الاُسرة هي اللبنة الاُولى لتكوين المجتمع ، وهي الخلية التي تقوم
بتنشئة العنصر الإنساني وتشكيل دعائم البناء الاجتماعي ، وهي نقطة
البدء المؤثرة في جميع مرافق المجتمع ، وفي جميع مراحل حياته إيجاباً
وسلباً ، ولهذا أبدى الإسلام عناية خاصة بالاُسرة ، فوضع القواعد
الأساسية في تنظيمها وضبط شؤونها من حيث علاقات أفرادها في
داخلها ، وعلاقاتهم مع المجتمع الكبير الذي يعيشون فيه.
وقد عني الفصل السابق بموضوع العلاقات بين أفراد الاُسرة الواحدة ،
فيما يختص هذا الفصل ببحث علاقات الاُسرة بالمجتمع الذي تبحث
فيه.
وقد تطرقنا إلى هذه المواضيع لابتلاء غالب الاُسر باحكامٍ من هذا
القبيل ، ولأنّ الاُسرة وحدة اجتماعية لا تنفصل عن المجتمع بشكل أو
بآخر.
(102)
وعلى هذا الصعيد تتصدر في المنهاج الإسلامي ثلاثة عناوين بارزة ،
وهي : صلة الأرحام ، وحقوق الجيران ، وحقوق المجتمع.
من السنن الالهية المودعة في فطرة الإنسان هي الارتباط الروحي
والعاطفي بأرحامه وأقاربه ، وهي سُنّة ثابتة يكاد يتساوى فيها أبناء البشر ،
فالحب المودع في القلب هو العلقة الروحية المهيمنة على علاقات
الإنسان بأقاربه ، وهو قد يتفاوت تبعاً للقرب والبعد النسبي إلاّ أنّه
لايتخلّف بالكلية.
ولقد راعى الإسلام هذه الرابطة ، ودعا إلى تعميقها في الواقع ،
وتحويلها إلى مَعلَم منظور ، وظاهرة واقعية تترجم فيه الرابطة الروحية إلى
حركة سلوكية وعمل ميداني.
فانظر كيف قرن تعالى بين التقوى وصلة الأرحام ، فقال : ( ... واتّقُوا اللهَ
الذي تَساءَلُونَ بهِ والارحامَ إنّ اللهَ كانَ عليكُم رقيباً ) (1).
وذكر صلة القربى في سياق أوامره بالعدل والاحسان ، فقال : ( إنَّ اللهَ
يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاء ذِى القُربى وينَهى عن الفحشَاءِ والمنكرِ والبَغي
يَعظُكُم لعلّكُم تَذكَّرونَ ) (2).
وبالاضافة إلى الصلة الروحية دعا إلى الصلة المادية ، وجعلها مصداقاً
للبرّ، فقال تعالى : ( ... ولكنَّ البِرَّ مَن ... آتى المالَ على حُبّه ذوى القُربى
1 ـ سورة النساء : 4 / 1.
2 ـ سورة النحل : 16 / 90.
(103)
واليَتَامى والمسَاكِينَ وابنَ السَّبيلِ والسَّآئلينَ وفي الرقابِ وأقامَ الصَّلاةِ وءاتَى
الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهدِهِم إذا عاهَدُوا والصَّابرينَ في البأسآءِ والضَّرَّآءِ وَحِينَ
البأسِ أُولئِكَ الَّذينَ صَدَقُوا وأُولئكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) (1).
وجعل قطيعة الرحم سبباً للعنة الالهية فقال : ( فَهل عَسَيتُم إن تَولَّيتُم أن
تُفسدُوا في الأرضِ وتُقطّعُوا أرحامَكُم * أولئكَ الَّذينَ لَعنَهُم اللهُ فأصمّهم
وأعمَى أبصارَهُم ) (2). صلة الأرحام في الأحاديث الشريفة :
لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام إلى صلة الأرحام في جميع
الأحوال ، وأن تقابل القطيعة بالصلة حفاظاً على الأواصر والعلاقات ،
وترسيخاً لمبادىء الحب والتعاون والوئام.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الرحم معلقة بالعرش ، وليس الواصل
بالمكافىء ، ولكن الواصل من الذي إذا انقطعت رحمه وصلها » (3).
وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أصل رحمي وإن
أدبَرَت) (4).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « صلوا أرحامكم وإن قطعوكم » (5).
1 ـ سورة البقرة : 2 / 177.
2 ـ سورة محمد : 47 / 22 ـ 23.
3 ـ جامع الأخبار / السبزواري : 287 ـ مؤسسة آل البيت عليهم السلام ـ قم ـ 1414 هـ ط1.
4 ـ الخصال / الصدوق 2 : 345 / 12 ـ جماعة المدرسين ـ قم ـ 1403 هـ.
5 ـ بحار الانوار 74 : 92.
(104)
ومما جاء في فضل صلة الأرحام في الحديث الشريف أنها خير أخلاق
أهل الدنيا والآخرة ، وأنها أعجل الخير ثواباً ، وأنها أحبّ الخطى التي
تقرب العبد إلى الله زلفى ، وتزيد في ايمانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟
من عفا عمن ظلمه ، ووصل من قطعه ، وأعطى من حرمه » (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « أعجل الخير ثواباً صلة الرحم ، وأسرع الشر عقاباً
البغي » (2).
وقال الإمام علي بن الحسين عليه السلام : « ما من خطوة أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ
من خطوتين : خطوة يسدّ بها المؤمن صفّاً في سبيل الله ، وخطوة إلى ذي
رحم قاطع » (3).
وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام : « صلة الارحام وحسن الخلق زيادة في
الايمان » (4).
ولقد رتّب الإمام علي بن الحسين عليه السلام حقوق الأرحام تبعاً لدرجات
القرب النسبي ، فيجب صلة الأقرب فالأقرب ، فقال : « وحقوق رحمك
كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة ، فأوجبها عليك حقّ أُمك ، ثم
حقّ أبيك ، ثم حقّ ولدك ، ثم حقّ أخيك ، ثم الأقرب فالأقرب ، والأول
1 ـ جامع الأخبار : 287.
2 ـ جامع الاخبار : 290.
3 ـ الخصال 1 : 50 / 60.
4 ـ جامع الاخبار : 290.
(105)
فالأول » (1).
وتتجلى مظاهر الصلة بالاحترام والتقدير والزيارات المستمرة وتفقد
أوضاعهم الروحية والمادية ، وتوفير مستلزمات العيش الكريم لهم ، وكفّ
الأذى عنهم.
ولقد دعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى تفقّد أحوال
الأرحام المادية وإشباعها ، فقال : « ألا لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة يرى بها
الخصاصة أن يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه ، ولا ينقصه إن أهلكه ، ومن
يقبض يده عن عشيرته ، فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة ، وتقبض منهم
عنه أيدٍ كثيرة ، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة » (2).
وأدنى الصلة هي الصلة بالسلام ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « صلوا أرحامكم
ولو بالسلام » (3).
وأدنى الصلة المادية هي الاسقاء ، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام :
«صل رحمك ولو بشربة ماء ... » (4).
ومن مصاديق صلة الأرحام كفّ الأذى عنهم ، قال الإمام جعفر
الصادق عليه السلام : « عظّموا كباركم ، وصلوا أرحامكم ، وليس تصلونهم بشيء
أفضل من كفّ الأذى عنهم » (5).
1 ـ تحف العقول : 183.
2 ـ نهج البلاغة : 65 ، الخطبة : 23 ، تحقيق صبحي الصالح.
3 ـ تحف العقول : 40.
4 ـ بحار الأنوار 74 : 88.
5 ـ الكافي 2 : 165.
(106)
قطيعة الأرحام في الأحاديث الشريفة :
الإسلام دين التآزر والتعاون والوئام ، لذا حرّم جميع الممارسات التي
تؤدي إلى التقاطع والتدابر ، لأنها تؤدي إلى تفكيك أواصر المجتمع ،
وخلخلة صفوفه ، فحرّم قطيعة الرحم ، وجعلها موجبة لدخول النار
والحرمان من الجنّة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن خمر ، ومدمن
سحر ، وقاطع رحم » (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة : قاطع رحم ، وجار السوء
» (2).
وقطيعة الرحم موجبة للحرمان من البركات الالهية ، كنزول الملائكة
وقبول الأعمال.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم » (3)
.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ أعمال بني آدم تعرض كلّ عشية خميس ليلة الجمعة ،
فلا يقبل عمل قاطع رحم » (4).
وقطيعة الرحم من الذنوب التي تعجّل الفناء ، قال الإمام الصادق عليه السلام :
1 ـ الخصال 1 : 179 / 243.
2 ـ كنز العمال 3 : 367 / 6975.
3 ـ كنز العمال 3 : 367 / 6974.
4 ـ كنز العمال 3 : 370 / 6991.
(107)
« الذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم » (1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف على المسلمين من قطيعتهم لأرحامهم ،
وكان يقول : « إنّي أخاف عليكم استخفافاً بالدين ، ومنع الحكم ، وقطيعة
الرحم ، وأن تتّخذوا القرآن مزامير ، تقدّمون أحدكم وليس بأفضلكم في
الدين » (2).
ومقابلة القطيعة بالقطيعة ظاهرة سلبية في العلاقات ، وهي موجبة
لعدم رضا الله تعالى عن الجميع ، ففي رواية أنّ رجلاً أتى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : (يا رسول الله ، أهل بيتي أبوا إلاّ توثّباً عليَّ وقطيعة لي
وشتيمة ، فأرفضهم ؟) قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إذن يرفضكم الله جميعاً » قال : كيف
أصنع ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمَّن
ظلمك ، فانك إذا فعلت ذلك ، كان لك من الله عليهم ظهير » (3).
الآثار الروحية والمادية لصلة الأرحام وقطيعتها :
لصلة الارحام آثار ايجابية في الحياة الإنسانية بجميع مقوماتها الروحية
والخلقية والمادية ، قال الإمام محمد الباقر عليه السلام : « صلة الارحام تزكي
الأعمال ، وتنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسّر الحساب ، وتنسء في
الأجل » (4).
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « صلة الأرحام تُحسن الخلق ، وتسمّح
1 ـ بحار الأنوار 74 : 94.
2 ـ عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق 2 : 42.
3 ـ الكافي 2 : 150.
4 ـ الكافي 2 : 150.
(108)
الكف ، وتطيب النفس ، وتزيد في الرزق ، وتنسء في الأجل » (1).
وصلة الرحم تزيد في العمر ، وقد دلّت الروايات على ذلك ، وأثبتت
التجارب الاجتماعية ذلك من خلال دراسة الواقع ، فقد ورد عن الإمام
جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال : « ما تعلم شيئاً يزيد في العمر إلاّ صلة الرحم ،
حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيده الله في
عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة ، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين
سنة ، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث
سنين » (2).
والواصل لأرحامه يكون محل احترام وتقدير من قبلهم ومن قبل
المجتمع ، وهو أقدر من غيره على التعايش مع سائر الناس ، لقدرته على
إقامة العلاقات الحسنة ، ويمكنه أن يؤدي دوره الاجتماعي على أحسن
وجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأداء مسؤوليته في البناء
المدني والحضاري باعتباره عنصر مرغوب فيه ، وبعكسه القاطع لرحمه ،
فإنّه يفقد تأثيره في المجتمع ، لعدم الوثوق بنواياه وممارساته العملية.
لرابطة الجوار دور كبير في حركة المجتمع التكاملية ، فهي تأتي في
المرتبة الثانية من بعد رابطة الأرحام ، إذ للجوار تأثير متبادل على سير
الاُسرة ، فهو المحيط الاجتماعي المصغّر الذي تعيش فيه الاُسرة
1 ـ الكافي 2 : 151.
2 ـ الكافي 2 : 152 ـ 153.
(109)
وتنعكس عليها مظاهره وممارساته التربوية والسلوكية ، ولهذا نجد أنّ
المنهج الاسلامي أبدى فيه عناية خاصة ، فقد قرن القرآن الكريم عبادة الله
تعالى والاحسان إلى الوالدين والارحام بالاحسان إلى الجار كما في قوله
تعالى : ( واعبدُوا اللهَ ولا تُشرِكُوا بهِ شَيئاً وبالوالِدَينِ إحساناً وبذي القُربى
واليتَامى والمَساكينِ والجارِ ذي القُربى والجارِ الجُنُبِ والصّاحبِ بالجَنبِ ) (1).
فقد رسم القرآن الكريم منهجاً موضوعياً في العلاقات الاجتماعية
يجمعه الاحسان إلى أفراد المجتمع وخصوصاً المرتبطين برابطة الجوار.
وحق الجوار لا ينظر فيه إلى الانتماء العقائدي والمذهبي ، بل هو
شامل لمطلق الانسان مسلماً كان أم غير مسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « الجيران ثلاثة : فمنهم من له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق الإسلام ،
وحق القرابة، ومنهم من له حقّان : حق الإسلام ، وحق الجوار ، ومنهم من
له حق واحد : الكافر له حق الجوار » (2). الوصايا الشريفة :
أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بمراعاة حق الجوار ، والسعي إلى
تحقيقه في الواقع ، وركز على ذلك باعتباره من وصايا الله تعالى له ،
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « مازال جبرئيل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورثه » (3)
.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « والله الله في جيرانكم ، فإنّهم وصية نبيكم ،
1 ـ سورة النساء : 4 / 36.
2 ـ جامع السعادات / النراقي 2 : 267.
3 ـ بحار الانوار 74 : 94.
(110)
مازال يوصي بهم حتى ظنّنا أنه سيورّثهم » (1).
وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم
من أهل المدينة : « إنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وحرمة الجار على
الجار كحرمة أُمّه » (2).
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إكرام الجار من علامات الايمان فقال : « من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره » (3).
واستعاذ صلى الله عليه وآله وسلم من جار السوء الذي أطبقت الانانية على مشاعره ومواقفه
فقال : « اعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة ، تراك عيناه ويرعاك قلبه ، إن
رآك بخير ساءه ، وإن رآك بشر سرّه » (4). حسن الجوار :
إنّ حسن الجوار من الأوامر الالهية ، كما قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام :
« عليكم بحسن الجوار ، فإنّ الله عزَّ وجلَّ أمر بذلك » (5).
وحسن الجوار ليس كف الأذى فحسب ، وإنّما هو الصبر على الأذى
من أجل إدامة العلاقات ، وعدم حدوث القطيعة ، قال الإمام موسى
الكاظم عليه السلام : « ليس حسن الجوار كف الأذى ، ولكن حسن الجوار الصبر
1 ـ نهج البلاغة : 422 ، كتاب : 47.
2 ـ الكافي 2 : 666.
3 ـ المحجة البيضاء 3 : 422.
4 ـ الكافي 2 : 669.
5 ـ بحار الانوار 74 : 150.