وقال الصادق عليه السّلام : « كلّ داء من التخمة خلا العمى » فإنها ترد وروداً » (1)
وكفاها سناعة صيرورتها باعثة لخروج أبينا وأمّنا من أعلى غرفات الجنان إلى دار الذلّ والهوان ، فإنه منبع المعاصي والباعث على حصول كلّ رذيلة فتتبعها شهوة الفرج ، وتتبعهما الرغبة في الجاه والمال للتوسّع فيهما ، وتتولّد منها ضروب المحاسدات والمناقشات وصنوف الرذائل والآفات من الرياء والعجب والافتخار وغيرها ، ولذا ورد في ذمّها ما ورد.
فعن النبي صلّى الله عليه وآله : « ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه حسبه لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان هو فاعلاً لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ». (2)
وعنه صلّى الله عليه وآله : « لاتميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب ، فإنّ القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء ». (3)
وعنه صلّى الله عليه وآله : « أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا ». (4)
وعن الباقر عليه السّلام : « ما من شيء أبغض إلى الله من بطن مملوء ». (5)
وعن الصادق عليه السّلام : « ما من شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل وهي مورثة شيئين قسوة القلب وهيجان الشهوة ، والجوع أدام المؤمن وغذاء للروح ، وطعام للقلب ، وصحّة للبدن ». (6)
وقد ورد في مدح الجوع وفضل الصبر عليه ما ورد.
قال صلّى الله عليه وآله : « أفضل الناس من قلّ طعمه وضحكه ورضي بما يستر به
1 ـ المحجة البيضاء : 5/150 نقلاً عن الكافي : 6/269 ، وفيهما : « الا الحمّى ».
2 ـ المحجة البيضاء : 5/147.
3 ـ المحجة البيضاء : 5/147.
4 ـ المحجة البيضاء : 5/149.
5 ـ المحجة البيضاء : 5/150 نقلاً عن الكافي : 6/270.
6 ـ المحجة البيضاء : نقلاً عن مصباح الشريعة (الباب 41).
(202)
عورته » (1)
وقال صلى الله عليه وآله : « كلوا واشربوا في أنصاف البطون ، فإنّه جزء من النبوّة ». (2)
وقال صلى الله عليه وآله : « سيّد الأعمال الجوع وذلّ النفس ». (3)
ويترتّب عليه من الفوائد صفاء القلب ورقّته ، وجلاء الذهن وحدّته ، والشوق إلى العبادة ، وسهولة المداومة عليها ، وترحّم أهل المسكنة ، والانكسار المانع عن العصيان والغفلة والطغيان ، ودفع النوم المضيّع للعمر المفوّت للتهجّد وسائر الطاعات ، وسهولة الايثار والصدقات ، وخفّة المؤونة المانعة عن تحصيل المقصد الأصلي وصحّة البدن ودفع الأمراض.
فعلاجها : بتذكّر ما يرد عليها من المفاسد ويترتّب على ضدّها من المحامد ، وما ورد في ذمّها ومدح ضدّها من الأخبار ، والتفكّر في خسّة الشركاء من البهائم الأكولة كالخنزير والفيل ، وأنّها ماحازت بكمال هذه الصفة فيها الا خسّة ودوناً ، وأنّ تناول الغذاء لدفع ألم الجوع وحفظ بدل ما يتحلّل ليتقوّم به البدن.
وممّا ينعف في دفعها صحبة الأماجد.
وربّما يستعان فيه بتحبيب الجاه والاحتشام إلى النفس لتعرض عنها عند الاقبال إلى ما يخالفها ويحافظ على ترك الافراط في الأكل ولو تكلّفاً إلى أن يعتاد عليه.
وأمّا شهوة الفرج والحرص على استبدال الزوجات والاكثار منها فهي من أقوى أسباب تضييع الدين وهلاك النفس والعقل بمقهوريّتهما تحت حكمهنّ حتّى يحرم بسببها عن سلوك المقصد الأصلي ، ويقتحم في الفواحش والمعاصي.
1 ـ المحجة البيضاء : 5/146 ، وفيه : « قيل : يارسول الله : أيّ الناس أفضل؟ قال : من ... ».
2 ـ المحجة البيضاء : 5/146 ، وفيه : « كلوا في أنصاف ... ».
3 ـ المحجة البيضاء : ، وفيه : « ... وذل النفس لباس الصوف ».
(203)
وإتلاف البدن بدفع الكيموسات الصالحة التي هي غذاء الأعضاء وصرف الرطوبات الأصلية التي هي موادّ قوامها وتحليل الحرارة الغريزيّة التي هي آلة الطبيعة في تصرّفاتها كالعامل الظالم الذي يأخذ أموال الرعية قهراً ويهلكهم فاقة وفقراً ليصرفهان في مصارفه ، وقد حصلت التجربة بكون المفرط في الوقاع نحيفاً سقيماً بدنه قصيراً عمره ساقطة قوّته ، بل ربما صار فاسداً عقله ، مختلاً دماغه.
وإتلاف المال في وجوه التعمتّعات ، فكثيراً ما أوقعت صاحبها في أودية الفقر والفاقة ، وربما انتهى هذا المرض إلى العشق البهيمي الذي لايعرض الا لقلوب قصيرة الهمم ، فارغة عن حبّ الله ، فربّما أدّى إلى هلاك النفس والبدن ، ولذا ورد في ذمّها ما ورد.
قال النبي صلّى الله عليه وآله : « اتّقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء ». (1)
وروي أنّ الشيطان قال : « المرأة نصف جندي ، وهي سهمي الذي أرمي به فلا اخطيء ، وهي موضع سرّي ورسولي في حاجتي ». (2)
وفي الخبر : « النساء حبائل الشيطان ». (3)
ولا يغرّنك كثرة زوجات النبي صلّى الله عليه وآله ، فإنّ استغراقه صلى الله عليه وآله في حبّ الله سبحانه كان بحيث يخشى احتراق قلبه والسراية إلى قالبه ، فكان يشغل نفسه الشريف بهنّ لئلا تنجّر كثرة استغراقه إلى مفارقة روحه عن بدنه.
ولذا كان يقول في بعض حالات استغراقه وخوضه في غمرات المشاهدة : « كلّميني أو اشغليني يا حميراء » (4) وهي تشلغه بكلامها عن عظيم ما هو فيه لقصور طاقة قالبه عنه ، ثم من جهة كون هذا عرضيّاً له يتكلّفه رفقاً ببدنه الشريف ، وكان من جبلّته الاستغراق في بحار الحبّ والانس بالله
1 ـ المحجة البيضاء : 5/180.
2 ـ المحجة البيضاء : 5/177 ، ونسبه فيه إلى « بعضهم ».
3 ـ المحجة البيضاء : 5/176.
4 ـ المحجة البيضاء : 5/ 179.
(204)
تعالى ، ماكان يطيق طول الجلوس والتحدّث مع الناس ويضيق صدره ويقول :« أرحنا يا بلال » (1) حتّى يعود إلى قرّة عينه في الصلاة ، فيس لأولي الأفهام القاصرة والعقول الناقصة المقايسة في أفعالهم بأفعاله المشتملة على أسرار عجيبة وحكم غريبة.
كار پاكان قياي از خود مگير
گر چه باشد در نوشتن شير شير
وعلاجها بعد تذكّر مفاسدها المشار إليها ، كسرها بالجوع والصوم وسدّ أبوابها من النظر والتخيّل والتكلّم والتخلّي بهنّ.
ولذا منع في الشريعة المطهّرة عن النظر واستماع الرجل لكلام المرأة من غير ضرورة.
وقال النبي صلّى الله عليه وآله : « النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ». (2)
وقال النبي صلّى الله عليه وآله : « لكلّ عضو من ابن آدم حظّ من الزنا ، فالعينان تزنيان وزناهما النظر ». (3)
وقيل ليحيى بن زكريّا ما بدؤ الزنا؟ قال : « النظرة والتمنّي » (4)
فإن لم تنقمع بهما فبالنكاح أو بوطي زوجته » ، فإنّ تشابه النساء في التمتّع أكثر من تشابه الأغذية في سدّ الحاجة ، فكما يستقبح العقل السؤال عن الناس مع الاستغناء بما يتقوّت به ، فكذا يستهجن تتبّع النسوان مع القدرة على الاستمتاع بزوجته.
وأنفع العلاج الاشتغال بما يصرف همّه وفكره عن الشهوات من تحصيل العلوم والاشتغال بالطاعات سيّما الصلوت ، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والمجالسة مع أهل الورع والزهد والعلم.
1 ـ المحجة البيضاء : 5/179.
2 ـ المحجة البيضاء : 5/180.
3 ـ المحجة البيضاء : 5/181.
4 ـ المحجة البيضاء : 5/180.
ثاني الجنسين الخمود وهو سكون النفس عن تحصيل الضروري منها بحيث يؤدّي إلى سقوط القوّة تضييع العيال وانقطاع النسل ، وهو رذيلة ، لأنّ المقصد الأصلي هو الوصول إلى السعادة ولاتحصل الا باكتساب المعارف واقتناء الفضائل وأداء الطاعات المتوقفة على قوّة البدن المتوقّفة على تحصيل الضروري من المأكل والملبس والمسكن ، وربّما توقّفت في بعض الأحيان وابالنسبة إلى بعض الأشخاص على حصول فراغ لها عن أمور المعيشة من الطحن والكنس والخبز وغيرها الغير المنتظمة الا بالتزويج ، مع ما فيه من بقاء النسل ودوام وجود آثار صنعه تعالى ومقايسة لذات الآخرة بها ، إذ لايمكن الخوف ولا الشوق الا بإدراك لذّة وألم ، ولايتصوّران في عالم الحسّ الا بالجسمانيّات المشابهة لللذّات والآلام الأخروية ، فيقاس بلذّة الجماع الحسّي الذي هو أقوى اللذّات الجسمانية ، وألم النار المحسوس الذي هو أعظم آلامها لذّات الآخرة وآلامها.
مع ما فيه من امتثال أمر الرسول بالتزويج طلباً لزيادة الامّة ، فيباهي بها سائر الأمم وطلب الخيرات الباقية بعد الممات من الأعمال الصالحة والآثار الحسنة الصادرة عن الأعقاب وشفاعة صغارهم الأموات ، كما ورد في الأخبار والتحصّن من وساوس الشيطان بقلع خطرات الشهوة عن القلب ، كما قال صلى الله عليه وآله : « من تزوّج أحرز نصف دينه ». (1) وترويح النفس وأيناسها بالنظر وغيرها تقوية للقلب على العبادة ، فإن النفس ملولة عن الحقّ نفور على ما يخالف طبعها (2) ، فلو واظب الانسان على إكراهها على ما يخالفها جمحت ولو روّحت باللذّات أحياناً قويت وتشطت. ولذا قال تعالى :
1 ـ المحجة البيضاء : 3/55 نقلاً عن الكافي : 5/329.
2 ـ في المحجة البيضاء (3/67) : فإنّ النفس ملولة وهي عن الحقّ نفور لأنّه على خلاف طبعها.
(206)
« ليسكن إليها » (1)
وفي الخبر : « روّحوا القلوب فإنها إذا اكرهت عميت ». (2)
ومجاهدة النفس في السعي في حوائج العيال وتحمّل مشاقّهم ومكاره أخلاقهم والاجتهاد في إصلاح شأنهم وإرشادهم وكسب المال الحلال لوجوه معايشهم. كما قال صلّى الله عليه وآله : « الكادّ في نفقة عياله كالمجاهد في سبيل الله ». (3)
فالخمود المؤدّي إلى الحرمان عمّا ذكر رذيلة الا فيمن لم يكن له شبق يؤدي به إلى خطرة محرّمة ووسواس منهيّ عنه مع علمه بعجزه عن القيام بحقوق الزوجيّة ، وتحمّل أخلاق النساء وتحصيل المال الحلال في وجوه المعيشة وأيقن بأدائه إلى الانغمار في الدنيا وعدم تمكّنه من تحصيل ما ينفعه في العقبى ، فإنّ الراجح له حينئذ ترك التزويج يقيناً ، ، ولذا أجريت الأحكام الخمسة في النكاح.
وعلاجه ـ بعد التذكّر لمفاسده وما يترتّب على ضدّه من المحامد المشار إليها. والتأمّل في الأخبار الكثيرة الواردة في ذمّه ومدح تحصيل المال الحلال للكفاف ممّا سيذكر بعضها إن شاء الله ـ السعي في تحصيله ولو تكلّفاً إلى أن يعتاد عليه.
الدنيا في نفسها عبارة من الأرض من الضياع والعقار وما عليها من الحيوان والنبات والمعادن ، وفي حقّ العبد عبارة عمّاله في حياته من حظّ ونصيب والعلاقة الحاصلة له بها حبّه لها ، لكن من جملة الحظوظ الحاصلة له في دار الدنيا اقتناء الفضائل وتحصيل المعارف التي بها تحصل السعادة الحقيقية ، ولذا كانت مزرعة الآخرة ، فحبّ العبد لها ولما يتوقّف عليها من المأكل والملبس والمسكن والمنكح ليس من الرذائل بل يمدح عليه.
1 ـ الاعراف : 189.
2 ـ المحجة البيضاء : 3/68 ، وفي النسخ : « روّحوا القلب » ، وصححناها.
3 ـ المحجة البيضاء : 3/70.
(207)
كما قال نبيّنا صلّى الله عليه وآله : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرّة عيني في الصلاة ». (1)
وإنما المذموم منه حبّ الحظوظ العالجلة التي لايتوسل بها إلى الآخرة ، كما أشرنا إليه وسنزيده توضيحاً.
فعلى هذا لابدّ من كون المراد من حبّ الدنيا المعدود في جملة الرذائل هذا القسم خاصّة ، وكلّه من رذائل الشهوية الا حبّ الجاه وتسخير القلب إذا قصد منه الاستيلاء فإنّه من رذائل الغضبية ، حينئذ كما سيجيء فيكون مرادفاً للشرة بالتفسير الذي ذكرناه حينئذ ، ويلزم منه أن يكون جنساً من طرف الافراط وما ذكرناه في الفصل السابق نوعاً منه كحب المال وغيره ممّا سيذكر.
ثمّ إنّ الحبّ المذكور إحدى علاقتي العبد بها وهي العلاقة القلبيّة بانصراف همّه إليها حتّى يصير رقّاً لها وهي الرقية بالمعنى الأعم ويقالها الحريّة كذلك أي استخلاص النفس من عبوديّتها ، ويترتّب عليها جميع الرذائل القلبية المتعلّقة بالدنيا من المكر والحسد والكبر والرياء وغيرها ، فهي الدنيا الباطنيّة ، والظاهرية الأعيان المجودة التي جمعها الله تعالى بقوله :
« زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسمومّة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ». (2)
والأخرى العلاقة البدنيّة بالاشتغال بإصلاح تلك الأعيان في وجوه المصارف بالحرف والصنائع التي اشتغل بها الناس فأنستهم أنفسهم وخالقهم واستغرقوا في مشاغلها لجهلهم بحكمتها فاتّصلت وتوالت بعضها ببعض إلى غير النهاية ، إذ لايفتح منها باب الا وينفتح منه كثير من الأبواب وهلمّ جرّاً ، فكأنّهم وقعوا في هاوية لاقعر لها وسقطوا في مهاويها واحدة
1 ـ المحجة البيضاء : 96/1.
2 ـ آل عمران : 14.
(208)
بعد اخرى.
ألا ترى أنّ ما يضطرّ إليه الانسان بالذات منحصر في المأكل والملبس والمسكن ومنه حدثت الحاجة إلى الفلاحة والرعاية للمواشي والحياكة والبناء والاقتناص أي حيازة المباحات من الصيد والمعادن والحشائش والأحطاب التي هي الاصول لسائر الصناعات المنتشرة في العالم فاشتغل كلّ بها الا أهل البطالة حيث غفلوا عنه أو منعهم عنه مانع في أوان الصبا ، ثم استمرّوا عليها فاضطرّوا إلى الأخذ من الناس ، ومنه حدثت حرفتان أخبث من كلّ الحرف الكدية واللصوصية ولكلّ منهما أنواع.
واعلم أنّ الدنيا لقطعها الطريق إلى الله تعالى على عباده عدوّة له ، ولذا لم ينظر إليهامنذ خلقها كما في الأخبار. (1) ولأوليائه أيضاً ، فإنّ العدوّ يبغض أولياء عدوّه كما يبغض الولي أعداء وليّه ، ولكون الدنيا سجناً لهم ، حيث لم ترض لهم الا بالبلايا والمتاعب والرزايا والمصائب ، ولكونها حاجبة لهم عن الوصول إلى محبوبهم ماداموا فيها. ولأعدائه أيضاً حيث غرّتهم بمكائدها واقتنعتهم بشبابكها (2) ، ثم حرمتهم عن السعادة الأبدية وخذلتهم بعد أن أسقطتهم في مهاويها المهلكة الرديّة ، ولذا ترى أكثر القرآن مشتملاً على ذمّها.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام في وصفها : « ماأصف من دار أوّلها عناء وآخرها فناء ، في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها أتته ، ومن أبصر بها بصرّته ، ومن عمي عنها أعمته ». (3)
وقال عليه السّلام : « لايغرّنكم الحياة الدنيا فإنّها دار بالبلاء محفوفة وبالفناء
1 ـ المحجة البيضاء : 5/355.
2 ـ كذا في النسخ ، والصحيح : شباكها.
3 ـ نهج البلاغة : الخطبة 82 ، وفيه : « واتته » بدل « أتته » و « من أبصر إليها أعمته » بدل « من عمي عنها أعمته ».
(209)
معروفة وبالغدر موصوفة ، فكلّ ما فيها إلى زوال ، وهي بين أهلها دول وسجال ... بينما أهلها منها في رخاء وسرور ، فإذا هم منها في بلاء وغرور ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لايدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها ... الحديث ». (1)
وقال :« إنّما مثل الدنيا كمثل الحيّة ماألين مسّها وفي جوفها السمّ الناقع ، يحذرها الرجل العاقل ، ويهوي إليها الصبيّ الجاهل ». (2)
والأخبار الواردة في ذمّها من الأئمّة الراشدين سلام الله عليهم أجمعين ممّا لاتحصى ، ولايليق بهذا المختصر ذكرها ، بل لايمكن ضبطها وحصرها ، وإنّ بالتأمّل في خطب نهج البلاغة وغيرها ممّا وصل إلينا من أميرالمؤمنين وقدوة المتّقين عليه السّلام في ذمّها وسرعة زوالها وخساستها وهلاكة طلاّبها لبلاغاً لقوم يعقلون. وللحكماء في الزجر عنها وجعل ذمائمها محسوسة في أعين طلابها أمثلة معروفة مشهورة ، هي في الكتب المتداولة مذكورة.
تنبيه
الباقيات الصالحات للعبد المشار إليها بقوله تعالى : « والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثواباً وخير أملاً » (3) بعد مفارقة الروح عن البدن هي صفاء القلب وحبّه تعالى والأنس به فبها تحصل اللذّة الحقيقية والابتهاج التامّ من مشاهدة جمال الحقّ.
أمّا صفاء القلب فلأنّ بالموت يرتفع الحواجب الحسّية والعلائق المادّية المانعة عنها كمنع الأجفان عن رؤية الأبصار ، فإن كانت النفس ملوّثة بكدورات الدنيا وشهواتها كانت كمرآة تراكم عليها الخبث والصدأ ، فلاتصل إلى مقام الكشف والشهود الا بعد زوالها ، فإذا كانت من شدة
1 ـ المحجة البيضاء : 3/6.
2 ـ المحجة البيضاء : 5/363.
3 ـ الكهف : 46.
(210)
تكدّرها بها وطول صدأها قد وصلت إلى حد الرين والطبع لم تقبل الاصلح والتصقيل مطلقاً ، فلاتصال إلى مقام الكشف والشهود أبداً ، وإن لم تصل إلى ذلك الحد لم يصل إليه الا بعد مدّة مديدة يعرض عليها النار حتّى ينقلع عنها الخبث الحاصل لها من كدورات الدنيا بقدر ما حصل لها ، فكلّما كان صفاء القلب أكثر كان أمكمن من الوصول ، ولايحصل الا بالكفّ عن شهوات الدنيا وقطع العلاقة القلبيّة عنها وتطهير النفس عن أدناسها.
وأمّا اللذّة المترتّبة على حبّ الله الحاصل من المعرفة والتفكّر فلاتحصل أيضاً الا بترك الدنيا وحبّها ، فإنّ الموت ليس عدماً صرفاً ، بل هو فراق لمحابّ الدنيا وقدوم على الله ، فإذا كان العبد محبّاً لله تاركاً للدنيا ارتفع بموته الحجاب المانع له عن وصوله إلى محبوبه ، فتحصل له لذّة المشاهدة واللقاء ويصير له القبر روضة من رياض الجنّة حيث إنّ محبوبه منحصر فيما وصل إليه ، فيقدم عليه سالماً منالعوائق آمناً من الفراق مستخلصاً نفسه عن السجن الحاجب بينه وبين محبوبه ، وإن كان محبّاً للدنيا لم يتمكّن مع ذلك من حبّ الله لتناقض الحبّين ، فلايمكن اجتماعهما في قلب واحد ، ولو فرض إمكانه فلايمكن معه الوصول إلى الله ، لأنّ تلك العلاقة الباقية للنفس بعد الموت بالدنيا حاجبة لها عن الوصول إليه حتّى تلتذّ بمشاهدته ولقائه ، كما كان في الدنيا ، فلاتحصل له تلك اللذّة المتفرّعة على الحبّ ، بل يتألّم ويعذّب ، لأنّه حيل بينه وبين محبوبه ، أعني الدنيا وانسدّت عليه أبواب الحيلة في الرجوع إليه.
وأما الأنس به تعالى فهو إنّما يحصل بالمواظبة على ذكر الله والمداومة عليه حتّى يأنس قلبه به والانس والحبّ متلازمان [ فمن استأنس بشيء ابتهج بمشاهدته والتذّ بملاقاته ]. (1)
وقد عرفت أنّ الحياة حاجبة عن اللقاء والمشاهدة وبالموت يرتفع
1 ـ كما في « الف » فقط.