هذا ، مضافاً إلى حرمانه عن فضائل الحجّ الزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات والمبّرات والبركات ، وكذا المرأة الصالحة والولد الصالح.
قال النبي صلى الله عليه وآله : « نعم العون على الدين المرأة الصالحة ». (1)
وقال صلى الله عليه وآله : « إذا مات الرجل انقطع عمله الا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ... ». (2)
وقد أشرنا إلى فوائد النكاح مجملاً في فضيلة العفّة ، وأمّا الأقارب فإنّهم بمنزلة الأعين والأيدي له فتيسّر بهم من الأمور المهمّة مالو انفرد بها طال شغله.
وأمّا العزّ والجاه فبهما يندفع الذلّ والضيم ، ولا يستغني عن ذلك مسلم ، إذ لاينفكّ عن عدوّ يؤذيه وظالم يشوّش عليه شغله ويشغل به قلبه الذي هو رأس ماله والجاه ملك القلوب كما عرفت ، وبه يندفع الذئب عن ماشيته ، والشرّ عن نفسه ، وقصد الأنيباء والعلماء السلف في مراعاة السلاطين والتردّد إليهم وطلب الجاه عندهم إنّما هو ذلك لاتناول حطامهم الاستكبار على الخلق بسببهم ، ولقد منّ الله على نبيّه بذلك في مواضع كثيرة ، وشرف الأهل والعشيرة أيضاً من النعم ، ولذا ورد أنّ الأئمّة عليهم السلام من قريش. (3) وقال النبي صلى الله عليه وآله : « تخيّروا لنطفكم ». (4) ونهى صلى الله عليه وآله عن خضراء الدمن. (5)
ولا أقصد منه الانتساب إلى أرباب الدنيا ، بل إلى شجرة النبوّة والعلماء الصالحين.
وأمّا الفضائل البدنيّة فواضح عدم تماميّة العلم والعمل الا بها ، ولذا
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/ 184.
2 ـ المحجّة البيضاء : 7/ 184 ، مع اختلاف.
3 ـ المحجّة البيضاء : 7/185.
4 ـ المحجّة البيضاء : 7/185.
5 ـ المحجّة البيضاء : 7/185.
(512)
ورد الدعاء بطول العمر والصحّة والقوّة جميعاً في الأدعية المأثورة.
فإن قلت : هذا واضح فيما سوى الجمال فأيّ فائدة فيه؟
قلت : أمّا نفعه في الدنيا فظاهر ، وأمّا في الآخرة فلنفرة الطباع عن القبيح وقرب حاجة الجميل إلى الاجابة واتّساع محلّه في الصدور ، فكأنّه نوع قدرة على تنجّز الحاجات الغير المقدورة للقبيح فهو جناح مبلّغ كالمال ، وربّما دلّ على فضيلة النفس لأنّ نور النفس إذا تمّ إشراقه تأدّى إلى البدن ، ولذا عوّل أصحاب الفراسة في معرفة مكارمها على هيئة البدن وقالوا : الوجه والعين مرآة الباطن ، ولذا يظهر فيه أثر السرور والهمّ والغمّ.
وقال النبي صلى الله عليه وآله : « اطلبوا الخير عند حسان الوجوه ». (1)
وأفتى الفقهاء في صورة تساوي المصلّين في الصفات المعتبرة بتقدم الأحسن وجهاً ولا أقصد من الجمال المحرّك للشهوة فإنّه أنوثة ، بل ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وموافقة خلقة الوجه بحيث لاينبو الطباع عن النظر إليه.
فإن قلت : ما ذكرته من كون المال والجاه من النعم ينافي ماتواتر من ذمّهما وذمّ حبّهما.
قلت : تقدّم التفصيل في ذلك وأنّهما كحيّة فيها سمّ وترياق ، ولهما غوائل ومنافع ، وإنّما هما من النعم لمن عرف الوجهين وأخذ منهما ما ينتفع به لآخرته ، وأمّا من أخذهما من غير معرفة صار ذلك باعثاً للهلاكة فلا يكونان حينئذ من النعم ، ولذا ورد المدح أيضاً وإن كان الذمّ أكثر ، فإنّ غير العارف أكثر من العارف.
وأمّا الأربعة الأخيرة الراجعة إلى الهداية والتوفيق ، فلا يستغني عنها أحد ، إذ التوفيق عبارة عن الاجتماع والمطابقة بين إرادة العبد وقضاء الله تعالى وقدره فيشمل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة ، فما يوافق السعادة من
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/186.
(513)
جملة قضاء الله وقدره يسمّى توفيقاً ، ولا سبيل لأحد إلى طلب السعادة الا بهداية الله فإنّ مجرّد الميل إلى مافيه الصلاح لايكفي الا بعد العلم به والا فربما يظنّ الفساد صلاحاً فلا فائدة في الارادة والقدرة وسائر الأسباب الا بعد الهداية.
ولذا قال تعالى : « ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكنّ الله يزكّي من يشاء ». (1)
وللهداية ثلاثة منازل :
أوّلها : معرفة طرق الخير والشرّ ، وقد أنعم الله به على كافّة العباد تارة بالعقل وتارة بالرسل.
« وهديناه النجدين ». (2)
« وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى ». (3)
ومن جملة أسباب العمى الحسد والكبر وحبّ الدنيا والإلف والعادة ، وغير ذلك من الأسباب.
ثم الهداية الحاصلة بالمجاهدة مرّة بعد أخرى.
« والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ». (4)
« والّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ». (5)
ثم النور المشرق في عالم النبوّة والولاية بعد كمال المجاهدة فيهتدى به إلى ما لايمكن بالتعلّم والتعليم والعقل الذي به مناط التكليف. وهذا ممّا شرّفه الله بالإضافة إلى نفسه :
1 ـ النور : 21.
2 ـ البلد : 10.
3 ـ فصّلت : 17.
4 ـ العنكبوت : 69.
5 ـ محمّد صلى الله عليه وآله : 17.
(514)
« قل إنّ هدى الله هو الهدى ». (1)
« أو من كان ميتاً فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ». (2)
« أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه ». (3)
وأمّا الرشد فهو العناية الالهية التي يعين الانسان على التوجّه إلى المقصد ويقوبّه على مافيه صلاحه وينفّره عمّا في فساه ويكون ذلك من الباطن. « ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ». (4)
فهو عبارة عن الهداية الباعثة إلى جهة السعادة ، المحرّكة إليها ، فكم من شخص يقدم على مايعلم أنّه يضرّه ، فقد أعطي الهداية لكنّها قاصرة عن تحريك داعيته فهو أكمل من مطلق الهداية ، ومن أعظم النعم الالهيّة.
وأمّا التسديد فهو توجيه الحركات إلى صوب المطلوب وتيسيرها عليه في أسرع زمان ، فالهداية محض التعريف والرشد تنبيه الداعية للتحريك والتسديد إعانته ونصرته بتحريك الأعضاء في صوت الصواب وكأنّ التأييد يجمع الكلّ فهو عبارة عن تقوية الأمر بالبصيرة من الباطن ومساعدة الأسباب من الخارج. ويقرب منه العصمة ، وهي جود إلهي يسنح في الباطن يقوى به الإنسان على تحرّي الخير وتجنّب الشر حتى يصير كمانع من باطنه غير محسوس ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : « ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ». (5)
فهذه هي مجامع وهي ستّة عشر (6) ، وهي تستدعي أسباباً
1 ـ البقرة : 120.
2 ـ الأنعام : 122.
3 ـ الزمر : 22.
4 ـ الأنبياء : 51.
5 ـ يوسف : 24.
6 ـ كذا ، والصحيح : ستّ عشرة ، نعم في الإحياء كما في المتن ولكن تمييزه هنالك أسباب وهاهنا مجامع النعم.
(515)
وأسبابها أسباباً إلى أن ينتهي إلى دليل النتحيّرين ربّ الأرباب ومسبّب الأسباب.
تذييل
إذا قد عرفت مجامع النعم وأنّ ممّا وقع منها في المرتبة الأخيرة صحّة البدن فاعلم أنّ هذه الواحدة لو أريد استقصاء الأسباب التي بها تمّت الإنعام والتنعّم بها لم يقدر عليه ولكن الأكل من أحد أسبابها وله أسباب لا تحصى ، وقد ذكر بعضهم بعضاً من أسبابه تنبيهاً للغافلين ، وتصديقاً قلبياً لقوله تعالى : « وإن تعدّوا نعمة الله لاتحصوها ». (1)
ولنشر إلى بعض ما ذكروه اقتداء بالمشايخ الأطياب وتعميماً لنفع الكتاب في عدّة تنبيهات :
الأوّل (2) : يتوقّف الأكل على إدراك المأكول رؤية ولمساً وشمّاً وذوقاً لعدم التمكّن من التمييز والطلب ودرك بعض الأوصاف اللازمة في الأكل وتشخيص الطيّب عن الخبيث وموافقته للطبع أو مخالفته الا به فيتوقّف على خلق الحواسّ الظاهرة المتوقّفة على أسباب غير متناهية لايمكن حصرها ، ثمّ على إدراك كون ماذاقه أوّلاً مخالفاً لطبعه أو موافقاً له ثانياً من دون ذوق جديد ، فإنّ الذوق مدرك المرارة دون اللون والبصر مدرك الثاني دون الأوّل فلابدّ من حاكم يجتمع عنده اللون والطعم ، حتّى إذا رأى أحدهما حكم بالآخر حتى يمتنع من تناوله ثانياً وهو الحسّ المشترك الثابت لكلّ حيوان ، ولايمتاز الانسان عن غيره الا بتمييز مابه يصلح عاقبة أمره عمّا به تفسد من ضرر المطاعم ونفعها وكيفيّة طبخها وتركيبها وإعداد أسبابها بقوّة مختصّة به ، أي العقل وهو أخسّ فوائده وحكمه ، فإنّها أكثر من أن تحصى وأعظمها
1 ـ النحل : 18.
2 ـ كما في « ب » ، وفي « ج » : الأولى وكذا الثانية والثالثة و ... نعم استظهر كاتب « ج » أن الصحيح : الأوّل ، فشطب على « الأولى » وكتب « الأوّل » واضعاً علامة « ظ » فوقه.
(516)
معرفة الله وصفاته وأفعاله ، فهو بمنزلة السلطان وسائر الحواسّ والقوى كلجواسيس والموكّلين بنواحي المملكة ، كلّ موكّل بأمر خاصّ ، إمّا اللون أو الصوت أو الرائحة أو غيرهما ، وينفذ بلك بهم ما أدركه إلى الحس المشترك القائم في مقدّم الدماغ كالكاتب وصاحب القصص على باب السلطان فيسلّمها إليه مختومة فيطالعها ويطّلع على أسرار المملكة ويحكم يفها بأمور عجيبة لايمكن حصرها وليس دركها في مقدرة البشر ، ويحرّك الجنود أي الأعضاء بحسب أحكامه المختلفة في الطلب ، وله أسباب لايحصرها الا الله.
الثاني : ثمّ الادرك لايكفي بدون الميل والشهوة كالمريض يرى الطعام ويدرك ولا يتناوله فيتوقّف بعد الادراك على ميل إلى الموافق يسمّى شهوة ، وبعد عن المخالف يسمّى نفرة وكراهة ، فخلق الله الشهوة وسلّطها على الانسان حتى اضطّر بها إلى التناول ، ثم لو لم تسكن بعد أخذ مقدار الحاجة لأهلكته فخلق الكراهة بعد الشبع ليترك الأكل ولا يصير كالزرع الذي يجتذب الماء دائماً ، إذا انصبّ في أسافله إلى أن يفسد ، ولذلك يحتاج إلى من يحرسه عن الزيادة والنقيصة ، ثم مجرّد الشهوة لايكفي مالم ينبعث داعيها إلى التناول ، فخلق الارادة أي انبعاث النفس إلى التناول ، واحتاج إلى قوّة الغضب أيضاً في دفع الموذي والمخالف ، ومن يريد أخذ ما يحتاج إليه من الغذاء.
ثم لكلّ من الشهوة والغضب والكراهة أسباب لاتحصى. ثم لاتفيد الإرادة بدون الطلب والأخذ في الفعل بالآلات ، فكم من مشيّة مريد لايتمكّن منه لفقد الآلة كفقد اليد أو فلج الرجل مثلاً فلابدّ من الآلات والقدرة فيها لتكون حركتها بمقتضى الارادة طلباً ، فخلق الآلات للطلب كالرجل للانسان والقوائم للدوابّ والجناح للطير وللدفع عن الموانع والموذيات كالقرن والأنياب للحيوانات والأسلحة للانسان ، ولكلّ منها
(517)
أسباب لايمكن حصرها.
الثالث : ومن عمدة ما يتوقّف عليه الأغذية والأطعمة المأكولة ولله في خلقها عجائب غير محصورة وأسباب غير متناهية وهي من الكثرة بحيث لايمكن حصرها فضلاً عن ذكر عجائبها وأسبابها ، فنذكر بعضاً من عجائب حبّ الحنطة وأسبابها وحكمها ، فإنّه تعالى خلق فيها من القوى ما تغتذي به كما في الانسان ، حيث يتوقّف اغتذاء النبات على أرض فيها ماء ، ولابدّ من أن يكون الأرض ورخوة متخلخلة بتخليل (1) الهواء إليها ، فلو تركت في أرض صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء ، ثم الهواء لايتحرّك إليها بنفسه ، فلابدّ من حصول أسباب الريح حتى يحرّكه ويقرّبه ويبعّده بقهر وعنف.
وقوله تعالى : « وأرسلنا الرياح لواقح » (2) إشارة إلى لقاحها الذي هو عبارة عن الزدواج بين الهوء والماء والأرض ، ثم لايكفي في الإنبات البرد المفرط بل يحتاج إلى حرارة الصيف والربيع ، فهذه أربعة أسباب ، إذ لابدّ من انسياق الماء إلى أرض الزرع من البحار والعيون والشطوط والأنهار والسواقي ، وربّما كانت الأرض مرتفعة لايرتفع إليها الماء من العيون ونحوها ، فأرسل السحب الثقال الحوامل بالماء وسلّط عليها الرياح ليسوقها إلى أقطار العالم ويرسلها مداراراً على الأراضي في الخريف والربيع على حسب الحاجة ، وخلق الجبال حافظة للمياه ويتفجّر منها العيون تدريجاً على حسبها فلو خرجت دفعة غرقت البلاد وهلكت الزروع والمواشي ، ونعم الله وعجائب صنعه في السحاب والجبال والبحار والأمطار لايمكن إحصاؤها.
وأمّا الحرارة فلا يمكن حصولها بنفسها في الماء والأرض لكون طبعهما باردين فخلق الله الشمس وسخّرها وجعلها مع بعدها عن الأرض مسخّنة لها في وقت دون وقت ليحصل الحرّ عند الحاجة إليه والبرد كذلك ، وهذه
1 ـ كذا في « ج » و « ب » ، وفي « الف » والمحجّة (7/205) : يتغلغل.
2 ـ الحجر : 22.
(518)
أخسّ حكم الشمس ولها حكم عظيمة عجيبة أكثر من أن تحصى. ثم مع ارتفاع النبات إلى الأرض يحصل في الفواكه انعقاد وصلابة فيحتاج إلى رطوبة ينضجها ، فخلق الله القمر وجعل من خاصيته الترطيب كما يظهر لك إذا كشفت رأسك باليل فإنّه يغلب عليك الزكام ، فهو بترطيبه ينضج الفواكه ويرطّبها ويصبغها بتقدير الخالق الحكيم ، وهذا أيضاً من أخسّ فوائد القمر ، فإنّ له حكماً لامطمع في استقصائها ، بل كلّ كوكب في السماء مسخّر لفوائد كثيرة لاتفي القوى البشرية بإحصائها ، بل كلّ ما في عالم الكون من ملكوت المساوات والأرضين والآفاق والأنفس والحيوانات والنباتات مشتملة على عجائب صنع الله ، وأرباب القلوب لاينظرون إلى شيء منها الا من حيث كونها من آثار قدرته ويتفكّرون في عجائبها ويبتهجون من ظهور حكمها لهم كما أنّ من أحبّ عالماً لم يزل يشتغل بمطالعة تصانيفه فالعالم كلّه من تصنيفه تعالى حتّى تصانيف المصنّفين أيضاً.
الرابع : ثم ما ينبت من الأرض والنبات وما يحصل من الحيوانات لايمكن أكلها كذلك ، بل لابدّ من إصلاحه بطبخ وتركيب وتنظيف بإلقاء بعضه وإبقاء بعضه وغير ذلك من الأعمال ، وكلّ طعام يحتاج إصلاحه إلى أمور كثيرة لايمكن استقصاؤها ، ونقتصر منه على ذكر بعض ما يحتاج إليه الرغيف ، فأوّل ما يحتاج إليه الأرض ثم البذر الثور الذي يثير الأرض مع آلاته كالفدان وغير ذلك ثم تنقية الأرض من الحشائش والتعهّد لسقي الماء إلى أن يعقد الحبّ ويبدو صلاحه ثم الحصاد ثم الفرك ثم التنقية والتصفية ثم الطحن والعجن والخبز ، فاستحضر هذه الأفعال وغيرها ممّا لم نذكره ثم عدد الأشخاص القائمين بها وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيرها.
وانظر إلى أعمال الصنّاع في إصلاح آلات الحراثة والتصفية والطحن والخبز واحتياج كلّ منها إلى آلات كثيرة ، وانظر كيف ألّف الله سبحانه بين
(519)
قلوب هؤلاء الصنّاع المصلحين وسلّط عليهم الانس والمحبّة حتى ائتلفوا واجتمعوا وبنوا المدن ورتّبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة والدكاكين والخانات وسائر البقاع ، ولو تفرّقت آراؤهم وتنفّرت طباعهم تنافر طباع الوحوش لتبدّدوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم من بعض ، ولمّا كان في جبلّة الانسان الحسد والعداوة والبغضاء والشهوات المختلفة الباعثة للانحراف عن الحقّ ، فربما زالت المحبّة وأدّى إلى التنافر والمعاداة والمقائلة بعث الله الأنبياء بقوانين السياسات ليرجعوا إليها عنها التنازع وبعث العلماء لحفظ تلك الشرائع والعلم بها وبعث السلاطين ليقيموا الناس عليها قهراً إذا لم يرضوا بها وألقى في قلوبه الرغبة إلى نظام أمور الرعية بتعيين الحكّام والقضاة والشحن وضبط الأسواق وقهر الناس على قانون الشريعة وألزموهم التعاون والتآلف ومنعوهم عن التفرّق والتباغض ، فإصلاح الرعايا بالسلاطين وإصلاح السلاطين بالعلماء وإصلاح العلماء بالأنبياء وإصلاح الكلّ بالحضرة الربوبية التي هي ينبوع كلّ نظام ومطلع كلّ حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف.
الخامس : ثم جميع الأطعمة لمّا لم يكن وجودها في كلّ مكان إذ لكلّ واحد منها شروطاً مخصوصة لعلّها لاتوجد في بعض الأماكن والناس منتشرون في الأرض ، فربما يبعد عن بعضهم ما يحتاجون إليه منها بحيث يحول بينهم وبينها البراري والقفاز والبحار سخّر الله التجّار وسلّط عليهم حرص المال وشره الربح حتى التزموا الأخطار في قطع المفاوز وركوب البحار وحمل لأطعمة وغيرها من الشرق إلى الغرب وبالعكس ، فانظر كيف علّمهم صنعة السفن وكيفية الركوب عليها وكيف خلق الحيوانات وسخّرها للحمل والركوب في البراري من الجمال ، وكيف خلق الحيوانات وسخرها للحمل والركوب في البراري من الجمال ، وكيف قطعها للمنازل تحت الأعباء الثقيلة ، وصبرها على الجوع والعطش ، وإلى الحمار وصبره على التعب.
(520)
وانظر إلى ما خلق الله ممّا يحتاج إليه السفن والحيوانات من الأسباب والغذاء بما لايمكن تحديده ووصفه.
السادس : ثم مجرّد وجود الغذاء وإصلاحه لايكفي ولا يفيد مالم يؤكل ويصر جزء للبدن وهو موقوف على أعمال كثيرة محتاجة إلى أسباب كثيرة من الطحن والجذب والهضم المعدي والكبدي وغير ذلك من الأسباب الغير المحصورة ، فللملائكة أصناف وطبقات غير محصورة « وما يعلم جنود ربّك الا هو » (1) فمنهم طبقات الملائكة الأرضية والسماوية وحملة العرش العظيم ، ومنهم المسلمون والمهيمنون وكلّ صنع من صنائعه تعالى في الأرض والسماء لايخلو عن ملك أو ملائكة موكّلين به ، ونحن نشير إلى بعض الملائكة الموكّلين بأكلك ، فإنّ كلّ جزء من أجزاء بدنك لايغتذي إلأ بسبعة من الملائكة هم أقل الأعداد إلى عشرة إلى مائة إلى أكثر من ذلك ، فإنّ معنى الاغتذاء أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء تلف من بدنك وهو موقوف على ملكات وتغيّرات واستحالات الغذاء حين يصير جزو للبدن كالجذب والهضم وصيرورته لحماً وعظماً ، ومعلوم أنّ الغذاء واللحم والدم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار حتّى يتحرّك ويتغيّر بأنفسها ، ومجرّد الطبع لايكفي في تردّدها في أطوارها ، كما أنّ البرّ لايصير بنفسه طحيناً وعجيناً وخبزاً الا بصنّاع ، والصنّاع في الباطن هم الملائكة كما أنّ صنّاع الظاهر هم أهل البلد فالغذاء بعد وضعه في الفم إلى أن أن يصير جزء للبدن يتوقّف على عمل سبعة من الملائكة : ملك يجذب الدم إلى جوار اللحم أو العظم ، إذ لا يتحرّك بنفسه ، وملك يمسك الغذاء في جواره ، وثالث يخلع عنه صورة الدم ، ورابع يكسوه صورة اللحم والعظم والعرق ، وخامس يدفع الفضل الزائد من الحاجة ، وسادس يلصق ما اكتسب صفة
1 ـ المدّثّر : 31.