المناظرة مع العلماء في المجالس التي هي أمّ الخبائث ومصدرها ، وقد ورد التأكيد فيها في الأخبار كثيراً.
ومنها : اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة سبيل الآخرة وسلوكه إذ ينبعث منه الفيوضات الغيبية وينكشف به المعارف الحقيقية كما تقدّم ما يدلّ عليه وتقويته لليقين بتحصيل لوازمه وفروعاته التي تشير إليها.
ومنها : أن يكون منكسراً حزيناً متطرّقاً صامتاً ظاهراً منه أثر الخشوع والخشية ، بحيث يكون النظر إليه مورثاً لتذكّر الله تعالى ، وسيماه دالاً على علمه.
وفي الخبر : « إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول : يا طالب العلم إنّ العلم ذوفضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النيّة ، وعقله معرفة الأشياء والأمور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء ، وهمّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقرّه النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ، وسيفه الرضا ، وقوسه المداراة ، وجيشه مجاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، ومأواه الموادعة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبّة الأخيار ». (1)
وقال بعض العلماء : خمس علامات لعلماء الآخرة ، مفهومة من خمس آيات :
الخشية ، من قوله : « إنّما يخشى الله من عباده العلماء ». (2)
والخشوع ، من قوله : « خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ». (3)
1 ـ الكافي : 1/48 ، كتاب فضل العلم ، باب النوادر ، ح2. وفيه : « محاورة العلماء و ماؤه الموادعة ».
2 ـ فاطر : 28.
3 ـ آل عمران : 199.
(122)
والتواضع ، من قوله : « واخفض جناحكم لمن اتّبعك من المؤمنين ». (1)
وحسن الخلق ، من قوله : « فبما رحمة من الله لنت لهم ». (2)
والزهد ، من قوله تعالى : « وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن ».
ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وآله : « فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام » (3) فقيل : ما هذا الشرح يارسول الله؟ فقال : « إنّ النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قيل : فهل لذلك علامة؟ فقال : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله ». (4)
قال الغزالي بعد نقل الخبر : يأن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وما يفسدها ويشوّش القلوب ويهيج الوساوس ويثير الشرّ ، فانّ أصل الدين التوقّي من الشر ومن لا يعرفه يقع فيه ، والأعمال الفعلية قريبة ، وأقصاها المواظبة على الذكر بالقلب واللسان ، وإنما الشأن في معرفة مفسداتها ومشوشهاتها وهو ممّا يكثر شعبه ويغلب مسيس الحاجة إليه في سلوك طريق الآخرة.
قيل لحذيفة بن اليمان : نراك تتكلّم بكلام لانسمع من غيرك من الصحابة فمن أين أخذته؟ قال : خصّني به رسول الله صلى الله عليه وآله ، كان الناس يسألونه عن الخير وأنا أسأله عن الشرّ مخافة أن أقع فيه ، وعلمت أنّ الخير لايسبقني ، فلما رآني أسأل عن آفات الأعمال ، خصّني بهذا العلم.
وكان حذيفة أيضاً خصّ بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وأسبابه
1 ـ الشعراء : 215.
2 ـ آل عمران : 159.
3 ـ القصص : 80.
4 ـ الأنعام : 125.
(123)
ودقائق الفتن ، فكان عمر وعثمان وغيرهما يسألونه عن الفتن العامة والخاصة ، وكان يسائل عن المنافقين فيخبر بأعداد من بقي منهم ، ولايخبر بأسمائهم ، وكان عمر يسأله عن نفسه هل يعلم به شيئاً من النفاق؟ وكان إذا باسمائهم ، وكان عمر يسأله عن نفسه هل يعلم به شيئاً من النفاق؟ وكان إذا رأى جنازة نظر فإن حضر حذيفة صلّى عليها والا ترك ، وكان يسمّى صاحب السرّ. ـ انتهى ملخّصاً. (1)
ومنها : أن يكون اعتماده على ما فهمه واستنبطه من كلام الله ورسول الله والأئمّة المعصومين عليهم السلام وسيرتهم تحقيقاً دون ما سمعه من الغير أو جده في كتابه تقليداً ، إذ لاحجّة في كلام الغير ولا في فعله ، سيّما مع كثرة الحوادث من الأغراض الفاسدة ودواعي الشرّ والنفاق ، فلا عبرة بغير من عصمه الله تعالى عن جميع ذلك.
ومنه ظهر أمارات علماء السوء الذين باعوا ما يهمّهم بما يهمّ غيرهم ايثاراً لقرب الخلق على القرب من الله ، وغاية آمالهم من تحصيل العلم أن يعدوا عند الجهّال وأبناء الدنيا فضلاء محقّقين ، وجزاؤهم من الله تعالى أن يخيبوا عمّا أمّلوه بل يتكدّر عليهم العيش بالنوائب ، ثم يردوا يوم القيامة مفلسين نادمين ممّا يرونه من فوز المقربين وربح العالمين (العالمين خ ل) وذلك هو الخسران المبين.
فتيقّظ يا حبيبي من نومة الغفلة. واعلم أنّ الحقّ مرّ والوقوف عليه صعب ، وطريقه وعر ، ودركه شديد ، ولذا لم يمل إليه الخلق ، ولم يرغبوا الا إلى ما هو الأسهل والأوفق بالطبيعة ، ولقد أجاد من قال :
الطرق شتّى وطرق الحقّ مفردةوالسالكون طريق الحقّ أفراد
والخلق في غفلة عمّا يراد بهمفجلّهم عن سبيل الحقّ رقّاد
أعاذنا الله من شرّ النفس وجماحها ، ووفّقنا لما فيه خيرها وصلاحها.
1 ـ المحجة البيضاء : 1/161 ـ 162.
اليقين من أقوى أسباب السعادة مطلقاً ، بل في الالهيّات من أعظم أصول الايمان وأركانه وأركانه وسائر مراتبه من فروعه وأغصانه ، فهو أشرف الفضائل والكمالات والكبريت الأحمر الذي لا يظفر به الا الخلّص من ذوي السعادات ولا يصل إليه الا شرذمة نم العرفاء وقليل من كمّل الأولياء.
قال النبّي صلّى الله عليه وآله : « اليقين كلّ الايمان ». (1)
وقال : « من أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ، ومن أوتي حظّه منهما لم يبال ما فاته من صيام النهار وقيام الليل ». (2)
هذا ، ولليقين معنيان :
أحدهما : وهو الشائع في الاصطلاحات الاعتقاد الثابت الجازم المطابق للواقع الذي لا يتصوّر فيه شكّ ، ولا يزول بشبهة ، سواء كان بديهياً أو نظريّاً ، فخرج الجهل المركّب والبسيط والشكّ ، فإن اعتبرنا الأخير في العلم كانا مترادفين ، والا كان نوعاً منه ، وعلى هذا التفسير لايوصف بالضعف والقوّة ، إذ لاتفاوت في نفي الشكّ.
ثانيها : للعرفاء والمتصوّفة وهو ميل النفس إلى التصديق بشيء واستيلاثه على القلب بحيث يصير هو الحاكم المتصرّف فيه بالأمر والنهي والمنع والتحريض ، ولاشكّ في أنّ الناس يشتركون في القطع بالموت وعدم الشكّ فيه ، لكن أكثرهم لا يلتفتون إليه ، فكأنّهم لم يؤمنوا به وفيهم من استغرق همّه فيه بالاستعداد له ، وهو بهذا المعنى يوصف بالقوّة والضعف ، ومراتبه لايتناهى بحسب استعداد الناس للوصول إليه ، ويختلف بكلا معنييه بالقلّة والكثرة بحسب المتعلّق ، فكما يقال فلان كثير العلم بكثرة معلوماته ،
1 ـ المحجة البيضاء : 1/150 ، وفيه : « اليقين الايمان كلّه ».
2 ـ المحجة البيضاء : 1/151.
(125)
فكذا يقال كثير اليقين بكثرة متعلّقاته ، وبالخفاء والظهور ، فإنّ اليقين بالبديهيّات أوضح منه بالنظريات ، وإن اتّفقت في نفي الشكّ عنه ، ومن كان استيلاء يقينه على أكثر كان أوضح عنده ممّا كان تصرّفه في نفسه أضعف وهكذا.
كذا أفاده بعض الأعلام. (1)
أقول : عروض القوّة والضعف له باعتبار أثره ، كما أنّ القلّة والكثرة تعرضه باعتبار متعلّقه ، فمعنى قولهم فلان قويّ اليقين أنّه قوي أثره فيه ، أعني الاستيلاء المذكور ، فإنّه أثر لليقين بالمعنى الأوّل ، وليس معنى آخر له وليس تفاوته بالقوّة والضعف باعتبار حقيقته حتّى يقال إنّ نفي الشك لاتفاوت فيه ، بل باعتبار اختلافه في الوضوح والخفاء ، فإنّه كلّما كان أظهر كان ترتّب أثره عليه أسرع ، وكلّما كان أخفى كان عن الترتّب المذكور أبعد.
وتفصيل ذلك أنّ الوجدان يشهد بالتفرقة بين ما يدرك بحسّ الإبصار كلأجسام أو بالخيال كصورها المرتسمة في الذهن لا من اختلافهما ضرورة اتّفاقهما ، بل بمزيد الكشف والوضوح ، حيث صارت بالرؤية أتّم وضوحاً ، كما في الرؤية في أوّل الإسفار والرؤية بعد طلوع الشمس ، فالخيال أوّل الادراك ، والرؤية كماله ، أي غاية الكشف ، وهذا الادراك له تأثير في نفس المدرك مختلف المراتب في الشدّة والضعف بحسب تفاوت نوعيه ، كما أنّ مدرك الوجه الحسن بالسماع والتخيّل لايتأثر منه مثل ما يتأثّر به مدركه بحسّ البصر ، وكما أنّ العالم بكون الأسد في الطريق بالخبر لا يتأثّر بمثل ما يتأثّر به المشاهد له حال قصده لإهلاكه من الدهشة والأضطراب ، وكذلك المعقولات التي لامدخل لحسّ الإبصار والتخيّل فيها ، فأوّل مرتبة ينفى عنها الشكّ علم ويقين ، كالعلم بوجود الأسد في الطريق من الخبر المتواتر.
وفوق هذه المرتبة في الادراك مرتبة منزّلة منزلة الإبصار تسمّى مشاهدة.
1 ـ هو أبو حامد الغزالي ، راجع المحجة البيضاء : 1/151_154.
(126)
ولكلّ منهما مراتب لاتتناهى في شدّة الكشف والضعف بحسب استعداد المدرك وصفائه ونقائه عن الحجب الحسيّة وكدورة الظلمات الطبيعيّة وصقالته عن الأخباث الردّية ، والباعث لحصول الأولى بمراتبها هو الانتقال من الملزوم إلى الازم وبالعكس ، ويسمّى علم اليقين كالعلم بوجود النار من مشاهدة الدّخان فلا يترتّب عليها كثير أثر من استيلائها على القلب وتصرّفها فيه بالأمر والنّهي والقبض والبسط كما لا يترتّب على العالم بالتواتر كون الأسد في الطّريق من الدهشة والاضطراب وتغيّر اللّون ورجف الأعضاء الا قليل لايكمل به المطلوب.
وللمرتبة الثالثة مراتب مختلفة في الظهور والخفاء أيضاً الا أنّها مشتركة في تمام التأثير في النفس والبدن ، فإن كان بطريق مشاهدة المطلوب بالبصيرة الباطنة الحاصلة من التصفية وتجرّد النفس كليقين بوجود النار من مشاهدتها بالعيان وهو عين اليقين ، وقد أشار سبحانه إليه بقوله : « ثمّ لترونّها عين اليقين »(1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام لمّا سأل عنه ذعلب اليماني : هل رأيت ربّك؟ « لم أعبد ربّاً لم أره » (2).
وإن كان من مشاهدة فيضان الآثار والأنوار من المطلوب إليه بسبب ارتباط تامّ بين العاقل والمعقول واتّحاد معنوي بحيث يرى نفسه رشحة منه غير منفكّ عنه كاليقين بوجود النار من الدخول فيه فيسمّى حقّ اليقين ، ولا تحصل هاتان الدرجتان الا بعد مجاهدات عظيمة بهجر الرسوم والعادات وترك العلائق والشهوات وقطع الوساوس النفسانيّة وقلع الهواجس الشيطانيّة وقصر النظر في ملاحظة جماله ومشاهدة أنوار جلاله والاستغراق في بحر معرفته وأنسه والفناء في حضرة قدسه حتّى يحصل للنفس صفاء
1 ـ التكاثر : 7.
2 ـ التوحيد للصدوق : ص3305 ، وفيه : « لم أكن بالذي أعبد ».
(127)
وتجرّد تامّ ومحاذاة لما هو فوق التمام ، فإنّها كمرآة ينعكس إليها صور الموجودات من العقل الفعّال ، فلابدّ لها من خمسة أشياء :
عدم نقصان جوهرها ، فلا يكون كالصبيّ الغير القابل القابل لتحلّي (لتجلّي ظ) المعلومات.
وصفاؤها عن أخباث الشهوات. ونقاؤها عن الرسوم والعادات ، كما يعتبر في المرآة صقالتها عن الخبث والصدا.
ومن التوجّه التامّ إلى المطلوب فلا يكون له ما يشوّش الخاطر من أسباب التعيّش والعلائق الدنيويّة ، كما يعتبر في المرآة محاذاتها لذات الصورة.
ومن تخليتها عن التعصّب والتقليد ، كما يعتبر فيها ارتفاع الحاجب بينها وبين ذات الصورة.
ومن استحصال المطلوب من ترتيب مخصوص للمقدّمات المناسبة له بشرائطها كما يعتبر فيها العثور على الجهة التي فيها الصورة.
ومن استحصال المطلوب من ترتيب مخصوص للمقدمات المناسبة له بشرائطها كما بعتبر فيها العثور على الجهة التي فيها الصورة.
فبعد حصول الشرائط المذكورة ينتقش فيها عالم الملك والشهادة لتناهيه ، فيمكن الاحاطة به ، وعالم الملكوت والجبروت بقدر ما يمكنه بحسب مرتبته لكونها من الأسرار التي لا تدرك بالأبصار ، بل بعين البصيرة والاعتبار ، وما يلوح منها للنفس أيضاً متناه ، وإن كانت في نفسها ، وبالاضافة إلى علمه تعالى غير متناهية ، ومجموع ما ذكر من العوالم هو العالم الربوبي ، لانتساب الموجودات بأسرها إليه تعالى وهو العالم المحيط بكلها ، فلا تحيط به النفس لعدم تناهية ، بل تحصل له السعادة واللذّة بقدر استعدادها وقوّتها وما يحصل لها من التصفية والتزكية وتجلّي الحقائق والأسرار ومعرفة صفاته وعظمته ، ويكون سعة مملكته فيها بقدر المعرفة الحاصلة لها بذلك ، ولعدم تناهيه لا يستقرّ النفس في مقام يكون غاية لطلبها في الكمال والمعرفة أبداً.
(128)
واعلم أنّ النفس في بدو الفطرة صالحة لما ذكر لكونها جوهراً ملكوتياً ، ولذا صارت قابلة لحمل أمانة الله تعالى أعني التوحيد والمعرفة ، وفاقت على كلّ موجود بالفضيلة والشرافة ، وإنما يمنعها عنه أحد الموانع المذكورة.
قال صلى الله عليه وآله : « كلّ مولود يولد على الفطرة الا أنّ أبواه يمجّسانه ويهوّدانه وينصّرانه ». (1)
وقال صلى الله عليه وآله : أيضاً : « لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض ». (2)
وقد عرفت أنّ الشياطين إنما يحومون عليها يغلبة الشهوية والغضبية علىالعقلية ، وينسدّ أبوابها بغلبة العقلية عليهما ، وينفتح أبواب الملائكة القدسية والأنوار القدوسيّة.
ثم اعلم أنّ من علامات اليقين أن يعلم صاحبه أن لا مؤثّر في الوجود الا هو ، ولا أثر الا وهو أثره ، فلا يلتفت الا إليه ولا يّتكل الا عليه ، ويستوي حالتا الفقر والغنى والصحّة والمرض لديه ، لأنه يرى جميع الاشياء بعين واحدة ، والوسائط مسخّرة تحت حكمه.
قال الصادق عليه السلام : « من ضعف يقينه تعلّق بالأسباب ورخّص لنفسه بذلك واتّبع العادات » ، وأقاويل الناس بغير حقيقة والسعي في أمور الدنيا وجمعها وإمساكها مقرّاً باللسان أنّه لا مانع ولا معطي الا الله ، وأنّ العبد لا يصيب الا ما رزق وقسم له ، والجهد لا يزيد في الرزق ، وينكر ذلك بفعله وقلبه. قال الله تعالى : « يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون » (3)(4)
1 ـ المحجة البيضاء : 5/127 مع اختلاف.
2 ـ البحار : 71/221 ، المحجة البيضاء : 2/125 ، بدون « والأرض ».
3 ـ آل عمران : 167.
4 ـ مصباح الشريعة : الباب السابع والثمانون ، في اليقين.
(129)
وفي حديث آخر : « حدّ اليقين أن لا تخاف مع الله شيئاً » (1).
ومن علاماته أيضاً خضوع صاحبه لله تعالى وقيامه بوظائف العبادات مع الواظبة على امتثال الطاعات فارغاً قلبه عمّا سواه ومصروفاً فكره فيما يوجب رضاه ، لأنه يدري قدرته وعظمته واطّلاعه على خفايا ضميره وعلمه بأفعاله وأعماله فيكون في مقام الشهود أبداً والاشتغال بوظائف الأدب دائماً ، كيف لا ، وقد ترى أنّ كلّ من يحضر عند ذوي الشوكة والاقتدار من الملوك وأرباب الدول ، والاعتبار مع خساستهم ورذالتهم ومجازية دولتهم ونعمتهم يبالغ في أقصى وظائف الأدب والخدمة ، ويحصل له أعلى مراتب الخوف والدهشة ، سيّما إذا علم اطلاعه على أفعاله المخالفة لأمره ورضاه ، فكيف وهو ملك الملوك وجبّار الجبابرة والمنعم الحقيقي ، العالم بما تخفيه الصدور.
فمن تيقّن بأنّه يشاهد أعماله يجتهد أبداً في الامتثال والاطاعة والدعاء.
ومن أيقن بإحسانه وحقوقه المتواترة يكون دائماً في مقام الشكر والحياء.
ومن أيقن بما هيّأه لمحبّيه ومخلصيه في دار الجزاء يكون دائماً في مقام الاخلاص والرجاء.
ومن أيقن باستناد كلّ الأشياء إليه على أحسن نظام يقتضيه الحكمة والمصلحة يكون دائماً في مقام التسليم والرضا.
ومن أيقن بالموت وما بعده من العقبات الهائلة يكون دائماً في مقام الحزن والبكاء.
ومن تيقّن يخساسة الدنيا وفنائها لم يركن إليها لما يشاهد منها عدم الوفاء.
1 ـ الكافي : 2/57 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب فضل اليقين ، ح1. وفيه : « قلت : فما حدّ اليقين؟ قال : الاتحاف ... »
(130)
فقي الخبر : « أن الكنز الذي حكى الله تعالى له صلى الله عليه وآله لليتيمين كان مكتوباً فيه : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن أيقن بالدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يركن إليها ». (1)
ومن أيقن بعظمته وكمال قدرته كان في مقام الخوف والدهشة والخشوع كما أن رسول الله صلى الله عليه وآله من شدّة خضوعه لله تعالى إذا مشى يظن أنه يسقط على الأرض.
ومن أيقن بكمالاته الغير المتناهية وكونه فوق التمام يكون دائماً في مقام الشوق والوله.
ولو تصفّحت كتب السير والأخبار لاطّلعت على ما كان عليه المخلصون من عباد الله تعالى وأنبيائه وأوليائه من الخوف والشوق ، وما كان يعتريهم من الارتعاش والاضطراب في الصلوات والوله والاستغراق والغشيات في الخلوات وغيرها ، وتفطّنت بآثار اليقين الحاصل لكمّل عباده المخلصين.
وفي الخبر عن الصادق عليه السلام : « إنّ اليقين يوصل العبد إلى كل حال سنّي ومقام عجيب » ، كذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله من عظم شأن اليقين ، حين ذكر عنده أن عيسى بن مريم كان يمشي على الماء فقال : لو ازداد يقينه لمشى في الهوا » ، ومنه يظهر شدّة اختلاف مراتبه حتى في الأنبياء عليهم السلام (2).
من جملة الفضائل المتعلقة بالعاقلة التفكّر وهو السير الباطني من
1 ـ راجع الكافي : 2/59 ، كتاب الايمان والكفر ، باب فضل اليقين ، ح9.
2 ـ مصباح الشريعة : الباب السابع والثمانون ، في اليقين مع تلخيص وتغيير.