4 ـ معاناتها


1 ـ فقد أبيها
ب ـ الجلودي يرعب ودائع آل محمد (صلى الله عليه وآله)
ج ـ السيدة تعايش ترحيل أخيها


( 50 )


( 51 )

(ا) فقد أبيها

سنة 183 هجرية
شهر رجب
اليوم الخامس والعشرون (1)


في بغداد ، على الجسر وضعت جنازة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) بعد أن دس له سجانه السندي بن شاهك السم في طعامه بأمر من هارون العباسي .
المنادي ينادي : هذا إمام الرافضة فاعرفوه .
ونادى جماعة آخرون من أتباع الظلمة بنداء تقشعر منه النفوس الطيبة .
وعندما رأى سليمان بن أبي جعفر (2) ذلك ، خرج من قصره ، وأمر غلمانه بأخذ نعش الإمام ( عليه السلام ) من أيدي الجلاوزة ، فاشتبكوا معهم في عراك وضرب ، ثم أخذوا النعش الشريف من
____________
(1) مصباح المتهجد : ص 812 . وقيل في اليوم الخامس من رجب ، وقيل في اليوم السادس منه .
(2) سليمان بن أبي جعفر المنصور ـ عم هارون الرشيد ـ .

( 52 )

أيديهم ، ووضعوه على مفترق أربع طرق ، أمر سليمان المنادي بان ينادي : الا ومن أراد ان يرى الطيب بن الطيب موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) فليخرج . . .
ودفن الإمام ( عليه السلام ) في مقابر قريش حيث مرقده الآن في بغداد ، رزقنا الله تعالى وإياكم زيارته .
وهكذا انطوت حياة ذلك الإمام العظيم بعد أن عانى ما عانى من ظلم واضطهاد ، ونقل من سجن إلى سجن ، ومن سجّان إلى آخر حتى قبضه الله تعالى إليه (1) .
وكان ذلك أوّل ما كابدته وعانته السيدة المعصومة في مقتبل حياتها ، فقد حرمت عطف ورعاية أبيها وهي بعد في سن السادسة حيث أخرجه هارون من المدينة إلى بغداد وسجنه . وفي سن السادسة حيث أخرجه هارون من المدينة إلى بغداد وسجنه . وفي سن العاشرة صارت ( سلام الله عليها ) يتيمة الأب (2) .
____________
(1) راجع عيون أخبار الرضا : ج1 ص 99 ، والإرشاد ج2 ص 242 .
(2) وهذا بناء على أن ولادتها كان في سنة 173 هـ .

( 53 )

(ب) الجلودي يرعب ودائع
آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلّم )

سنة 199 هجرية
المدينة المنوّرة

بعض العلويين يعلنون الخروج على حكم بني العباس في المدينة ، وفي مكة ، وفي اليمن .
وكان محمد بن جعفر قد خرج عليهم في مكة أيام حكومة المأمون ، فأرسل إليه المأمون جيشاً للقضاء عليه بقيادة الجلودي ، وأمره بضرب عنقه إن ظفر به .
ولم يقف أمر المأمون عند هذا الحد ، بل أوعز إليه يغير ويهجم على دور آل أبي طالب في المدينة ، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل ، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً .
وحاول الجلودي أن ينفذ الأمر بنفسه ، فهجم على دار الإمام ا لرضا ( عليه السلام ) بخيله ، فلمّا نظر إليه الإمام جعل النساء كلهنٌ في
( 54 )

بيت (1) واحد ، وكانت السيدة المعصومة ( عليها السلام ) إحداهن (2) . ووقف الإمام على باب البيت يمنع الجلودي وجنده من اقتحامه .
فقال الجلودي : لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : أن أسلبهن لك ، وأحلف أن لا أدع عليهن شيئاً إلا أخذته .
وعلى نفس نهج أسياده العباسيين ظل الجلودي مصرا على سلب عقائل آل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد آثر الجلودي أن يكون ناصبياً (3) من القَرن الاول الهجري يعيش على مشارف القرن الثالث ، يحمل حقد وكراهية وحسد أولئك الذين هاجموا بيت الوحي والرسالة ، وافتحموا على السيدة الزهراء ( عليها السلام ) دارها ، وأسقطوا جنينها ، وصنعوا مع إبنة صاحب الوحي ما تقشعر منه الأبدان ، ويندى له جبين التأريخ (4) .
____________
(1) أي في غرفة واحدة ، وهذا يعني أن الجلودي دخل على الإمام بخيله في ساحة الدار ، وما يواكب ذلك من إرعاب عقائل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
(2) حيث إن هذه الحادثة كانت قبيل وفاتها بعامين ـ كما سيأتي ـ .
(3) الناصبي : هو من نصب العداوة لآل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتظاهر ببغضهم . بل قالوا : إن الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعتهم وتظاهر بالوقوع فيهم ، وممن ذهب إلى ذلك الشهيد الثاني (قدس سره) في مبحث الأسآر : ص 157 من كتابه روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان .
(4) راجع إثبات الوصية : ص 124 ، وتاريخ اليعقوبي : ج2 ص 126 ، والامامة والسياسة : ص 30 و31 ، كما وتراجع المصادر التالية : لسان الميزان ، الملل والنحل ، أنساب الأشراف ، العقد الفريد ، أعلام النساء ، الوافي بالفويات ، تاريخ أبو الفداء .

( 55 )

بهذه النفسية الحاقدة ، وبهذه الروح الشريرة هاجم الجلودي دار الإمام ( عليه السلام ) ، فحقده على أهل البيت كان الهواء الذي يتنفسه ، ويحفظ عليه حياته ومقامه عند أسياده العباسيين .
ولكنّ الإمام ( عليه السلام ) يمنعه من اقتحام البيت . وليس الجلودي ـ وأشباهُهُ ـ جديراً ليستجيب للعواطف والتوسلات ، أو ليخضع للمنطق والبرهان ، فهو ممن ملئت قلوبهم بغضا وحنقاً وحسداً لأهل بيت النبوة ، ولا يعرفون إلا لغة السلاح ومنطق القوة والظلم والإضطهاد .
فلم يزل الإمام يطلب إليه ويحلف له ، حتى سكن الجلودي ووافق على طلب الإمام .
فدخل الإمام فلم يدع عليهن شيئا إلا أخذه منهن حتى اقراطهن وخلاخيلهن واُزرهن ، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير .
ويظهر أن هذه الحادثة هي من مسلسل ضغوط المأمون لإرغام الإمام ( عليه السلام ) وإخراجه من المدينة إلى خراسان حيث يكون تحت منظار المأمون ورقابته ، إذ إن الحادثة كانت بعد سنة من تولّي المأمون للحكم ، فقد خلص الأمر له سنة 198 هـ ، وتوصل تفكيره الشيطاني إلى القضاء على الإمام ( عليه السلام ) وتشويه سمعته بجلبه إلى خراسان ، وتسليمه الخلافة أو ولاية العهد ، وللضغط عليه لاستقدامه أنفذ إلى الجلودي بالإغارة على دار الإمام ، وسلب عقائل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإرعابهنٌ .
ولما رحل الإمام إلى خراسان واُدخل على المأمون قام فرحب به واظهر المحبة والإخلاص له ، وعرض عليه الخلافة فأبى الإمام ( عليه

( 56 )

السلام ) ، فعرض عليه ولاية العهد ، فقبلها الإمام مرغماً بعد تهديد المأمون له (1) . عندها أمر المأمون القواد والحجّاب والقضاة وسائر الطبقات بمبايعة الإمام ( عليه السلام ) بولاية العهد ، ولكن بعض قادة المأمون نقموا البيعة ولم يرضوا بها ، فاعتقلهم المأمون . ثم أمر بإدخالهم عليه منفردين .
وكان الجلودي أحدهم ، فلما اُدخل على المأمون ووقع نظر الإمام عليه قال ( عليه السلام ) للمأمون : هب لي هذا الشيخ (2) ! !
فقال المأمون : يا سيدي ! هذا الذي فعل ببنات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما فعل من سلبهن ! !
فنظر الجلودي إلى الاإمام ( عليه السلام ) وهو يكلم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه له ، فظن أن الإمام يعين عليه لما كان قد فعله من افتحامه دار الإمام وإرعابه أهل بيته .
فقال الجلودي : يا أمير المؤمنين ! أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في ! !
فقال المأمون : يا أبا الحسن ! قد استعفى ، ونحن نبر قسمه .
ثم قال : لا والله لا أقبل فيك قوله . الحقوهُ بصاحبيه (3) .
____________
(1) راجع تفصيل مسألة ولاية العهد في كل مما يلي :
أصول الكافي : ج1 ص488 ، الحديث السابع .
عيون أخبار الرضا : ج2 ص 138 .
الإرشاد : ج2 ص259 .
(2) أراد الإمام ـ مع كل ما أدخَلَهُ الجلوديّ من رعب على العقائل ـ أراد أن يكافئه على استجابته له وعدم سلبه لهن بنفسه .
(3) أي علي بن أبي عمران وأبو يونس ، اللذان ضربت عنقاهما قبل الجلودي .

( 57 )

فقدم فضربت عنقه (1) .

* * *

هذه الحادثة ـ أي حادثة اقتحام دار الإمام الرضا ( عليه السلام ) ـ إنفرد بذكرها الشيخ الصدوق في كتابه « عيون أخبار الرضا » حيث يقول :
« وكان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة (2) ، بعثه الرشيد وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه ، وان يغير على دور آل أبي طالب ، وأن يسلب نساءهم ، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً . ففعل الجلودي ذلك ، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) . . . » (3) .
قد تتسائل ـ أيها القارىء الكريم ـ :
إذا كان الشيخ الصدوق قد انفرد بذكر الحادثة وأنّها كانت في عهد الرشيد ، فكيف تنسب القضية إلى المأمون ؟
استميح القاريء عذرا ، وأرجوه أن يمهلني أسطراً حتى تتضح له حقيقة الأمر .
1 ـ أن الحادثة وقعت في زمان هارون .
2 ـ أن الحادثة تزامنت مع خروج محمد بن جعفر .
____________
(1) لاحظ عيون أخبار الرضا : ج2 ص 161 .
(2) سيأتي من الشيخ الصدوق أن خروج محمد بن جعفر كان بمكة ، وهذا ما ذكره غيره أيضاً .
(3) عيون أخبار الرضا : ج2 ص 161 .

( 58 )

ولكن أرباب السير والتاريخ من الفريقين اتفقوا على أن خروج محمد بن جعفر كان في عصر المأمون في سنة 199 هـ أو 200 هـ .
فالشيخ المفيد (قدس سره) يقول في الإرشاد :
« وكان محمد بن جعفر شجاعاً سخياً ، . . . وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة ، واتبعته الزيدية الجارودية ، فخرج لقتاله عيسى الجلودي ، ففرق جمعه وأخذه وانفذه إلى المأمون » (1) .
كما أن الطبري في تاريخه (2) وإبن الأثير في الكامل (3) ذكرا خروج محمد بن جعفر في ضمن حوادث عام 199 ـ 200 هـ ، فراجع .
والجدير بالذكر أن نفس الشيخ الصدوق ذكر ما يوافق ذلك في كتابه « عيون أخبار الرضا » حيث نقل الرواية التالية :
الورّاق ، عن سعد ، عن إبن أبي الخطّاب ، عن إسحاق بن موسى (4) .
قال : « لما خرج عمي محمد بن جعفر بمكة ، ودعا إلى نفسه ، ودعي بـ « أمير المؤمنين » ، وبويع له بالخلافة ، دخل عليه الرضا (عليه السلام ) وأنا معه .
فقال له : يا عم ! لا تُكذب أباك ولا أخاك ، فإن هذا الأمر لا يتمّ .
ثم خرج وخرجت معه (5) إلى المدينة ، فلم يلبث إلا قليلاً حتى
____________
(1) الإرشاد : ج 2 ص 211 .
(2) تاريخ الطبري : ج 5 ص 129 في حوادث سنة 200 هـ .
(3) الكامل في التاريخ : ج 4 ص 154 في حوادث سنة 200 هـ .
(4) إبن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) .
(5) أي خرج الإمام الرضا ( عليه السلام ) وخرج معه أخوه إسحق .

( 59 )

قدم الجلودي ، فلقيه فهزمه ، ثم استأمن إليه ، فلبس السواد ، وصعد المنبر فخلع نفسه .
وقال : إن هذا الأمر للمأمون ، وليس لي فيه حق » (1) .
وهذه العبارة الأخيرة تدل بكل وضوح أن خروج محمد بن جعفر كان في عهد المأمون ، فالشيخ الصدوق يذكر هنا بأنّ محمد بن جعفر قد خرج في زمان المأمون لا الرشيد (2) .
فلماذا ذكر الشيخ الصدوق في رواية الإقتحام أنّ خروجه كان في زمان الرشيد ؟
إن منشأ هذا الإشتباه قد يكون أحد أمرين :
الأمر الأول : الخلط بين هارون الرشيد وبين هارون بن المسيب أحد قادة المأمون زمن حادثة الجلودي .
ففي الكافي : « لما أراد هارون بن المسيب أن يواقع محمد بن جعفر . . . » (3) .

____________
(1) عيون أخبار الرضا : ج2 ص 207 ح8 .
(2) قد يقال : إنه لا مانع من كون خروج محمد بن جعفر في زمان الرشيد ، وكون إلقاء القبض عليه في زمان المأمون .
والجواب :
أولاً : هذا مناف لما ذكره أهل السير والتاريخ من أن محمد بن جعفر خرج في حكومة المأمون .
ثانياً : هذا لا يتناسب مع نفس الحديث الأخير الذي ذكره الصدوق ، إذ فيه : « فلم يلبث إلا قليلاً حتى قدم الجلودي » ، وقد مات الريد في عام 193 هـ ، وتولى المأمون الحكم في عام 198 هـ أي بعد ست سنوات ، وهذا لا ينسجم مع قوله : « فلم يلبث إلا قليلا » .
(3) أصول الكافي : ج1 ص 491 ح 9 .

( 60 )

وفي مقاتل الطالبيين : « أن جماعة من الطالبيين اجتمعوا مع محمد بن جعفر فقاتلوا هارون بن المسيب بمكة قتالاً شديداً . . . » (1) .
وقال إبن قتيبة : « ووجه الحسن بن سهل هارون بن المسيب إلى الحجاز لقتال العلوية ، فاقتتلوا ، فهزمهم هارون بن المسيب ، وظفر بمحمد بن جعفر ، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته . . . » (2) .
وقد مرّ علينا أيضا (3) أن الذي قاتل محمد بن جعفر هو الجلودي ، والظاهر أنه لا تنافي في ذلك ، فالجلودي يكون قد نفذ أمر المأمون بتوجيه من هارون بن المسيب وتحت قيادته .
بل في شرح الأخبار ما يوضّح ذلك ويرفع التنافي : فقد جاء فيه :
« وقام جماعة من ا لعلويين في سنة المائتين على المأمون ، وكان من قام منهم عليه محمد بن جعفر بن محمد ، قام بمكّة ، فبايعه أهل الحجاز وتهامة على الخلافة . . . . فأنفذ [المأمون] إليه الحسن بن سهل ، وهارون بن موسى المسيب ، وعيسى بن يزيد الجلودي ، ورقا بن محمد الشيباني وهم من جملة قوّاد المأمون ، وأوقعوا على أصحابه بالمدينة ومكة وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ، وتفرق عامتهم واستامن [محمد بن جعفر] ، واكذ نفسه فيما ادعاه من الإمامة ، فاومن وحمل إلى المأمون إلى خراسان ، فمات بها » (4) .
____________
(1) مقاتل الطالبيين : ص 359 .
(2) المعارف : ص 389 .
(3) من الإرشاد وتاريخ الطبري وتاريخ ابن الاثير .
(4) شرح الأخبار : ج3 ص 336 .

( 61 )

وعليه فقد يكون المصدر الذي استقى منه الشيخ الصدوق قد ذكر إسم هارون بن المسيب مجرداً عن الإسم واللقب التالي ، فتصوّره الرشيد ، خاصّة وأن الجلودي كان قد خدم الرشيد كما مر عليك في ثنايا حادثة الإقتحام التي نقلها الشيخ الصدوق .
الأمر الثاني : أن الشيخ الصدوق قد خلط بين محمد بن جعفر الذي خرج في زمن الرشيد ، وبين محمد بن جعفر الذي خرج في زمن المأمون فالذي خرج في زمن الرشيد هو محمد بن جعفر بن يحيى بن الحسن بن الحسن بن الحسن كما في مروج الذّهب حيث يقول : « وقد كان محمد بن جعفر بن يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ( كرم الله وجهه ) ، سار إلى مصر ، فطلب ، فدخل المغرب ، واتصل ببلاد تاهرت السفلى ، واجتمع إليه خلق من النّاس ، فظهر فيهم بعدل وحسن استقامة ، فمات هنالك مسموماً . . . » (1) .
والذي خرج في زمن المأمون هو محمد بن جعفر بن محمد ـ كما مر آنفاً .
فنستنتج مما سبق : أنّ هذه الحادثة كانت في زمان المأمون ، وقبيل وفاة السيدة المعصومة ( عليها السلام ) بسنتين :
وعلى فرض وقوعها في عهد هارون فالسيدة تكون أيضا قد عايشت الواقعة بكل تفاصيلها ، فكما ذكر الشيخ الصدوق أن الحادثة وقعت وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، أي بعد عام 183هـ .

* * *

____________
(1) مروج الذهب : ج3 ص 353 .

( 62 )

كانت هذه صورة من صور المحن والآلام التي عاشتها سيدتنا ومولاتنا المعصومة ( عليه السلام ) .
ويكفيك أن تتخيل وتتصور أجنبياً يروم دخول دارك ، فيكشف عرضك ليسلب أمك أو زوجتك أو أختك . فما هو حالك إذا علمت أن المراد سلبهن هن بنات أهل بيت العصمة والطهارة ؟
يكفيك تصور ذلك حتى تعلم عظم الحادثة وفجاعتها .
( 63 )

(ج) السيدة تعايش ترحيل أخيها

سنه 201 هـ
يوم 10 جمادي الآخر
مدينة مرو

الإمام الرضا ( عليه السلام ) وأخوه اسماعيل ، وعمه محمد بن جعفر ، وعلي بن الحسن بن زيد ، وابن الارقط ، ومجموعة ممن كان قد خرج على المأمون ، يقدم بهم رجاء بن الضحاك على مرو ، ويدخلهم على المأمون لعشر خلون من جماي الآخر سنة إحدى ومائتين ، فقد أمر المأمون بإشخاصهم وإشخاص من كان قام عليه من الطالبيين ، فحملهم الجلودي وأخذ بهم على طريق البصرة ـ الأهواز (1) في المفاوز والبراري لا في العمران ، لئلا يراه الناس فيرغبوا فيه ، فما من منزل من منازل إلا وله فيه معجزة (2) .
وصاروا إلى فارس حيث لقيهم رجاء بن الضّحاك وتسلّمهم من
____________
(1) شرح الأخبار : ج3 ص 339 .
(2) العوالم : ج 22 ص 229 ح 3 من المستدركات .

( 64 )

الجلوديّ (1) .
وبذلك يكون الإمام قد فارق مدينة جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان ( عليه السلام ) قبل إخراجه قد دخل المسجد النبوي الشريف ليودع جده ، فودعه مراراً ، كل ذلك [وهو] يرجع الى القبر ، ويعلو صوته بالبكاء والنحيب . فتقدم إليه مخول السجستاني وسلٌم عليه ، فردّ السلام .
وقال ( عليه السلام ) : زرني ! فإنّي أخرج من جوار جدي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاموت في غربة (2) .
كل هذا في منظر ومسمع من السيدة المعصومة وإخوتها وإخواتها حيث إن الإمام ( عليه السلام ) حينما أرادوا الخروج به من المدينة جمع عياله ، وأمرهم بالبكاء عليه ، ثم فرق فيهم إثني عشر الف دينار .
ثم قال : أما إني لا أرجع إلى عيالي أبدا (3) .
وهكذا أخرج الإمام ( عليه السلام ) من مدينة جدّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أمام أخته المصونة وسائر عياله ، وعيونهم عبرى ، وقلوبهم مملوءة بالحزن والأسى .
____________
(1) شرح الأخبار : ج3 ص 339 .
(2) عيون الأخبار : ج2 ص 217 ح 26 .
(3) عيون أخبار الرضا : ج2 ص 217 ح 28 .

( 65 )

5 ـ هجرتها

(1) هجرة إخوتها إلى « شيراز »
(ب) ركب السيدة يحاصر في « ساوة » :

(ا | ب) لماذا سميت هذه البلدة بـ « قم » ؟
(2 | ب) في فضل « قم » وأهلها
(3 | ب) « قم » تستقبل السيدة المعصومة
(4 | ب) السيدة المعصومة تفارق الحياة
(5 | ب) المأمون يعترف

( 66 )


( 67 )

5 ـ هجرتها

وتمضي الأيام والأيام على مفارقة السيدة المعصومة لأخيها الإمام الرضا ، فتتسلم منه كتاباً يأمرها أن تلحق به ، فقد كانت أثيرة عنده ، وعزيزة عليه ، ولما انتهى الكتاب إليها تجهزت للسفر إليه (1) .
وليست الهجرة مسألة جديدة في حياة أهل البيت وأولادهم ومواليهم ، فقد سعى العباسيون ومن قبلهم الأمويون لتشتيتهم في البلدان وإبادتهم ، حتى أن أبا الفرج الإصفهاني كتب كتابه « مقاتل الطالبين لبيان ذلك ، وكتب المسعودي أيضاً كتابه « حدائق الأذهان في أخبار أهل بيت النبي وتفرقهم في البلدان » .
وحتى قال دعبل الخزاعي :
____________
(1) ترجمة تاريخ قم ص 213 ، وحياة الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ج2 ص 351 نقلا عن جوهرة الكلام : ص 146 .

( 68 )

لا اضحك الله سن الدهر إن ضحكت * وآل أحمـد مظلمـون قـد قهـروا
مشردون نفـوا عـن عقـر دارهم * كأنهم قـد جـنوا مـا ليس يغـتفر

يخرج ركب السيدة المعصومة مع بعض إخوتها . .
ويخرج بعض آخر من إخوتها في ركب ثان باتجاه طوس . .
ركبان عظيمان يتجهان نحو طوس للقاء بإمامهم ( عليه السلام ) :
أحدهما يتجه إليها عن طريق الري وساوة . .
والآخر يتجه إليها عن طريق شيراز .
فالإمام الرضا ( عليه السلام ) قد استأذن المأمون في قدومهم عليه (1) .
____________
(1) شبهاي بيشاور : ص 115 .

( 69 )

(1) هجرة إخوتها إلى شيراز

كان إخوة الإمام الرضا ( عليه السلام ) : أحمد ، ومحمد ، وحسين ، على رأس هذا الركب الذي ضم عدداً كبيراً من بني أعمامهم وأولادهم وأقاربهم ومواليهم ووصل عددهم إلى ثلاثة آلاف (1) .
وفي الطريق انضم إليهم جمع كثير من موالي ومحبي أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فصار عددهم ما يقرب من خمس عشرة ألف نسمة رجالاً ونساء (2) ، يتجهون إلى طوس عن طريق شيراز ليحظوا برؤية الإمام ( عليه السلام ) ، ويرفلوا بأثواب البركة في جواره (3) .
ولما وصل خبر القافلة وهذا التجمع الكبير إلى المأمون ، حشي على ملكه وسلطانه من التزلزل إذا ما وصلت هذه القافلة العظيمة إلى خراسان ، فأمر ولاته بمنع زحف هذا الركب وإرجاعهم إلى
____________
(1) أعيان الشيعة : ج3 ص 192 .
(2) شبهاي پيشاور : ص 117 .
(3) وما نُقل عن كتاب لباب أو لبّ الأنساب من أنّهم خرجوا لطلب الثار لاخيهم ، هذا لا يساعده التاريخ ، كما أنّه لا يناسب خروج قافلة مسالمة ، وإلا لتعرض لها كل ولاة وأتباع المأمون قبل شيراز .

( 70 )

المدينة (1) .
فجهز حاكم شيراز ـ آنذاك ـ جيشاً جراراً من أربعين الف جندي وتوجه إلى الركب ، فلتقى بهم في « خان زينان » على ثمانية فراسخ (2) من شيراز .
فتوقفت قافلة بني هاشم تستطلع الأمر .
قال الحاكم لهم : إن الخليفة يأمر بإرجاعكم من حيث أتيتم .
فقال أمير الركب أحمد بن موسى : إننا لا نريد سوى زيارة أخينا الإمام الرضا . وما قصدناه إلا بعد استئذان وإجازة المأمون نفسه .
قال الحاكم : قد يكون ما ذكرت ، ولكنّه أصدر الأمر إلينا بمنعكم من إكمال سيركم .
فتشاور الإخوة فيما بينهم ، واتفقوا على إكمال مسيرتهم ، واحتاطوا لذلك بجعل النساء في آخر القافلة . .
في الصباح تحركوا من جديد . .
ولكن حاكم شيراز وجنده الأربعين ألفا قطعوا الطريق عليهم . .
فبدأت معركة دامية ، أبدى فيها إخوة الإمام وسائر أفراد القافلة شجاعة فائقة ، ولا عجب في ذلك فهم من بني هاشم أصل الشجاعة ومنبت البطولة ، وعلى أثر ذلك انكسر جيش الأعداء ، وتفرقوا . . . فلجأوا حينئذ إلى المكر والخديعة .
____________
(1) ولعل سبب استقدام الإمام لإخوته هو كشف النوايا الخبيثة للمأمون ـ كما سيظهر لك ، فليست هجرتهم مجرد لقاء إخوة باخيهم ، وليست العواطف هي الباعث عليها وإنما الأمر فوق ذلك .
(2) أي على بعد 44 كيلومتراً من شيراز (الفرسخ الشرعي = 5 | 5 كيلومتر) .

( 71 )

فنادى رجل منهم : إن كان تريدون ثمّة الوصول إلى الرضا فقد مات ! !
فسرت هذه الشائعة بين أفراد القافلة كالبرق ، وهدّت اركانهم ، وكيف لا ؟ إنهم يسمعون خبر وفاة إمامهم ( عليه السلام ) .
وكان ذلك سببا لتفرق افراد القافلة عن الإخوة الكرام .
فتوجه الإخوة الثلاثة إلى شيراز ليلاً بعد أن غيروا البستهم حتى لا يعرفوا ، وتفرقوا فيها وتفرغوا للعبادة ، ولبثوا مدة دون أن يعرفهم أو يتوصل إليهم أحد .
ولكن على أثر انتشار الجواسيس توصلوا إلى مكان أحمد بن موسى .
فارسل الحاكم جيشاً كبيرا لاعتقاله . وكان أحمد بن موسى قد اختفى في دار أحد الموالين لهم ، فخرج من الدار يقاتلهم قتالاً مستميتاً دفاعاً عن نفسه .
فماذا يا ترى يفعل فرد واحد أمام بلدة مخالفة وجيش كبير ؟ !
إنه أظهر شجاعة عظيمة ، وكان بين فترة وأخرى يدخل الدار فيستريح . وعندما لم يتمكنوا منه لجأوا إلى الجيران ، وأحدثوا فجوة إلى تلك الدار عبر دار الجيران ز غافلوه وقتلوه في الموضع الذي نراه الاآن والمعروف بـ « شاه جراغ » .
كما أنّهم قتلوا أخاه ُ حسيناً بالقرب من بستان ، وله مزار أيضاً في شيراز ويُعرف بالسيد « علاء الدين حسين » .
وأما السيد محمد فلم يتمكنوا منه ، وعرف بكثرة العبادة ، ولذا
( 72 )

كان يلقب بـ « محمد العابد » ، وتوفي ودفن في بقعته الشريفة من شيراز (1) .

***

بعد أن عرفنا ما حدث لهذا الركب ، تعالوا بنا نستطلع ما يجري على ركب السيدة المعصومة وإخواتها الآخرين .
____________
(1) شبهاي پيشاور : ص 115 ـ 122 ، تحفة العالم : ج2 ص 28 .

( 73 )

(ب) ركب السيدة يحاصر في « ساوة »

كانت هذه القافلة تضم إثنين وعشرين علوياً ، وعلى رأسها السيدة فاطمة المعصومة ( عليها السلام ) وإخوتها : هارون (1) ، وفضل ، وجعفر ، وهادي (2) ، وقاسم ، وبعض من أولاد إخوتها ، وبعض الخدم (3) .
فأرسل المأمون شرطته إلي هذه القافلة أيضاً ، فقتل ، وشرد كل من فيها ، وجرحوا هارون المذكور ، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه (4) .
وكان ذلك نهاية اليمة ومفجعة لهذا الركب من بني هاشم ، فقدت فيها السيدة المعصومة ( عليها السلام ) سائر إخوتها ، فشابهت مثيبتها بفقدهم مصيبة عمتها زينب ( عليه السلام ) في كربلاء .
وخارت قواها وضعفت ، فسألت من حولها :
ـ كم بيننا وبين قم ؟
____________
(1) الحياة السياسية للإمام الرضا ( عليه السلام ) : ص 428 .
(2) لم يذكر أحد أن للإمام ولداً باسم هادي ولعله هارون وصحف .
(3) زندگاني حضرت معصومة ، نقلاً عن رياض الأنساب ومجمع الأعقاب .
(4) الحياة السياسية للإمام الرضا ( عليه السلام ) : ص 428 .

( 74 )

قالوا : عشرة فراسخ (1) .
فقالت : إحملوني إليها (2) .
وقبل أن نواصل معايشتنا مع السيدة المعصومة ( عليها السلام ) نتوقف قليلاً لنعرف شيئاً مما ذكره المعصومون ( عليهم السلام ) في فضل قم وأهلها .

(1 | ب) لماذا سميت هذه البلدة بـ « قم » ؟

في معجم البلدان : ـ قم ـ « قرية إسمها كمندان ، فأسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم (3) قما » (4) .
وفي دائرة المعارف ا لإسلامية الشيعية : أنّ أصل إسمها « كم » ـ بمعنى قليل بالفارسية ـ إذ كانت عبارة عن قرية صغيرة ثم عربت بعد الفتح الإسلامي فصارت « قم » (5) .
فهذان قولان مختلفان في سبب تسميتها بـ « قم » ، ولكن نفس
____________
(1) أي خمسة وخمسون كيلومتراً تقريباً .
(2) ترجمة تاريخ قم : ص 213 .
(3) أي بتعريب الأشعريين الشيعة الذين نزلوا بها في عام 83 هـ ، وهم غير الأشعريين أصحاب المذهب الكلامي .
(4) معجم البلدان : ج4 ص 397 .
(5) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية : ج3 ص229 و230 .

( 75 )

التاريخ لا يوافقهما ، إذ إن تسميتها بذلك كان معروفاً قبل الفتح الإسلامي ، ومنذ زمن كسرى « أنوشروان » .
ففي الأخبار الطوال : « . . . ثم قسم كسرى أنوشروان المملكة أربعة أرباع ، وولى كل ربع رجلاً من ثقاته ، فأحد الأرباع : خراسان ، وسجستان ، وكرمان ، والثاني إصبهان ، وقم ، . . . إلخ » (1) .
وفي موقعة « جلولاء » التي كان من قادتها الصحابي الجليل حجر بن عدي ، هزم يزدجر فتحمل بحرمه وحشمه وما كان مع من أمواله وخزائنه حتى نزل قم (2) .
فتسميتها بـ « قم » كان معروفاً قبل الفتح الإسلامي ، وعلى هذا فليس « الأشعريون » هم الذين سموها بـ « قم » كما ادعاه صاحب معجم البلدان .
فما هو سبب تسميتها إذن ؟
وباستعراض روايات المعصومين ( عليهم السلام ) ـ الذين هم ملاذنا وملجأنا دائماً وفي كل شيء ـ نجد ثلاث روايات في سبب هذه التسمية : ـ
الرواية الاولى :
عن الإمام الصادق (عليه السلام ) قال : « حدثني أبي ، عن جدي ، عن أبيه ، قال :
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما اُسري بي إلى السماء حملني جبرئيل على كتفه الأيمن ، فنظرت إلى بقعة بأرض الجبل حمراء
____________
(1) الأخبار الطوال : ص 67 .
(2) المصدر السابق : ص 128 .