181
استفهام كبرى عبر القرون .. فلأول مرة يقوم خلفاء سامراء بهذه الخطوة وربما لآخر مرة .
استقر الخليفة في مجلسه في حجرة الاستقبال وكان قد صرف جميع حراسه منذ أن وطأت قدماه باحة المنزل ..
وكان واضحاً تماماً ومن خلال جلسته المؤدبة وعينيه اللتين تنظران بضراعة وتوسل .. ان لدى الخليفة طلباً هاما .. طلباً غير معقول .. طلباً لو سمعه أبوه « المتوكل » لانبعث من حفرته برغم الديدان التي لم تخلف منه سوى هيكل عظمي منخور ..
قال الخليفة بلهجة شابها رجاء وتوسل :
ـ يا بن رسول الله ! ادع الله أن يمد في عمري فأبقى في الخلافة عشرين سنة !!
الله وحده الذي يراقب الأعماق .. ساد سكوت مهيب فضاء الحجرة وكان الامام مطرقاً لكأنه يتصفح كتاباً عجيباً .. كتاباً يطل المرء م خلاله على سطور الغيب فيقرأها .. وعلى آفاق الزمن القادم فيستكشفها ..
ماذا حصل لكي يرفع الامام رأسه بعد لحظات مدوية من الصمت ؟ وماذا حصل لكي تتألق عيناه بنور شفيف ؟ وماذا حدث لكي يبدو الوجه الأسمر مغموراً بهالة من الأنوار الشفافة ؟! ولكن المعتمد شعر بأن الكلمات التي يسمعها قادمة من أعماق الغيب المستور هاهو يصغي الى كلمات ابن الرضا تخاطبه :
182
ـ مدّ الله في عمرك (167) :
وفي تلك اللحظات شعر المعتمد بالثقة ، وتنفس الصعداء .. ليغادر منزل الامام ، دون أن تخامره هواجس المستقبل أو مخاوف من أن يقوم أحدهم باغتياله .
183
25
في إحدى ليالي كانون الأول من سنة 873 أخريات شهر صفر سنة 260 هـ و في ساعة متأخرة من الليل يعود من المدينة المنورة الوكيل« أحمد بن محمد بن مطهّر » و بمعيّته الصبي البشارة وجدّته فيلجون بحذر منزلاً في « درب الحصا » (168) و شاء القدر أن يعود جعفر الى المنزل بعد ليلة ساهرة قضاها مع شلّة من رفاق السوء (169) ..
و بالرغم من سكره الخفيف فقد استيقظت في نفسه الأمارة بالسوء رغبات مجنونة في أن ينبه البلاط مرّة أخرى على وجود الصبي الذي ينتظره الجميع اصدقاء و أعداء ..
إنّه يستطيع أن يصطاد عصفورين بحجر واحد .. سوف يكون الوريث القانوني الوحيد لكل ممتلكات أخيه .. و سوف يتقرّب الى البلاط و يكون أحد المسؤولين في دولة .. و يكون في مقدره الجلوس في مكان أخيه (170) ... سوف يصبح إماما للشيعة و ستتدفق انهار المال و الحقوق الشرعية فيعيش رغداً يلهو و يلعب !
184
لماذا ياجعفر (171) كل هذا الانحدار ما الذي فعله أبوك و أخوك و ماهي جريرة هذا الصبي البريء ؟!
لماذا لا تلج السفينة يا جعفر قبل أن تبتلعك أموج الحياة الدنيا (172) ؟ ..
كيف سوّلت لك نفسك أن تغدر بأخيك ؟!
لا أحد يدري ما الذي حصل فجأة !! و فيها كانت شمس الخريف تقرض منازل سامراء بانوارها الباهتة .. شعر الامام بحالة من الضعف الشديد و النحول اضطرته الى ملازمة الفراش ..
و بطريقة تدعو الى التساؤل و الدهشة وصل النبأ الى مسامع رئيس الوزراء عبيدالله بن يحيى بن خاقان !!
هل كانت هناك محاولة لاغتيال الامام ؟!
لماذا يبادر ابن خاقان للاجماع بالخليفة شخصياً و يطلب منه ارسال مجموعة من رجال القصر لملازمة منزل الامام ؟ و اذا كان الهدف من ذلك تفديم الرعاية للامام فما هو المسوّغ في ارسال « حرير الخادم » سجّان الامام الذي سمعت تهديداته للامام ذات يوم و هو يقول : « و الله لأرمينّة للسباع » (173) !
هل هناك أسرار ما وراء ما يجري ؟ هل وصلت البلاط تقارير حول و وجود صبي اُحيطت ولادته بالكتمان؟ و هل ولد المهدي حقّا ؟
ما هي بالضبط مهمّة موظفي القصر ؟! لقد أصبح منزل الامام مشحوناً بالخطر .. و لماذا تتخذ الحكومة مثل هذا الاجراء
185
و تراقب وفاة الامام و من أين لها علم بأنَّ الامام على حافّة الموت و هو ما يزال في ريعان الشباب و لم يبلغ الثلاثين بعد ؟! ..
مرّت ثلاثة أيام من ربيع الأول و قد انتكست حالة الامام الصحية ، فأصدر رئيس الوزراء أمراً باحضار فريق من الأطباء لاجراء فحوصات و تقييم حالة الإمام الصحية ..
أجرى الأطباء فحوصاتهم و تبادلوا نظرات ذات معنى (174) !لقد دُسّ اليه السم ما في ذلك من شك! و ليس هناك من وسيلة للعلاج .
و استقرّ رأيهم على أن حالة الامام مأيوس منها .. وأنه يموت و مع ذلك فقد أصرّ رئيس الوزراء على بقائهم في منزل الامام !!
كما استدعى ابن خاقان رئيس سلطة القضاء و طلب منه انتخاب عشرة رجال يعملون في سلك القضاء و من ثم ارسالهم الى منزل الامام !
و أصبح عدد موظفي الدولة خمسة عشر غير الأطباء !! ترى ماذا يجري ؟! ما هو الهدف من وراء كل هذه الاجراءات العجيبة ؟!
هل هناك محاولات للكشف عن وجود وريث للامام ؟.. و هل هي محاولة للتنصل من مسؤولية اغتيال الامام ؟ أو مواجهة الشائعات التي قد تنتشر حول اسباب وفاة ابن الرضا و هو ما يزال شاباً ؟! لا أحد يدري !!
مشاعر خليطة من الحزن و القلق و التوتر تخيم على أجواء
186
المنزل ، الذي بدا و كأنه قلعة يحاصرها الأعداء ..
و بالرغم من تردّي حالة الامام الصحية إلاّ أنه كان في كامل و عيه و كانت شؤون المنزل تمضي حسب برنامج دقيق بإستثناء جعفر الذي بدأ يتصرّف و كأنه ربّ البيت و السيّد المطاع .
الزمن يمرّ متوتراً .. و الإمام في حجرته راقد في فراش المرض زوجته السيدة نرجس في حجرة أخرى .. ماريا و نسيم في حجرة مستقلة .. كافور و عقيد يعملان بصمت و حزن ترى أين الصبي ؟! هل كان مختبئاً في مكان ما من السرداب ؟!
هل كان في منزل السيدة حكيمة ؟!
رجال القصر و موظفوه محشورون في الرواق المؤدي الى غرفة الإمام و في قبال ذلك حجرة السيدة نرجس ، أما السرداب فيوجد اسفل الغرفتين حيث يوجد باب صغير يؤدي الى سلّم و منه الى السرداب ..
اليوم هو 7 ربيع الأول 260 هـ 31 كانون الأول 873 م و سامراء مقبلة على ليل شتائي طويل(175).
تسرّبت أنباء مرض الامام الى أوساط الناس و أصبح ذلك محوراً في أحاديث الشيعة .. و ظهرت تساؤلات حول مستقبل الامام و هويّة الامام الجديد !
و في تلك الليلة الطويلة تمكن الامام من كتابة مجموعة من الرسائل الهامّة كجزء من خططه لابلاغ الأمّة وجود الامام الغائب
187
الذي اضطرته الظروف الى عدم الاعلان عن ولادته و اخفائه عن أعين الجواسيس ..
كانت ظلمات الليل تشتد حلكة و قد خامر الموظفين في الرواق التعب و النعاس .. الليل البهيم يتجه الى الفجر و النجوم تشتد سطوعاً في سماء اكتنفتها غيوم متناثرة .. و كان عقيد الخادم ينظر بأسى الى الشباب كيف يذوي كشمعة تخبو في قلب الليالي الزمهرير.
طلب الامام بصوت خافت من عقيد أن يحضر اناءً فيه ماء مغلي بالمستكي .. كان الامام يشعر ببرودة الموت تزحف الى خلايا جسده التي فتك بها السم ..
جاءت السيّدة نرجس تحمل الاناء ، و قد غمرتها حالة من الفجيعة .. ان زوجها الطاهر على وشك الرحيل .. سوف ينهدّ عمود خيمتها و ستعوي من حولها آلاف الذئاب ..
مدّ الشاب يداً ترتجف من برودة الموت الزاحف كليل الشتاء.. الليل في لحظات الرحيل و الفجر على وشك الانفاق ..
أراد أن يرتشف من الاناء و لكن ارتطم باسنانه و ازداد ارتجاف يده .. قال بصوت واهن مخاطباً عقيداً :
ـ سوف تجده يصلّي في الحجرة .. ليأت اليّ .
و في هذه اللحظة هبّت السيدة نرجس الى الحجرة .. ان ابنها يصلّي فمكثت غير بعيد و جاءت به .. و في غمرة لحظات
188
السحر الأخير مرق الصبي الى حجرة أبيه العظيم ..
جلس عنده وقد غمره حزن واحساس بالفجيعة يلوح في وجهه كسماء تكتنفها غيوم رمادية ..
دمعت عينا الأب من أجل ابنه .. من أجل كل المحن التي سيواجهها خلال الزمان المرير ... همس بحب :
ـ يا سيدى أهل بيته أعطني شربة !
أخذ الصبي الطاهر الإناء وأدناه من فيه وارتشف الامام شربة منحته قليلاً من الدفء ..
قال الأب :
جهزني للصلاة !
أخذ الصبي منديلاً ونشره على صدر أبيه وراح يساعد والده على اسباغ الوضوء واستغرق الامام في الصلاة بعد أن يمم وجهه تلقاء المسجد الحرام والبيت العتيق ..
والتفت الى ابنه وقد انفلق عمود الفجر الصادق .
ـ بني الحبيب ! أنت صاحب الزمان .. أنت المهدي الذي بشر بك الرسول .. وأخبر بك اسمك اسمه وكنيتك كنيته .. وهذا هو عهد آبائي قد جاء ..
وفي تلك اللحظات الندية بالدموع شعر الصبي بأن قلبه يضيء بنور قادم من قلب السماوات ..
سوف تواجهك المحن يا بشارة الانبياء .. وسوف تطاردك
189
رياح الزمهرير كفراشة جاءت تبشر بالدفء وبالربيع ... آه أيها الأمل القادم من رحم النبوّات الغابرة !!
كانت السيدة نرجس تبكي بصمت كسماء تمطر على هون .. زوجها يودع الحياة ، وابنها الوحيد تبحث عنه ذئاب مجنونة .. وأصغت الى كلمات زوجها يوصي ابنه وآخر الأئمة الاطهار :
ـ يا بني : إن الله جل ثناؤه لم يكن ليخلي أرضه ، وأهل الجد من طاعته وعبادته بلا حجة يستعلى بها وإمام يؤتم به ، ويقتدى بسبيل سنته ومنهاج قصده ..
وأرجو يا بني ان تكون أحد من أعده الله لنشر الحق وطي الباطل ، وإعلاء الدين ، واطفاء الضلال .
وسكت لحظات ليقدّم الى ولده الحبيب آخر نصائحه :
ـ فعليك يا بني بلزوم خوافي الأرض وتتبّع أقاصيها ، فإن لكل وليّ من أولياء الله عدوّاً مقارعاً ، و ضدّا منازعاً.. فلا يوحشنّك ذلك(176)..
اسكن يابنيّ في البراري البعيدة .. وفي الجبال الوعرة ليحرسك الله يا بني !
و دمعت عينا الأب .. كان يستنشق أنفاسه الاخيرة في هذه الحياة .. و كانت كلمات الصلاة تنساب من بين شفتيه قبل أن يغمض عينيه و يغفو اغفاءة الرحيل ..
و في تلك اللحظات و قد هيمن صمت ثقيل سمع صوت عواء
190
قادم من بعيد ..
نهضت السيدة نرجس و هي تشعر بالبرد و أخذت بيد ولدها و انسحبت من المكان .. لقد بدأ فصل مثير من حياة ابنها الوحيد .