فهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « لو كان الرفق خلقاً يرى » ، أي : لو أن لحقيقة الرفق صورة
مجسدة تظهر للعيان وتتمثل للاِنسان « ما كان مما خلق الله عز وجل شيء
أحسن منه » فهو يفوقها حسناً وجمالاً ، وبهذا الطرح الافتراضي
والتصويري يبين لنا صلى الله عليه وآله وسلم ما للرفق من جمالية في حقل الاخلاق وكيانها
التكاملي الشامخ.
4 ـ الرفق خير :
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « من أُعطي حظّه من الرفق أُعطي حظّه من خير الدنيا
والآخرة » (1).
وفي هذا الحديث إخبارٌ عن الصادق الامين بأن من يرزق الرفق يرزق
الخير كله. وهذا يعني أن الذي يزداد رفقاً ، يزداد من خير الدنيا والآخرة ،
وعلى العكس سيكون حال الآخر الذي حُرم حظّه من العقل والوقار ،
وصرعته الاَنا ، فاستبدل أناةًبالحُمق ، وجهلاً بالحلم ، فزرع لدنياه وآخرته
ما يسوءه حصاده ، وتُطيل ندامته عقباه..
5 ـ الرفق نصف المعيشة :
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « التودد إلى الناس نصف العقل والرفق نصف المعيشة ، وما عال
امرؤ في اقتصاد » (2).
وبهذا التشخيص الدقيق في بعده الاجتماعي تتوضح أهمية الانفتاح
1 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 6 : 229. إحياء علوم الدين 3 : 185.
2 ـ بحار الاَنوار 71 : 249.
(32)
على الآخرين ، ومداراة عقولهم ، والانسجام معهم من خلال الرفق بهم
دون الغلظة عليهم ، ويعتبر ذلك الرفق معادلاً لنصف الجهد الذي يبذله
الاِنسان في دائرة عمله الاقتصادي بين أفراد المجتمع ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم بهذا
يعطي أهمية فائقة للاخلاق في المجال الاجتماعي والاقتصادي اللذين
لاينفكان عن تلازمهما في تسيير عجلة الحياة المعاشية للفرد والاَُمة ،
ولاَجل هذه الحقيقة الحيوية جاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الفقرة الاَخيرة وما عال
امرؤ في اقتصاد.
6 ـ الرفق كرم :
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « الرفق كَرمٌ ، والحلم زَينٌ ، والصبر خيرُ مَركب » (1).
بهذا الوصف النبوي الشريف يكون المتخلق بالرفق كريماً موقعه بين
الناس ، يلزمهم تبجيله وتعظيمه على سجيته هذه. وبهذا الاحترام تتوسع
دائرة الرفق بينهم لما للقدوة من أثر في تعميق المفهوم ، واستحقاقه لهذا
التجليل جاء من تكرّمه وترفّعه عن متابعة الآخرين في هفواتهم وزلاّتهم.
7 ـ الرفق وزير الحلم :
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « نِعمَ وزير الايمان العلم ، ونِعمَ وزير العلم الحلم ، ونِعمَ وزير
الحلم الرفق ، ونِعمَ وزير الرفق اللين » (2).
استوزر الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم العلم للايمان ، الحلم للعلم ، الرفق للحلم
1 ـ بحار الانوار 69 : 414.
2 ـ بحار الاَنوار 75 : 52.
(33)
واللين للرفق ، وبهذه المنظومة المباركة بيّن لنا التماسك الحيوي بين
الايمان والعلم والاخلاق ، فمن أراد الاِيمان فعليه بالعلم ، ومن أراد العلم
الذي يفضي إلى الاِيمان فعليه أن يتزين بالحلم الذي يجعل من العلم
علماً هادفاً نحو التكامل لا العلم الذي يرافقه الغرور والعجب والتكبر ،
ومن أراد إيماناً يستند إلى العلم النافع والمستوزر بالحلم فما عليه إلاّ
التخلق بالرفق الكاشف عن واقعية الحلم وحقيقته.
الرفق الذي يتضمن : السماحة واللطف والانفتاح والتواضع وتكليم
الناس على قدر عقولهم والتجاوز عن سيئاتهم والترفع من متابعة
هفواتهم، رفقاً يتجلى فيه اللين وتمحى من ساحته الغلظة ، فلا خشونة
عند التعامل ولا جفوة بعد التخاصم ، ولا طغيان عند البغي ، هكذا يريدنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أبعادنا العلمية والايمانية والاخلاقية ، وهكذا كان هو
ـ روحي له الفدى ـ مجسداً لاَخلاق القرآن ، وسنته العملية هي التعبير
الادق لكلِّ ذلك الخُلق النبوي العظيم ، ولاجل هذه الحقيقة الناصعة
والمحجة البيضاء عرّفه ربه سبحانه وتعالى بقوله : ( وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ
عَظِيمٍ ).
8 ـ الله رفيق يحب الرفق :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « إنّ الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي
على العنف وما لا يعطي على سواه » (1).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنَّ الله عزَّ وجل رفيق يحب الرفق في الاَمر
1 ـ الكافي 2 : 119 | 5 باب الرفق. إحياء علوم الدين 3 : 185.
(34)
كلّه » (1).
فالله جلَّ جلاله رفيق ، والرفق خلقه ، إذ هو اللطيف بعباده والرحمن
بخلقه والرحيم بالمؤمنين ، يرأف ويتحنن ويعفو ويسامح ويغفر ويتوب ،
برٌّ كريم ، ودود حليم ، وهو ـ جلّ ثناؤه ـ يحب لنا أن نتخلق بأخلاقه حتى
نغدوا ربانيين بأخلاقنا ؛ فربنا الصادق يحب لنا أن نكون صادقين ، وربنا
المحسن يحب لنا أن نكون محسنين ، وربنا الرفيق يحب لنا أن نكون
رفقاء. ولاشك أنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
9 ـ الله يعين على الرفق :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله يحب الرفق ويعين عليه » (2).
في هذا الحديث المبارك يبين لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله مع كونه يحب
الرفق ، فهو سبحانه يعين عليه ، فمن أراد التخلق بالرفق وسعى لاكتساب
هذه الفضيلة فإنّ المد الاِلـهي يُقبل عليه ويقوّي فيه هذه العزيمة ، وهذا
كقوله تعالى : ( إنَّهُم فِتيَةٌ آمَنُوا بِرَبِهِم وَزِدنَاهُم هُدىً ) (3) فبعد أن أقبلوا
على الايمان زادهم الله هدىً ، فكذا الحال في اكتساب سجية الرفق ، فإنّ
الله يعين الساعين إليها بأن يسهل لهم سبل الوصول إلى بغيتهم التكاملية
هذه.
فإذا وجدنا أنفسنا غير متخلقين بهذه السجية الفاضلة فإنّ العيب فينا ،
1 ـ كنز العمال : خبر 5370.
2 ـ الكافي 2 : 120 | 12 باب الرفق.
3 ـ الكهف 18 : 13.
(35)
إذ لم نسع نحوها حتى تُقْبِل هي إلينا.
10 ـ الرفق رأس الحكمة :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « الرفق رأس الحكمة ، اللّهم من وليَ شيئاً من أمور
أُمتي فرفق بهم ، فارفق به ، ومن شقق عليهم فاشقق عليه » (1).
الحكمة كما لا يخفى هي وضع الشيء في محله ، ولما كان الرفق هو
من محامد الصفات التي يتصف بها الخالق المتعال وأنبياءه الكرام وذوي
الحجى والالباب ، وبه يعالجون سقم الناس ، فهو الدواء المحكمة
مراهمه، والبلسم الناجح شفاؤه ، ينفع مع الفرد في تطبيبه وتهذيبه ، ومع
الاُمّة في تدبير أمرها وسَوْسها.
فالنبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يعرّف الرفق بأنه رأس الحكمة ، يتوجه
إلى ربه بالدعاء بالرفق لمن يرفق بمن وُليَّ عليه ، وبالمشقة على من يشق
عليهم ، ولاشك أن دعوة المصطفى حبيب الله هي دعوة مستجابة حتماً ،
وهي في الوقت نفسه كشف عن قانون وإرادة سماوية في المكافأة
والمجازاة على الاَفعال.
11 ـ أفضل الصاحبين :
الصحبة في الله عمل ممدوح ، باركه الاِسلام كثيراً ، وحثّ عليه ،
وبشّر أهله بالثواب الجزيل والمنزلة الرفيعة ، لكن بين المتصاحبين في الله
تفاضل ، فأحدهما أرفع منزلةً وأعظم أجراً من أخيه ، فبأيّ مزيّة نال هذا
1 ـ بحار الانوار 75 : 352.
(36)
التفضيل ؟
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكشف لنا عن سرِّ هذه المفاضلة ، فيقول :
« ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله عزَّ وجل : أرفقهما
بصاحبه » (1).
الرفق إذن هو الذي رفع أحد الصاحبين على أخيه درجةً ، وشرّفه
بمنزلة من حبّ الله أعلى.
12 ـ الزيادة والبركة:
إنّ الله تعالى ليجازي عباده على مكارم الاخلاق في الدنيا فيريهم
ثمراتها ، كما يدّخر لهم ليوم لقائه ما هو أنمى وأبقى ، فما الذي يراه
المتحلّي بالرفق في دنياه ؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ في الرفق الزيادة والبركة، ومن يُحرم الرفق يُحرم الخير » (2)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « ما زوي الرفق عن أهل بيت إلاّ زويَ عنهم الخير » (3).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس » (4).
وقال الاِمام الصادق عليه السلام : « أيّما أهل بيت اُعطوا حظّهم من الرفق فقد
وسّع الله عليهم في الرزق ، والرفق في تقدير المعيشة خيرٌ من السعة في المال ،
1 ـ الكافي 2 : 120 | 15 باب الرفق.
2 ـ الكافي 2 : 119 | 7 باب الرفق.
3 ـ الكافي 2 : 119 | 8 باب الرفق.
4 ـ الكافي 2 : 120 | 16 باب الرفق.
(37)
والرفق لا يعجز عنه شيء والتبذير لا يبقى معه شيء ، إنّ الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ
الرفق » (1) .
13 ـ الرفق سور الايمان :
عن هشام بن أحمر ، قال : جرى بيني وبين رجل من القوم كلام ، فقال
لي أبو الحسن عليه السلام : « ارفق بهم ، فإنّ كُفرَ أحدهم في غضبه ، ولا خير في من كان
كفره في غضبه » (2).
وفي كلام بعض الصالحين : ما تكلّم الناس بكلمة صعبة ، إلاّ وإلى
جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها (3).
14 ـ الرفق في حقوق المؤمنين :
ركّز الاِسلام كثيراً عنايته بحقوق المؤمنين بعضهم على بعض ، حفظاً
لكرامة الاِنسان المؤمن ، وصيانة للمجتمع ورصّاً لصفوفه ، قال تعالى :
( والمؤمِنُونَ والمؤمِنَاتُ بَعضُهُم أولِياءُ بَعضٍ ) (4).
والرفق واحد من تلك الحقوق التي ينبغي حفظها ، وفي (رسالة
الحقوق) التي أفاض بها الاِمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام أكمل
دستور يتناول شعب الحقوق وجوانبها وألوانها ، وفيها تجد للرفق حظّه
المبرّز وهو يوزعه على أولى الفئات التي ينبغي أن يحفظ لها حقّها فيه ،
1 ـ الكافي 2 : 119 | 9 باب الرفق.
2 ـ الكافي 2 : 119 ـ 120 | 10 باب الرفق.
3 ـ إحياء علوم الدين 3 : 186.
4 ـ التوبة 9 : 71.
(38)
ومنها :
المسلمون عامّة :
قال عليه السلام : « وحقّ أهل ملّتك : إضمار السلامة ، والرحمة لهم ، والرفق بمسيئهم ،
وتألّفهم ، واستصلاحهم ، وشكر محسنهم ، وكفّ الاَذى عنهم » (1).
المستنصح :
وقال عليه السلام : « وحق المستنصح : أن تؤدّي إليه النصيحة ، وليكن مذهبك
الرحمة له والرفق به » (2).
الزوجة :
وقال عليه السلام : « حقُّ الزوجة: أن تعلم أنّ الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً وأُنساً وتعلم
أنّ ذلك نعمةً من الله عليك ، فتكرمها ، وترفق بها ، وإن كان حقك عليها أوجب فإنّ
لها عليك أن ترحمها لاَنّها أسيرك ، وتطعمها وتسقيها وتكسوها ، وإذا جهلتْ عفوتَ
عنها » (3).
وفي الزوجة جاءت وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « رفقاً بالقوارير » (4).
الصغير :
وقال عليه السلام : « وحق الصغير : رحمته في تعليمه ، والعفو عنه ، والستر عليه ،
1 ـ شرح رسالة الحقوق ، للسيد حسن القبانچي 2 : 541.
2 ـ رسالة الحقوق 2 : 387 حق المستنصح.
3 ـ المصدر السابق 1 : 517 حق الزوجة.
4 ـ مسند الحميدي : 1209.
(39)
والرفق به ، والمعونة له » (1).
وهكذا يزيّن الرفق أخلاق المرء وحياته ، بل أخلاق المجتمع كلّه ،
ليسهم مع أخوانه من مكارم الاخلاق في بناء انسان متكامل ومجتمع متين
متجانس يسوده الائتلاف والوئام، وتتجذّر فيه كلّ عناصر الصحة والقوّة
والصلاح.
15 ـ الرفق بالحيوان :
الرفق مع الاقتدار ، مبدأ ، وليس وسيلة لتحقيق غاية آنية أو مرحلية ،
من هنا فليس هناك حدّ زمني بين الرفق وضدّه ، بل قد يكون هناك حدّ
تفرضه طبيعة سلوك الطرف الآخر المقصود بالرفق ، طبيعة سلوكه وليس
ذاته.. فالتحوّل مع الطفل من الرفق الظاهر إلى التأديب اللازم أمر يفرضه
سلوك الطفل لا ذات الطفولة التي كنا قبل صدور هذا السلوك نتعامل معها
بالرفق كلّه.. وكذا فالذات الاِنسانية أيضاً لا تحتكر الرفق لنفسها ، بل
تشاركها فيه كلّ ذوات الاَرواح ، وحتّى النبات ، وربما الجمادات الميتة
أيضاً ، فلربما رأيتَ صبياً يعبث بالحصى بكلِّ عنف ، يهشم ويحطم ،
فأخذتك على هذه الحصى شفقة ، أو أثار فيك المنظر اشمئزازاً. وهذا
شأن الخُلق حين يكون متأصلاً في الفطرة ، فكيف بك وأنت ترى معتوهاً
يبطش ببهيمة ضعيفة لا تملك الدفاع عن نفسها ولا حيلة لها بالفرار من
بين يديه ، إلاّ أنها تصرخ وتجأر بكلِّ ما تحسبه يرقّق القلوب ويستدرّ
العواطف عليها من صوت ؟
1 ـ رسالة الحقوق 2 : 455 حق الصغير.
(40)
وكم استغلّ الشذوذ البشري ضعف الحيوان وقلّة حيلته ليتخذه وسيلة
للعبه وطيشه ، فيجري عليه تجارب طيش معتوه بفنون الحبس وفنون
التعذيب ، وربما اتخذها مخبراً لقدراته في الصيد ، فيجندل منها حتى
يروّي غروره فيعود منتفخ الصدر ومن ورائه عشرات الجثث الهامدة من
أنواع الحيوان التي كانت تملاَ الصحارى والحقول والاَنهار والخلجان روحاً
وحركة وزينة وحياة..
فإذا كان الاِسلام دين الهداية الحقّة الذي أخذ على عاتقه مسؤولية
نظم الحياة واعمار الدنيا ، فلا تفوته العناية بالحيوان وحفظ حقّه ، بعد أن
أعطى الاِنسان ما يستحقه ، بل بعد أن تعدّت رعايته للنبات الذي جعل
تعاهده ورعايته عبادةً جزاؤها الثواب العظيم ، وأعطى في الجنة شجرة
تضلّه لمن غرس في الدنيا مثلها ، وزاد على ذلك أن نفخ في رُوع تابعه أن
لو كانت بيدك فسيلة ، وليس بينك وبين قيام الساعة إلاّ أن تغرس هذه
الفسيلة فاغرسها قبل قيام الساعة !
ترى كيف كانت رعايته للحيوان الذي يعيش مع الاِنسان ويساهم في
اعمار دنياه ؟
صاحبة السفر :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنَّ الله يحب الرفق ويعين عليه ، فإذا ركبتم الدواب
العجف فأنزلوها منازلها ، فإن كانت الارض مجدبة فانجوا عنها ، وإن كانت مخصبة
فأنزلوها منازلها » (1).
1 ـ الكافي 2 : 120 | 12 باب الرفق.