مقدمة المركز
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، نبينا
محمد المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
وبعد ، إنّ من مهام الدين التي لا تنفصل عنه : تنظيم أنشطة الغرائز الفردية ،
وتنظيم العلاقات الاجتماعية ، وأنشطة الغرائز لوحدها ذات بعدين: فردي تنعكس
آثاره على الفرد ذاته ، واجتماعي تمتد آثاره إلى المجتمع لتظهر في طبيعة علاقاته
وفي صورته النهائية بالضرورة .. وهذا النظام المعني بتنظيم ذلك كلّه هو النظام
الاخلاقي ، ببعديه ؛ الفردي والاجتماعي.
وهو من النظم التي تميّزت بها الاديان عن النظريات الوضعية ، حتى عادت هذه
الاخيرة تستعير من الاديان بعض جوانب نظم الاخلاق التي لا تستقيم الحياة بدونها.
ان تركيز الاِسلام على ثنائية الانسان ـ الروح والمادة ـ هو تجلية لواقع الانسان
ولضرورات الحياة معاً ، وكما أخفق الماديون في تعطيل حاجات الروح ، أخفق الرهبانيون
في تعطيل الحاجات الجسدية والمادية ، ودفع الاثنان ضريبة ذلك في فقدان التوازن ، توازن
حاجات الفرد وحاجات المجتمع ، وكما اضطر الفريق الاول الى اقتباس بعض تعاليم
الايان في اشباع حاجات الروح ، اضطر الفريق الثاني ولو متنكراً إلى اشباع حاجات
الجسد ، خضوعاً اضطرارياً إلى صرامة القانون الذي تفرضه الطبيعة البشرية الثنائية ،
والذي لا يمكن ضمان استقرار الانسان وتكامله من خلال التمرّد عليه ، ذلك القانون الذي
نلمس أكمل مصاديق صيانته في تعاليم الاِسلام الحنيف ، فهو في الوقت الذي يحث فيه
علي اشباع حاجات الروح بالعبادات من فرائض ونوافل ، صلوات واذكار وصيام وحج
وزكاة وعطاء ، نراه يحث بالقوة نفسها على اشباع حاجات الجسد.
نعم إن النظام الاخلاقي في بعديه ـ الفردي والاجتماعي ـ هو رسالة الاديان
السماوية كافة ، ذلك أن مصدر هذه الاديان كلها واحد ، وهو الواحد ذاته المتفرّد
بخلق الطبيعة البشرية والعالِم بسرّها وبما يصلحها ويقودها إلى الكمال والتألّق ،
(6)
ولربما أوجز خاتم الاَنبياء صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في بعض جوانبها بقوله الشريف : « إنّما
بعثتُ لاُتمم مكارم الاَخلاق » وفي نص مماثل : « إنّما بعثتُ لاُتمم صالح
الاَخلاق ».
واذا كان النظام الاخلاقي ذا بعدين ، فقد عني الاِسلام برعايتهما معاً وبالدرجة
نفسها دون ترجيح لاحدهما على الآخر ، فكما عني بصلاح الفرد ووضع له نظامه الذي
يصونه ، فقد عني بصلاح المجتمع ووضع له النظم والضوابط التي تحفظه وتصونه ، ومن
تلك النظم والضوابط ما تمثله التعاليم التي تهدف إلى تنمية الروح الاجتماعية لدى الاَفراد ،
ابتداءً بالتربية التي توفّرها صلاة الجماعة والجمعة ومواسم الاعياد الاِسلامية وموسم الحجّ
وصلة الاَرحام وعيادة المرضى والدعاء للمؤمنين سراً وعلانية وأداء التحية وردّها وانتهاءً
بقوانين التكافل الاجتماعي التي لا تقف عند حدود الزكاة والصدقات بل تتعدى إلى الايثار
والتضحية في سبيل المجتمع المؤمن.
وفوق ذلك تميّز عمق النظام الاخلاقي في الاِسلام بالتأكيد في تعاليم متعددة
على أنّ صلاح أحد العنصرين ـ الفرد والمجتمع ـ ليس فقط مكملاً لصلاح الآخر ،
بل قد يكون وقفاً عليه تماماً.
ومن هذه الاَهمية التي يمثلها النظام الاخلاقي في الاِسلام فقد جعل مركز الرسالة
للبحوث المعنية في التعريف بهذا النظام حظّها المناسب في سلسلة اصداراته الموسومة
بسلسلة المعارف الاِسلامية ، وهو في اصداره هذا يقدم لقرائه واحداً من الاسهامات الموفقة
في تجلية ركن من أركان النظام الاخلاقي ، وهو « الرفق ».
ذلك الخُلق الذي وصفه الحديث الشريف بأنّه : « لو كان خَلقاً يرى ما كان
مما خلق الله شيء أحسن منه » وإنه : « لم يوضع على شيء إلاّ زانه ، ولا نُزع
من شيء إلاّ شانه » ، لنستفيء في ظلّه ساعة ، متنسمين عطر الآي العظيم وحديث
النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ومقتبسين شذرات من سير الاُسوة
الحسنة ، علّها تكون لنا معالم هدى إلى الخلق الكريم.
عندما اختفت شمس الهداية خلف غيوم الحضارة المادية ، وحُرِم
الانسان من دفئها وسناها الباعث روح الحياة في هذه النفوس ، قست
القلوب وغادرت الرحمة أفق هذا الزمن وضعف الوجدان عن أداء دوره ،
وغفا الضمير على نغمات عصره ، فلم يعد للرفق واللطف وما إلى ذلك
من مفردات معنوية وجود فعلي ودور عملي على ساحة الواقع المادي.
نعم لم يبقَ منها لاِنسان القرن العشرين إلاّ العناوين التي قد كبرت ،
والشعارات التي قد تكثرت ، وقد استفاد من هذه وتلك قساة الصهاينة
والشيوعيون وكل الطغاة والمستكبرين ، فأسسوا الجمعيات والاحزاب
تحت تلك الشعارات وتلك العناوين لتحقيق أهدافهم الاستعلائية
ونواياهم التسلطية ، ومارسوا الغلظة بدل اللطف ، والقسوة مكان الرأفة
والشدة عوض الرفق.. وحرموا الاِنسان من حرية الفكرة وحرية الاِرادة
وحرية الاختيار ، تحت شعارات تحمل هذه العناوين لفظاً لكنّها خالية من
المضمون واقعاً.
إنّ رقي الاُمم إنّما هو بمقدار ما تمتلكه من قيم أخلاقية تتفاضل من
خلالها ، وتتنافس مع غيرها من أجل الحفاظ عليها وديمومتها منهجاً
للاَجيال. ومن هنا أدرك الكثير من الاُمم التي أوجدت لمجتمعاتها معايير
مادية أخطار تلك المعايير في تفتيت وحدة المجتمع التي تضعها روح
الاخاء بين أفراده ، فأوصدت أبواب الاُلفة والتعايش على مائدة القيم
(8)
الاخلاقية ، بعد أن أنمت فيهم روح الاِثرة وحب الذات والتنافس على
حطام زائل ، مما أدّى إلى تفكك مجتمعاتهم تبعاً لتمزق شمل الاُسرة
وانفراط عقد المودة بين أفرادها ، فازدادت بذلك مشاكلهم ، واشتدت
أزماتهم الاجتماعية والاخلاقية والنفسية.
ومن الواضح أنه لن تجد تلك الاُمم الحلّ المناسب لجميع ما عصف
بها من مشاكل على أثر مناهجها وسياساتها إلاّ في اقتباس خلق الاِسلام
وآدابه وتعاليمه التي هي في الواقع الاستقامة بعينها ، والاعتدال بنفسه ،
والوسط المقبول بين الافراط والتفريط ؛ لاَن القطب الوحيد الذي تدور
حوله رحى التوازن الفذة في كل شيء في السياسة والاجتماع والاخلاق لا
يستقر إلاّ على محور الاِسلام ، ذلك المحور الذي ينتهي بمريديه إلى
أقصى درجات الكمال الممكن للانسان في سموه ورفعته وعزته وكرامته
الحقيقية.
وتوضيحاً لمن غاب عنهم ما في دين الاِسلام العظيم من كمالات لا
نظير لها في دساتير العالم أجمع ولا قرين لها في الاديان السماوية
الاُخرى، تنطلق من ضرورة تصميم الرحمة الهادية ( وَمَا أرسَلنَاكَ إلاّ
رَحمةً لِلعالَمِينَ ) تلك الرحمة التي بعث بها من هو على خلق عظيم بشهادة
السماء، لعلها تشق طريقها إلى النفوس الفاضلة فتروّي ضمأها من عذب
نمير الاِسلام ، جاء هذا البحث..
ولما كان المسلمون اليوم هم أحوج من غيرهم إلى التعرف على ذلك
لذا كان الخطاب إلى غيرهم عرضاً وإليهم ذاتاً ، لعلهم يعرضوا تصرفاتهم
وحركاتهم وسكناتهم على مرآة الاِسلام ومفاهيمه في كلِّ وقت وحين
(9)
ليشاهدوا مدى انطباقها أو افتراقها عن منهج الاِسلام ؛ فيقوِّموا بذلك
اعوجاجهم ويعمقوا استقامتهم على ضوء ما سيعرضه البحث من
مفردات الرفق لما فيها من رسالة تكاملية هادفة إلى كلِّ خير وصلاح.
ونحن في هذا المقتضب من الحديث عن الرفق ـ كفضيلة سامية ـ
نحاول إعطاء فكرة مبسطة عن واقعه وأهميته في المنظور الاِسلامي ،
وذلك من خلال بيانات بعض الآيات المباركة والاَحاديث الشريفة ،
ليتضح بجلاء دور الاِسلام العزيز في تربية الاِنسان في كلِّ عصر وزمان
على الشفقة والرحمة والتعايش المعنوي من أجل الحياة الحرّة الكريمة
على وجه هذه الاَرض والسعادة الاَبدية في عالم الخلود.
وليتبين البون الشاسع بين الحضارة الماديّة الجافة القاسيّة التي لا تُذكي
إلاّ الاَنانيّة والجشع والغلظة والقسوة ، وبين الاِسلام الذي ينمّي روح
التراحم والتواصل والايثار ، ويُرَبي الاِنسان على مكارم الاَخلاق ، ويحمله
على المحبّة والصلح والتفاهم وحرية الاِرادة وحرية الاختيار ، هذا من
جهةٍ ، ومن جهةٍ اُخرى ليتبين البون الشاسع بين الاِسلام وبين غيره من
الاَديان السماوية كالمسيحية مثلاً التي يتظاهر أتباعها بالدعوة الى الصلح
والصفاء بين أبناء البشرية في العالم.. مبتدئين أولاً ببيان معنى الرفق ..