بالعقوبة؟ » فما برح حتّى أخصبت بنو إسرائيل بالمطر وأنبت الله العشب في نصف يوم حتّى بلغ الركب ، فرجع برخ ، فاستقبله موسى عليه السلام فقال له : كيف رأيت حين خاصمت ربّي كيف أنصفني؟ فهمّ به موسى عليه السلام فأوحى الله إليه : أنّ برخا يضحكني في كلّ يوم ثلاث مرّات » (1) فالإدلال والانبساط يحتمل من بعض دون بعض ، كما احتمل من موسى عليه السلام قوله :
« إن هي الا فتنتك » (2) و « أخاف أن يكذبون » * « ويضيق صدري ... ولهم عليّ ذنب فاخاف أن يقتلون » (3) مع ما فيه من سوء الأدب (4) لأنّ الذي يقام مقام الانس يحتمل منه ويلاطف معه بما لا يحتمل من غيره ، كما لايحتمل من يونس أدون من ذلك فأقيم مقام الغيظ والهيبة وعوقب في السجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ، وقيل فيه : « لولا أن تدراكه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم ». (5)
ونهى النبي صلى الله عليه وآله عن اتباعه فقيل له : « ولا تكن كصاحب الحوت » (6) وهذا إمّا لا ختلاف الأحوال والمقامات ، أو لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت يوم القيامة.
« ولقد فضّلنا بعض النبيّين على بعض ». (7)
ولذلك سلّم عيسى عليه السلام على نفسه فقال : « والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت » (8) وسكت يحيى عليه السلام حتّى سلّم الله عليه فقال تعالى :
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/81 ـ 82.
2 ـ الأعراف : 155.
3 ـ الشعراء : 12 ـ 14.
4 ـ قال الغزالي في الأحياء 4/342 والنراقي في جامع السعادات 3/193 : وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب فراجع ولعلّه مراد الصنّف (ره) أيضاً.
5 ـ القلم : 49.
6 ـ القلم : 48.
7 ـ الإسراء : 55.
8 ـ مريم : 33.
(642)
« وسلام عليه يوم ولد ». (1)
واحتمل من إخوة يوسف نيف وأربعون خطيئة في عشرين آية جمعها بعض العلماء فغفرت لهم ، ولم يحتمل من عزير مسألة سألها في القدر حتّى قيل له : لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة ، ولم يحتمل من بلعم بن باعورا مع ما كان عليه من الرتبة العظيمة في العلم خطيئة واحدة حتّى طرد ولعن ، واحتمل من آصف بن برخيا ما احتمل.
فقد روي أنّه تعالى أوحى إلى سليمان : يا رأس العابدين ويا ابن محجّة الزاهدين إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عنه مرّة بعد مرّة ، فوعزّتي وجلالي لئن أخذته عطفة من عطفاتي (2) عليه لأتركنّه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده ، فأخبره سليمان بذلك فعلا على كثيب من رمل ورفع رأسه ومدّ يده إلى السماء وقال : إلهي وسيّدي! أنا أنا وأنت أنت ، وكيف أتوب إن لم تتب عليّ ، وكيف أستعصم إن لم تعصمني ، فوعزّتك وجلالك إن لم تعصمني لأعودنّ ثم لأعودنّ ، فأوحى الله إليه : صدقت يا آصف أنت أنت وأنا أنا ، استقبل التوبة عليّ فقد تبت عليك وأنا التوّاب الرحيم. (3)
والقصص الواردة في القرآن من جملة فوائدها تعريف سنّته وعادته الجارية في الأمم الخالية ، فما فيه من شيء الا وهو نور وهدى ولو تأمّلت كلمات أئمّتك السادة الأطيبين أيضاً في أدعيتهم ومناجاتهم عرفت شرذمة ممّا فيها من الإشارة إلى المقامات العالية المختلفة التي كانوا عليها من الخوف والرجاء والحبّ والعجز والهرب منه إليه والبسط والإدلال أو الفناء في التوحيد وغير ذلك من الأسرار الغريبة التي لايدرك حقائقها الا المتخاطبان بها ، فعليك إن كنت سالكاً حريصاً على المعارف الحقّة بالتفكّر في كلام
1 ـ مريم : 15.
2 ـ كذا ، وفي المحجة : « غضبة من غضباتي » ، وفي الإحياء (4/342) : عصفة من عصفاتي.
3 ـ المحجّة البيضاء : 8/84.
(643)
إلهك ونبيّك وسادتك الأطيبين ، ففيها شفاء علّتك وبردّ غلّتك ، وتعليم للحكم الغربية والأسرار العجيبة ، ولك فيها غنى عن علوم الأوّلين والآخرين.
والسلام على من اتّبع الهدى.
قد كثرت الأخبار في مدح الحبّ في الله والبغض في الله ، وعظم ثوابه وفضله ، ومعناه لايخلو عن إجمال وإبهام ، فلابدّ من الإشارة إلى ما يدلّ على مدحه وفضله في الجملة ، ثمّ بيان ماهيته وأقسامه ، وهذا وإن كان أنسب بالذّكر في باب صحبة الإخوان كما فعله أبوحامد وغيره الا أنّه لمّا كان متوقّعاً على معرفة معنى الحبّ وتفصيل الكلام فيه ، والتكرير ينافي الاختصار المقصود من وضع الكتاب فلذا ألحقناه بهذا الباب ، والله الموفّق للصّواب.
فنقول : قال صلى الله عليه وآله : « ودّ المؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ، ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله ». (1)
وقال صلى الله عليه وآله لأصحابه : « أيّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ـ إلى أن قال ـ : لكن أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبرّي من أعداء الله » (2)
وقال صلى الله عليه وآله : « المتحابّون في الله يوم القيامة على أرض زبر جدة خضراء في ظلّ عرشه عن يمينه ـ وجوههم أشدّ بياضاً وأضوء من الشمس الطّالعة يغبطهم بمنزلتهم كلّ نبيّ مرسل وملك مقرّب الحديث ». (3)
وقال الباقر عليه السلام : « إذا أردت أنّ تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك ،
1 ـ الكافي : 2/125 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله والبغض في الله ، ح3.
2 ـ الكافي : 2/125 ـ 126 كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله والبغض في الله ، ح6.
3 ـ الكافي : 2/126 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله والبغض في الله ، ح7.
(645)
فإن كان يحبّ أهل طاعته ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، والله يحبّك ، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من أحبّ ». (1)
وقال عليه السلام : « لو أنّ رجلاً أحبّ رجلاً لله أثابه الله على حبّه إيّاه وإن كان المحبوب في علم الله من أهل النّار ، ولو أنّ رجلاً لبغض رجلاً لله لاثابه الله على بغضه إيّاه ولو كان المبغض في علم الله من أهل الجنّة ». (2)
وقال الصادق عليه السلام : « [ كلّ ] من لم يحبّ على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له ». (3)
والأخبار أكثر من أن تحصى ، ذكرنا هذا القدر تبرّكاً.
واعلم أنّ الحبّ بين إنسانين يحصل غالباً بمجرّد الصحبة الاتفاقيّة كصحبة الجار وأهل سوق واحد ، أو مدرسة واحدة ، أو سفر واحد ، أو خدمة سلطان أو غير ذلك ، وظاهر أنّ أمثال هذه لاتعدّ من الحبّ في الله ، بل هو الحبّ الاتّفاقي ، وربما يحصل من سبب وباعث آخر ، وهو على أقسام أربعة أشرنا إليها في صدر المبحث.
أحدها : الحبّ لذاته لاليتوصّل إلى أمر محبوب ومفقود وراءه ، بل يلتذّ برؤيته ومعيّته ومشاهدة أخلاقه استحساناً منه له ، لما عرفت من لذّة الجمال في حقّ من أدركه ، واللذّة فرع الاستحسان ، وهو فرع المناسبة والملائمة بين الطّباع ، والمناسبة إمّا ظاهرة كجمال الصورة ، أو كمال العقل والعلم وحسن الأفعال والأخلاق ، وإمّا خفيّة معنويّة بين شخصين بخصوصهما ، فكثيراً ما يستحسن رجل آخر من غير حسن ظاهر فيه بوجه من الوجوه ، بل لمناسبة باطنيّة أو جبت إلفهما ، فإنّ شبه الشيء ينجذب إليه
1 ـ الكافي : /126 ـ 127 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله والبغض في الله ، ح11.
2 ـ الكافي : 2/127 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله والبغض في الله ، ح12.
3 ـ الكافي : 2/127 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله والبغض في الله ، ح16.
(646)
بالطّبع ، والأشباء الباطنة خفيّة ، ولها أسباب دقيقة ليس في قوّة البشر الاطّلاع عليها. وإلى هذا القسم أشير في قوله صلى الله عليه وآله : « الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ». (1)
وهذا لايدخل في الحبّ في الله ، بل مرجعه إلى الطّبع وشهوة النّفس ، ولذا يتصوّر من غير المؤمن مع المؤمن وبالعكس ، فإن اتّصل به غرض مذموم كان مذموماً ، والا كان مباحاً.
والثاني حبّه لبنال منه محبوباً مفقوداً وراء ذاته من المحابّ الدنيويّة ، ولاريب في أنّ وسيلة المحبوب محبوب ، وهذا أيضاً مثل الأوّل.
والثالث كذلك الا أنّه من المطالب الأخرويّة كحب التلميذ للاستاذ ، فإنّ المقصود سعادة الآخرة ، وهذا يعدّ من الحبّ لله ، وكذلك العكس ، لأنّه ينال بواسطته رتبة التعليم ويستحقّ به التعظيم في ملكوت السماء.
والضابط أنّ كلّ من يحبّ أحداً لصفته أو فعله الذي يوجب تقرّبه إلى الله فهو من المحبّين في الله كحبّ من يخدمه من حيث إنّه يفرغه لتحصيل العلم والعمل ، وحبّ زوجته لأجل ذلك وما يضاهيه في القصد الصّحيح.
الرابع : حبّه لله وفي الله لا لينال منه علماً ولا عملاً أو يتوسّل به إلى شيء وراء ذاته ، بل من حيث إنّه صنع الله ومنسوب إليه إمّا بنسبة عامّة تشمل كلّ الممكنات أو خصوصيّة نسبة من يقرّبه إليه بعلم أو عمل ، وقد أشرنا إلى أنّ كلّ من يحبّ أحداً بالحبّ البالغ يسرى حبّه إلى كلّ من ينتسب إليه حتّى من يمدحه ويحفظ غيابه ، بل محلّه ومسكنه وبلده وطائفته ، كما قيل :
أمّر على الديار ديار سلمىوما حبّ الديار شغفن قلبي
اقبّل ذا الجدار وذا الجدارولكن حبّ من سكن الديارا
والبغض في الله بغضك كلّ من يعصي الله ويخالفه من حيث العصيان والمخالفة ، وقد مرّ الخلاف في أنّ من تصادق مع أخ له في الله ثمّ
1 ـ المحجة البيضاء : 3/249.
(647)
رأى منه المخالفة والعصيان فهل يحسن حينئذ تركه وتبديل حبّه ببغضه ومهاجرته وقطع أخوّته لما ذكر ، أو لابل يهتمّ بكلّ ما يمكنه من القول والفعل حتّى رياضة نفسه في التضرّع والدعاء له ليهديه الله إلى ما كان عليه أوّلاً ، وقد ذكرنا ما يغنيك في باب حقوق الإخوان.
ثمّ المعاصي لها درجات مختلفة بعضها أكبر وأشدّ من بعض ، وكذا البغض والهجران له مراتب مختلفة شدّة وضعفاً ، فينبغي أن يراعي الترتيب والمماثلة في الشدّة والضّعف. وهذا كلّه بعد النّصح والتلطيف في الكلام بالرفق واللّين بما سبق تفصيله في باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وباب حقوق المعاشرة.
وكثيراً ما يتّصف الإنسان بصفتين : إحداهما محمودة والأخرى مذمومة ، فلابدّ من موازنة إحداهما بالاخرى فيرجّح الأشد على لاأضعف ، بل لابدّ من ملاحظة الحيثّية ، فيحبّه من حيث صفته المحمودة ، بل من الجهة الكليّة العامّة المشتركة بين كلّ الممكنات في الانتساب إلى ربّ الأرباب ، بل يكون ملاحظته لهذه الجهة أكثر وأدوم ، ويبغضه من الجهة المذمومة ، ويوازن إحداهما بالاخرى ويعمل بمقتضى الجهتين معاً في السعي في الهداية والإرشاد ، والمنع بالكلام الطيّب والدّعاء والاستغفار له مهما أمكن ، وبالجملة؛ لمّا كان المقصود من الحبّ والبغض شيء وراء ذات المحبوب والمبغوض ، وإنّما تعلّق الحبّ والبغض به واطلق عليه بالتّبع ، فالمعيار الكلّي مراعاة ماهو الأصل في ذلك.
واعلم أنّ من تمام الحبّ لله والوفاء ، أي الثبات عليه والمواظبة على مقتضياته ولوازمه وإدامته إلى الموت وما بعده مع أولاده ، وأصدقائه. وضدّه الجفاء وهو قطعه وترك لوازمه بالنسبة إليه أو إلى من ينتسب إليه في حياته أو بعد موته ، ولولا الوفاء لما كان للحبّ فائدة ، لأنّه إنّما يراد للآخرة ، فإن انقطع قبل الوصول إليها ضاع السعي وحبط العمل ، ولأنّها إن كانت لله فلا
معنى لانقطاعها لأنّ انتفاء المسبب مع بقاء السبّب غير معقول ، فهو يدلّ على كونه لله ، وما قيل من أنّ قليله بعد الممات أحسن من كثيره في الحياة إنّما هو لأجل دلالته على الخلوص وكونه لله. وقد تقدّم من أحكام الصحبة وآداب الاخوّة ما يغنيك إن كنت طالباً.
ولنقطع الكلام على حبّ الله ورسوله وأوليائه الكرام حامدين له تعالى على التوفيق للإتمام والفوز بسعادة الاختتام مصلّين على محمّد صلى الله عليه وآله سيّد الأنام وآله امناء الملك العلام وشفعاء يوم القيامة ، آملين من فضله العميم ومنّه الجسيم أن يوفّقنا وسائر إخواننا لطاعته ومرضاته وأن يسدّد قلوبنا وجوارحنا بتأييداته وتسديداته ، ويحفظنا من شرّ نفوسنا الأمّارة بألطافه وكراماته ويميل قلوبنا ويصفّي عقولنا للتدبّر في بدائع الحكم المودعة في آياته بمحمّد سيّد رسبه وبريّاته.
وكتب مؤلّفه الراجي رحمة ربّه الحيّ القيّوم ، خادم طلبة العلوم محمّد حسن بن المرحوم الحاج معصوم القزويني أصلاً والحائري موطناً ومسكناً ـ وفّقه الله لسلوك مسالك مراضيه وجعل مستقبل أيّامه خيراً من ماضيه ـ.
وفرغ من تأليفه ضحوة يوم الاثنين الثاني من شهر شوّال المكرّم من سنة العاشرة بعد المأتين والألف من الهجرة النبويّة على مهاجرها ألف صلاة وثناء وتحيّة حامداً لله ومصلّياً على محمّد وآله سادات البريّه. (1)
1 ـ في نسخة ج : هكذا كان في آخر نسخة ظاهرها بخطّ المصنّف ...