البَابُ الأَوَّلُالبيئة1 ـ النجف قديماً وحديثاً : النَّجَفُ في اللغة : « مكان مستطيل منقادٌ ولا يعلوه الماء ، والجمع نجاف. ويقال هي بطون من الأرض في أسافلها سُهولة تنقاد إلى الأرض ، لها أودية تنصبُّ إلى لينٍ من الأَرض » (1) . وقال ياقوت الحموي : « النجف بالتحريك... هو بظهر الكوفة كالمُسنّاة تمنع مسيل الماء أن يعلوَ الكوفة ومقابرها... وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرته الشعراء في أشعارها فأكثرت... » (2) وللنجف جذور تاريخية عريقة يوم كانت جزءاً من حاضرة الحيرة التي تربع على عرشها المناذرة ، وبنوا فيها منازلهم وقصورهم لما كانت تتمتع هذه البقعة بطيب المناخ ، وحسن التربة ، واعتدال الهواء. وقديماً قال فيها الشاعر (3) :
____________ 1 ـ ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج5، ص395. 2 ـ معجم البلدان ، ج5، ص313. 3 ـ هو اسحاق بن إبراهيم الموصلي ، توفي سنة 235 هـ. 4 ـ أبو الفرج الأصفهاني : الأغاني ، ج5 ، ص367. وقد ورد لبقعة النجف عدة أسماء ، منها : الغري أو الغريان : وهو من الأسماء المتداولة الشائعة لبقعة النجف. وقد ورد كثيراً في معاجم الحديث وقواميس اللغة وكتب التاريخ والأدب. والغري أو الغريان : « تثنية الغري ، وهو المطلي. الغراء ممدود : وهو الغراء الذي يُطلى به... والغري نُصُب (1) كان يذبح عليها العتائر (2) والغريان : طِربالان وهما بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة قرب قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه » (3) . وادي السلام : من أسماء النجف المشهورة ، وقد ورد في بعض الأحاديث الدينية وعن لسان بعض الأئمة :. وهذا الأسم يطلق اليوم على مقبرة النجف الشهيرة التي تضمّ بين ثناياها أجساداً من الأقاصي الإسلامية أمّت النجف لتنال جوار أمير المؤمنين علي عليه السلام. وفي هذه البقعة المقدسة يقول الفرطوسي من ____________ 1 ـ النُّصُب : صنمٌ أو حجر ، كانت الجاهلية تنصبه ، وتذبح عنده فيحمرُّ للدم. ( لسان العرب ، ج14 ، ص156 ). 2 ـ العتائر : جمع العتيرة ، وهي الذبيحة التي كانت تُذْبَح للأصنام ويُصب دَمُها على رأسها. ( لسان العرب ، ج9،ص33 ). 3 ـ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج4، ص222 ، ويستطرد ياقوت في سرد قصة الغريين فيقول : « وأن الغريين بظاهر الكوفة ، بناهما المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء ، وكان السبب في ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد ، يقال لأحدهما خالد بن نضلة ، والآخر عمرو بن مسعود ، فثملا فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان في ظهر الكوفة ، ودفنهما حيين. فلما أصبح استدعاهما فأخبر بالذي أمضاه فيهما فغمه ذلك ، وقصد حفرتهما وأمر ببناء طربالين عليهما ، وهما صومعتان. فقال المنذر : ما أنا بملك إن خالف الناس أمري. لا يمر أحد من وفود العرب الاّ بينهما وجعل لهما في السنة يوم بؤس ، ويوم نعيم. يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ، ويغري بدمه الطربالين فإن رفعت له الوحش طلبتها الخيل ، وان رفع طائر أرسل عليه الجوارح ، حتى يذبح ما يعن ويطليان بدمه. ولبث برهة من دهره ، وسمى أحد اليومين يوم البؤس وهو اليوم الذي يقتل فيه ماظهر له من إنسان وغيره ، وسمي الآخر يوم النعيم يحسن فيه إلى كل من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم ». قصيدة بعنوان « وادي السلام » :
إلى أن يقول :
واكتسبت النجف أهمية وقداسة منذ أن احتضنت بين دفتيها جثمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فأصبحت ومنذ ذلك الحين مزاراً يُؤَمُّ من كل حدب وصوب ، وتربة يستشفى بها على حدّ قول الشاعر (2) :
هذا ما كانت عليه النجف قديماً. أمّا اليوم فهي مدينة واسعة تقع في سهل رملي على حافة الهضبة الغربية من العراق ، التي عند نهايتها تقوم الحدود السعودية. يحدها من الشمال والشمال الشرقي مدينة كربلاء ، ومن الجنوب والغرب منخفض بحر النجف ، ومن الشرق مدينة الكوفة (4) ____________ 1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1، ص299. 2 ـ هو الحسين بن الحجاج البغدادي ، توفي سنة 391هـ. 3 ـ محمد باقر الخوانساري : روضات الجنات ، ج3، ص162. 4 ـ جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج1، ص115. أمّا عن مناخها فيقول جعفر آل محبوبة : « هواء صيفها حار يابس وفي الشتاء بارد قارص وعندما يشتد الحر في الصيف يلتجىَ أهلها إلى سراديب منحوتة في الأرض نحتاً بديعاً » (1) ويقول في موضع آخر : « يهب الهواء الناشف الساكن الهادىَ في فضاء النجف ولم يحمل معه ما تتركه المياه المتعفنة والمستنقعات الوبيئة فتراه نسيماً خالصاً به ينتعش الحزين ويصبو الولهان ويستيقظ المستهام فيثير عواطف الوداد ويهيج هواجس الشوق فتتفجر براكين أرباب الغرام فترمي بقذائف الأفكار فتسبكها في بودقة الخيال فتنصب شعراً » (2). وتعتبر النجف من أهم الحواضر الاسلامية المقدسة بعد مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، والقدس الشريف. وهي اليوم جامعة تربوية دينية ، انتهت اليها مسؤولية تدريس علوم أهل البيت عليهم السلام واحياء أمرهم ونشر مذهبهم ، اضافة الى ريادتها التاريخية في الحفاظ على التراث الاسلامي وصونه من الضياع والتلف. 2 ـ الحياة الاجتماعية : ورثت النجف طبيعة قبلية كانت قد استفحلت فيها القيم البدوية والأعراف السائدة في العشائر التي نزحت اليها. فسكان النجف ينتمي بعضهم الى أعراب البوادي الرحالة القادمين من طوائف الحجاز ، وبعضهم ينتمي إلى عشائر العراق القاطنة على ضفتي دجلة والفرات ، بالإضافة إلى بعض العناصر المختلفة كالفارسي ، والهندي ، والتركي الذين تأثروا ببيئتهم الجديدة فأصبحوا جزءاً منها في عاداتها وتقاليدها وسلوكها الاجتماعي. ____________ 1 ـ ماضي النجف وحاضرها ، ج1 ، ص7. 2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص388. وفي مثل هذا المزيج من العادات والتقاليد والثقافات المتباينة كان لابد أن تظهر صراعات ونزاعات بين المحلات المختلفة في المدينة الواحدة. ولعل العامل المحفز في تشديد هذه الصراعات هو روح العصبية القبلية التي ورثتها النجف منذ القدم يوم كانت تقع على حافة الصحراء وقد أصبحت موئلاً لتموين القبائل البدوية التي تتجول في الصحراء بالقرب منها. وكثيراً ما كانت المشاحنات والمنازعات تقع بين أهل النجف وتلك القبائل. وهذا يجعل أهل النجف يشعرون بضرورة وجود عصبية قوية بينهم لتساعدهم على مدافعة القبائل البدوية عند الحاجة (1) . وفي هذا الصدد يقول علي الخاقاني : « ومعظم أهالي النجف يعيشون الى اليوم بالعقلية القبلية وبطبيعة أهل البادية. والنجف لم تتأثر بالحضارة الحديثة ولم تلتفت الى مقتضيات العصر كما يراد ، وان تجرد الفرد من المسؤولية أدى به الى فقدان مجتمع صالح يتعاون معه للقضاء على الرذيلة ومقاومة فاعلها... ، لذا ترى التكتل الاجتماعي قائماً على قدم وساق ، يزيده وينميه ضعف الوازع الديني والخلقي والنظامي ، ولذا تراه ينضوي تحت راية من يدعي القوة » (2) . والنجف بصحرائها القاحلة وبداوتها الجافية لم تكن بلدة زراعية بطبيعة الحال ، فجفاف التربة وقلة الأمطار أعدم الزراعة فيها الاّ القليل مما كان يزرع من الخضروات وبعض المحاصيل الزراعية التي لم تكن تسد حاجة المدينة من المواد الغذائية. فلذا عمّ الفقر والجوع بين الناس الى حد كان لا يجد الشخص رغيف الخبز الذي يقتات به ، وقد يقضي اليوم أو اليومين على الطوى دون أن يأكل ما يحفظ رمقه ويقيم أوده. وللشعراء في هذا الشأن خطب جليل. فقد أكثروا من شعر ____________ 1 ـ علي الوردي : دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ، ص179. 2 ـ شعراء الغري ، ج12 ، ص455. الفقر وقصيد الجوع الذي كان يعبر عن بؤسهم وشقائهم وما كانوا يعانون من آلام وأسقام. من ذلك قصيدة « تنويمة الجياع » لمحمد مهدي الجواهري (1) الذي صوّر فيها حالة الجوع التي استشرت في البلاد عامة :
____________ 1 ـ محمد مهدي الجواهري ( 1902 ـ 1997 م ) من أشهر شعراء العربية المعاصرين ، وأحد أعلامها المبرزين. له ديوان ضخم يقع في عدة أجزاء. 2 ـ ديوان الجواهري ، ج4 ، ص73. العراقية. تصنع في النجف النواعير الحديدية التي ترفع الماء من الأنهر بطريقة فنية لسقي المزارع ، وهذه تصرف في ضواحي النجف (1) . وإن كانت النجف قد شهدت تدنياً في الزراعة والصناعة فانها ازدهرت ازدهاراً ملحوظاً في علاقاتها التجارية مع البلاد العربية ، وذلك بسبب موقعها الجغرافي ولتوسطها بين بادية الشام والجزيرة من جهة وبين بغداد والبصرة من جهة اخرى. فقديماً كان التجار القادمون من الشام والحجازيأتون ببضائعهم الى النجف ليجدوا أمامهم بضائع الهند القادمة من البصرة وبضائع البلاد الأخرى القادمة من بغداد. وعن موقع النجف التجاري يقول الدكتور مصطفى جمال الدين : « تقع [ النجف ] بين الريف العراقي المنتشر على ضفاف الفرات ، وبين البادية الممتدة من العراق الى الحجاز ، وهي السوق المشتركة بين عشائر الريف وعشائر البادية ، فمنتوجات ( المشخاب ) و ( الشامية ) و ( العباسية ) و ( الكوفة ) وغيرها من الثمر ، والحنطة ، والشعير ، والرزّ ، تتجمع في ( خانات ) النجف لتُصدَّر بعد ذلك إلى بغداد ، والبصرة ، والموصل ، ومنتوجات البادية من ( القادسية ) و ( الحيرة )... من الغنم والصوف والوبر ، والسمن ، والجلود ، ترد الى ( مَناخة ) النجف لتصدَّر الى مناطق العراق الاخرى » (2) . وظلّت النجف على هذه الحال بالرغم من التطورات التي شهدتها في أوائل القرن العشرين من انهيار نظام الحكم العثماني واستبداله بالحكم البريطاني وما رافقه من تطور في شتى مرافق الحياة. فكان لابد من الاتصال بالعالم الجديد ____________ 1 ـ ماضي النجف وحاضرها ، ج1 ، ص403. 2 ـ مصطفى جمال الدين : الديوان ، ص14. والحضارة الجديدة ، وكان لابد من التطلع الى إنماء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية واللحاق بالركب الحضاري الجديد. الاّ أن ذلك لم يحصل في النجف ولم يلق ترحيباً من قبل أبنائها ، وذلك لأنها كانت ولا تزال مدينة شديدة المحافظة والانغلاق ، وقد ساعد على تأصيل هذه الميزة فيها محيطها الضيق ، ومناخها الصحراوي القاسي ، ومركزها الديني الهام. ويفصّل الدكتور مصطفى جمال الدين الحياة الاجتماعية في هذه المدينة المحافظة فيصفها بأنها ؛ « مدينة متحفظة أشدّ أنواع التحفّظ ، فالتزمّت هو السِمَةُ البارزة في المجتمع النجفي ، فلا يوجد في هذه المدينة ما كان يوجد في غيرها من المدن ، كالمسارح ، والنوادي ، والسينمات وأمثال ذلك ممّا يلهي الشباب عن دراستهم ، أو يُخرجهم عن تحفّظهم ، بل حتى ( المقاهي ) الصغيرة المبثوثة في بعض أنحاء المدينة ـ وهي خالية من كل شيء عدا الشاي ، والقهوة ، والنرجيلة ، وبعض المرطبات ـ يمتنع علينا ، نحن شباب الدراسات الدينية ، الجلوس فيها. وأذكر أنه لا يوجد فينا من يملك جهاز ( راديو ) مثلاً ، لذلك كنا في الأربعينات ننزوي في صالة جمعية ( الرابطة الأدبية ) لنستمع أخبار الحرب العالمية الثانية من ( الراديو ) الذي أهداه لها الملك غازي مع المكتبة الثمينة » (1) . وبغضّ النظر عن السلبيات التي قد تبعثها مثل هذه البيئة المقيدة ، فإنّ الجانب الايجابي قد يطغى عليها في كثير من الأحيان. فقد عرف النجفي بصفات كريمة مثل حسن الضيافة وكرم الطبع وسخاء النفس التي اصبحت جزءاً من طبيعته لا يمكن له الفكاك عنها. وهذه صفات قلّما نجدها في المدن الكبرى. وكذلك اتصف النجفي ـ ولكثرة احتكاكه بالآخرين ـ بسرعة التعرف وقوة ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ص17. الامتزاج التي تحصل عادة من رحابة الصدر ، ودماثة الخلق المتصفة برقة الطبع وخفة الروح. وثمة خصيصة اخرى تجلّت وبوضوح في طبع النجفي وهي نخوته وفتوته وسرعة اجابته في النجدة. وقد انعكست هذه الظاهرة على حياته الاجتماعية وتجسدت في تعامله وسلوكه مع أبناء وطنه (1) . والطريف أنّ مجتمعاً منغلقاً ومحافظاً كالنجف كان من أكثر المجتمعات انفتاحاً في تقبّله النقد السليم والفكرة السليمة ، ولعل ذلك يعود إلى عاملين ، كما يقول الدكتور مصطفى جمال الدين ، هما : القراءات المتنوعة للكتب والصحف والمجلات التي كانت ترد النجف من مختلف البلدان كمجلة العرفان والمقتطف والمقطم والهلال وغيرها من صحف العالم الاسلامي ، بالاضافة الى الصحف والمجلات التي كانت تنشر في النجف.. وثقافات الوافدين على النجف من مختلف الأقطار الاسلامية للتحصيل في مدارس النجف الدينية.. فقد ساعد هذان العاملان على بث روح المنطق والدرك المتقابل بالاضافة الى الجرأة والشجاعة في ابداء الرأي الصريح والنقد البنّاء مما يندر تحققه في المجتمعات المنغلقة والمتزمتة. والشواهد في هذا الصدد كثيرة ، أذكر على سبيل المثال موقف الشيخ صالح الجعفري (2) الذي وجه نقداً لاذعاً لوفود المسلمين المجتمعين في مكة لاداء مناسك الحج ، مذكراً إيّاهم بصمود الزعيم الهندي ( غاندي ) في تحديه الاستعمار الذي قاد الى تحرير الهند. يقول مخاطباً :
____________ 1 ـ للتوسع ينظر شعراء الغري ، ج12 ، ص454 ـ 481. 2 ـ صالح الجعفري ( 1908 ـ 1979م ) أديب معروف وشاعر شهير. له ديوان شعر. ( شعراء الغري ، ج4، ص296 ).
كانت المرأة النجفية تشكل جزءاً من بيتها ، قلّما تختلط بغير ذويها الاّ في المناسبات الدينية والمآتـم الحسينية التي تقيمها النساء ، أو فـي حفلات الأعراس. وكانت إذا أرادت الخروج من بيتها عند اقتضاء الحاجة لبست عباءة طويلة تستر تمام بدنها دون أن تُظهِر زينةً أو تحدِث إثارة. فهي تحرص على حجابها أشدّ الحرص وترى فيه سلامة دينها وكمال شخصيتها وتمام تربيتها وأخلاقها. وحين ظهرت الدعوة إلى تعليم المرأة وإنشاء مدارس للبنات ، جوبهت في بادىء الأمر بمعارضة شديدة ورد فعلٍ عنيف من قِبَل الناس ، لأنهم كانوا يعتقدون بانّ خروج المرأة من بيتها وممارسة التعليم في الخارج يُبعدها عن القيم الأخلاقية السائدة والأعراف الاجتماعية الموروثة ممّا قد يؤدي في النهاية إلى ____________ 1 ـ مصطفى جمال الدين : الديوان ، ص23 ، 24. فسادها وخروجها عن طريق العفّة والحياء. ومع مرور الزمان انشق الناس في امر تعليم المرأة الى فريقين. فريق ايّد فكرة التعليم من خلال التمسك بالشريعة الاسلامية والمحافظة على الشؤون الدينية ، وفريق دعا الى التعليم من خلال تبرّج المرأة وسفورها. وقد لعب الشعراء دوراً هاماً فـي قيادة الفريقين. ففي النجف اهتم شعـراؤهـا بفكرة التعليم من خـلال محافظة المرأة على سترها وحجابها ، بينما راح بعض الشعراء كالرصافي والزهاوي يدعون الى فكرة التعليم من خلال تبرج المرأة وسفورها. والجدير بالذكر انّ بعض علماء النجف أيّدوا مسألة تعليم المرأة وتحمسوا لهذه الفكرة شريطة أن تكون ضمن اطار التعاليم الاسلامية والأعراف الاجتماعية السائدة ، ومن اولئك الشيخ محمد رضا الشبيبي (1) الذي ضجّ من تفشي الجهل والخمول بين الفتيان والفتيات :
وكذلك فعل الشيخ صالح الجعفري حين دعا الى تعليم المرأة ومناصرتها في إحقاق حقوقها المشروعة في المجتمع. يقول من قصيدة :
____________ 1 ـ محمد رضا الشبيبي ( 1887 ـ 1965م ) عالم أديب ، وسياسي وطني ، وشاعر معروف ، له ديوان شعر ومؤلفات في الدين والتاريخ والأدب. ( معجم رجال الفكر والأدب في النجف ، ج2 ، ص718 ). [ بتصرف ]. 2 ـ ديوان الشبيبي ، ص55.
وقد تبارى غير واحد من الشعراء في هذا الشأن وطالبوا بتعليم المرأة واصلاح بعض النظم الاجتماعية. من بينهم الشاعر عبد المنعم الفرطوسي الذي راح ينتهز كل فرصة ليعلن ثورته على التقاليد السقيمة التي تجرّ البلاد والأمة الى الضياع والتهلكة :
وفي هذا الشأن أيضاً يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي طالب بفتح مدرسة رسمية للبنات وذلك عام 1929م :
____________ 1 ـ علي الخاقاني : شعراء الغري ، ج4، ص313. 2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1، ص229.
وهكذا استمرت الدعوات والمطالبات ردحاً من الزمن حتى أصبح تعليم المرأة أمراً أساسياً ، وحقاً من حقوقها المشروعة ، وجزءاً لا يتجزأ من بناء المجتمع المتحضر الذي يصبو إلى الكمال والحياة الفضلى. 3 ـ الحياة السياسية : شهد العراق منذ مطلع القرن العشرين ثلاثة من أنظمة الحكم : الحكم العثماني ، والحكم الملكي ، والحكم الجمهوري. والذي يهمنا في هذا البحث هو تسليط الضوء على الأجواء السياسية التي مرّ بها العراق في كل من العهدين الملكي والجمهوري ، حيث الفترة التي عاشها الشاعر وتأثر بأحداثها وتقلباتها السياسية. وتمهيداً للبحث لابد من الاشارة الى الخلفيات التاريخية للأحداث التي أطاحت بالنظام العثماني وأقامت على أنقاضه حكماً ملكياً في العراق. خضع العراق منذ عام 1534 م للهيمنة العثمانية مدة تقارب الأربعمائة سنة. وقد استمرت هذه الهيمنة حتى عام 1918م حين اندلعت نيران الحرب العالمية الاولى ودخل الأتراك طرفاً مواجهاً للأنجليز وحلفائهم. فانجرّ العراق دون أن ____________ 1 ـ ديوان الجواهري ، ج1 ، ص462. يشاء الى مواجهة المستعمر الجديد الذي راح يقتطع جزءاً فجزءاً من أراضيه ليعلنها مستعمرة له. وقد انبرى علماء الشيعة في النجف لهذا الاحتلال السافر وعاضدوا الأتراك بالرغم من الاضطهاد العنصري والطائفي الذي أعمله العثمانيون بحق الشيعة ، الاّ أنّ علماء الدين رأوا في الغزو البريطاني خطراً اكبر يهدد الاسلام والأمة الاسلامية ، فافتوا بوجوب الدفاع عن بيضة الاسلام والوقوف بجانب الأتراك ضد المحتل الانجليزي (1). فاشتركت جموع غفيرة من مجاهدي النجف مع الجيش العثماني بقيادة علماء الدين ، أمثال السيد محمد سعيد الحبوبي (2) ؟ الذي قاد جيشاً جرّاراً الى جبهة ( الشعيبة ) بالبصرة ، حيث أبلى بلاءً حسناً في مجابهة المحتل الغاصب. لكن الأتراك لم يحفظوا هذا الصنيع لأهل النجف ، بل راحوا يطاردون الفارّين من الخدمة العسكرية ، ويوسعون الأهالي ظلماً وتنكيلاً ، بالاضافة إلى أنّهم قرروا مصادرة محتويات « الخزائن » الموجودة في العتبة المقدسة للانفاق على شؤون الحرب ، واجبار الشباب على الخدمة في الجيش. فبدأوا بتفتيش البيوت ليلاً وتعرضوا للنساء بحجة انّ الرجال كانوا يختفون بزي النساء تهرباً من الجندية. فضاق النجفيون ذرعاً بهذه الأعمال الشنيعة ، وهبّوا غاضبين ضد الأتراك ، وقاتلوهم قتالاً عنيفاً حتى استتب لهم الحكم في نهاية الأمر (3). وظل الأتراك مطاردين من قبل الناس حتى انحسر ظلهم عن العراق تماماً ____________ 1 ـ جعفر آل محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ، ج1 ، ص341. 2 ـ محمد سعيد الحبوبي ( 1266 ـ 1333هـ ) من علماء النجف المجتهدين ومن فحول الشعراء. له ديوان شعر وكتابات في الفقه والأصول. ( معجم رجال الفكر والادب في النجف ، ج1 ، ص387 ). 3 ـ جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج4 ، ص294. يوم اعلنت الهدنة في الأول من تشرين الثاني عام 1918م (1) وهكذا تم تقويض السلطة العثمانية لتحل محلها سلطة الانجليز التي لم تكن هي الأخرى بأقل من سابقتها ظلماً وعدواناً. وعن هذه الفترة الانتقالية التي عاشها العراق يذكر الشيخ محمد رضا الشبيبي في قصيدة له بعنوان « شكوى وعتاب » سياسة الأتراك التعسفية ضد العراق وأبنائه ، وما آلت اليه هذه السياسة من تفشي الجهل والفساد في أوساط المجتمع :
ويتابع الشاعر سرد ممارسات العثمانيين حتى يصل الى قومه فيتحدث ____________ 1 ـ عبد الرزاق الحسني : العراق قديماً وحديثاً ، ص30. عنهم قائلاً :
وأخذ النفوذ البريطاني يتسع شيئاً فشيئاً في ربوع العراق بعد أن سقط الجنوب وتمت السيطرة على بغداد. أمّا النجف فبقيت بأيدي أهلها سنتين كاملتين لم يتدخل البريطانيون في شؤونها. الاّ انهم عمدوا بعدها إلى ارسال ( الكابتن مارشال ) حاكماً على النجف مع عدد من الحراس والجنود. وقد كان هذا الحاكم سيّء المعاملة ، شديد التنكيل بأهالي النجف ، لم يترك اسلوباً في العنف والاضطهاد الاّ اقترفه. مما حدا بالنجفيين الى التفكير في الدفاع عن بلدهم والتخلص من أسر المحتل. فألّفوا ( جمعية سرية ) باشراف ثلة من علماء الدين على رأسهم السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ محمد جواد الجزائري (4) وقد أسهمت هذه الجمعية مساهمة كبرى في إضرام نار الثورة وإشعال فتيلها ضد الغازي المحتل. وفي ليلة يوم الثلاثاء الموافق 6 جمادى الآخرة سنة 1366هـ | 9 آذار سنة 1918م اجتمع عدد من ثوار الجمعية وقرروا القيام بعملية قتل الكابتن مارشال ، ____________ 1 ـ الأرْي : العسل. ( لسان العرب ، ج1، ص127 ). 2 ـ يُقيد : من القَوَد بمعنى القصاص. ( لسان العرب ، ج11 ، ص342 ). 3 ـ ديوان الشبيبي ، ص27. 4 ـ جعفر آل محبوبه : ماضي النجف وحاضرها ، ج1، ص344. وتم لهم ما ارادوا. وعلى اثر هذا الحادث تحركت حكومة بغداد فأرسلت جيشاً جراراً يضم خمساً وأربعين ألف جندي يقوده ( الكابتن بلفور ). فطوق المدينة بالجنود ، وحفر الخنادق ، وقطع عنها الماء ، وحاصرها من جميع الجهات. فدارت بين الثوار وجنود المحتلين معارك طاحنة حصدت من الطرفين نفراً كثيراً. واستمر الحصار على البلدة أكثر من أربعين يوماً ، وأشرف الأهلون على مجاعة ، فطالبوا السلطة بفك الحصار والعفو عن الثوار ، الاّ انّ السلطة المحتلة فرضت لفك الحصار شروطاً لم يجد النجفيون بُداً من تنفيذها. وبذلك تم للبريطانيين الغلبة فقبضوا على قادة الثورة واعدموا منهم عدداً ونفوا آخرين. وعن هذه الثورة وما ترتب عليها من معطيات ثمينة يقول جعفر آل محبوبة : « ونستطيع أن نقول بلا مجازفة إنّ ثورة النجف هذه هي الخطوة الأولى للقضية العراقية والبذرة الوحيدة لنتاج الفكرة الفراتية واتجاهها نحو استقلال العراق. إذ النجف هو المركز الروحي والعاصمة الكبرى لعموم الشيعة وقد أعطت بموقفها هذا درساً شافياً ومنهجاً واضحاً نفعها في نيل مآربها وتحقيق رغائبها في فك شعبها من رق الاستعمار. ومما ساعد على ذلك أن فكرة الحرية والاستقلال وإحياء المجد العربي قد تغلغلت في الأدمغة ونضجت وشعر بها أكثر العراقيين فلذلك نجحت نجاحاً باهراً وتقدمت تقدماً غريباً » (1). وقد وصف الشيخ محمد جواد الجزائري ( 2 ) ثورة النجف بقصيدة رائعة قال فيها :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1، ص350. 2 ـ محمد جواد الجزائري ( 1298 ـ 1378هـ ) عالم مجاهد ، وشاعر معروف. ( شعراء الغري ، ج7 ، ص350 ).
واستمر وهج الثورة في التأجج بالرغم من فشل ثورة النجف عام 1918. فكانت فكرة التحرر تأخذ مكانها يوماً بعد آخر في أذهان الناس. وبدأ العمل بالتمهيد لثورة عارمة تعم العراق كله ويشارك فيه الشعب بجميع شرائحه. ودائماً كانت النجف مركز انطلاق الثورة والفتيل الملتهب لجميع الانتفاضات. ____________ 1 ـ السماكان : نجمان نيّران. ( لسان العرب ، ج6 ، ص369 ). 2 ـ المعامع : شدة الحرب. ( لسان العرب ، ج13 ، ص144 ). 3 ـ حرب زَبُون : تَزْبِنُ الناس أي تصدِمُهم وتدفعهم. ( لسان العرب ، ج6 ، ص16 ). 4 ـ ديوان الجزائري ، ص16. والنجف كما وصفها المؤرخ عبد الرزاق الحسني : « كانت قذىً في عين السياسة البريطانية... بسبب مركزها الديني الواسع النطاق ، وتأثير علمائها في جماهير الشعب ، فقد كانت أول بلدة أحسّت بثقل السلطة الأجنبية ، وأول مدينة عراقية فكرت بالتخلص من الاستعمار البريطاني ، بالنظر الى ما كانت قد تشبعت به من روح الحرية والنزوع الى الديمقراطية ، وبسبب ما كانت تلقاه من دروس متواصلة عن فلسفة نهضة الامام أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام ، وبسبب كونها مهد العلماء ومركز الروحانية » (1). وبدأ التحرك السياسي للشعب بالمطالبة بحقوقه واستقلال بلاده وذلك عن طريق تنظيم المضابط والرسائل وارسالها الى سوريا والحجاز للنظر في الامر. الاّ أن ذلك لم يجد نفعاً ، فقررت الجهات العاملة في الحقل الوطني بمظاهرات سلمية تحت شعار الدين ، بمعنى أن تكون المناسبات الدينية وحفلات المولد النبوي اجتماعات سياسية لبحث القضية الوطنية والمطالبة بالحقوق المشروعة. واستمر هذا الغليان حتى كانت محاولة القبض على الزعماء السياسيين في بغداد في الثاني عشر من آب عام 1920 م ، فتقرر القيام بالحركة المضادة (2). وهكذا أخذ العمل السياسي ضد الانجليز يسير نحو التصعيد ، وبتوجيه من علماء الدين ، وخاصة بعد فتوى الامام محمد تقي الشيرازي التي جاء فيها : « المطالبة بالحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن ، ويجوز لهم التوسل بالقوة إذا امتنع الانجليز عن قبول مطالبهم » (3). واندلعت الثورة العراقية الكبرى في الثلاثين من حزيران عام 1920 والتي ____________ 1 ـ الثورة العراقية الكبرى ، ص69 ، 70. 2 ـ المصدر السابق ، ص190. 3 ـ عبد الصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص90. عرفت فيما بعد بثورة العشرين ، يقودها علماء الدين ورؤساء العشائر والزعماء السياسيون ومن خلفهم كافة شرائح المجتمع. وقد ساهم الشعراء والادباء وخاصة شعراء النجف مساهمة فعالة في إشعال لهب الثورة في أرجاء الوطن ، وتشجيع الأمة على المضي في ثورتها حتى النصر والظفر (1). ويعزو المؤرخ عبد الرزاق الحسني قيام ثورة العشرين الى عوامل خارجية وداخلية : فالمشروطية في ايران ( 1905م ) ، والانتفاضة الدستورية في تركية ( 1908م ) ، والثورة الحجازية عام 1916م ، والوثبة المصرية في عام 1919م ، وقيام الحكومة الفيصلية في الشام عام 1920م ، وعبث الحلفاء قبلئذ بالعهود التي قطعوها للعرب ، كانت كل هذه من المؤثرات الخارجية في الثورة العراقية. أمّا عواملها الداخلية فتكاد تنحصر بسوء الادارة المحتلة باضطهادها الشعب ، واحتياجات الجيش المحلية من جمع الطعام واستخدام وسائل النقل وتقييد التجوال والأسفار وتشغيل عمال المزارع في الجيش ، ومعاملة الناس بالخشونة ، وتولي العسكريين مهام رجال السياسة ورجال الادارة ، وسلب ثروة البلاد المعاشية (2) . وأدرك الانجليز خطورة الوضع وتفاقم الأزمة ، فعمدوا الى ضرب الثورة من الداخل عن طريق أساليب الغدر والخيانة وشراء الضمائر بالمال والمناصب. ولاشك ان عدم التكافؤ بين الطرفين في النواحي الاقتصادية والتكنيكية والعسكرية أدى إلى فشل الثورة ـ ان جاز لنا التعبير ـ لأن ثورة العشرين كما عبر عنها المؤرخ عبد الرزاق الحسني : « على الرغم من فشلها عسكرياً ـ نظراً الى ____________ 1 ـ محمد بحر العلوم : حصاد الأيام ، ص337. 2 ـ الثورة العراقية الكبرى ، ص134. التفوق البريطاني بما يملكه من أسلحة وجيش منظم وتجارب قتالية ـ اضافة الى عوامل الضعف في الحركات الوطنية العراقية ، قد نجحت سياسياً لايقاظها وعي الشعب بمختلف طبقاته وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما دفع بالانجليز الى اعطاء العراق حكماً شبه وطني بعد تأمين مصالحهم الرئيسية فيه » (1). وانتهت ثورة العشرين بعد مفاوضات طويلة استمرت بين الجانب الانجليزي وعلماء الدين الشيعة في النجف آلت في النهاية الى اقامة الحكم الوطني واختيار ملك عربي يحكم العراق. وقد وقع الأختيار على فيصل ابن الشريف حسين ليكون أول ملك للعراق وذلك في الثالث والعشرين من آب عام 1921 م (2) . الاّ ان الاضطرابات لم تخمد في عهد فيصل على الرغم من محاولاته إجراء الانتخابات وتشكيل المجلس التأسيسي ومن ثم المجلس النيابي ومجلس الوزراء بسبب الهيمنة البريطانيه على قرار العراق السياسي. فمنذ أن تسلَّم الملك الحكم وحتى وفاته في أيلول سنة 1933 تم تشكيل عدة وزارات لم تدم سوى اشهر قلائل بسبب التدخل البريطاني في الشؤون الحكومية. وقد شهد العراق في العهد الفيصلي أحداثاً كبيرة يأتي في طليعتها انضمام العراق الى عصبة الامم سنة 1932 م حيث انحسر ظل الانتداب ـ بالظاهر ـ ومنح العراق استقلاله (3). وبعد وفاة الملك فيصل تُوّج نجله غازي ملكاً على العراق وذلك في الثامن ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ص456. 2 ـ مجلة الموسم : العددان 9 ـ 10 ( 1991 م ) ، ص 18. 3 ـ جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج4 ، ص 329. من أيلول سنة 1933 م (1). الاّ انّ هذا التتويج لم يلق ارتياحاً من قبل البريطانيين لما كانوا يعهدون في هذا الملك الشاب من تطلع نحو تحرر العراق الكامل من النفوذ الأجنبي. وقد أكسبت طموحات الملك الشاب الوطنية والقومية التي جاءت منسجمة مع تطلعات الرأي العام العراقي ، تأثيراً شعبياً واسع النطاق ، ولكن من جانب آخر نال جفاء الانجليز وبعض الساسة العملاء الذين تضررت مصالحهم بسبب سياسة الملك الذي أراد ممارسة سلطاته الدستورية بصورة نظرية وواقعية (2). وعندما أحست بريطانيا اصطدام مصالحها بسياسة الملك الوطنية والقومية حاولت التخلص منه بشتى الوسائل. وقد تسنى لها ذلك بمصرع الملك في حادث سير مدبر وذلك في الرابع من نسيان عام 1939 م (3). وبعد رحيل الملك غازي ، تُوّج نجله فيصل الثاني فأصبح ثالث ملك على العراق. ولصغر سنه تسلّم خاله الأمير عبد الاله مقاليد الحكم بالوصاية حتى سنة 1953 م حيث تم تفويض السلطات الدستورية الى الملك. وفي عهد الأمير عبد الاله عاش العراق فترة عسيرة من حياته. فقد كثرت فيها الاضطرابات وعلت صيحات الغضب الشعبي من جرّاء أساليب القمع والاضطهاد التي بلغت حداً لا يطاق. واستمرت هذه الحال حتى تم القضاء على الحكم الملكي في العراق وذلك في الرابع عشر من تموز عام 1958 م بالثورة التي قادها عبد الكريم قاسم (4). ____________ 1 ـ لطفي جعفر فرج : الملك غازي ، ص 63. 2 ـ المصدر السابق ، ص 277. 3 ـ المصدر السابق. 4 ـ عبد الرزاق محمّد أسود : موسوعة العراق السياسية ، ج 4 ، ص 434 ، 435. انهى عبد الكريم قاسم بثورته سبعاً وثلاثين سنة من الحكم الملكي. وقد عوّل الشعب آمالاً كبيرة على هذه الثورة الاّ انها آلت في النهاية الى صراعات حادة واشتباكات عنيفة بين ضباط الثورة من جهة ، وبين الحركات السياسية التي ظهرت في عهد قاسم كحركة القوميين وحركة الشيوعيين من جهة اخرى. ولم يصمد عبد الكريم قاسم في سدّة الحكم سوى خمس سنين حيث تم القضاء عليه بانقلاب عسكري قام به عبد السلام عارف في الثامن من شباط عام 1963 م (1). ولم يهدأ العراق بعد انقلاب عارف. فقد زج في دوامة من الانقلابات والصراعات العسكرية التي آلت في النهاية إلى مصرع عارف سنة 1966 م وتسلّم أخيه عبد الرحمن عارف زمام السلطة. وقد بقي هذا الأخير في سدّة الحكم سنتين ثم اُجلي عن منصبه بعد أن تسلّم حزب البعث مقاليد الحكم في السابع عشر من تموز عام 1968 م (2). ____________ 1 ـ جمال مصطفى مردان : عبدالكريم قاسم ، البداية والسقوط ، ص 145. 2 ـ عبدالوهاب الكيالي : موسوعة السياسة ، ج 4 ، ص 62. |