3 ـ التاريخ : لم يغفل الشيخ الفرطوسي عن مكانة التاريخ في التعبير الشعري ومدى تأثيره في حياة الناس. فقد استخدم الشاعر هذا العامل المحفز للإشادة بأمجاد السلف وتذكار تراثهم العريق الحافل بالمفاخر والبطولات ليستنهض همم أبناء جلدته ، ويثير في نفوسهم الحماس والحمية من أجل الدفاع عن مبادئ الدين القويم ، والحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله. وكثيراً ما أشاد الشاعر بالماضي القديم ليستعيد من وهجه المضيء قبساً ينير درب المستقبل الذي اظلمته الحروب والويلات وعكّرت صفوه النوائب والأزمات :
ويلح الشاعر على تصفح التأريخ المجيد ليقرأ في صحائفه الوضّاءة أمجاد أمّته الخالدة التي حققت النصر والغلبة تحت راية الأسلام وبنصر من الله مؤزّر :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص 217.
ولم يكتف الشاعر بتذكار الماضي البعيد ، بل راح يشيد بأحداث قريبة العهد من مثل ثورة العشرين التي فجرها الشعب ضد المحتل الأنجليزي في مطلع هذا القرن :
وهكذا ينفذ التاريخ إلى شعر الفرطوسي عبر أحداثه المتفاوتة وأزمانه المختلفة ليشكل منعطفاً هاماً وجزءاً كبيراً من نتاج الشاعر وخاصة نتاجه في حقل السياسة والعمل الوطني. ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص 219. 2 ـ أسد عَفرنى ، أي شديد قوي. ( لسان العرب ، ج9 ، ص285 ). 3 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص73. ثالثاً : الخصائص 1 ـ التوظيف والألتزام : لعل من أهم الخصائص التي امتاز بها الشاعر الفرطوسي في منظوماته وأشعاره ، الهدفية والألتزام التي واكبت مسيرة شعره اكثر من خمسة عقود. ونعني بالألتزام هنا ، الألتزام بمعنييه العام والخاص. فالاول وهو أن يتناول الشاعر مشكلة اقتصادية أو سياسية تتصل بالهموم العامة للأنسان في محاولة منه لمعالجتها وايجاد سبل لحلها من خلال المعيار الاجتماعي والفردي (1). أمّا الألتزام بالمعنى الخاص فنقصد به الأدب الذي جسّد الاسلام في حقيقته وتناول في أغراضه المختلفة سيرة ومعارف أهل البيت عليهم السلام (2). وفي كلا المعنيين نجد الفرطوسي يوظف شعره في الاتجاهين المذكورين سواء الاتجاه الاجتماعي والسياسي أو الاتجاه الديني المتمثل بنشر حقيقة الاسلام ومعارف وعلوم أهل البيت عليهم السلام. ففي المعنى الاول يتجه الفرطوسي اتجاهاً واضحاً لا غبار عليه محاولاً من خلاله معالجة قضايا المجتمع والأخذ بعين الاعتبار سبل الأصلاح والتوعية. ولا تمضي سنة من عمر الشاعر إلاّ ونقرأ له شعراً في هذا الخصوص. ففي سن التاسعة عشرة مثلاً ينظم الشاعر قصيدة « التقاليد » التي دعا فيها أبناء جلدته الى اليقظة والنهوض من أجل الاصلاح والتعليم وخاصة تعليم الجنسين وتربيتهما ترتبية صالحة وسليمة : ____________ 1 ـ محمود البستاني : الاسلام والفن ، ص9. 2 ـ محمود البستاني : تاريخ الأدب العربي ، ص442.
وفي سن العشرين ينشد قصيدة « غارس الورد » التي أشار فيها الى مآسي الفلاحين وما يعانون من شظف في العيش وضيق في الحياة :
____________ 1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص229. 2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص317 ، 318. التي كان يحياها معظم الناس دون الاقلية من الاغنياء. هذا على الصعيد الأجتماعي والسياسي ، أمّا على الصعيد الديني فقد اهتم الشاعر بهذا الجانب اهتماماً كبيراً بلغ فيه أن خصص قسماً كبيراً من نتاجه الأدبي لهذا الغرض. فثلث ديوانه المكوّن من جزئين يختص بذكر أهل البيت عليهم السلام ، وموسوعته الشعرية الكبرى ـ ملحمة أهل البيت عليهم السلام ـ التي جاوزت الأربعين الف بيت تندرج في الإطار ذاته. ولهذا عرف الشيخ الفرطوسي في الأوساط الادبية والدينية بشاعر أهل البيت لغزارة شعره وكثرة نظمه فيهم عليهم السلام. ومنشأ هذا الألتزام بشعر وأدب أهل البيت عليهم السلام انّما يعود الى التربية الاسلامية المبتنية على حب أهل البيت عليهم السلام والتي ترعرع الشاعر في ظلها واستضاء بقبس نورها وضياء هدايتها. وقد عبر الشاعر عن هذا الحب المتأصل في ذاته في مواقع كثيرة ، منها قوله :
ومهما يكن من أمر فأن الشاعر من جهة حرص كل الحرص على أن يوظف شعره وأدبه في خدمة المجتمع ليعالج من خلاله شؤونه الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن جهة اخرى تبنى موقفاً دينياً واضحاً يهدف الى خدمة الدين الاسلامي ونشر معارف أهل البيت عليهم السلام. ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص52. 2 ـ الواقعية والموضوعية : سيطر الواقع الاجتماعي والسياسي على شعر الفرطوسي سيطرة بعثت فيه روح الاندفاع نحو الأصلاح والنهوض بوجه الأمر الواقع الذي يفرضه المستعمر الغاشم بشتى حيله الاقتصادية والسياسية والثقافية. فكان الشاعر يدرك هذا الواقع المر من خلال حسه الشعوري المرهف وتواجده الفاعل والمستمر في الساحة. وكان مواظباً في تصويره للواقع الاجتماعي والسياسي مبتعداً عن حالة الغموض والرمزية مستخدماً الطريقة المباشرة في التعبير ليتسنى لعامة الشعب فهم رسالته واستيعابها بسهولة. وكان الشاعر يعيش مع الأحداث ويواكب مسيرتها خطوة بخطوة ، ويحاول الالتفات الى منعطفاتها الخطيرة التي تذهب بالأمة الى هاوية الانزلاق والسقوط. فنلحظه مثلاً عندما نشبت الحرب العالمية الثانية يصرخ مندداً بهذه الطامة العظمى التي أضرمتها نار الأحقاد والضغينة لتحيل نعمة الأرض وخيرها نقمة وشقاءً :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص159. وما ان وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ التأزم الاقتصادي يتفاقم ، وبدأت المشاكل تتوالى الواحدة بعد الاُخرى ، وبدأ الفساد يدب في المجتمع دون رادع ومانع. فعزّ على الشاعر أن يرى أبناء شعبه وهم يتخبطون في البؤس والشقاء ، فأشاد بالاصلاح ودعا المصلحين إلى العمل من أجل خلاص الشعب من ربقة العناء والألم :
ولم تقتصر نداءات الشاعر ومناشداته الاصلاحية على عصر أو حكم. فكما طالب بالاصلاحات في العهد الملكي نراه يطالب بها وباندفاع أكبر في العهد الجمهوري. ومواقفه في هذا الخصوص كثيرة ، منها قصيدته اللاذعة التي ألقاها في المهرجان الكبير الذي اُقيم في مدينة النجف عام 1963م بمناسبة مولد الامام الحسين عليه السلام والتي قال فيها : ____________ 1 ـ الوَضَح : الضَّوء. ( لسان العرب ، ج15 ، ص323 ). 2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص144 ، 145.
إلى أن يقول :
هكذا كانت الواقعية والموضوعية تفرض ارادتها على أدب الشاعر ونتاجه دون أن ترهبه عواقب نقداته اللاذعة وآرائه الصريحة التي كانت بطبيعة الحال تضع الشاعر في مواقف خطيرة ومواقع لا يجني منها سوى المضايقة والاضطهاد. ولكن الشاعر وبغض النظر عن كل ما يعترض طريقه من شوك وقذى حرص على أن يكون لسان حال شعبه ومتنفسه الوحيد الذي منه يستنشق الحرية والاستقلال. ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص94 ، 95. 3 ـ التجديد والإِبداع : ونقصد بالتجديد ، التجديد في اللغة والفكرة لا في الوزن والقافية. فالشاعر كما تستوضحنا أشعاره شاعر مقلّد شديد المحافظة على أشكال الشعر الموروثة وقوالب النظم القديمة. وهو من هذا المنظار شاعر تقليدي أو كما يسمونه اليوم شاعر كلاسيكي يدرج في نظمه على أسلافه الماضين. أمّا التجديد المنظور في شعر الفرطوسي فمنه التجديد في اللغة الشعرية والأُسلوب البياني. فقد وفق الشاعر وبالرجوع إلى منابع اللغة العربية الصافية إلى بيان شعري متميز يتصف بسلامة اللغة ونقائها ، ونصاعة العبارة ووضوحها ، وبالتخلص من الاستعمالات البديعية المسرفة سوى التي تأتي مرسلة وعن سبيل العفوية. وقد حرص الشاعر على أن تكون لغته الشعرية قريبة المتناول ، يسيرة الفهم تأخذ طريقها إلى قلوب الناس عامة وخاصة على السواء. فكان ينتقي الألفاظ الأكثر شيوعاً في اللغة ذات الصلة باللغة الحوارية بين الناس ليتسنى للمتلقي استيعاب المضمون وفهم رسالة الشاعر. فمثلاً يفضل الشاعر استخدام كلمة « الوضع » بدلاً من « الواقع العام » أو « العرف السائد » وغيرها من المصطلحات التي تشيع غالباً عند الطبقة المثقفة والمتعلمة من الناس (1). فهو يؤثر كلمة « الوضع » على سائر مرادفاتها العصرية لتداولها بين العامة وتقبّلها من قبل الخاصة. يقول الشيخ الفرطوسي عن موقع الشاعر الطموح من « الوضع » ____________ 1 ـ عبدالصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص616. الاجتماعي المتخلّف :
وفي السياق ذاته تتكرر مفردة « الوضع » في بيتين تاليين والخطاب لا يزال موجهاً للشاعر الطموح :
ومن معالم التجديد في شعر الشيخ الفرطوسي ، التجديد في الأفكار والأغراض الشعرية. وتبرز هذه الظاهرة في جميع الأغراض التي طرقها الشاعر. ففي المديح مثلاً نجد الفرطوسي يجدد في شكل القصيدة ومضمونها. فهو لا يقلد القدامى في تقديم القصيدة بالغزل والنسيب وذكر الأطلال وغيرها ، بل يدخل إلى صلب الموضوع بدون مقدمات وممهدات. امّا من ناحية المضمون فيتخذ الشاعر من المديح ذريعة لبث الأفكار السامية والمضامين القيمة التي تعود على المجتمع بالخير والمنفعة. فنراه مثلاً عندما ينظم قصيدة في المدح كالقصيدة التي مدح فيها الشيخ محمد الحسين الكاشف الغطاء عند عودته من المؤتمر الاسلامي في الباكستان عام 1951م ____________ 1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص126 ، 127. يدخل في المدح مباشرة ومن البيت الأول :
ويستمر الشاعر في ذكر أوصاف الممدوح وعدّ خصاله الحميدة مشيراً إلى مواقفه الاصلاحية وأعماله الجليلة التي قام بها خدمةً للاسلام والمسلمين ، لينتقل في النهاية إلى غرضه الأصلي وهو الاشادة بالمطالب الحقة التي توخاها الشاعر من مديحه وغالباً ما تكون مطالب اصلاحية وتربوية :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص153. 2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص159. وعلى هذا النحو تتبين معالم التجديد في سائر أغراض الشاعر كالرثاء والغزل والوصف والشعر الوطني والحماسي. وفي هذا الأخير نلحظ بوادر تجديدية للشاعر من خلال تناوله لشخصية البطل التي عليها مدار القصيدة الحماسية. فالفرطوسي يعمد إلى ذكر البطل من أجل الاشادة ببطولاته وبث روح الحماس في قلوب الناس والاهتمام برسالته التي تحمل في طيّاتها مُثلاً سامية ومبادئ قيمة مثل الدفاع عن الوطن والذود عن سيادته واستقلاله. فالهدف مبادئ البطل لا البطل ذاته (1). وللفرطوسي في هذا الشأن منظومات كثيرة ، منها ما قاله مخاطباً أبطال سوريا ولبنان إثر سقوط القدس القديمة بيد الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948م :
ولم يكتف الشاعر بالتجديد في الموضوعات والأغراض فحسب بل دعا الشعراء إلى النهوض بالشعر والتجديد في مواضيعه ومضامينه حسب مقتضيات ____________ 1 ـ عبدالحسين المبارك : ثورة 1920 في الشعر العراقي ، ص164. 2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص246. العصر ومتطلبات الحياة :
4 ـ براعة التصوير : تتجسد براعة التصوير عند الشيخ الفرطوسي من خلال قدرته الفائقة على تصوير الأشياء مفصلة سواء المرئية منها أم غير المرئية. فهو عندما يصف الطبيعة مثلاً يحلّق في أجوائها ويلتقط بعدسته الشعرية صوراً رائعة ودقيقة يستحيل التقاطها إلاّ عن طريق ارادة الشاعر الفنية. ولا يخفى ما للطبيعة من تأثير خاص ووقع هام في ازدهار وتنمية القدرة التصويرية عند الشاعر. فالفرطوسي يرى أنّ الشاعر هو : « من عشاق الطبيعة. ويمتاز بادراكه أسرار جمالها وعظمة جلالها وتجسيم صورها الرائعة في ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص289. تصاويره الشعرية كأنها ماثلة أمام عينيك ، يصف الزهرة فينشقك نفحتها ويلمسك رقتها ، والغصن فيميل بقده الأهيف عليك كأنك تهصره بيدك وتعطفه بأناملك. والبلبل فيجس أوتار قلبك بأغاريده الراقصة ويطلق نفسك في أفق من حياة الحرية. والجدول فيفرغ في سمعك عربدة أمواجه وخرير سواقيه. والعاصفة فيطلع عليك عملاقاً جباراً من مردة الجان يتطاير الشرر من مقلتيه ويجلجل الرعد في شفتيه ، والسحاب فيغشاك بظلمات من الاهوال تشق حجبها البروق وتصطرع بها الصواعق والرعود. والقمر فيملأ عينك باشراق هالته وجمال طلعته وجلال روعته. وهكذا يرسم لك مختلف صور الطبيعة على ألواحه ويعرضها عليك وأنت في زاوية مكتبك أو مجلس سمرك ما لو قدر لك أن تراها بعينك لما كنت تقدر على ادراك بعض ما قرأته من التصوير في صفحات ديوانه » (1). فللطبيعة دور هام في تصوير الواقع المعاش والحقائق الملموسة. وقد عرف الشاعر هذه الخصوصية الهامة فأحسن الاستفادة منها في تصوير الاحداث والوقائع التي عاصرها والتي لم يعاصرها. وكثيراً ما نجد مفردات الطبيعة تشغل حيّزاً واسعاً من شعر الشاعر وخاصة الوصفي منه حيث الرسم والتصوير قائم على قدم وساق. فنلحظ مثلاً عندما يصور لنا وقائع الحرب العالمية الثانية يستخدم مفردات مثل « التلول » ، و « الجبال » ، و « الهضب » ، و « الصحراء » ، ومفردات مماثلة اُخرى :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص15.
وتتبلور خصوصية هامة أُخرى في صور الشاعر وهي الحركة والحيوية. فالشاعر لا يعرض صوره جامدة ثابتة تبعث الملل في نفس المتلقي ، بل ينفخ فيها الحركة التي تبعث في النفس الحيوية والنشاط. وهي لا شك تجعل المتلقي يعيش أجواء القصيدة ويساير أبياتها بيتاً بيتاً. ومن نماذج هذه الحركة قصيدته التي نظمها عند سفره من بغداد إلى سويسرا عام 1965م ، والتي وصف فيها الطائرة وصفاً دقيقاً وجميلاً :
____________ 1 ـ الدَّبى : أصغر ما يكون من الجراد والنمل. ( لسان العرب ، ج4 ، ص288 ). 2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص158 ، 159.
ثم يتابع الشاعر في هذا الوصف تواصل الحركة بمزيد من التفصيل والدقة :
وعلى هذا النحو من الوصف الدقيق والتصوير الأدق يمضي الشاعر في قصائده الوصفية والتصويرية معتمداً على حسه المرهف وذوقه السليم وقدراته الشعرية الهائلة. ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص139 ، 140. 5 ـ براعة الأساليب : للشيخ الفرطوسي نفَسه الخاص واسلوبه المتميّز في لغته الشعرية. اللغة التي اتسمت بوضوح المعاني ، وشفافية المفاهيم ، وتسلسل الأفكار ، وانسجام الالفاظ ، ومتانة التركيب. وقد بات واضحاً على المهتمين بالشعر التمييز بين شعر الفرطوسي وشعر أقرانه ولداته من الشعراء النجفيين ، لما في اُسلوبه من مميزات اختص بها دون غيره من الشعراء. ومن هذه الخصائص تعمّد الشاعر إلى ايراد المفاهيم والمضامين بصورة واضحة وشفافة وبشكل منتظم ومسلسل بحيث يسهل على المتلقي تجسيدها في مخيلته واستيعابها بسهولة ويسر. فلو أخذنا مثلاً قصيدة « مآسي الجسر » التي نظمها الشاعر في الانتفاضة الوطنية عام 1948م ، لتجسدت أمامنا أحداث تلك الواقعة بكل وضوح وشفافية :
وثمة خصوصية اُخرى تظهر بوضوح في اُسلوب الشاعر ، وهي حسن اختيار الوزن والموسيقى الشعرية في المناسبات المختلفة. فعندما يقتضي الموقف إلى تعظيم الصورة وتهويلها كتصوير مآسي الحرب مثلاً ، يعمد الشاعر إلى تبني أوزان وقوافي شديدة الوقع على السمع عظيمة الأثر في النفس تؤدي الغرض وتعطي الموضوع حقه من التعظيم. فمثلاً عندما يتناول الشاعر حرباً هوجاء كالحرب العالمية الثانية يختار لها بحراً ثقيلاً وكلمات أكثر ثقلاً لتصور ويلات الحرب ومآسيه بأعظم ما يمكن من الشدة والقوة :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص145 ، 146.
وعلى العكس من هذه الصورة المرعبة والمثيرة ، نجد الشاعر يحلق في سماء الكلمات الرقيقة والأوزان الراقصة الخفيفة عندما يتناول موضوعاً عاطفياً رقيقاً ، وغرضاً شعرياً جميلاً كالغزل والنسيب. من ذلك قوله في قصيدة « مليكة » التي نظمها عام 1965م ، وفيها يقول :
ومن مميزات اسلوب الشيخ الفرطوسي استخدامه المكرر والمميز للنداء. وقد أكثر الشيخ من هذا الاسلوب لما فيه من مباشرة خطابية تؤثر في نفس المتلقي وتجعله مسايراً لأحداث القصيدة ، ومتتبعاً لحيثياتها المختلفة. ومن بديع ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص187. 2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص211. أمثلة النداء الباعث على القوة والتأثير قول الشاعر من قصيدة بعنوان « مصر والاستعمار » حيث يقول في أبياتها الأولى :
فقد أورد الشاعر النداء مرتين في صدر البيت الاول ليسترعي انتباه المتلقي إلى أهمية الموضوع ثم عززه بست جمل انشائية أمرية خمس منها مكررة وهي « ثوري » وواحدة غير مكررة وهي « بددي ». ولا شك انّ في هذا الحشد من الجمل الانشائية ما يجلب انتباه المستمع إلى خطورة الموضوع ومدى أهميته. ولم يكتف الشاعر بهذا القدر من النداء المؤكد بل راح يكثر منه في مواضع اُخرى من القصيدة :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص195. 2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص 196. والتكرار ديدن الشاعر في معظم قصائده. ولا يخفى ما له من أثر كبير في تأكيد الموضوع وتعزيز أهميته. وقد تفنن الشاعر في هذا الأمر ، فتارة يكرر استخدام الجمل الفعلية ليؤكد على استمرارية الحدث وامتداده في الزمان ، كما يتضح من الأبيات التالية :
وتارة يتم التكرار بموالاة جمل اسمية تفصح عن الثبات والدوام والاستقرار. من ذلك الأبيات التالية من قصيدة « الحب » :
____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص53. 2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص209. ومرة اُخرى يكون التكرار بحرف الجر احترازاً من توالي الأفعال ، وتنبيهاً لفطنة المتلقي في استيعاب الفعل الرئيسي للجملة. من ذلك قول الشاعر في قصيدة بعنوان « معاهد العلم » :
إلى أن يقول :
ومهما يكن من أمر فأنّ التكرار اُسلوب بياني استخدمه الشاعر في كثير من قصائده. وقد تبيّن من خلال البحث الأغراض والأهداف التي اتضحت بواسطة التكرار ، وهي في طبيعة الحال أغراض تهدف إلى تأكيد المضامين وتعزيز المحتوى والمفاهيم. ____________ 1 ـ المصدر السابق ، ج 2 ، ص 293 ، 294. |