له ، كما لايمكن إثبات لذّة الوقاع للعنّين.
ولعمري أنّ طلاب العلوم الرسمية وإن لم يشغلوا بالمعارف الإلهيّة الا أنّهم قد استنشقوا رائحة هذه اللذّة عند انكشاف المشكلات والشبهات التي قوي حرصهم على طلبها لكونها علوماً ومعارف أيضاً ، وإن كانت غير شريفة شرف العلوم الالهيّة فكيف بمن اشتغل بها ونال لذّتها.
ولذا قيل : « إنّ الله عباداً ليس يشغلهم عنه خوف النار ولا طمع الجنّة ، فكيف يشغلهم الدنيا؟ ».
وقد يتعجّل بعض هذه اللذّات في الدنيا لمن صفا قلبه إلى الغاية حتى قال بعضهم : اني أقول يا ربّ يا الله وأجده أثقل عليّ من الجبال لأنّ النداء يكون من وراء الحجاب وهل رأيت جليساً ينادي جليسه ؟ فمقصد العارف وصله ولقاؤه وهو قرّة العين التي إذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات واستغرق القلب بحيث لو ألقي في النار لم يحسّ بها ، ولو عرضت عليه النعيم لم يلتفت إليها لكمال نعيمه وبلوغه الغاية.
ولذا قال سيّد الساجدين عليه السلام : « يا نعيمي وجنّتي ويا دنياي وآخرتي » (1) بل من عرف الله عرف أنّ اللذّات المقرونة بالشهوات المختلفة كلها منطوية تحت هذه اللذّة كما قيل :
كانت لقلبي أهواء مفرّقةفصار يحسدني من كنت أحسدهتركت للناس دنياهم ودينهم
فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائيوصرت مولى الورى إذ صرت مولائيشغلاً بذكرش يا ديني ودنيائي
1 ـ مفاتيح الجنان : مناجاة المريدين.
(612)
والله ما طلعت شمس ولا غربتولا ذكرتك محزوناً ولا فرحاًوما جلست لقوم لست بينهمولا هممت بشرب الماء من عطش
الا وأنت مع قلبي وأهوائيالا وذكرك مقرون بآرائيالا رأيت فتوراً بين أعضائيالا رأيت خيالاً منك في الماء
تذييل
قد سبق في بحث اليقين ما استبان لك أنّ الرؤية عبارة عن كمال الإدراك ونهاية الكشف وأنّها لاتسمّى رؤية لكونها العين ، بل لو خلق هذا القدر من الكشف في الجبهة أو الصدر استحقّ أن يسمّى رؤية ، وأنّه إذا كان الحال في المحسوسات كذلك فكذا في المعلومات ، فيسمّى آخر مراتب العلم بالنسبة إلى مباديه كشفاً ومشاهدة ولقاءاً ورؤية ، فكما أنّ سنّة الله جارية بأن تطبيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية في المحسوسات ويكون حجاباً بين البصر والمرئي ولابدّ من ارتفاع الحجاب حتّى يصدق الرؤية والا كان خيالاً لا رؤية فكذا عادته تعالى جرت بأنّ النفس مادامت محجوبة بعوارض البدن وعلائق الشهوات والصفات البشرية لم تنته إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الالهيّة.
ثم بعد ارتفاع تلك الحجب بالموت تبقى في النفس كدرتها ولاتنفكّ عنها دفعة بالمرّة وإن تفاوتت ، فمن النفوس ماتراكم عليها الخبث فصارت كالمرايا الفاسدة بطول تراكم الخبث بحيث لاتقبل التصقيل واصلة إلى حدّ الرين والطبع فهم محجوبون عن ربّهم أبدالآباد ، أعاذنا الله منه بمنّه وجوده.
(613)
ومنها مالم يصل إليه فيعرض على النار ليقمع منه الخبث العارض ويتفاوت ذلك بقدر حاجتها إلى التزكية ، وأقلّها لحظة إلى سبعة آلاف سنة.
« وإن منكم الا واردها كان على ربّك حتماً مقضيّاً ». (1)
فكلّ نفس تتيقّن بالورود عليها ولايقين لأحد بالصدور منها ، فإذا كملت التزكية وبلغ الكتاب أجله وفرغ عن جملة ماوعد الله به عباده من أحوال الموت وأهوال منكر ونكير والبرزخ والحساب والصراط وغيرها إلى أن يستوفي استحقاق الجنّة ويستعدّ بصفائه عن الكدورات حتّى لايرهق وجهه غبرة ولا قترة ولا ذلّة لأن يتجلّى فيه الحقّ ، تجلّى تجلّياً يكون انكشافه بالإضافة إلى ماعلمه سابقاً كانكشاف المرئي بالنسبة إلى المتخيّل.
وهذا هو الرؤية والمشاهدة واللقاء دون الرؤية بحسّ الأبصار فإنّه ممّا يتعالى عنه ربّ الأرباب ولو في يوم الحساب كما وردت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السّلام وشهدت به بصيرة العقل بنور الاعتبار وصارت من ضروريات مذهب الشيعة كالشمس في رابعة النهار ، وإنّما المقصود هو الأوّل ، كما سئل أميرالمؤمنين عليه السلام : هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويحك لم أعبد ربّاً لم أره ، قيل : وكيف رأيته؟ قال : ويلك لاتدركه العيون في مشاهدة الأبصارن ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. (2)
فما دلّ بظاهره من كلماتهم على خلاف ذلك ينبغي تأويله جمعاً بينه وبين النصوص المصرّحة بخلافه ، فإنّ تأويل الظاهر بالقاطع أمر شائع وباب المجاز باب واسع.
فظهر أنّه لايفوز بدرجة المشاهدة واللقاء الا العارفون في الدنيا لأنّ المعرفة هي البذر الّذي ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة نخلة والبذر زرعاً ومن لا نواة له كيف يحصل له نخل ، ومن لم يعرف الله في
1 ـ مريم : 71.
2 ـ الكافي : 1/98 ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، ح6 ، مع اختلاف.
(614)
الدنيا كيف يراه الآخرة؟
ولمّا كانت مراتب المعارف في الدنيا مختلفة فمراتب التجلّيات في الآخرة كذلك كاختلاف النبات باختلاف البذور بسبب قلّتها وكثرتها وحسنها وضعفها وقوّتها فكما أنّ في الدنيا من يؤثر لذّة الرئاسة على الجماع والأكل والشرب ، فكذا في الآخرة من يؤثر لذّة النظر إلى وجهه الكريم على ما في الجنان من الحور والنعيم.
وإذ علمت أنّ للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم مع الله سبحانه في الدنيا لذّات لو عرضت عليهم الجنّة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها وعلمت أنّها مع كمالها لانسبة لها إلى لذّة اللقاء والمشاهدة ، فكما أنّ لذّة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا يتفاوت بكماله في الحسن ونقصانه وكمال الحبّ والشهوة ونقصانهما وكمال الإدراك وضعفه فإنّ رؤيته من وراء الستر الرقيق أو في الظلمة أو من بعد غير رؤيته في وسط النهار على قرب منه واتّصال به من دون حائل وحجاب.
وكذا بالخلّو عن المشاغل القلبيّة والعوائق النفسية ومشوّشات الخاطر وعدمه كالصحيح على (1) المريض والمهموم المشغول قلبه بحادث يزعجه عن السكون مع الفارغ المطمئنّ ، فلو فرض عاشق ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من بعد ومن وراء ستر رقيق مع اجتماع عقارب وحيّات تلدغه وتؤذيه وتشغل قلبه فلا يخلو حينئذ من لذّة ما من مشاهدة معشوقه ، فلو عرضت له على الفجأة حالة انهتك معها الستر واندفعت عنه المؤذيات وبقي سليماً فارغاً وهجم عليه العشق المفرط ، فانظر هل للذّة الحادثة له حينئذ نسبة إلى اللذّة الاولى ، فالبدن ستر حاجب للنفس كما أشرنا إليه ، والشهوات الحسيّة كالعقارب والزنابير والحيّات وفتور الشهوة مثال لقصور النفس ونقصانها عن الميل إلى الملأ الأعلى كقصور الصبّي عن إدراك لذّة الرئاسة
1 ـ كذا ، والظاهر : مع.
وعكوفه على اللعب بالعصفور ، فالعارف وإن قويت معرفته في الدنيا الا أنّه لايخلو عن هذه المشوّشات وإن ضعفت في بعض الأحيان لاح عليه من جمال المعرفة مايبهر به العقل بحيث يكاد القلب يتفطّر لغظمته ، الا أنّه كالبرق الخاطف قلّما يدوم بل يعرض له من ضروريات البدن من الشواغل والأفكار مايشوّشه وينغصه ، فالحياة الطيّبة بعد الموت وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، وسالك الآخرة مالم يصل إلى المرتبة التي أعدّ لها يكره الموت طلباً للاستكمال في المعرفة ، فإنّها بحر لا ساحل له ، وهي بمنزلة البذر في القلب كلما كثرت قويت المشاهدة وعظمت اللذّة والإحاطة بكنه صفات الله وأفعاله متعذّرة.
نعم ربما عظمت اللذّة بحيث ذهل عن هذا المعنى وتفطّن بأنّ اللذّة الحقيقية إنّما تتم بعد الموت خاصّة واشتاق إليه ، فمحبّة العارف للممموت لشوقه إلى الوصل واللقاء ومحبّته للقاء لحرصه على المعارف التي لاتتناهى طلباً لقوّة اللذّة وعظم كيفيّة المشاهدة بزيادتها ، ولذا عدّ طول العمر من أقسام السعادة وأسبابها ، وطلب في الأدعية من الله سبحانه ، بخلاف طالب الدنيا ، فإنّه يكره الموت إذا اشتدت علاقته بالدنيا واستلذّ من حطامها ، ويحبّه إذا ضاقت عليه الدنيا بحذافيرها.
تفريع
فإذ قد تبيّن لك أن أصل السعادة في حبّ الله سبحانه وأنّ الآخرة معناها القدوم على الله ودرك سعادة اللقاء وما أعظم نعيم المحبّ بملاقاة المحبوب بعد الهجران وطول مدّة الشوق من غير منغّص ورقيب وانقطاع ، فهذا النعيم على قدر المحبّة ، فكلّما ازدادت زادت اللذّة ، وهذا الحبّ ممّا لايخلو عنه مؤمن وإن لم يبلغ الأكثرون إلى درجة العشق أعني استيلاء الحبّ على القلب والجوارح وانتهاءه إلى حدّ الاستهتار ، وإنّما الوصول إليها مشروط بأمرين :
(616)
أحدهما : قطع العلائق وإخراج محبة غيره تعالى عن القلب فإنه كالإناء مالم يكن خالياً لم يتسع لوضع شيء فيه. « ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه » (1) فبقدر الاشتغال بغيره تعالى ينقص حب الله تعالى كما أنه بقدر ما بقي في الاناء من الشيء الذي كان فيه أولاً لايتسع لشيء آخر ، وإلى هذا التجريد والتفريد أشار تعالى بقوله : « قل الله ثم ذرهم ». (2)
وقد أشرنا فيما سبق إلى سبيل قلع حب الدنيا وعلائقها.
والآخر : قوة المعرفة واستيلاؤها على القلب وهي تجري مجرى إلقاء البذر في الأرض بعد تطهيره عن الحشيش ومهما حصلت المعرفة تتبعها المحبة ولايوصل إلى المعرفة بعد قطع العلائق إلا الفكر الصافي والذكر الدائم والجد البالغ والنظر المستمر في الله وصفاته وملكوت سماواته وسائر مخلوقاته والواصلون إليها بذلك على قسمين :
أقواهما من كان معرفته بالله تعالى أولاً ثم يعرف به غيره ، وأضعفهما العكس ، وإلى المرتبتين أشير في الكتاب الإلهي :
« سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ». (3)
وقال السجاد عليه السلام : « بك عرفتك وأنت دللتني عليك ... ولولا أنت لم أدر ماأنت ». (4)
وقال أبوه عليه السلام : « كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو ألمظهر لك ». (5)
وهذا وإن كان غامضاً صعباً على أفهام الاكثرين فالآخر متسع
1 ـ الأحزاب : 4.
2 ـ الأنعام : 91.
3 ـ فصلت : 53.
4 ـ مفاتيح الجنان : دعاء أبي حمزة الثمالي.
5 ـ مفاتيح الجنان : ذيل دعاء عرفة.
الأطرفا متكثّر الشعوب والأكناف ، فما من ذرّة من المخلوقات الا وفيها عجائب آيات دالّة على كمال قدرة الله وحكمته وجلال الله وعظمته كما أشرنا في فصل التفكر ، وإنما لايصل الناس إلى المعرفة مع وضوح الطريق وسهولة مأخذة لإعراضهم عن التفكّر واشتغالهم بحظوظ النفس ، كيف لا وأوضح ما أودع فيها من العجائب النفس الانسانية وهي مع كونها أوضح شيء على الأنسان نفسه مجهولة عليه وذلك عقوبة للخلق بما أعرضوا عن الله واستخفّوا بعظائم نعمائه وجلائل آلائه. « نسوا الله فأنساهم أنفسهم ». (1)
وقد أشرنا في الفصل المذكور إلى أنّ عجائب ملككوت السماوات والأرض ممّا لايمكن أن يحيط بها الأفهام ، فإنّ القدر اليسير الذي تصل إليه أوهامنا مع قصورها ممّا ينقضي فيه الأعمار دون إيضاحه ، ولانسبة له إلى ماأحاط به علم العلماء ولا له إلى ما أحاط به علم الأنبياء ولا له إلى ما علم الله سبحانه وتعالى ، بل كلّ ما عرفه الخلائق أجمعون لايستحقّ أن يسمّى علماً في جنب علم الله تعالى.
« قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ». (2)
فانظر ياحبيبي ما تيسّر لك في عجائب صنع الله تعالى وانبذ الدنيا وراء ظهرك واستغرق العمر في الذكر والفكر عساك تحظى منها بقدر يسير تنال به ملكاً عظيماً.
تفريع
قد علمت أنّ المؤمنين مشتركون في أصل الحبّ لاشتراكهم في أصل الإيمان ، الا أنّ تفاوتهم فيه كتفاوتهم في المعرفة وفي حبّ الدنيا لأنّ تفاوت
1 ـ الحشر : 19.
2 ـ الكهف : 109.
(618)
الأشياء إنّما يكون بتفاوت أسبابها وليس حظّ الأكثر من المعرفة الا تلفيق بعض ماقرعه (1) سمعهم من الأسماء والصفات وحفظه فربّما تخيّلوا لها مايتعالى عنه الربّ تعالى وهؤلاء الضالون ، وربّما آمنوا بها إيمان تسليم من دون تصوّر معنى صحيح أو فاسد فاشتغلوا بالعمل ولم يبحثوا عن المعنى وهؤلاء الناجون السالمون ، والعارفون بالحقائق هم المقرّبون ، فالفرق في المعرفة الحاصلة لهم بالإجمال والتفصيل ، فالعامي ومن يتلوه يعلم حسن صنع الله وإحكامه وإتقانه إجمالاً ، ويعتقد ذلك ولأجله يحبّه أيضاً ، والبصير العارف يطالع تفصيل صنع الله فيها حتى يرى في البعوض مثلاً من العجائب مايبهر به عقله ويتحيّر فيه لبّه وتزداد بذلك لامحالة عظمة الله وجلاله في قلبه ، ثم تزداد بسبب ذلك حبّه له.
وقد عرفت أن هذا الاطّلاع التفصيلي بحر لا ساحل له ، فلا جرم يتفاوت بتفاوت مراتب العلم والمعرفة مراتب المحبّة لا أصلها.
ومن جملة أسباب أختلاف مراتب الحبّ اختلاف أسبابه المشار إليها في صدر المبحث ، فإنّ حبّه تعالى لأجل نعمته وإحسانه ربّما يتغيّر بتغيّر الإحسان فلا يتساوى حبّه في حالتي الشدّة والرخاء والسرّاء والضرّاء.
وأمّا من يحبّه لذاته تعالى ولكونه مستحقّاً للحبّ بسبب كماله وجماله وعظمته فلا يتفاوت أصلاً ، وقس على ذلك سائر الأسباب. والتفاوت في المحبّة سبب للتفاوت في السعادة الاخروية.
« وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ». (2) تلميع
من الضروريات الأوليّة كون الباري تعالى من أجلى الموجودات
1 ـ كذا في النسخ ، والظاهر : « الا تلقّن بعض ما قرع سمعهم » كما يظهر من المحجّة البيضاء : 8/50.
2 ـ الإسراء : 21.
وأظهرها ، إذ كلّ موجود فإنّما يستدلّ على وجوده ببعض صفاته المحسوسة دون بعض وبه نفسه دون الموجودات الأخر بخلافه تعالى ، فإنه يدلّ عليه كلّ موجود.
وفي كل شيء له آية
تدلّ على أنّه واحد
في وجوب الوجود وعلّيته لجميع الأشياء ، فأظهر الأشياء في علمنا نفوسنا ، ثم محسوساتنا الظاهرة ، ثم الباطنة ، ثم المدركات العقليّة وكلّ منها لها مدرك واحد وشاهد ودليل على وجوب وجود خالقها ومدبّرها وعلمه وحكمته وقدرته ، هذا مع قضاء الضرورة بوجود موجود قائم بذاته ، أي ما يكون صرف الوجود مقوّماً لغيره من الموجودات بأسرها ، بحيث لولاه لم يتحقّق مصداق للوجود أصلاً.
« الله نور السماوات والأرض ». (1)
أي الظاهر في نفسه المظهر لغيره فمبدأ الإدراك هو المدرك وكلّ مدرك فإنّما يدرك أوّلاً وجوده وإن لم يشعر به ، والظاهر بنفسه أظهر من المظهر بغيره بالبديهة ، فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندك مع أنّه لايشهد عليها والا شاهد واحد من حركة يده فكيف لايكون ظاهراً ما لايتصوّر في عالم الوجود من داخل نفوسنا وخارجها [ شيء ] الا وهو يشهد على وجوبه وعظمته وجلاله وينادي بلسان حاله بأن لا وجود له بنفسه ولا حركة بذاته ، يشهد به تركيب الأعضاء وائتلاف العظام واللحوم والأعصاب ومنابت الشعور وتشبّك (2) الأطراف وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة.
فكان الحريّ أن يكون معرفته تعالى من أوّل المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول والأحلام ، فما يترائى من خلاف ذلك ليس الا من جهة أنّ شدّة ظهوره وشهادة كلّ مدرك محسوس ومعقول وحاضر
1 ـ النور : 35.
2 ـ في المحجّة البيضاء : (8/52) : تشكّل.
(620)
وغايت به من دون تفرقة بعضها لبعض صارت سبباً لذهول العقول عن إدراكه ، وليست خفائه وغموض مدركه كسائر المخفيات الملتبسة.
وكما أنّ الخفاش يبصر بالليل دون النهار لا لخفاء النهار بل لشدّة ظهوره وضعف بصر الخفاش ، يبهره نور الشمس إذا أشرقت فلا يرى شيئاً الا مع امتزاجه بالظلمة وضعف نوره وظهوره ، فكذا عقولنا قد انبهرت لضعفها وقصورها وغاية استغراق جمال الحضرة الربوبية وشمول نورها ونهاية إشراقها ظهورها حتّى لم يشدّ عنه ذرّة من ملكوت السماوات والأرض ، ولاغرو في ذلك ، إذ الأشياء تستبان بأضدادها وما عمّ وجوده حتّى لم يبق له ضدّ عسر إدراكه.
ولو اختلفت الأشياء في الدلالة أدركت الفرق سريعاً كالشمس المشرقة على الأرض لحصول العلم بأنّ نورها عرض يحدث في الأرض ويزول عند غيبتها ، فلو كانت دائمة الإشراق لا غروب لها لكان يدخل في الظنون أن لاهيئة في الأجسام الا ألوانها ، إذ ما كنّا نرى في الأسود الا السواد والأبيض الا البياض ، وما كنّا ندرك الضوء وحده ، لكن لمّا غابت الشمس وأظلمت المواضع حصلت التفرقة وعلم أنّ استضاءة الأجسام كانت من ضوء عارض وصفة حادثة فارقتها بالغروب ، فعرف وجود النور من عدمه ، فالله أظهر الأشياء وبه ظهرت كلّها ، ولو كانت له غيبة أو تغيّر لانهدّت السماوات والأرض وبطل الملك والملكوت وأدركت التفرقة بين الحالتين في الدلالة ، لكن لمّا كانت دلالته عامة على نسق واحد ووجوده دائماً في كلّ الأحوال مستحيلاً خلافه فلا جرم أورث ظهوره خفاء ، لكن هذا حال الضعفاء الذين يحتاجون في الدلالة على وجوده تعالى بمشاهدة معلولاته وتغيّراتها.
وأمّا القوّي البصير فلا يرى الا الله ولا يعرف الا إيّاه ويذهل عن الأشياء من حيث هي بل يراها من حيث كونها من صنائعه تعالى.
فهذا هو السبب الأصلي في قصور الأفهام عن معرفته تعالى ، وقد