على السرّاء والضرّاء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الاخلاء ، يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم ، وتقتدى بفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، ترغب الملائكة في خلّتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلواتها تبارك عليهم ، ويستغفر لهم كلّ رطب ويابس حتّى حيتان البحر وهوامّه وسباع البرّ وأنعامه ، الحديث ». (1)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « العلم أفضل من المال بسبعة » :
الأوّل : انّه ميراث الأنبياء ، والمال ميراث الفراعنة.
الثاني : انّ العلم لا ينقص بالنفقة ، والمال ينقص بها.
الثالث : المال يحتاج إلى المحافظة (الحافظ ن خ) ، والعلم يحفظ صاحبه.
الرابع : العلم يدخل في الكفن ويبقى المال.
الخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر ، والعلم لايحصل الا للمؤمن خاصة.
السادس : جميع الناس يحتاجون إلى العالم في أمور دينهم ولايحتاجون إلى صاحب المال.
السابع : العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه ». (2)
وقال سيّد الساجدين عليه السلام :
« لوعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج ... الحديث ». (3)
وقال الصادق عليه السلام :
« إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولاديناراً ، وإنّما أورثوا أحاديث ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً ، فانظروا علمكم »
1 ـ أمالي الطوسي 2/102 ـ 103 كما في منية المريد : 108 ـ 109.
2 ـ تفسير الرازي : 2/182 ـ 183 كما في منية المريد : 110.
3 ـ الكافي : 1/35 ، كتاب فضل العلم ، باب ثواب العالم والمتعلّم ، ح5.
(102)
هذا عمّن تأخذونه ... الحديث. (1)
والأخبار أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى.
قال بعض العلماء : « العلماء ثلاثة » عالم بالله غير عالم بأمر الله ، فهو عبد استولت المعرفة الالهيّة على قلبه فصار مستغرقاً بمشاهدة نور الجلال ، فلا يفرغ لتعلّم الأحكام الا ما لابدّ منه ، وعالم بأمر الله غير عالم بالله ، وهو الذي عرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام ، ولم يعرف أسرار جلاله تعالى ، وعالم بهما معاً فهو الجالس على الحدّ المشترك بين عالم المجرّدات والمحسوسات ، فهو تارة مع الله بالحبّ له ، وتارة مع خلقه بالشفقة عليهم ، فإذا رجع منه تعالى إليهم كان كأحدهم ، كأنّه لايعرف الله ، وإذا خلا مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنّه لم يعرف الخلق ، وهذا سبيل المرسلين ، وهو المراد بقوله عليه السلام :
« سائل العلماء ، وخالط الحكماء ، وجالس الكبراء ». (2)
فالعلماء هم الصنف الثاني أمر بمسائلتهم ، عند الحاجة إلى فتاويهم.
والحكماء هم الصنف الأوّل أمر بمخالطتهم.
والكبراء هم الصنف الثالث أمر بمجالستهم ، لأنّ فيها خير الدنيا والآخرة.
ولكلّ منهم ثلاث علامات :
فعلامة الثاني : الذكر اللساني دون القلبي ، والخوف من الخلق دون الرّب ، والاستحياء في ظاهر الناس وتركه في الباطن من الله.
وعلامة الأوّل : ذكر القلب وخوف الرجاء والحياء ممّا يخطر على القلب.
ويزيد الثالث بالجلوس على الفصل المشترك بين عالمي الغيب
1 ـ الكافي : 1/32 ، كتاب فضل العلم ، باب صفة العلم وفضله ، ح2.
2 ـ المحجة البيضاء : 1/37 ، منية المريد : 125.
(103)
والشهادة ، وتعليم المسلمين واحتياج الأوّلين إليه دون العكس ، فمثله كمثل الشمس لاتزيد ولاتنقص ، والأوّل كالقمر ينقص
ويكمل ، والثاني كالسراج يحرق نفسه ويضيء غيره ». (1)
المقصد الثاني : في تفصيل ما يحمد من العلوم ويذّم
العلوم إمّا شرعيّة أي مستفادة من سفرائه تعالى تحيث لايستقلّ العقل بإدراكها.
أو عقليّة كالسحاب والهندسة.
أو تجربيّة كالطبّ.
أو سماعيّة كاللغة.
والمحمود من غير الشرعيّة ما ترتبط به مصلحة دنيويّة ، فإن كانت ممّا لايستغنى عنها في قوام أمور الدنيا كالطبّ الضروري في بقاء الأبدان ، والحساب الضروري في قسمة المواريث وغيرها ، وأصول الصناعات وغيرها ، فهي من الفروض الكفائية ، وإن كانت تفيد زيادة قوّة في القدر الضروري كالتعمّق في دقائق علم الطبّ والحساب كانت فضيلة لا فريضة.
وأمّا المذموم منها ، فإنّ العلم من حيث إنه معرفة للأشياء على ما هي عليه كمال ممدوح ، وعدمه نقص مذموم ، لكن عروض الذّم له من أحد وجوه :
أحدها : أداؤه إلى الاضرار بصاحبه أو بغيره ، كالسحر والطلسمات والشعبذة ، حيث يتوصّل بها غالباً إلى الأذيّات.
وثانيها : ورود النهي عنه في الشريعة كالنجوم ، وسرّه_كما قيل_أنّ غالب أحكامم حدسيّة تخمينيّة ، فذمّه لكونه جهلاً ، ولو كان علماً كان ممدوحاً.
1 ـ المحجة البيضاء : 1/36 ـ 37 ، منية المريد : ص124 ـ 125 كلاهما نقلاً عن شقيق البلخي في تفسير الرازي.
(104)
فقد روي أنّه كان معجزة لادريس عليه السلام. (1)
وعن الصادق عليه السلام : « انّه علم الأنبياء وانّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أعلم الناس به ». (2)
والاصابة اتّفاقيّة ، إذ يطلع على بعض الأسباب وهناك أسباب أخر لايعلم ، فإن قدّر الله حصولها أيضاً وقعت الاصابة والا أخطا ، وما أشبهه بتخمين الأمطار من انطباق الغيم ، وتخمين سلامة السفينة من موافقة الريح ، ولذا قال الصادق عليه السلام : « إنّ كثيره ل يدرك ، وقليله لا ينتفع به ». (3)
مع أنّه خوض في بطالة ، لأنّ المقدر كائن والاحتراز غير ممكن ، ولاكذلك الطبّ ، لشدّة مسيس الحاجة إليه وظهور أدلّته ، ولاالتعبير أيضاً لعدم الحظر فيه ، بل ورد أنّه جزء من ستّة وأربعين جزء من النبوّة (4) مضافاً إلى إضراره بعقائد الضعفاء ، فتعظم وقع الكواكب في نفوسهم بترتّب الآثار عليها فتلتفت إليها وتحذر من الشرور من جهتها ، ويمحو ذكر الله من قولبهم بسببها لقصور نظر الضعيف على الوسائط القريبة.
ثالثها : عظم الخطر فيه ، وعدم استقلال الخائض فيه بإدراكه ، فيستضرّ بها كما لستضرّ الطفل الرضيع أو المريض من أكل لحم الطير وأنواع الحلاوات اللطيفة ، ولذا استعيذ من العلم الذي لاينفع ، كما في المعارف الحقّة ، فإنّه كما تتحقّق باقتنائها السعادة الأبديّة ، فكذا تحصل بأدنى خلل منها الشقاوة السرمدية ، وتصير باعثاً للخلود في النار مع المشركين والكفّار.
وأمّا الشرعيّات فكلّها محمودة ، وأصلها الكتاب والسنّة المعصومية ، ويتفرّع عليها ما يفهم منهما بأقسام الدلالات اللفظية والعقلية.
فما يتعلّق منه بتنظيم مصالح الدنيا هو علم ، الفقه ، فإنّ الدنيا من منازل
1 ـ مجمع البيان : 6/519 ، الآية 57 مريم.
2 ـ البحار : 58/235.
3 ـ روضة الكافي : الحديث 233.
4 ـ الجامع الصغير : 2/22 ، إلا أن فيه : « رؤيا المؤمن جزء ... ».
(105)
الآخرة ، خلقت ليتزوّد منها ما يصلح للوصول إليها ، فلو تناولها الناس بالعدل انقطعت الخصومات ، وتعطّلت الفقهيّات ، لكن تناولوها بالشهوات فمسّت الحاجة إلى قوانين السياسات. والفقيه هو العالم بها كما أشرنا إليه سابقاً ، فهو وإن تعلّق بالدين لكن بواسطة ، فكما أنّ الحج لايتمّ الا ببدرقة تحرس الحاج عن اللصوص ، لكن الحج شيء وسلوك الطريق إليه شيء ثان ، وحراسة الحاج عن اللصوص ثالث ومعرفة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع ، فكذا الحال في الدين ، والفقه منه بمنزلة الرابع.
فإن قلت : لو سلّم ذلك في الحدود والديات والقضايا والشهادات وكثير من المعاملات فلا يتمشّى في الحلال والحرام والعبادات.
قلت : أقرب ما يتكلّم فيه الفقيه إلى أعمال الآخرة الاسلام والصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام.
أمّا الاسلام فلا يلتفت الا إلى اللسان ، والقلب خارج عن حكنه بعزل الرسول أرباب السيوف بمجرّد إقراره به ، فيحكم بعصمة الرقبة والمال بإظهاره ، وهذا لاينفعه في الآخرة ، وإنّما النافع هناك أنوار القلوب وأسرار الغيوب ، وليس من فنّه وإن تكلّم فيه بالتبع.
وكذا يحكم بصحّة الصلاة مع الاتيان بصورة الأعمال والشرائط ، ولو كان غافلاً من أوّلها إلى آخرها ، وفائدتها انقطاع القتل والتعزير في الدنيا ، وليس فيها مزيد نفع كالمسلم لحقن الدم والمال.
ونحوه الصوم.
وأمّا الزكاة فنظره في إبراء الذمّة ظاهراً بدفع السلطان الظاهري عنه ، فلو أخذت منه قهراً حكم بالابراء ظاهراً مع أنها لا تنفعه في الآخرة ، وكما يتوسّل لتحليل كثير من المحرّمات بأنواع الحيل فإنّه يدفع التسلّط الظاهري مع كونه ضاراً في الحقيقة في الآخرة.
وأمّا الحلال والحرام فسنذكر أنّ للورع مراتب ، وإنّما نظر الفقيه في
(106)
أدونها التي لايخرج بها عن أهليّة الشهادة والولاية والقضاء أي الاحتراز عن المحرّمات الظاهرة ، وهذه لاينافي الاثم في الآخرة. فإذن نظر الفقيه مرتبط بالدنيا ، وإن كانت الآخرة منوطة بها ، لأنّها مزرعتها. لكنّه أشرف من سائر علوم الدنيا ، كالطبّ والحساب وغيرهما ، لكونه مستفاداً من النبوّة وناموساً إلهيّاً تنتظم برعايته أمور الدارين وبإهماله يختلّ نظام النشأتين ، فلا يستغني عنه أحد في سلوك طريق الآخرة والمجاورته بعلم الآخرة لاتّصال الجوارح بالقلب ومنشأ أعمال الجوارح الصفات القلبيّة ، فمحمودها يصدر عن مجمودها ، ومذمومها عن مذمومها ، ولورود الأمر به الحثّ عليه وعظم شأنه خطره في الأخبار وما يتعلق بالآخرة على ضربين :
أحدهما : وهو الأصل معرفة الله وصفاته وأفعاله ، وأدنى ما يلزم منه على كافة الخلق عيناً معرفة أصول العقائد بدليل إجمالي يطمئنّ به نفسه ولو كان ضعيفاً في نفسه ، ولايكتفي فيها بالتقليد على الأظهر الأشهر ، كما فصّلنا الكلام فيه في أصول الفقه.
ثم فوقه مراتب كثيرة متفاوتة بتفاوت الناس في البهمّة والاستعداد والسعي والاجتهاد ، وأعلاها من حصل له يقين على مثل ضوء الشمس بحيث لو كشف الغطاء ماازداد يقيناً ، ولايكفي في حصوله مجرّد التعلّم والتعليم والنظر ، لما نرى من اختلافهم فيها مع اشتراكهم في التصديق بأصولها على مقامات ، ضبعضهم يرى كمال المعرفة في المعجز عنها ، وبعضهم يدّعي فيها أموراً عظيمة ، وبعضهم يحدّها بعقائد العوام ، فيحتاج اتّضاح جليّة الحق على الطالب بحيث يجري له مجرى العيان إلى رياضة وتصقيل لمرآة القلب عن صفاته الذميمة ، وهو ممكن كما أشرنا إليه ، الا أنها لتراكم خبثها وصداها بالحواجب الجسمانيّة لاتدرك الا ألفاظاً مسموعة ومعاني مجملة غير متّضحة ، وقد تقدّمت الإشارة إلى ما يشهد عليه من كلام أميرالمؤمنين عليه السّلام وسنزيدك تنبيهاً عليه في فصل اليقين ، فمن لم يقدر على
(107)
مخالفة نفسه واقتناء فضائلها وإزالة كدوراتها كما هو حقّه حتى تقتبس من الأنوار الحقّة الملكوتيّة نوراً إلهيّاً ينكشف به الحجب والأستار عن العقائد الحقّة والمعارف الحقيقيّة ، كان اقتصاره على التصديق بظواهر الآيات والأخبار إجمالاً أسلم وأولى ، لما عرفت من عظم خطرها وعدم استقلال العقول الناقصة بإدراكها ، ولذا كان اهتمام الشيطان في تزليق أقدام طالبيها أشدّ من سائر الطلّاب ، ودخوله من هذا الباب لتغرير الأذكياء أسهل من سائر الأبواب ، حيث يظنّ كلّ أحد أنه يقدر على الخوض في غوامض المعارف الحقّة ومعرفة حقائقها وإدراك دقائقها ، وأنّه قويّ فيه فيخوض في بحر الجهالات من حيث لايعلم فيهلك ويهلك.
ومن هنا ورد ذمّ الخوض في الكلام والمنع عنه عن الأئمّة عليهم السلام (1).
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه يخوضون فيه غضب حتّى احمرّت وجنتاه وقال : « أفبهذا أمرتم ، تضربون كتاب الله تعضه ببعض؟ انظروا فيما أمركم الله فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا » (2).
ومنه يظهر أيضاً سرّما ورد من الأخبار والآثار من المنع عن إفشاء دقائق الأسرار والمبالغة في كتمان جواهر المعارف وذوارف العوارف ، حيث إنه لاسبيل إلى التنبّه لها الا بعد تصفيه مرآة القلب وتزكيته عن ذمائم الأخلاق والأفعال والمجاهدة العظيمة وتحمّل المشاقّ والأخطار والأهوال حتّى يظهر جليّة الحال بعد السعي والاجتهاد بقدر القابلية والاستعداد وأنّى ذلك في النفوس الخسيسة العامة الملوّثة بالكدورات ، واالعقول الناقصة المغلوبة بالشهوات ، فإذا كان أبوذر مع جلالة قدره وعظم سأنه لايقدر على تحمّل ماأفسض على قلب سلمان فما ظنّك بسائر الناس سيّما في مثل هذا الزمان؟ كما ورد عن سيّد الساجدين عليه السلام أنّه قال :
1 ـ راجع البحار : 1/136_138 ، والتوحيد للصدوق ، وباب النهي عن الكلام.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/321.
(108)
« والله لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول الله بينهما فما ظنّكم بسائر الخلق؟ إنّ علم العلماء صعب مستصعب لايحتمله الا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان ، وإنّما صار سلمان من العلماء لأنّه امرؤمنّا أهل البيت ، فلذلك نسبته إلى العلماء » (1).
أراد عليه السلام أهل بيت الحكمة والعرفان دون أهل بيت الصبيان والنسوان.
وقال الصادق عليه السلام : « إنّ امرنا سرّ مستور في سرّ مقنع بالمشاق من هتكه أذلّه الله ». (2)
والأخبار بهذا المضمون كثيرة.
وثانيها : علم الأخلاق ومعرفة ذمائمها عن محاسنها وأسبابها وثمراتها وعلاجها ، ولهين القسمين من العلم خلق الإنسان وبهما تحصل السعادة الحقيقيّة ، وبتركهما في النشأة الأخروية بحكمهم وحكم علماء الآخرة كما يهلك المعرض عن الأعمال الظاهرة فيها وفي الدنيا بحكمهم وحكم علماء الظاهر أيضاً ، ولذا قيل : إنّ علماء الظاهر زينة الأرض والملك ، وعلماء الباطن زينة السماوات والملكوت.
وأمّا علم الكلام فما ينتفع بها من الأدلّة قد اشتملت عليها الأخبار والخارج عنها إمّا جدال مبتدع أو تطويل بنقل المقالات والشبه والترّهات ممّا لم يكن مألوفاً في العصر الأوّل ولا متعلّقاً في الدين ، وإنّما كان من بدع المبدعين الخارجين عن إطاعة الأئمّة المعصومين إضلالاً للخلق عن الدين المبين ، كما تبيّن في محلّه ، ولكنّه من فروض الكفاية إذا قصد به مقابلة المبتدع الداعي إلى الضلالة وحراسة قلوب الضعفاء عن تخليّلات أهل
1 ـ الكافي : 1/401 ، كتاب الحجة ، باب أنّ حديثهم صعب ... ، ح2.
2 ـ بصائر الدرجات : ص28 ، وفيه : « مقنّع بالميثاق ».
(109)
البدعة ، فالحاجة إلى استيجار البدرقة للحج ، فإذا ترك المبتدع هذيانه لم يفتقر إلى الزائد عمّا كان في العصر الأوّل ، فلو تجرّد للمناظرة ولم يسلك سبيل علماء الآخرة لم يبق له من العقائد والأعمال الا ما للعوام من أعمال ظاهر القلب واللسان ، وأمّا الأستنارة الباطنيّة وبرد اليقين والايمان ، فلايحصل للمتكلّم ، بل ربّما كان حاجباً للقلب عنها ، وإنّما تحصل من مجاهدة النفس ، كما قال تعالى : « والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ». (1)
ثم الأخبار في مدح علم الآخرة وكون التشيّع والتقرّب إلى الله سبحانه موقوفاً عليه كثيرة.
ثم لهذه العلوم فروع بعضها من قبيل المقدّمات الجارية منها مجرى الآلات ، كالعلوم العربيّة ، فإنها وإن لم تكن شرعية لكن لزوم الخوض فيها بسبب الشرع النازل بلغة العرب فلاتظهر معانيها الا بمعرفتها ، كما أنّ من الآلات علم كتابة الخط لعجز الأغلب عن الاستقلال بحفظ جميع مايسمع ، وبعضها من قبيل المتمّمات كعلم القراءة والتفسير وأصول الفقه والرجال والداراية ، فكلّها شرعيّات محمودة ، بل من فروض الكفاية.
تلخيص فيه إرشاد
قد تبيّن لك ممّا ذكر أنّ من العلوم ما يذّم قليلهوكثيره ، مثل ما يكون ضرره أكثر من نفعه كالسحر والطلسمات ونحوها ، فصرف العمر الذي هو أنفس البضاعة في أمثالها بطالة مذمومة إضاعة ، ولو فض فيها نفع دنيويّ لم يعتدّ به في مقابلة منا يترتّب عليه من الضرر.
ومنها : ما يحمد عليه مطلقاً بلا حدّ إليها ينتهي كالعلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله ، فإنّه البحر الذي لايدرك غوره ، وإنّما يحوم المتحوّمون
1 ـ العنكبوت : 69.
(110)
على أطرافه بقدر ما يسّر الله لهم من الأنبياء والأولياء والعلماء على اختلاف طبقاتهم يحسب اختلاف قوّتهم ، وما قدّر الله لهم من السعادة الأزليّة ، وهو العلم المطلوب بالذات ، وبه يتوصّل إلى اقصى السعادات ، وينال أشرف اللذّات ، وهو العلم المكنون الذي لايسطر في الكتب العلميّة ، وإنما يعين عليه أوّلاً التعلم ومشاهدة علماء الآخرة والاعتبار بأحوالهم وأطوارهم بعد معرفتهم باماراتهم وآثارهم وآخراً المجاهدة وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا حتى يتّضح المراد بعد السعي والاجتهاد بقدر القابليّة والاستعداد ، وعلم الأخلاق الذي به يسلك إلى العلم الأوّل ، كما أشرنا إليه.
ومنها : ما لا يحمد منه الا مقدار مخصوص ، كالعلوم التي أشرنا إليه في فروض الكافايات ، فإنّ في كلّ منها اقتصاراً واقتصاداً واستقصاء.
فكن ياحبيبي ـ وفّقك الله وإيّاي ـ إمّا مشغولاً بنفسك ، أو متفرّغا بعد الفراغ منها إلى غيرك ، وإيّاك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل أن اصلاح نفسك ، فإن كنت الأوّل فلاتشتغل منه الا بما هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك من العبادات والمعاملات التي تحتاج إليها ولو تقليداً لمجتهد حيّ ، ثم اشتغل بالأهمّ الذي هو علم صفات القلب ومهلكاتها ومنحياتها ، فإنّ إهمالها مع الاشتغال بالأعمال الظاهرة يشبه الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذّي بالجرب والدماميل ، والتهاون بإخراج المادّة بالفصد والحجامة والاسهال ، فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد والأمراض ، ولاتنظر إلى سهولة أعمال الجوارح وصعوبة أعمال القلب ، وعلّ همّتك بتحصيل ما يثمر النجاة في الآخرة من العلم بعللك الباطنة وأسبابها وعلاجها حتّى يوصلك إلى المقام الأعلى ، فإنّ الأرض إذا نقيت من الكثافات نبت فيها أصناف الرياحين ، ومالم تفرغ عن ذلك لاتشتغل بفروض الكفايات سيّما وفي الخلق من قد قام بها فما أشدّ حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب داخل ثيابه وهمّت بقتله وهو يذبّ الذباب عن من لاينجيه ولايغنيه.