11
12
13
1
هلال شوال ما يزال مبتسماً فقد اشرق زمن الحرية ، وانتهى الى أمد ليل الطاغية الطويل . .
الخليفة الجديد يتخذ قرارات تنم عن ارادة في أن يسود الخير والسلام ربوع البلاد . .
ولكن لعنة غامضة ما تزال تطارد الشاب الذي أقدم على اغتيال والده في تلك الليلة الخريفية من سنة 861 م .
عمت الفرحة انحاء البلاد وكان أكثر الناس فرحاً العلويون الذين ابتهجوا بالسياسة الجديدة . .
فقد الغيت الاجراءات التعسفية كما اطلقت جميع أموالهم المجمدة وافرج عن السجناء الذين اعتقلوا لتهم واهية ، أو بسبب زيارة مرقدي الإمام علي في النجف ونجله سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم الامام الحسين في كربلاء .
وخلال فترة وجيزة تم بناء مرقد الامام الحسين الذي ظل طوال عقد من السنين ارضاً زراعية وتكربها وتجوسها ثيران الحراثة كل عام .
14
احدث سقوط الطاغية دوياً كبيراً هز المجتمع الاسلامي وكانت سامراء التي هي مركز الزلزال في طليعة المدن التي هزها الحادث .
على أن الدفء الذي غمر الأرض بعد شتاء قارس لم يدم طويلاً فلقد اسفر المشهد الجديد عن وجود قوى تريد كسب المزيد من الثراء والنفوذ والسلطان .
فقد وجد « محمد المنتصر » نفسه محاصراً في قصره بسامراء . .
كل ما استطاع فعله حتى الآن أنه أمر باخلاء العاصمة الجديدة « المتوكلية » بل وهدم جميع منشآتها ونقل مواد البناء الى سامراء فالمتوكلية مشروع فاشل ولد ميتاً لأن مشروع النهر الذي يعد شريان حياتها كان فاشلاً فتحققت نبوءة الرجل المبارك « علي بن محمد » .
نحن ، الآن في نهايات عام 247 هـ مطلع العام الميلادي الجديد 862 م . . وزعماء الحركة الانقلابية من ضباط الحرس والجيش الاتراك قد بلغوا ذروة نفوذهم ويريدون الآن تحقيق اكبر ما يمكن من التسلط « وصيف » « بغا الشرابي » « أوتامش » و « باغرا » ، وقد ظهرت شخصية انتهازية ظهور النباتات المتسلقة تلك هي شخصية رئيس الوزراء الجديد « احمد بن الخصيب » وقد بدا واضحاً أنه قد كسب ثقة الاتراك .
15
المشهد الآن داخل القصر . . خليفة شاب في الخامسة والعشرين من العمر ، يمتاز برجاحة عقل وحسن تدبير انه يفكر بانقاذ الخلافة من براثن النفوذ التركي
المتسلط . . واستعادة المجد العباسي . .
أربعة ضباط اتراك يضمر كل منهم للآخر الكيد ويحاول افتراس صاحبه قبل أن يفترسه ، فيما ظهر ابن الخصيب حرباء تتلون حسب الظروف وأفعى تنفث سمها وحقدها في كل اتجاه .
أما بغا الكبير فقد كان يخطو خطواته الأخيرة نحو القبر بعد أن ذرف على التسعين . . لقد اكتفى بمساندة الاتراك وتأييد الحركة الانقلابية فقط . . ما دام ابنه بغا الصغير المعروف بالشرابي أحد قادتها ومنفذيها .
شعر المنتصر أنه ارتكب خطأ فادحاً بتعيينه أحمد بن الخصيب رئيساً للوزراء ، خاصة بعد أن تناهت اليه حادثة مؤلمة (1)
أثارت استياء الناس .
كان المنتصر قد كسب شعبية ومحبوبية بين الناس بسبب سياسته المعتدلة وتخفيفه من محنة العلويين ولكن ثمة أشياء كانت تلقي ظلالها على وجه المنتصر أنه في كل الاحوال قاتل أبيه ، وقاتل الأب لكن يكون طيباً في نظر الناس مهما تفانى في طيبته ! ان سياسة رئيس الوزراء ونفوذ الزعامات التركية قد اصبح واقعاً مريراً يحس بوطأته الشعب ، وكان المنتصر يدرك ذلك جيداً ،
16
ولذ اجتاحته مشاعر الندم المريرة منذ بدء العام الهجري الجديد الذي أطل مع ربيع سنة 862 هـ .
واضحى قصر « المحدث » بؤرة للمؤامرات والدسائس من جديد ، وما أثار مخاوف الاتراك ان المنتصر قد اصبح كئيباً يعاني من موجات حزن تنتابه بين فترة وأخرى .
كان قمر محرم الحرام بدراً بهياً ، ولم تفلح نسائم آذار المنعشة في أن تدخل البهجة على النفس المعذبة . . . « المنتصر » يعيش احزانه وحيداً تحاصره مشاعر الندم . . ما الذي فعله ؟ ! . . ان كل شيء كان يحلم في تحقيقه يتحطم على صخرة التعسف التركي البغيض . . هؤلاء القتلة الذين مزقوا أبي إرباً ارباً فعلوا ذلك لكي تصبح الخلافة العوبة بايديهم . . ها أنا اصبح دمية في أيديهم . . واجتاحته موجة من الغضب فغمغم ولكن باصرار :
ـ سوف أمزقهم جميعاً . . قتلني الله ان لم اقتلهم وافرق جمعهم (2) !
لكنه يشعر باليأس . . اليأس من الاصلاح وكيف يمكنه مقاومة العاصفة المجنونة . .
ان هؤلاء الاجلاف قد استعذبوا التسلط . . سيوفهم في أيديهم . . والخناجر ؛ واسهل ما عندهم ذبح الانسان من الوريد الى الوريد . . الذين يعرفون « المنتصر » يعرفون مأساة الذي اكتشف أنه لم يحصد سوى الريح . .
17
في المساء امتطى المنتصر حصانه والهبه بالسياط فانطلق به نحو الافق البعيد لكأنه يريد الهرب لا يدري الى أين ؟ ! وعندما عاد الى القصر كان يتصبب عرقاً (3)
فألقى بنفسه في إيوان كانت تهب خلاله نسائم باردة .
القصر يكاد يكون مهجوراً ذلك المساء . . ولم يكن أحد يستطيع الاقتراب من المنتصر هيبة له . . انه يفضل أن يكون وحيداً مع احزانه وعذاباته . .
لم يغف المنتصر طويلاً حتى هبّ من نومه مرعوباً . . يبكي . . تطارده اشباح مخيفة . .
ونهض من مكانه يدور في أروقة القصر لكأنه يبحث عن شيء وعندما وقعت عيناه على أحد موظفي القصر قال له بحزن :
ـ اين ذلك البساط (4) ؟
وأدرك أيوب قصد الخليفة :
ـ عليه آثار دماء فاحشة . . وقد عزمت أن لا أفرشه من ليلة الحادثة .
قال المنتصر :
ـ لم لا تغسله وتطويه ؟
ـ اخشى أن يشيع الخبر عندما نفرشه ؟
قال المنتصر بمراراة :
ـ وهل تظن ان الحادثة بقيت سراً . . ان الأمر اشهر من ذلك . .
18
2
تنفس العلويون الصعداء . . في الحجاز . . والعراق . . ولأول مرة
ومنذ اكثر من ربع قرن زالت عنهم هواجس الخوف والتشرد ، وذاقوا حلاوة الأمن والحرية . . وفي هذه الفترة الوجيزة تحسنت اوضاعهم المعيشية ، وشد بعضهم الرحال الى العاصمة سامراء . . خاصة بعد إعادة « فدك » تلك الأرض الزراعية الخصيبة وكانت « حكيمة » شقيقة الامام علي الهادي في طليعة الوافدين وقد جاءت مصطحبة معها ابن الامام الاكبر محمد الذي يكنى بأبي جعفر وله من العمر ثمانية عشر عاماً .
وتمكنت السيدة حكيمة من شراء بيت قريب من بيت شقيقها الحبيب . . وبدا للكثير منهم أن الزمن يبتسم لأبناء علي بعد عبوس طويل . . ولكن الى حين .
فلقد بدا واضحاً أن القادة الاتراك يمسكون بقبضات فولاذية على مقاليد الحكم ، وسكنت حمى النفوذ وشهوة الحكم نفوسهم .
فقد تستحيل همسة في البلاط الى هاجس مخيف ، وكان المنتصر يدرك سوء الاوضاع فاقدم على خطوة جريئة ، عندما
19
وصلته انباء مؤكدة عن تحركات عسكرية بقيادة الامبراطور تيفوئيل تستهدف اجتياح مدن مصر الساحلية . .
ولذا استدعى وصيف قائلاً له :
ـ ان طاغية الروم يهدد حدودنا بغزو وشيك . . وليس هناك من يستطيع صده إلا أنا أو أنت فما رأيك . . فاما أن تتوجه أنت أو أنا ! !
قال وصيف :
ـ بل أنا !
وهكذا بدأت الاستعداد على قدم وساق في تجهيز حملة عسكرية لصد الغزو الرومي القادم .
وقد ورد في وثيقة الحملة إجراء اثار هواجس « وصيف » وهو ضرورة مرابطة وصيف في الجبهة الشمالية مدة أربع سنين وستكون عودته بتصريح من الخليفة نفسه (5).
وقد لقيت هذه الخطوة ترحيباً من قبل ابن الخصيب بسبب عداء شخصي مع وصيف (6) .
ولكن حالة المنتصر النفسية فيما يبدو كانت تتدهور نحو الأسوأ . . واستحالت لياليه الى كوابيس .
وكان دائم النظر الى السجادة التي شهدت مصرع أبيه يتأمل في بقع الدماء التي لم تفلح المياه في ازالتها تماماً . .
وما ضاعف فجيعته صور ونقوش بالفارسية أثارت اهتمامه وفي إحدى دوائر السجادة الفارسية فارس متوج تحيطه كتابة
20
فارسية فسأل عن معناها . .
قطب المترجم حاجبيه واعتصم بالصمت . . ولكن المنتصر اصر على ترجمتها فقال المترجم :
ـ الكتابة تقول : أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز . . قتلت أبي فلم اتمتع بالملك إلا ستة اشهر .
واجتاحت المنتصر موجة من الحزن المرير ، فجلس عند الصورة فيما غادر الجميع المكان . .
أثارت هذه التصرفات هواجس الاتراك ، فقد ينتقم المنتصر لأبيه وكان ابن الخصيب يزيد من مخاوفهم من وجود « المعتز » و « المؤيد » فهناك ميثاق رسمي يقضي بانتقال الخلافة الى المعتز في حالة موت المنتصر !
وفي مطلع صفر عاد وصيف الى سامراء بذريعة واهية وبدأ التخطيط لدفع المنتصر الى خلع المعتز والمؤيد من ولاية العهد .
في البداية قاوم المنتصر هذه الضغوط ولكنه شعر أن رفضه لذلك سيؤدي الى تفكير الاتراك باغتيال أخويه سيما وأن الظروف السياسية السائدة مواتية .
القي القبض على الاميرين « المعتز » و « المؤيد » ليلاً ونقلا الى حجرة في القصر . .
تساءل المعتز بعدما أغلقت عليهما الباب :