|
|||
(286)
وزاد أبو اسحق السبيعي (1) فيما رواه من خطبة معاوية قوله : « الا وان كل شيء أعطيت الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به !! ».
قال أبو اسحق : « وكان واللّه غداراً (2) ». ثم تطلع الناس ، فاذا هم بابن رسول اللّه الذي كان أشبههم به خلقاً وخلقاً وهيبة وسؤدداً ، يخطو من ناحية محراب أبيه في المسجد العظيم ليصعد على منبره. وفي غوغاء الناس ولع بالفضول لا يصبر عن استقراء الدقائق من شؤون الكبراء ، فذكروا لجلجة معاوية في خطبته ، ورباطة الجأش الموفورة في الحسن وقد استوى على أعواده ، وأخذ يستعرض الجموع الزاخرة التي كانت تضغط المسجد الرحب على سعته ، وكلها ـ اذ ذاك ـ أسماع مرهفة لا همَّ لها الا أن تعي ما يردّ به على معاوية ، فيما خرج به عن موضوع الصلح ، فنقض العهود وأهدر الدماء وتطاول على الاولياء. وكان الحسن بن علي (ع) أسرع الناس بديهة بالقول ، وأبرع الخطباء المفوَّهين على تلوين الموضوعات ، فخطب في هذا الموقف الدقيق ، خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيت عليهم السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ووعظ ونصح ودعا المسلمين ـ في أولها ـ الى المحبة والرضا والاجتماع ، وذكّرهم ـ في أواسطها ـ مواقف أهله بل مواقف الانبياء ، ثم ردّ على معاوية ـ في آخرها ـ دون أن يناله بسب أو شتم ، ولكنه كان بأسلوبه البليغ ، أوجع شاتم وسابّ. قال : « الحمد للّه كلما حمده حامد ، وأشهد ان لا اله الا اللّه كلما شهد له شاهد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ، وائتمنه على 1 ـ هو عمرو بن عبد اللّه الهمداني التابعي ، الذي يقال عنه أنه صلى اربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة ، وكان يختم القرآن في كل ليلة ، ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث. 2 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 16 ). (287)
الوحي ، صلى اللّه عليه وآله وسلم. أما بعد ، فواللّه اني لارجو أن اكون قد اصبحت بحمد الله ومنّه ، وأنا انصح خلق اللّه لخلقه ، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ، ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وانَّ ما تكرهون في الجماعة ، خير لكم مما تحبون في الفرقة ، الا واني ناظر لكم خيراً من نظركم لانفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردّوا عليَّ رأيي. غفر اللّه لي ولكم ، وأرشدني واياكم لما فيه المحبة والرضا (1) ».
ثم قال : « أيها الناس ، ان اللّه هداكم بأولنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وان لهذا الامر مدة ، والدنيا دول. قال اللّه عزّ وجل لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : قل ان ادري أقريب ام بعيد ما توعدون. انه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين (2) ». ثم قال : « .. وان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً ، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه. ولم نزل ـ أهل البيت ـ مظلومين منذ قبض اللّه نبيه. فاللّه بيننا وبين من ظلمنا ، وتوثب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ، ومنع أمَّنا ما جعل لها رسول اللّه. واقسم باللّه لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله ، لاعطتهم السماء قطرها والارض بركتها ، ولما طمعت فيها يا معاوية .. فلما خرجت من معدنها ، تنازعتها قريش بينها ، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء ، أنت وأصحابك. وقد قال رسول اللّه : ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه ، الا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً ، حتى يرجعوا الى ما تركوا. فقد ترك بنو 1 ـ الارشاد للشيخ المفيد ( ص 169 ـ طبع ايران ). 2 ـ المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 61 ـ 62 ) ، وابن كثير ( ج 8 ص 18 ) ، والطبري ( ج 6 ص93 ). (288)
اسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم ، واتبعوا السامريّ ، وتركت هذه الامة أبي وبايعوا غيره وقد سمعوا رسول اللّه يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا النبوة ، وقد رأوا رسول اللّه نصب أبي يوم غدير خم ، وأمرهم ان يبلغ أمره الشاهدُ الغائب. وهرب رسول اللّه من قومه وهو يدعوهم الى اللّه ، حتى دخل الغار ، ولو أنه وجد أعواناً لما هرب ، كف أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يغث. فجعل اللّه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه ، وجعل اللّه النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد اعواناً. وكذلك أبي وأنا في سعة من اللّه ، حين خذلتنا هذه الامة. وانما هي السنن والامثال يتبع بعضها بعضاً (1) ».
ثم قال : « فوالذي بعث محمداً بالحق ، لا ينتقص من حقنا ـ أهل البيت ـ أحد الا نقصه اللّه من عمله ، ولا تكون علينا دولة الا وتكون لنا العاقبة ، وَلتعلَمُنَّ نبأه بعد حين (2) ». ثم دار بوجهه الى معاوية ثانياً ، ليرد عليه نيله من أبيه ، فقال ـ وما أروع ما قال ـ : « أيها الذاكر علياً ! أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول اللّه وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة وجدتك فُتيلة ـ فلعن اللّه أخملنا ذكراً ، والأمنا حسباً وشرنا قديماً وحديثاً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً !! ». قال الراوي : « فقال طوائف من أهل المسجد : آمين. قال الفضل بن الحسن : قال يحيي بن معين : وانا أقول آمين. قال ابو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل : وانا اقول آمين. ويقول علي بن الحسين الاصفهاني 1 ـ البحار ( ج 10 ص 114 ). 2 ـ المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 61 ـ 62 ). (289)
( أبو الفرج ) : آمين قال ابن أبي الحديد : قلت ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب ( يعني شرح النهج ) : آمين (1) ».
اقول : ونحن بدورنا نقول : آمين. وهذه الخطبة هي الوحيدة في تاريخ الخطابات العالمية ، التي حظيت بهتاف الاجيال على طول التاريخ. وكذلك قول الحق ، فانه لا ينفك يعلو صعداً ولا يعلى عليه. وتجهز الحسن ـ بعد ذلك ـ للشخوص الى المدينة ، وجاءه من سراة شيعته المسيب بن نجية الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه ، فقال الحسن : « الحمد للّه الغالب على أمره. لو أجمع الخلق جميعاً على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا ». وتكلم المسيب وعرض اخلاصه الصميم لاهل البيت (ع). فقال له الحسين (ع) : « يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا » وقال الحسن (ع) : « سمعت أبي يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : من أحب قوماً كان معهم ». ثم عرض له المسيب وظبيان بالرجوع ، فقال : « ليس الى ذلك سبيل ». فلما كان من غد خرج من الكوفة ، وشيعه الناس بالبكاء !! ولم تكن اقامته فيها بعد الصلح الا اياماً قلائل. فلما صار بدير هند (2) ( الحيرة ) نظر الى الكوفة وقال :
1 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 16 ). 2 ـ هند هذه ، هي بنت النعمان بن المنذر ، وكانت مترهبة في ديرها هذا بالحيرة. 3 ـ يراجع عما سبق شرحالنهج ( ج 4 ص 6 ). (290)
تاريخها الطويل العريض ، الا وفاء الاوفياء « المانعين الحوزة والذمار » وهم الذين منعوا عنه من أراده في المدائن ، والذين ثبتوا على طاعته يوم العسرة في مسكن ، فكانوا اخوان الصدق وخيرة الانصار ، على قلتهم.
ثم سار الموكب الفخم الذي كان يقل على رواحله ، بقية اللّه في الارض ، وتراث رسول اللّه (ص) في الاسلام ، وقد ضاقت بهم الكوفة أو ضاقوا بها ، فيمموا شطر وطنهم الاول ، ليمتنعوا هناك بجوار قبر جدهم الاعظم من مكاره الدهر الخوان. وصبَّ اللّه على الكوفة بعد خروج آل محمد منها ، الطاعون الجارف ، فكان عقوبتها العاجلة على موقفها من هؤلاء البررة الميامين. وهرب منها واليها الاموي [ المغيرة بن شعبة ] خوف الطاعون ، ثم عاد اليها فطعن به فمات (1). 1 ـ ارجع الى المسعودي على هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 97 ). (291)
(292)
لعلك تتفق معي على أنَّ من أدق المقاييس التي توزن بها شخصيات الرجال فيما يضطربون فيه من محاولات ، هو موقفهم من شروطهم التي يأخذونها على أنفسهم راغبين مختارين. وما من انسان معنيّ بانسانيته يعطي الشرط من نفسه ، الا وانه ليعلم ما يستوبله في شخصيته وفي سمعته وفي ذمامه اذا هو حنث في شرطه أو رجع عن وعده أو نقض ميثاقه الذي واثق على الوفاء به. ومن السهل ان نتصور انساناً يستميت في سبيل الوفاء لقولٍ قاله أو عهدٍ أعطاه ، لانه انما يموت ضحية خلق رفيع خسر به الحياة المحدودة فربح به الحياة التي لا حدَّ لها ، وبنى ـ الى ذلك ـ لبنةً جديدة في صرح الانسانية المثالية التي لا تفتأ تتعاون على نشر الخير في المجموع.
أما ذلك الخائس بعهده الحانث بيمينه الكاذب بمواعيده ، الذي بسم لصاحبه وهو يخادعه على شروطه ، ثم عبس وتولّى وندم على ما أعطى ، فليس من السهل أن نتصوره انساناً ، ولكنه عدو الانسانية بما هدم من قواعدها وشلَّ من مقرراتها ، وعدوّ نفسه بما عرضها للنقمة والاحتقار وسوء السمعة والحرمان من ثقة المجتمع. ولن ينفعه ـ بعد ذلك ـ أن يقول أو يقال عنه : ان الغاية تبرر الواسطة ـ فان هذا الاعتذار بذاته جريمةٌ كاملة لا يتسع لها صدر الغفران. وللغايات ـ على اختلافها ـ قيمتها الاعتبارية التي تواضع عليها الناس ، فليكن لكل غايةٍ واسطتها التي تتناسب وغايتها في الاعتبار ، ولن تكون الغاية شريفةً قطُّ الا اذا قامت على وسائط شريفةٍ أيضاً. وكان من الخير العام ، أن يتواضع المجموع منذ بناية المجتمع ، على اعتبار « اليمين » و « العهد » ضماناً في الاخذ والردّ ، وأن تتضافر الاديان (293)
السماوية كلها على أن العهد كان مسؤولاً ...
ولعل من الافضل أن نستمع هنا الى ما عهد به أمير المؤمنين علي عليه السلام للاشتر النخعي في هذا الموضوع ، قال : « وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، او البسته منك ذمةً فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالامانة ، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت. فانه ليس من فرائض اللّه شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ، لما استوبلوا من عواقب الغدر ، فلا تغدرنّ بذمتك ولا تخيسنَّ بعهدك ولا تختِلَنَّ عدوَّك ، فانه لا يجترئ على اللّه الا جاهل شقي. وقد جعل اللّه عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون الى منعته ويستفيضون الى جواره ... ». أقول : واذا رجعنا بعد الالمام بهذه الحقائق الى موضوعنا ، رأينا أن الشروط التي أخذها الحسن بن علي (ع) على معاوية فيما تم بينهما من التعاهد على الصلح ، كانت أكثر شروط عرفها التاريخ عهوداً مؤكدةً وأيماناً مغلَّظة ، وكان معاوية هو الذي كتب نسختها الاخيرة بقلمه ووقعها بخاتمه. ولم يكن بدعاً أن يترقب الرأي العام الاسلامي ، يومها ، الوفاء بها كما يجب لمثل هذه العهود والايمان ، وكما هو الانسب بشخصيتين من هذا الطراز في الاسلام. اما تلك المفاجأة الغريبة التي سبق اليها معاوية في خطابه على منبر الكوفة ، ولما يمض على امضائه المعاهدة الا أيام ربما كانت لا تزيد على أسبوع واحد ، فقد وقعت في المجتمع الاسلامي وقوع الصاعقة التي لا يسبقها انذار. فقال ( على رواية المدائني ) كما اشير اليه آنفاً : « وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين ! » ، وصرَّح ( على رواية أبي اسحق السبيعي ) بقوله : « ألا ان كل شيء أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي (294)
هاتين لا أفي به ! » ثم شهد عليه الحصين بن المنذر الرقاشي قائلاً : « ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه ، قتل حجراً واصحاب حجر ، وبايع لابنه ، وسمَّ الحسن !! (1) ».
وهكذا قدّر لهذا الرجل الواسع الممتلكات الضيق الملكات أن يعود بعد حنثه بأيمانه علناً ، ونقضه لمواثيقه صراحةً ، أبعد الناس عن ثقة الناس ، وأقلهم وزناً في المقاييس المعنوية التي يتواضع عليها الناس ، وكان جزاءً وفاقاً ، أن ينكره أكثر المغرورين بما كان أنكر هو عهوده ومواثيقه ، وأن يضعوه من أنفسهم في المحل الذي وضع هو شروطه من نفسه .. وما يدرينا ، فلعلنا الآن عند مفترق الطريق بين الماضي المغلوب والمستقبل الغالب ، الذي سينكشف عنه الصراع التاريخي بين الحسن ومعاوية. ولعلنا الآن على أبواب الخطة الجبارة التي نزل الحسن بن علي (ع) من طريقها الى الصلح ، والتي فرضت ارادتها على معاوية أبعد ما يكون في المعروف من دهائه عن الفشل في الخطط التي تمسه في الصميم من مصالحه. وكان الحسن ـ كما نعلم ـ أعرف الناس بمعاوية وبحظه من الصدق والوفاء ، وهو اذ يأخذ عليه الصيغ المغلّظة في الايمان والعهود ، لا يقصد من ذلك الى التأكد من صدقه أو وفائه ، ولكن ليكشف للاغبياء قابليات الرجل في دينه وفي ذمامه وفي شرفه بالقول. وانها للمبادأة الاولى التي ابتدأ الحسن عليه السلام زحفه منها الى ميدانه الثاني. ومن هنا وضعَ أول حجرٍ في البناء الجديد لقضية أهل البيت (ع). ثم مشى موكب الزمان ، فاذا بالخطوات الموّفقة تمشي وئيداً مع الزمان واذا بطلائع النجاح كفيالق الجيش التي تتلاحق تباعاً لتتعاون على الفتح. وان من الفتوح ما لا يعتمد في أداته على السلاح ، ومنها ما يكون وسائله الاولية أشبه بالهزيمة ، حتى ليخاله الناس تسليماً محضاً ، ولكنه 1 ـ يراجع ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 16 و6 و7 ). (295)
في منطق العقلاء ، ظفر لامع وفتح مبين.
وكان من أبرز الخطوات التي وفقت اليها خطة الحسن عليه السلام عن طريق الصلح ، في سبيل التشهير بمعاوية حياً وميتاً ، والنكاية ببني أمية اطلاقاً. 1 ـ أنها ألَّبَت على معاوية في بداية عهده الاستقلالي عدداً ضخماً من الشخصيات البارزة في المملكة الاسلامية. فلعنه صراحةً بعضهم ، وخبَثه آخر ، وقرعه وجاهاً ثالث بل ثلاثة ، وقاطعه رابع ، وانكر عليه حتى مات غماً من فعاله كبير خامس ، وقال فيه أحدهم : « وكان واللّه غداراً ». وقال الآخر (1) : « اربع خصال كنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقةً ». وقابله على مثل ذلك كثير من سادة وسيدات ، لسنا الآن بصدد احصائهم ، أو استيعاب كلماتهم. 2 ـ وخلقت له معارضة الطبقات التي شملتها بنود المعاهدة ، سواء في الامان المفروض فيها ، أو في الحقوق المالية المنصوص عليها. فاذا بعالم عظيم من الناس أصبح ينظر الى معاوية نظره الى العدوّ الواتر في النفس والمال ، بما نقضه من شروطهم ، في نفوسهم وأموالهم. 3 ـ وظن معاوية أنه سيجعل من نقضه معاهدة الحسن وضعاً شكلياً لبيعة ابنه يزيد ، يتغلب به على عنعنات الاسلام المقررة بين المسلمين في أمر البيعة وصلاحية الخلافة. ولكنه لم يلبث أن اصطدم بالواقع ، فاذا بهذه البيعة الجديدة ، 1 ـ كان الذي لعنه صاحبه سمرة ، والذي وصفه بأخبث الناس صديقه المغيرة ، وكان الذي قرعه وجاهاً عائشة وآخرون ، والذي قاطعه مالك بن هبيرة السكوني ، والذي مات غماً من فعاله الربيع بن زياد الحارثي ، وكان السادس أبا اسحق السبيعي ، والسابع الحسن البصري. ويراجع عن ذلك شرح النهج وابن الاثير ومروج الذهب وغيرها. (296)
مثار النقمة الاسلامية العامة التي اصبحت تتحسس منذ ترشيح يزيد للخلافة بنوايا بني أمية من الاسلام.
4 ـ ثم كانت البوائق الدامية التي جهر بها معاوية بعد نقض الصلح ، في قتله خيار المسلمين ـ من صحابة وتابعين ـ بغير ذنب ، عوامل أخرى للتشهير به ، ولتحطيم معنوياته المزعومة ، تمشياً مع الخطة المكينة ، التي أرادها الامام الحسن (ع) منذ قرر الاقدام على الصلح. 5 ـ وقضية الحسين في كربلاء سنة (61) هجري ، كبرى قضايا الحسن فيما مهد له من الزحف على عدوهما المشترك ، وعدو أبيهما من قبل. ولا ننسى أنه قال له يوم وفاته : « ولا يوم كيومك أبا عبد اللّه ». وهذه الكلمة على اختزالها ـ المقصود ـ هي الرمز الوحيد الذي سُمع من الحسن عليه السلام ، فيما يشير به الى الخطة المقنَّعة بالسر ، التي اعتورها الغموض من ست جهاتها ، منذ يوم الصلح الى يوم صدور هذا الكتاب. وانك لتقرأ من هذه الكلمة لغة « القائد الاعلى » الذي يوزّع القواد لوقائعهم ، ويوزع الايام لمناسباتها ، ثم يميز أخاه ويوم أخيه فيقول : « ولا يوم كيومك .. ». وكان من طبيعة الحال ان تبعث المناسبات الزمنية حلقات الخطة كلاً ليومها. وكان لابد لكل حلقة أن توقظ الاخرى ، وأن تؤرث السابقة اللاحقة ، وتوقد الاولى جذوة الثانية ، وهكذا دواليك. وحسبَ الحسن لكل هذه الخطوات حسابها المناسب لها ، منذ قاول معاوية على هذا الصلح المعلوم ، ودرس ـ الى ذلك ـ نفسيات خصومه بما كانت تشرئب له من النقمة عليه وعلى أخيه وعلى شيعته وعلى أهدافه جميعاً. وكانت هذه المطالعات بنطاقها الواسع ، الاساس الذي بنى عليه الحسن خطواته المستقبلة فيما مهَّده لنفسه ولعدوه معاً. (297)
وكان من طبيعة الحال ، أن تلقي هذه الخطوات قيادتها الى الحسين فيما لو حيل بين الحسن وبين قيادتها بنفسه. وهذا هو ما أردناه في بداية هذا القول.
وهكذا كانت نهضة الحسين الخالدة الخطوة الجبارة في خطة أخيه العبقري العظيم. ولا تزال فاجعة كربلاء التي استوعبتها كل لغات الارض ، اللطخة السوداء التي صبغت تاريخ أمية بالعار ، مادام لكربلاء رسم ، ولامية اسم. 6 ـ ثم لم تزل الخطة البعيدة الاهداف ، تستعرض في الفترات المتقاربة التاريخ ، بعد واقعة الحسين عليه السلام بكربلاء ، سلسلة أحداث قانية انبثقت من صميم الوضع الاموي المتشابه في أكثر ملامحه ـ بين عهد معاوية وابن عمه « الحمار » (1) ـ. وعادت الاموية في عرف المسلمين المعنيين باسلاميتهم الحكومة الجائرة المتغلبة بالظلم والاسراف وبالتحلل من كثير كثير من النواميس الدينية. واشتدت نقمة الناس عليها مع تمادي الايام ، وكان أيّ علم يرفع لحرب بني أمية ، لا يعدم الالوف وعشرات الالوف من المبايعين له على الموت. 1 ـ هو مروان الاموي الذي انقرضت دولة بني أمية على يده ـ ويلقب « بالحمار » و « بالجعدي » نسبة الى مربيه ( الجعد بن درهم ). وكان ابن درهم زنديقاً فعلمه مذهبه ، وكان الناس يذمونه بنسبته اليه. ولما تعقب الفاتحون العباسيون مرواناً في هزيمته ، أودع حرمه ( الكنيسة ) في بوصير !. فأين هو عن المساجد يا ترى ؟ ـ يراجع ابن الاثير ( ج 5 ص 159 و 160 ). (298)
اذاً ، فلتكن عملية الصلح ـ على هذا ـ البذرة المستمدة من صميم مصلحة الاسلام ومصلحة أهل البيت عليهم السلام ، ومن الوحي ايضاً. وليعد الحسن بن علي عليهما السلام بعد أقل من قرن ، الغالب المنتصر على الخصوم المغلوبين ، المنهزمين في التاريخ.
خطوات موفقات ، وسياسة صاعدة لا تبلغها السياسات ، في صمت وتواضع واتئاد ، وتحت ظل اصلاح وتسليم وحقن دماء. وهل العظمة شيء آخر غير هذا ، ياترى ؟. (299)
(300)
عرفنا ـ الى هنا ـ بواعث كل من الفريقين فيما تطلعا به الى الصلح. وعرفنا شروط كُلٍ فيما اعتبره ضماناً لبواعثه تلك.
وعرفنا ـ بعد ذلك ـ أنهما أرادا الجنوح الى التصالح عملياً ، فاجتمعا في الكوفة ، وكان من المنتظر لهذا الاجتماع التاريخي أن يبعث بينهما من التقارب ما لم تبعثه الصكوك التحريرية ولا المقاولات الرسمية ، التي تبودلت بينهما في الصلح ، لولا أن معاوية لم يشأ ان يلتزم في هذا الاجتماع جانب المجاملة ، رغم أنه كان في ظرفه الخاص أحوج الرجلين الى هذا النمط من السلوك ، وانه ليمر ـ اذ ذاك ـ بأدق امتحان في سياته العامة وفي شخصيته كملك يريد ان يحكم شعباً ما أحبه منذ أبغضه ـ على حد تعبير الاحنف بن قيس ـ ، فاجتمع بالحسن ولكن كما يجتمع « ابن أبي سفيان » بابن فاتح مكة ، لا كما يجتمع متناجزان القيا السلاح وتبادلا وثائق الصلح ، وكان من هذا الخلق الثابت لمعاوية ـ رغم ما يتكلفه من الحلم الكثير أحياناً ـ ما هو أداة الحسن في حملته المنظمة التي جردها عليه في ( ميدانه الثاني ) ـ كما اشير اليه في آخر فصل مضى ـ. واذ قد عرفنا ذلك كله من فصولنا القريبة السابقة ، فلنعرف الآن موقف كلٍّ من شروطه وفاءً ونقضاً. وها نحن أولاء من هذه المرحلة بازاء النقطة الحساسة التي طال حسابها في التاريخ. وكان بودنا لو طوينا كشحاً عن استنطاق هذا الموضوع ، بما تثيره تفاصيله من ذكريات : بعضها ألم ، وبعضها فضيحة سافرة ، وقليل منها تاريخ تعافه الامجاد. ولكننا ـ وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب مهمة البحث التحليلي المكشوف ، عن قضية الحسن ومعاوية ـ لا نجد مجالاً |
|||
|