقاذ للموقف ، فيما لو اتيح لهذه الاسئلة أجوبتها المطابقة لمقتضى الحال. ـ نعم ان رسول الله (ص) قال ذلك يقينا دون شك. 1 ـ البخاري و مسلم و الاصابة ( ج 2 ص 12 ). (173)
وان هذه الفتنة هي الفتنة التي عناها فيما لوَّح اليه في أحاديثه الشريفة ، ولا فتنة أعظم من فتنة تشق المسلمين انشقاقهم هذا ، فتلهيهم عما يُراد بهم أعدائهم الواقفين لهم بالمرصاد (1) ، وعما يراد منهم من اعمار وتنظيم وجهاد.
واما الحكم على البغاة بحصانة الاسلام ، فهو ما يشير اليه موقف أمير المؤمنين عليه السلام منهم ، حين منع سبي نسائهم وذراريهم ، وكفى بسيرة أميرالمؤمنين أسوةً صالحة وقدوة في الدين راجحة. واما السؤال عن الكفاية لقمع هذه الفتنة بالقوة ، وهو الحلم اللذيذ الذي هتف به الشيعة المتحمسون بالكوفة ابان النهضة للجهاد. فالجواب عليه ، يتوقف على دراسة الموقف من ناحيتيه المعنوية والعددية معا ، وذلك باستعراض الامكانيات الحاضرة على حقيقتها. والمعنويات في الجيوش هي رمز القوة التي تدخر لربح الوقائع ، وهي أهم بكثير من تصاعد الاعداد التي لا تعزّزها الروح العسكرية الرفيعة. وكان للحسن في مَسكن بقية من جيش ، لا تجد المعنويات سبيلها اليه الا بالمعجزة ، بعد النكبة التي أصيب بها هذا المعسكر بخيانة قائده وفرار ثمانية الاف من أفراده. وفي المدائن ، مجموعة من أشباح ، كشفت الارجافات الدوة المربكة عن نواياها ، فاذا بها لا تفتأ تتلقّف الفتن ، وتهمّ بالعظائم ولا ترجى لميدان حرب ، وهذه هي الناحية المعنوية على واقعها. واما النسبة العددية فقد كان أكبر عدد بلغه جيش الحسن عليه السلام فيما زحف به الى لقاء معاوية عشرين الفا أو يزيدها قليلا ، وكان جيش معاوية الذي عسكر به على حدود العراق ستين الفا!. فللحسن ـ يومئذ ـ ثلث أعداد جيش معاوية. 1 ـ اشارة الى محاولات البيز نطيين عند ثغور الشام سنة 40 هـ. (174)
وجاءت عملية الفرار التي اجتاحت معسكر مسكن والتي انهزم بها ابن العم « ورب ابن عم ليس بابن عم » ـ كما يقول المثل العربي ـ بتمانية الاف !. فتصاعدت النسبة صعودا مريعا.
وبقى الحسن في معسكريه جميعا على الخمس من عسكر معاوية !. واذا اعتبرنا ـ هنا ـ القاعدة العسكرية الحديثة التي تنسب القوة المعنوية الى الكثرة العددية ، بنسبة ثلاثة الى واحد رجعنا الى نتيجة مؤسفة جدا ، هي نسبة واحد الى خمسة عشر. واذا نظرنا الى جيش الحسن الذي بقى ينازل معاوية في مسكن وحده ـ على ضوء هذه القاعدة ـ رأيناه ينازل عدوا يعدّه خمسة واربعين ضعفا بالضبظ. فأين هي الكفاية لقمع فتنة الشام بالقوة ، ياترى ؟ .. ولن تجيز النظم المتبعة لحروب الانسان في التاريخ ، مبارزة واحد لخمسة و أربعين ، ولا محاربة واحد لخمسة عشر. و ما هي ـ ان اتفقت يوما ـ بحرب نظامية ، تنتظرها النتائج ، و انما هي الحملات المستميتة التي تقصد الى الانتحار عن ارادة وعمد. فليكن الحسن ابن رسول الله ، هو ذلك المخلوق الذي ادخره الله للاصلاح لا للحرب ، وللسلام لا للخصام ، وليكن الغرس الذي أنبته الله للمسلمين لا لنفسه ، وللدين لا للسلطان وليكن نصيبه من هذا الموقف في الباقي دون الزائل ، وفي الخالد دون الفاني ، وفي الله دون الناس. وهكذا حالت رسالة الحسن بالسلام ، دون أن يشتبك الفريقان بحرب ما ، وكان ذلك هو الثابت ـ تاريخيا ـ رغم ان بعض المؤرخين حاول التلميح الى موقعة حربية ، بين جيش قيس ، قائد الحسن على مقدمته ـ وبين جند الشام في « مسكن ». وصرح السيد في « الدرجات (175)
الرفيعة » بشيء من أطوار هذه الموقعة المزعومة.
ولا نعرف لهذا النبأ مصدرا جديرا بالاعتبار ، أقدم من السيد الرفيع الدرجات ( السيد على خان المتوفى سنة 1120 هـ ). ولا نجد من دراسة الوضع الراهن يومئذ في مسكن ما يدعم هذا الزعم. ولا نرى من خطة « حقن الدماء » التي كانت طابع سياسة الحسن عليه السلام ، في سائر مراحله ، ما يبعثنا على التسليم لهذا الخبر. ولا نفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه واله « بان الله سيصلح بالحسن بي فئتين عظيمتين من المسلمين » الا كون الحسن رسول السلام في الاسلام. فأنى يكون لجيشه أن يحارب أو يهاجم ؟. وعلمنا من وصية الحسن يوم حضرته الوفاة ، أنه لم يرض أن يهرق في أمر محجمة دم ، فكان في ذلك وفق رسالته التي أردها أو اريد لها. على أن شهود عيان كثيرين يؤكدون : « أنه ولي الخلافة ولم يهرق في خلافته محجمة دم » وقال ذلك بعضهم ، وهو يعزز كلامه بالقسم (1) مرتين. 1 ـ تراجع الاصابة ( ج 2 ص 12 ) ، وابن كثير في تاريخه ( ج 8 ص 8 و 14 ) وغيرهما. (176)
(177)
(178)
لعل أفضل طريقة للاستعانة على تجلية موضوعنا في هذا الفصل ، ان نبدأه بشيء من الكشف الصريح عن المعنيين المختلف عليهما « للخلافة » في عرف المسلمين. وللكلام على الخلافة [ أو حواليها ] ، خطره ومسؤوليته لدى واحد من الجانبيين غالباً ، ولديهما معا أحيانا.
ونحن اذ نفهرس الخلافة هنا كما هي عند الفريقين ، لا نريد أن نأخذ من موضوعها الا بمقدار ما يتصل منه بموضوعنا. ونريد مع ذلك أن نعمد ـ أسطراداً ـ وعلى ضوء ما نضعه من صيغة البحث ، الى تقريب النظريتين المختلفتين ، تقريبا جديرا بأن يخلق من بذرتنا هذه شجرة الاصلاح ، لو وجد الاصلاح في هذه التربة سبيلا للازدهار ، ولا خطر ولا مسؤولية لدى أحد الجانيين ولا لديهما معاً مما نريد ، بل هو الخير كله ، وما في الاصلاح الا الخير للكل. فنقول : الخلافة هي النيابة العامة عن النبي صلى الله عليه واله ، في رياسة المسلمين بعد وفاته ، ولها على الناس الطاعة ، وللناس عليها العمل بكتاب الله وسنة رسوله (ص). واعتاد فريق من المسلمين أن يتقبلوا لهذه النيابة عن النبي (ص) أحدهم فيما لو استطاع أن يدّعيها لنفسه ، اما بالقوة ، كخلافة معاوية الذي « نال الخلافة بحدّ السيف تارةً وبالمكيدة والسياسة تارةً اخرى (1) » ، وكخلافة ابن الزبير ، وأبى العباس السفاح ، وعبدالرحمن الناصر ، وآخرين ، وامّا بالعهد اليه من سلفه الذي كان أخذها بالقوة أو بسبب 1 ـ تاريخ الاسلام السياسي ( ج 1 ص 396 ). (179)
آخر ، كخلافة عمر و يزيد و الرشيد و غيرهم ، و امّا باختيار فئة من المسلمين ايّاه بادىء ذي بدء ، كخلافة أبي بكر ، وعثمان ، ومحمد رشاد.
ورجع الفريق الثاني من المسلمين في تعيين النائب عن الرسول (ص) الى نصوص صاحب الرسالة نفسه ، فلم ينسيبوا عنه الا من أنابه هو فيما اثر عنه. وعلى ذلك جرى الفريقان ، وعلى ذلك كانا فريقين (1). وكما اختلفا في أسباب نصب الخليفة ، اختلفا في قابليته للتغيير والعزل ، فعلى النظرية الاولى ، كان حرياً بالعزل متى وفّق غيره للتغلب عليه ، أو متى وجد اقتضاء آخر ، وعلى نظرية النص ليس لاحد تغييره ولا عزله ، ولن يكون الخليفة المنصوص عليه معرّضاً لنقص يخلّ بمقامه كنائب نبي ، ومن هنا يرمز اليه بالعصمة من الله تعالى شأنه ، كما هي شأن النبي نفسه صلى الله عليه واله وسلم. فالخلافة من النوع الاول سلطة عامة مقيدة بدستور خاص ، وهي بواقعها أشبه بهذه السلطات القائمة اليوم ، لا تختلف عنها الا من ناحية الاختلاف في الدستور ، أو كما تختلف بعض هذه السلطات عن بعض. وقداستها ، فرع قابليات الرجل الذي اختير لها أو الرجل الذي تغلّب عليها ، وأحياناً كان أفضل الناس قدسا ، كما كان في وقت آخر من أشد الناس تمردا على الدين والخلق الصحيح. وهي من النوع الثاني وعلى نظرية النص منصب آلهي تجب له الطاعة ديناً ، كما تجب للنبي ، وما هي بهذا المعنى الا ظل النبوة بمعناها الذي يتصل بالسماء ، ولكنها انما تتصل بالسماء عن طريق النبي ، وهو مصدر روحيتها كما هو مصدر النص عليها. 1 ـ فالفريق الاول هم السنة ، والفريق الثاني هم الشيعة. ووافق الشيعة أكثرية المعتزلة فقالوا « لا امامة الا بالنص والتعيين ». يراجع « آراء المعتزلة السياسية » ( ص 15 ) ، مجلة الالواح ( ع 11 س 1 ). (180)
أما قداستها فطبيعية ثابتة لها ، ثبوتها للنبوة نفسها. ولا خليفة من خلفاء النص ، الا كان أقدس شخصية في الناس وأفضلهم.
وقديما كان موضوع « الخلافة » مثار شغب عنيف بين المسلمين ومصدر مآسٍ كثيرة مؤسفة في تاريخ الاسلام. وما كان من السهل ولا من الممكن يومئذ ، ما نظنه اليوم ممكنا وسهلاُ ، في موضوع تقريب الفريقين بعضهما من بعض ، و جمعهما على نصف من الرأي ، ينبذ به الخلاف ، و يؤخذ معه بالواجب من الاخوة و النجوح الى الاصلاح. وذلك هو ما يقتضيه الاهتمام بالجوهر دون الاعراض ، وبالدين الصحيح دون الاغراض ، وذلك هو الاسلام الذي يجب أن يتصل به المسلم الى الله على حقيقته ، دون أن تخدعه العنعنات أو العواطف أو المؤثرات. وقضية الدين ـ وهو العلاقة بين العبد وربه و هو النقطة التي يرتكز عليها مسقبله في حياته الاخرى ـ لا تشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها ، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة ، أو لعواطف أو المؤثرات. وقضية الدين ـ وهو العلاقة بين العبد وربه وهو النقطة التي يرتكز عليها مستقبله في حياته الاخرى ـ لاتشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها ، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة ، أو لعواطف الانسان وميوله وعصبياته. أمّا صاحب الدين ،فلا همّ له في دينه الا الواقع مجرداً. ولا نريد الآن ، في موضوع الخلافة ، الا جمع الكلمة على الواقع المجرد دون أيّ تصرّف أو تحريف. فيعترف الشيعي بالخلافة ( من النوع الاول ) على واقعها يوم وقعت [ ولا ينبغي للاعتراف بأمرٍ ما أن يجاوز واقعه ] بوصفها سلطة عامة قائمة بين المسلمين ، لها ما تستحقه من الاطراء في كثير من آثارها في الاسلام. ويعترف السني بالخلافة ( من النوع الثاني ) على واقعها ايضا بوصفها |
|||
|