ولأجله خربت البلاد وشاع الفسق والفجور بين العباد ، والمنشأ في الحقيقة لفساد حال الرعية فساد حال السلاطين ، والباعث له فساد حال العلماء المتردّدي إليهم وخبث طينتهم والطمع في حطامهم ، وإن سمعك أنّ في بعض الأزمنة السالفة نهض بعض الأمراء والحكّام بإقامة هذه السنّة في الرعية وردعهم عما شاع بينهم منهم المنكرات التي هي رأس كل رزيّة وبلية أو بعض العلماء الذين حصل لهم بسط يد في بعض الأيام ولم تك تأخذهم في الله لومة لائم من الأنام فقد سمعت أيضاً أنّه صار سبباً لانحرافهم عن السيّئات وميلهم إلى الخيرات والطاعات ، وانفتحت عليهم بسببه أبواب البركات من الأرضين والسماوات ، وأمّا في هذه الأيام وما شابهها من الأوقات فقد استرسلوا لتركها والمداهنة فيها في أودية الشهوات وخاضوا بسببه في لجج الهوى ، فانمحت أعلام الهدى وانسدّت أبواب التقى واندرس علمه وعمله ول يبق بينهم اسمه ولا رسمه فهم في بيداء الضلالة حيارى وفي أيدي الأبالسة أسارى.
وما ورد في ذمّ ذلك من الآيات والأخبار لاتكاد تحصى.
قال الله تعالى : « لولا ينهاهم الربّانيّون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ». (1)
وقيل للنبي صلى الله عليه وآله : « أتهلك بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ». (2)
وقال صلى الله عليه وآله : « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ». (3)
وقال صلى الله عليه وآله : « إنّ الله لايعذّب الخاصة بذنوب العامة حتّى يظهر المنكر بين
1 ـ المائدة : 63.
2 ـ المحجة البيضاء : 4/102 ، وفيه : « بشهادتهم وسكوتهم عن معاصى الله عزوجل ».
3 ـ المحجة البيضاء : 4/99 ، وفي : « ولتنهونّ »وهو الصحيح.
(392)
أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروا فلا ينكرونه ». (1)
وقال : « من ترك إنكار المنكر بقبله ويده ولسانه فهو ميّت بين الأحياء ». (2)
وقال الباقر عليه السلام : « أوحى الله إلى شعيب النبي أنّي معذّب من قومك مائة ألف ، أربعين ألفاً من شرارهم وستّين ألفاً من خيارهم ، فقال : ياربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟! فأوحى الله إليه : داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي ». (3)
وفي الأخبار النبوية : « أنّ أمتّي إذا تهاونوا ف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بحرب من الله ورسوله ». (4)
وورد في الأخبار المنع من حضور مجالس المنكر ، فإنّ اللعنة تعمّ من فيها.
ولذا اختار جمع من السلف العزلة حذراً عن مشاهدة المنكرات مع عجزهم عن تغييرها ، وإذا كانت المداهنة في ذلك بهذه المثابة فما حال الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
قال النبي صلى الله عليه وآله : « كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبانكم فلم يؤمروا بعروف ولم ينهوا عن منكر ، فقيل : ويكون ذلك؟ قال : نعم ، وشرّ من ذلك ، قيل : وكيف ذاك يارسول الله؟ قال : كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ، فقيل : ويكون ذلك؟ قال : نعم وشرّ منه ، [ قيل : كيف ذاك يارسول الله؟ قال : ] (5) كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً
1 ـ المحجة البيضاء : 4/100.
2 ـ المحجة البيضاء : 4/105 ، عن أميرالمؤمنين عليه السلام.
3 ـ الكافي : 5/56 ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح1.
4 ـ راجع الكافي : 5/59 ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح13.
5 ـ في « ج » فقط.
(293)
والمنكر معروفاً ، وعند ذلك يبتلى الناس بفتنة يصير الحليم فيها حيران ». (1)
ومن تتبّع السير والتواريخ والأخبار المشتملة على حكايات الأمم الماضية علم أنّ العقوبات العظيمة الأخروية والدنيوية السماوية والأرضية من القحط والغلاء والطاعون والوباء وحبس المياه والأمطار وتسلّط الظلمة والأشرار بالقتل والنهب والأسر وحدوث الصواعق والزلازل إنّما نزلت عليهم لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكيف يؤاخذ الله غير العاصي بالعاصي ، وسيجيء مزيد تحقيق لهذا الأصل وساير الأصول الماضية في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
ختام
الهجرة والاعتزال عن الناس ليس بمذموم مطلقاً ، بل من كلام الأخلاق كما عرفت ، وأمّا الاعتزال عن شخص معيّن للحقد أو الحسد أو الغضب فهي من رذائل الملكات ، وما دلّ على ذمّه كثير.
فعن النبي صلى الله عليه وآله : « أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لايصطلحان الا كانا خارجين عن الإسلام ولم يكن بينهما ولاية ... ». (2)
وقال : « لايحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ... ». (3)
وقال الصادق عليه السلام : « لايفترق رجلان عن الهجران الا استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربما استوجبه كلاهما الحديث ... ». (4)
وبالجملة : فالأخبار كثيرة فلابدّ من التأمّل فيها والتذكّر لما ورد في ضدّها من الثواب حتّى يحافظ نفسه عن هذه الخلة الذميمة ، ولو حصلت له فليكلّف نفسه بالمبادرة على المسالمة والتألّف حتّى يغلب على الشيطان ويفوز بما يرجوه من الأجر الجزيل والثناء الجميل ، والله الموفّق.
1 ـ راجع الكافي : 59 ، والمحجة البيضاء : 4/100 ، والظاهر أنّ المصنّف ركّب بينهما.
2 ـ الكافي : 2/345 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الهجرة ، ح1.
3 ـ المحجة البيضاء : 3/362.
4 ـ الكافي : 2/344 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الهجرة ، ح1.
(394)
المقصد الثاني
في أنواع الظلم التي حاصلها ترك العبد مايجب عليه مراعاته فيما بينه وبين الله تعالى لكونه ظلماً على نفسه وتعدّياً عن الوسط اللازم مراعاته في تحقّق معنى العدالة.
فمن جملتها العصيان مطلقاً ، وهو جنس لما ذكر ، وسيذكر إن شاء الله تعالى من المعاصي الظاهرة والباطنة ، وضدّه التقوى والورع ، وقد أشير إليهما فيما سبق.
ومنها : الأصرار على العصيان ، وهو من نتائج الأمن من مكر الله وعدم الحبّ له ، وكلّ ما يدلّ على ذمّ مطلق المعاصي أو خصوص أفرادها يدلّ على ذمّه بطريق أولى ، وقد أشير فيما سبق إلى بعض ماورد في ذمّ أفرادها المشار إليها.
ومن جملة ما دلّ على ذمّ مطلقة قول النبي صلى الله عليه وآله : « ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها الا وملكان يتجاوبان (1) بأربعة أصوات ، فيقول أحدهما : ياليت هذا الخلق لم يخلقوا ، فيقول الآخر : ياليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا ، فيقول الآخر : ياليتهم إذا يعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا ، فيقول الآخر : ياليتهم إذا لم يعملوا بما علموا تابوا ممّا عملوا ». (2)
وقال أميرالمؤمنين عليه السلام : « لاتبدّين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة ، ولاتأمنّن البيات وقد عملت السيّئات ». (3)
وقال الباقر عليه السلام : « ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه حتّى يصير أعلاه أسفله ». (4)
1 ـ كما في المصدر ، وفي « الف » و« ب » : يتجاذبان ، وفي « ج » : يتحادثان.
2 ـ المحجة البيضاء : 7/93.
3 ـ الكافي : 2/273 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح21.
4 ـ الكافي : 2/268 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح1.
(395)
وقال عليه السلام : « إنّ العبد ليذنب فيزوى عنه الرزق ». (1)
وقال الصادق عليه السلام : « يقول الله : إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن احرمه عن لذيذ مناجاتي ». (2)
وقال عليه السلام : « من همّ بسيّئة فلا يعملهما فإنّه ربما عمل العبد السيئة فرآه الرّب منه فيقول : وعزّتي وجلالي لاأغفر لك بعد ذلك أبداً ». (3)
وقال عليه السلام : « أما إنّه ليس من عرق يضرب ولا صداع ولا مرض الا بذنب ، وذلك قوله تعالى : « وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير » (4) قال : وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به ». (5)
والأخبار لاتحصى ولا تظنّ أنّ أثر الذنوب لايصل إلى كثير من الناس ظاهراً ، فإنّه من المحالات ، فإذا لم يتجاوز عن الأنبياء مع تركهم الأولى حتّى أخرج بسببه من الجنّة أبونا ، وتطايرت عورته ، ونودي من فوق العرش : أن اهبط عن جواري ، فإنّه لايجاورني من عصاني ، ولم يقبل منه توبته الا بعد أن بكى مائتي سنة ، فإذا كنت مؤاخذته مع أصفيائه في المناهي التنزيهية على ما ذكر فما ظنّك بمن صرف عمره في كبائر المعاصي الموفورة والذنوب الغير المحصورة ، فلتطمئنّ خواطرك بأنّ من سعادة المرء تعجيل عقوبته في دار الدنيا وعدم تأخيره إلى الآخرة ، وإنّما أمهل المصرّون لكي يزدادوا إثماً ويستحقّوا من الله بعداً وهواناً وخزياً وخسراناً ، ولو لم يكن الا الحرمان بسببها عن نيل السعادات الحقيقية واستنارة القلوب بأنوار المعارف الإلهية والوصول إلى
1 ـ الكافي : 2/270 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح8.
2 ـ المحجة البيضاء : 7/96 من دون نسبته إلى الصادق عليه السلام ، نعم في جامع السعادات (3/48) نسبه إليه عليه السلام.
3 ـ الكافي : 2/272 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح17.
4 ـ الشورى : 30.
5 ـ الكافي : 2/269 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح3.
(396)
درجات المقرّبين إلى الحضرة الربوبية لكفاه خزياً ووبالاً وخيبة ونكالاً.
واعلم أنّ مثارات الذنوب تنحصر في أربع :
الصفات الربوبية والشيطانية والبهيمية والسبعية ، لأنّ طينة الانسان معجونة من أخلاط مختلفة الآثار.
فممّا يقتضيه الاولى : الكبر والفجر وحبّ الجاه والمدح والذمّ والعجب ، ويتشعّب منه أشياء آخر هي من أمّهات المعاصي أشرنا إليها فيما سبق.
والثانية : كالحسد والبغي والمكر والحيلة والحيلة والإفساد والغشّ والنفاق والدعوة إلى البدع.
والثالثة : كالشره المتفرّع عليه الزنا والسرقة وأكل مال الأيتام ونحوها.
والرابعة : كالغضب والحقد والتهجّم على الناس بالضرب والشتم والقتل ونحوها.
فالذنوب كلّها منفجرة من هذه المنابع على الجوارح ، فبعضها في القلب خاصّة كالكفر والبدعة والنفاق ، وبعضها على السمع والعين. وبعضها على اللسان. وبعضها على البطن والفرج واليدين والرجلين. وبعضها على جميع البدن.
ثم إنّها تنقسم إلى مابين العبد وبين الله ، وما يتعلّق بحقوق العباد ، والثاني أغلظ.
وأمّا الأوّل ففيما سوى الشرك والبدعة يكون العفو أرجى وأقرب.
ففي الخبر : « أنّ الدواوين ثلاثة : ديوان يغفر ، وديوان لايغفر ، وديوان لايترك ».
فالذي يغفر ما بين العبد وبين الله ، والذي لايغفر الشرك ، والذي لايترك مظالم العباد » (1) ، أي لابدّ من المطالبة واستيفاء الحقّ.
واعلم أنّ صاحب الشرع قسم المعاصي إلى صغيرة وكبيرة ، وحكم بأنّ
1 ـ المحجة البيضاء : 7/29.
(397)
اجتناب الكبائر يكفّر عن الصغائر ، وكذلك الصلوات الخمس.
قال الله تعالى : « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخدكم مدخلاً كريماً ». (1)
وعن النبي صلى الله عليه وآله : « أنّ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفّر ما بينهنّ إن اجتنب الكبائر » (2) قيل : معنى الأولى أنّ من تمكن من الكبيرة كالجماع مثلاً وجاهد نفسه في تركه واكتفى بالصغيرة كالنظر مثلاً كان كفّه عن اجتناب الكبائر أشدّ تأثيراً في تنوير قلبه وتقرّبه إلى الله بسببه من تأثير الصغائر في إظلامه ، والا فإنّ اجتنابها عن عجز أو خوف أو فقد شهوة لايكفّر عن الصغائر. (3)
ثم الكبيرة من مجملات الألفاظ ، إذ لا موضوع لها معيّناً لغة وعرفاً وشرعاً ، فإنّ الصغر والكبر إضافيان ، فما من ذنب الا وهو كبير بالنظر إلى مادونه وصغير بالنظر إلى مافوقه ، ولذا اختلفت الأقوال والأخبار في عددها اختلافاً فاحشاً لايرجى زواله.
قال بعض المحقّقين (4) ما ملخّصة :
إنّا بعد ما تأمّلنا في أنّ الكبيرة ليست مكفّرة بالصلوات الخمس شاهدنا بنور البصيرة والاعتبار أن المعاصي تنقسم إلى مانعلم قطعاً أنه لاتكفّره ، وإلى ماينبغي أن تكفّره ، وإلى مايتوقّف فيه ، والثالث بعضه مظنون بالنفي والاثبات ، وبعضه مشكوك فيه شكّاً لايزيله الا نصّ كتاب أو سنّة ، وإذ لا مطمع فيهما فطلب رفع الشكّ فيه محال.
لايقال : إنّه إقامة برهان على استحالة معرفة حدّها فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حدوده؟
1 ـ النساء :31.
2 ـ المحجة البيضاء : 7/30.
3 ـ المحجة البيضاء : 7/40.
4 ـ هو أبو حامد كما في المحجة البيضاء : 7/35 ـ 40.
(398)
لأنّا نقول : إنّ كلّ ما لا يتعلّق به حكم في الدنيا يجوز أن يطرّق إليه الابهام ، لأنّ الدنيا دار التكليف والكبيرة من حيث إنّها كبيرة لا حكم لها فيها ، فإنّ موجبات الحدود معلومة بأساميها ، وإنّما كبيرة لا حكم لها فيهان فإنّ موجبات الحدود معلومة بأساميها ، وإنّما حكمها عدم تكفير الصلاة لها وهو أمر يتعلّق بالآخرة ، فالابهام أليق به حتّى يكون الناس منه على وجل ، فلا يجترؤا على المعاصي الصغائر اعتماداً على الصوات الخمس أو كون اجتناب الكبائر مكفّراً عن الصغائر.
أقول : فيه نظر ، فإن فعل الكبيرة قادح في العدالة على مذهبنا مطلقاً دون الصغيرة ، والعدالة أمر عامّ البلوى يتوقّف عليها كثير من الأحكام الشرعية كالشهادة والقضاء والفتوى والامامة وغيرها ، فكيف لايتعلّق بها حكم في الدنيا ، على أنّ التوبة واجبة بالاجماع والنصوص ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى ، متصل وهي مقيّدة بالكبائر ، لأنّ اجتنابها يكفّر عن الصغائر بنصّ الكتاب ، فإذا لم تكن معلومة لزم تعليق التكليف بالمجمل وهو قبيح عقلاً.
نعم يمكن إن يقال : إنّ التكليف بالمجمل جائز مع إمكان الاتيان به ولو بمقدّمات يسهل تحصيلها بدون عس وحرج ، وله نظئر غير عزيزة فالمعاصي لاتخلو عمّا يعلم كونها كبيرة قطعاً أو يعلم كونها صغيرة كذلك ، أو يشكّ فيه والأوّلان لا إشكال فيهما ، والأخير يجب الاجتناب عنه ولو فرض صدوره عنه وجبت التوبة عنه من باب المقدّمة ، فمع علم الحاكم باجتنابه أو توبته عن القسمين على الوجه المعتبر ثبوته شرعاً يحكم بعدالته ومع شكّه أو علمه بعدمها يحكم بعدمها ، ولاأقلّ من الشكّ فيها الموجب لعدم إجراء ما يتوقّف عليها في حقّه ، فإنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط اللازم منه عدم ثبوته ، هذا حال الحاكم فيما يتعلّق به.
وأمّا ما يتعلّق به نفسه فهو أبصر بنفسه مع تمكّنه من التوبة عن المعاصي الصادرة عنه في نفس الأمر ممّا يعلمها العالم بخفايا الأمور ، وإن لم يعلم هو
(399)
تفاصيلها ، أو جزئياتها هذا مع أنّ التوبة إذا كانت مكفّرة للذنوب مطلقاً ، وواجبة على آحاد المكلفين عيناً فإمّا أن يتركها المكلّف ولايبالي بتركها أصلاً ، فهذا الترك منه حرام جزماً ، ولو سلم أنّه صغيرة ، فإنّ الاصرار على الصغائر كبيرة قطعاً ويلزم منه سقوط العدالة التي تتفرّع عليها الأحكام الشرعية ، وإمّا أن يواظب على القدر الممكن في حقّه منها بشرائطها الآتية فيرتفع آثار الكبائر عنه لو كان فاعلاً لها في نفس الأمر وثبت في حقّه العدالة ولا يبقى محذور أصلاً فتدّبر.
ثم اعلم أنّ الصغيرة تكبر بأسباب : أحدها الأصرار والمواظبة ، ولذا ورد « لا صغيرة مع الأصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار » 1 ـ وسرّه ، كما قيل أنّ قطرة من الماء لو وقعت على حجر لم تؤثّر فيه لقلّته ، ولو تعاقبت القطرات تدريجاً أثّرت فيه ، بل تأثيرها حينئذ أشدّ من تأثير الصبّ عليه دفعة واحدة. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « خير الأعمال أدومها وإن قلّ ». (2)
والسيّئة كالطاعة في التأثير في القلب ومعرفة الاصرار موكولة إلى العرف.
وفسّره الباقر عليه السلام في قوله تعالى : « ولم يصرّوا على ما فعلوا » (3) « أنّه أن يذنب الذنب فلا يستغفر ولايحدّث نفسه بتوبة ، فذلك الاصرار ». (4)
وثانيها : استصغار الذنب لصدوره عن الألف الموجب لشدّة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعات ، والمحذور تسويده بالسيّئات ، كما أنّ استعظامه يصدر عن نفور القلب وكراهيته له المانعة له عن شدّة التأثّر في ، ولذا عفي عن الغفلة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « لايصغر ما ينفع يوم القيامة ، ولا يصغر ما يضرّ
1 ـ الكافي : 2/288 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الإصرار على الذنوب ، ح1.
2 ـ المحجة البيضاء : 7/58.
3 ـ آل عمران : 135.
4 ـ الكافي : 2/456 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب محاسبة العمل ، ح14.
(400)
يوم القيامة ». (1)
وقال الكاظم عليه السلام : « لاتستكثروا كثير الخير ولاتستقلّوا قليل الذنوب فإنّها تجتمع حتّى تكون كثيرة ».
والسرّ في عظم الذنوب في قلب المؤمن كونه عالماً بجلال الله وكبريائه ، فإذا نظر إلى عظم من عصاه رأى الصغير كبيراً ، وأوحى الله إلى بعض أنبيائه : « لاتنظر إلى قلّة الهدية وانظر إلى عظم مهديها ، ولاتنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها ». (2)
وثالثها : الغترار في فعلها والتهاون بها بستر الله عليه وحلمه عنه ظنّاً منه أنّه عناية منه تعالى به وهو أمن منه بمكر الله وجهل بأنّه يمهل مقتاً ليزداد إثماً.
ورابعها : السرور بفعلها وعدّها نعمة ، كما هو الشائع بين الناس ، فمنهم من يفتخر بما يفعله من المعاصي ويقول كيف رأيت صنعي ففلان ، غبّنته وروّجت عليه الزيف وأغلظت عليه في القول وخجّلته ، ومنهم من يحمد الله عليها فيقول : الحمد الله الذي غلبني على فلان حتّى مزّقت عرضه وفضحته بين الناس ونحو ذلك ، فكلّما غلبت حلاوة المعاصي في قلب العاصي عظم أثرها في تسويد قلبه ، وكان أشدّ ممن يندم عليها ، ويتحسرّ قلبه على فعلها ، ويتأسّف عليه لعلمه بظفر عدوّه الشيطان عليه ، بل يدلّ ذلك على غاية حمقه وجهله كالمريض الذي يفرح من انكسار إنائه الذي فيه دواؤه الذي يرجى منه شفاؤه.
وخامسها : التظاهر بذنوبه وذكرها للناس ، فإنّه هتك لستر الكريم الذي أسدله عليه ، وكفران لنعمة الذي هو إظهار الجميل وستر القبيح وتحريك لرغبة الناس في المعاصي فانضمّت خيانتان منه إلى خيانته ، وازداد
1 ـ راجع الكافي : 2/287 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب استصغار الذنب ، ح2.
2 ـ المحجة البيضاء : 7/59.