81
11
مضت أربعة فصول وأطل عام 254 هـ واطل معه عام ميلادي جديد بعد ليلة خريفية طويلة (69) ..
رياح كانون الثاني تجمد السواقي وتحيل بساتين الرمان وعرائش الكروم الى أعواد يابسة ..
كل شيء ينذر بوقوع حوادث مثيرة .. كان المعتز ومن ورائه والدته يقود حملة رهيبة لتصفية جميع خصومه ومناوئيه وارتفعت حمى التآمر .. قام أولاً بابعاد أخيه طلحة قائد الحملة على بغداد .. ثم غير منفاه من البصرة الى بغداد .. وقد يعيده الى سامراء ليضعه تحت مراقبة صارمة ..
بايكباك ما يزال في مخبئه في مكان ما في كرخ سامراء .. المعتز يحاول الاجتماع به لتوجيه ضربة الى بغا الشرابي وصالح بن وصيف بعد أن ثبت أنهما يتآمران للاطاحة به وانتخاب خليفة آخر يخضع لنفوذهما ..
افادت تقارير الجواسيس بان صالح بن وصيف وبغا الشرابي
82
مشغولين بحفلة زفاف ابنة الشرابي الى صالح (70) ..
انتهز المعتز الفرصة ، وعبر الى الكرخ مع أركان حكومته وفصائل من قوات الحرس الخاص ..
ووصلت الانباء بغا الشرابي فغادر سامراء مع خمسمئة من جنوده الى تل عكبراء ونصبت له خيمة على شاطىء دجلة فيما ظل جنوده في العراء تلفحهم رياح شتائية قارسة البرد .
وفي الاثناء كان المعتز قد وصل قصر الجوسق مع قطعات عسكرية بقيادة بايكباك لحرسة القصر الخليفة من هجوم محتمل ..
لم تكن الأمور تسير في صالح بغا الشرابي الذي تناهت اليه شكوى جنوده من البرد وانفراده في خيمة يتدفأ بها .. وما لبث أن جاء « ساتكين » الضابط التركي ينقل اليه شكوى الجنود من وجودهم في العراء بلا طائل .. فكر بغا في التسلل واللجوء الى منزل صالح بن وصيف فقال :
ـ دعني الليلة .. يجب أن افكر في الأمر ..
وعندما انتصف الليل .. تسلل بغا دون سلاح مصطحباً خادميه فاستقل زورقاً انحدر به الى المدينة ..
وشاء القدر أن يكتشف حرس الجسر ، الزورق الذي اقترب من الشاطىء ..
وهناك تم توقيفه فاضطر الى الاعلان عن هويته فقال قائد
83
الدورية وهو زنجي :
ـ ان لدينا أوامر بمنع التجول في هذه الساعة من الليل .
قال بغا :
ـ اما أن تذهب الى منزل صالح بن وصيف .. أو تذهب الى منزلي .
ووعده بمكافأة .. ولكن و « ليد المغربي » اصدر أمراً بتوقيفه وغادر المكان على وجه السرعة متجهاً الى القصر .. وسرعان ما اجتمع بالخليفة الذي كان ينام بسلاحه تحسباً من هجوم الاتراك .
هتف المعتز وهو يسمع الخبر المثير :
ـ ويلك جئني برأسه !
وفي بستان على الشاطىء تم قتل بغا الشرابي ، وصلب رأسه فوق الجسر ، واحرقت جثته .. وطورد ابناؤه في بغداد وزج باصدقائه في سجن المطبق وفي زنزانات « قصر الذهب » وصودرت جميع أموالهم ، واحتفل البلاط بهذه المناسبة ومنح القاتل جائزة كبرى (71) وبدا ان المعتز سوف يبسط سيطرته على الوضع في البلاد لولا القلاقل في ايران فثورة « الحسن بن زيد » ما تزال يستعر أوراها في غابات ايران ، ثم ظهر « يعقوب الصفار » في اقليم « سجستان » (72) ليزحف باتجاه كرمان (73) .
وكانت هواجس المعتز تتضاعف ازاء العلويين ، ففي مصر ثورة كبيرة يقودها ابراهيم بن محمد بن يحيى المعروف بابن
84
الصوفي .. وفي شمال ايران ثورة اخطر من تلك ، وانعكست هواجسه على سياسته تجاه العلويين في بغداد والكوفة وسامراء .. في بغداد احتجز كثيرون وسجن بعضهم ورحل آخرون الى سامراء ليلقوا في زنزنات خاصة في قصور الخلافة ، وفي الكوفة كانت السياسة اشد بطشاً واشد تنكيلاً اتخذت شكل الحصار الاقتصادي وافقار العلويين حتى الموت ، أو الاغتيال (74) .
وكان المعتز يبحث عن ذريعة لتصفية الامام الهادي الذي اضطر الى ملازمة منزله ، وامتناعه عن لقاء الناس ، وكان يقضي معظم وقته في السرداب حيث تترقرق السكينة في جنبات ذلك المكان الهادىء تحت الأرض ؛ مفضلاً الاتصال بالناس عبر وكلائه خاصة عثمان بن سعيد العمري الذي حظي بثقة مطلقة ، واشتهر بتجارة الزيت إمعاناً في تغطية دوره البالغ الحساسية (75) وقد حاز من الثقة ما جعل تصريحاته تمثل مواقف الامام وتصريحاته .
وتأزمت الأوضاع بشكل ينذر بالخطر بعد الهجوم الوحشي الذي تعرضت له مدينة « قم » (76) ومقتل عشرات الأبرياء من سكانها بحجة تأييدهم لثورة الحسن بن زيد الطالبي ...
وفي ذلك الجو المشحون بالخطر قام بعض صنائع الحكم بدس السم بطريقة ما الى الامام (77) .. ولزم الامام الفراش بعد أن ظهرت عليه أعراض مرض ما .. وتدهورت صحة الامام بشكل مفاجىء في جمادى الآخرة 254 هـ حزيران سنة 868 م .
85
وزاره الطبيب ابن طيفور فنصحه باجتناب شرب الماء ولكن الامام فند رأيه قائلاً :
ـ وما بأس بالماء ، وهو يدير الطعام في المعدة ، ويسكن الغضب ويزيد في اللب ويطفئ المرار (78) .
وعاده في مرضه ابو دعامة اسماعيل بن علي أحد قضاة العامة .
وعندما نهض لينصرف خاطبه الامام بود :
ـ يا أبا دعامة قد وجب عليّ حقك .. ألا احدثك بحديث تسر به ؟
قال الرجل بأدب جم :
ـ ما أحوجني الى ذلك يا بن رسول الله !
قال الامام وهو يضيء في قلبه قنديلاً من الكلمات المقدسة :
ـ حدثني أبي محمد بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن موسى قال : حدثني أبي موسى بن جعفر قال : حدثني أبي جعفر بن محمد قال : حدثني أبي علي بن الحسين قال : حدثني أبي علي بن أبي طالب قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي اكتب ! فقلت : ما اكتب ؟ قال : اكتب : « بسم الله الرحمن الرحيم .. الايمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، والاسلام ما جرى على اللسان وحلت به المناكحة » .
86
واهتز وجدان الرجل لجمال الحديث وسلسلة سنده المضيئة فقال :
ـ يا بن رسول الله والله ما أدري ايهما احسن ؟ الحديث أم الاسناد ؟
قال الامام وهو يكشف عن سر الكنز الذي لا ينفد :
ـ إنها لصحيفة بخط علي بن أبي طالب ، واملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتوارثها صاغر عن كابر (79) ..
كان الحسن لا يكاد يفارق والده الذي تحسنت صحته قليلاً فطلب من ابنه أن يتفقد عمته حكيمة ويقوم بزيارتها وينفذ الابن أمر والده ، فكان على موعد مع القدر ..
على مدى شهور كانت « مليكا » التي اصبح اسمها نرجس وفي بعض الاحيان كانت تنادى بـ « سوسن » تمضي حياة طيبة في ظلال امرأة صالحة تعلمها شريعة الله وثقافة الاسلام الطاهرة .. فكانت تنمو كما تنمو اللآلي المتألقة في احضان أصداف دافئة .
87
12
عندما وقعت عيناه عليها في منزل عمته تسمر في مكانه ، ينظر اليها ، وهي ايضاً توهجت في ذاكرتها احلام مضيئة عن النبي العربي الاسمر بوجهه البهي .. هاهي تراه واقفاً أمامها ينظر اليها فتطرق حياءً فيما كان قلبها يخفق بحب طاهر نبيل .
قالت العمة المباركة (80) لابن أخيها :
ـ لعلك هويتها !
قال الحسن عن نظرته الهوى الهابط :
ـ لا ياعمة .. ولكني اتعجب .
قالت العمة :
ـ ولم العجب ؟!
قال الفتى الأسمر :
ـ لأن هذه الفتاة سوف تنجب ولداً كريماً على الله عز وجل ..
يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
قالت العمة وهي تعرف أن ابن اخيها سيكون سيداً :
ـ أفأرسلها اليك يا سيدي ؟
88
قال الحسن بعد أن أطرق تأدباً :
ـ حتى يأذن لي أبي !
ابتهج قلب حكيمة فرحاً سوف تزف لابن اخيها فتاة طاهرة نبيلة وسيكون هذا الزواج المبارك سبباً في ظهور أمل الانسانية .. والانسان الذي سينقذ المعذبين والمقهورين والذي سيغسل الأرض من كل الشرور فيعم الخير والمحبة والسلام ..
ما إن دخلت حكيمة على اخيها حتى بادرها قائلاً :
ـ يا حكيمة ابعثي نرجس الى ابني أبي محمد .
قالت الاخت بسعادة :
ـ يا سيدي من أجل هذا قصدتك .. اردت أن استأذنك في ذلك :
قال الامام وقد تألقت عيناه فرحاً :
ـ يا مباركة .. ان الله تبارك وتعالى اراد أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً .
لم تضع حكيمة لحظة من الوقت إذ سرعان ما عادت أدراجها وقلبها يبتهج سعادة .. لقد أرادها الله أن تكون ممن يحقق أهداف السماء في مسيرة الجهاد الطويل ..
وقامت حكيمة بتزيين العروس في حجرة انتخبتها لتكون عشاً دافئاً لأسرة طاهرة .. اسرة سيكون لها مجد رفيع ، وبدت نرجس بحلة العرس البيضاء حورية هبطت من العالم العلوي لتقترن
89
بفتى علوي هو فتى أحلامها الوردية ..
كان فضاء المنزل يفوح بالعبير ، ونسائم ندية تهب من شطآن دجلة وسماء حزيران تزخر بالنجوم ..وقامت العمة لتقدم الى ابن اخيها عروسه الطاهرة .. لتتحقق مشيئة الذي يجمع القلوب الطاهرة ..
ومرت أيام كان القمر يتضاءل فيها ليذوب في المحاق عندما انتكست صحة الامام الهادي .. وخلال تلك المدة لم ينفك يعلن لكل من يزوره من اصحابه ومحبيه إمامة ابنه الحسن ويبشرهم بان المهدي قد أطل زمانه .. انه الخلف بعد الخلف .. الذي لن يراه أحد الاّ من وفق الله .. وخلال ذلك سوف يتيه اتباعه كأغنام غاب راعيها .. ولكن الله لن يتركهم في حيرتهم اذ ينهض رجال عميقو الايمان ينقذون « ضعاف عباد الله من شباك ابليس » (81) .
عاشت « مليكا » أسعد أيام حياتها في ظلال فتى كريم تضيء وجهه أنوار النبوات كان يخاطبها بأسماء جميلة .. نرجس .. سوسن حديثة .. صقيل .. ريحانة .. اسماء ورود الربيع .. هل كان يبشر فصل جديد فصل الدفء والنور والربيع ؟ من يدري هل كان يطلب منها أن تكون ربيعاً للبرعم الطاهر الذي سيظهر من أكمام الزمن ؟ آه يا مليكا يا من جئت على قدر لتلتقي فتى ساقه القدر أيضاً الى هذه البقعة من دنيا الله .. مدينة غارقة في الظلمات فاختارها الله لتشهد
90
ميلاد الكوكب الدري (82) .
وينتقل الحسن مع زوجته الى منزل والده (83) الذي ابتهج برؤية وارثه مع تلك الفتاة التي انتخبتها السماء لتلد الصبي المنتظر إنها سيدة عظيمة جديرة بحمل الأمانة « وستحيط بها المخاطر » (84) ..
وانتشر خبر تدهور حالة الامام الصحية في سامراء وبغداد والكوفة ..
وبدأ العائدون يأتون من كل حدب وصوب ، وخلال تلك المدة زارته شخصيات رفيعة مسؤولة في الدولة ..
ساءت حالة الامام الصحية وكان السم ينتشر في عروق الامام وبات جسده خائراً تماماً ، وسادت حالة من الوجوم والترقب مدينة سامراء ..
وأطل يوم الاثنين 25 جمادى الآخرة حزيران وكان البلاط يترقب أخبار الامام .. خاصة عصابة الأربعة « قبيحة » أم الخليفة ، رئيس الوزراء ابن اسرائيل ووزير البلاط النصراني أبو نوح والوزير الحسن بن مخلد الذي اعتنق الاسلام لسبب ما ..
أما المعتز الذي بلغ من العمر ثلاثة وعشرين سنة فقد كان منصرفاً الى لذائذه ويحاول المحافظة على عرشه بأي ثمن ..
وضعت قوات الحرس على أهبة الاستعداد تحسباً للطوارىء واستدعي من بغداد طلحة بن المتوكل ..