في الأغلب بقاءه لنفسه ، فإن هذا هو المجبول عليه طبع الخلق ، ومنفعته لك على تقدير بقائه غير معلومة ، بل كثيراً ما يكون المظنون عدمها ، فإن الزمان قد صار في آخره ، والشقوة والغفلة قد شملت أكثر الخلائق ، وقد عز السعيد ، وقل الصالح الحميد ، فنفعه لك ـ بل لنفسه ـ على تقدير بقائه غير معلوم ، وانتفاعه الآن وسلامته من الخطر ونفعه لك قد صار معلوماً ، فلا ينبغي أن تترك الأمر المعلوم لأجل الأمر المظنون بل الموهوم ، وتأمل أكثر الخلف لأكثر السلف ، هل تجد منهم نافعاً لأبويه إلا أقلهم ، أو مستيقظاً إلا أوحديّهم حتى إذا رأيت واحداً كذلك ، فعد ألوفاً بخلافه. وإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر الفذ (1) دون الأغلب الكثير ، عين الغفلة والغباوة ، فإن الناس بزمانهم أشبه منهم بآئهم. كما ذكره سيد الوصيين ، وترجمان رب العالمين ، صلوات الله عليه وسلامه عليه. مع ان ذلك الفرد الذي تريد مثله ، إنما هو صالح نافع بحسب الظاهر ، وما الذي يدريك بباطنه وفساد نيته وظلمه لنفسه ؟ ! فلعلك لو كشفت عن باطنه ، ظهر لك أنه منطو على معاصي وفضائح ، لا ترضاها لنفسك ولا لولدك ، وتتمنى أن ولدك لو كان على مثل حالته يموت فإنه خير له. هذا كله إذا كنت تريد أن تجعل ولدك واحداً في العالمين ، وولياً من الصالحين ، فكيف وأنت لا تريده إلا ليرث بيتك ، أو بستانك ، أو دوابك ، وأمثال ذلك من الأمور الخسيسة الزائلة عما قريب ! وتتركه يرث الفردوس الأعلى في جوار اولاد النبيين والمرسلين ، مبعوثاً مع الآمنين الفرحين ، مربىً إن كان صغيراً في حجر سارة اُم النبيين ، كما وردت به الأخبار عن سيد المرسلين (2) ، ما هذا إلا معدود من السفه لو عقلت !. ولو كان مرادك أن تجعله من العلماء الراسخين والصلحاء المتقين ، وتورثه علمك وكتبك وغيرها من أسباب الخير ، فاذكر ايضاً أن ذلك كله لو تم معك ، فما وعد الله تعالى من العوض على فقده أعظم من مقصدك ، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى. مثل ما رواه الصدوق ، عن الصادق عليه السلام : « ولد واحد يقدمه الرجل ،
1 ـ ليس في نسخة « د » و « ش ». 2 ـ روى الصدوق في الفقيه 3 : 316 / 2 ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الله تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة فإذا كان يوم القيامة البسوا وطيبوا واهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم وهو قول الله عز وجل : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم ).
أفضل من سبعين ولداً يبقون بعده ، يدركون القائم عليه السلام » (1). واعتبر أنه لو قيل : إن رجلاً فقيراً معه ولد عليه خلقان (2) الثياب ، قد أسكنه في خربة مقفرة ذات آفات كثيرة ، وفيها بيوت حيات وعقارب وسباع ضارية ، وهو معه على خطر عظيم ، فاطلع عليه رجل حكيم جليل ، ذو ثروة وحشمة (3) وخدم وقصور عالية ورتب سامية ، فرق لهذا الرجل ولولده ، فأرسل إليه بعض غلمانه : إن سيدي يقول لك : إني قد رحمتك مما بك في هذه الخربة ، وهو خائف عليك وعلى ولدك ( من العاهات ) (4) ، وقد تفضلت عليك بهذا القصر ، ينزل به ولدك ، ويوكل به جارية عظيمة من كرائم جواريه تقوم بخدمته إلى ان تقضي أنت أغراضك التي في نفسك ، ثم إذا قدمت ، وأردت الإقامة أنزلتك معه في القصر ، بل في قصر ، بل في قصر أحسن من قصره. فقال الرجل الفقير : أنا لا أرضى بذلك ، ولا يفارقني ولدي في هذه الخربة ، لا لعدم وثوقي بالرجل الباذل ، ولا زهداً مني في داره وقصره ، ولا لأماني على ولدي في هذه الخربة ، بل طبعي اقتضى ذلك ، وما أريد أن أخالف طبعي. أفما كنت ـ أيها السامع لوصف هذا الرجل ـ تعده من أدنياء السفهاء وأخساء الأغبياء ؟ ! فلا تقع (5) في خلق لا ترضاه لغيرك ، فإن نفسك أعز عليك من غيرك. واعلم ان لسع الافاعي ، وأكل السباع ، وغيرهما من آفات الدنيا لا نسبة لها إلى أقل محنة من محن الآخرة المكتسبة في الدنيا ، بل لا نسبة لها إلى إعراض الحق (6) سبحانه ، وتوبيخه ساعة واحدة في عرصة القيامة ، أو عرضة واحدة على النار مع الخروج منها بسرعة. فما ظنك بتوبيخ يكون ألف عام ، أو أضعافه ، وبنفحة من عذاب جهنم يبقى ألمها ألف عام ، ولسعة من حياتها وعقاربها يبقى ألمها أربعين خريفاً ! وأي نسبة لأعلى قصر في دار الدنيا ، إلى أدنى مسكن في الجنة ! وأي مناسبة بين خلقان الثياب في الدنيا
1 ـ ثواب الأعمال : 233 / 4. 2 ـ خَلُقَ الثوب بالضم : إذا بلي « مجمع البحرين ـ خلق ـ 5 : 158 ». 3 ـ في هامش : « ح » : وحشم. 4 ـ ليس في نسخة « ش » و « د ». 5 ـ في هامش « ح » : فاياك أن تقع. 6 ـ في « ح » : الخالق.
(23)
إلى فاخرها إلى أعلى ما في الدنيا ، بالإضافة إلى سندس الجنة وإستبرقها ، وهلم جرا إلى ما فيها من النعيم المقيم ؟ ! بل لو تأملت بعين بصيرتك في هذا المثل ، وأجلت فيه رؤيتك ، علمت أنّ ذلك الكريم الكبير ، بل جميع العقلاء لا يرضون من ذلك الفقير بمجرد تسليم ولده ورضاه بأخذه ، بل لا بدّ في الحكمه من حمده عليه وشكره عليه وشكره ، وإضهار الثناء عليه بما هو أهله ؛ لأن ذلك هو مقتضى حق النعمة.
الرابع : إن في الجزع بذلك والسخط انحطاطاً عظيماً عن مرتبة الرضى بقضاء الله تعالى ، وفي فوات ذلك خطر وخيم ، وفوات نيل عظيم ، فقد ذم الله تعالى من سخط بقضائه ، وقال : « من لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، فليعبد رباً سواي » (1). وفي كلامه تعالى لموسى عليه السلام حين قال له : دلني على أمر فيه رضاك ، قال : « إنّ رضاي في رضاك بقضائي » (2). وفي القرآن الكريم : ( رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (3). وأوحى الله تعالى إلى داود : « يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم ما أريد أتعبك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد » (4). وقال تعالى : ( لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بمَا آتاكُم ) (5). واعلم أن الرضى بقضاء الله ـ تعالى ـ ثمرة المحبة لله ، إذ من أحب شيئاً رضي بفعله ، ورضى العبد عن الله دليل على رضى الله تعالى عن العبد ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وصاحب هذه المرتبة مع رضى الله تعالى عنه ـ الذي هو أكمل السعادات ، وأجل الكمالات ـ لا يزال مستريحاً ؛ لأنه لم يوجد منه أريد ولا أريد ، كلاهما عنده واحد ، ورضوان الله أكبر ، إن ذلك لمن عزم الاُمور. وسيأتي لذلك بحث آخر أن شاء الله تعالى في باب الرضا (6).
1 ـ جامع الأخبار : 133 ، دعوات الراوندي : 169 / 471 ، الجامع الصغير 2 : 235 / 6010. 2 ـ رواه الراوندي في دعواته : 164 / 453 ، باختلاف يسير. 3 ـ المائدة 5 : 119. 4 ـ رواه الصدوق في التوحيد : 337 / 4. 5 ـ الحديد 57 : 23. 6 ـ يأتي في ص 79
(24)
واعلم أن البكاء لا ينافي الرضى ، ولا يوجب السخط ، وإنما مرجع ذلك إلى القلب ، كما ستعرفه ـ إن شاء الله تعالى ـ ومن ثم بكاء الأنبياء والأئمة عليهم السلام على أبنائهم وأحبائهم ، فإن ذلك أمر طبيعي للإنسان ، لا حرج فيه إذا لم يقترن بالسخط ، وسيأتي.
الخامس : أن ينظر صاحب المصيبة إلى أنه في دار قد طبعت على الكدر والعناء ، وجبلت على المصائب والبلاء ، فما يقع فيها من ذلك هو مقتضى جبلتها وموجب طبيعتها ، وإن وقع خلاف ذلك فهو على خلاف العادة لأمر آخر ، خصوصاً على الأكابر والنبلاء من الأنبياء والأوصياء والأولياء ، فقد نزل بهم من الشدائد والأهوال ما يعجز عن حمله الجبال ، كما هو معلوم في المصنفات ، التي لو ذكر بعضها لبلغ مجلدات. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : « أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالامثل » (1). وقال النبي صلى الله عليه وآله : « الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر » (2). وقد قيل : إن الدنيا ليس فيها لذة على الحقيقة ، إنما لذاتها راحة من مؤلم ، هذا وأحسن لذاتها ، وأبهى بهجاتها مباشرة النساء ، المترتب عليه حصول الأبناء ، كم يعقبه من قذى (3) ، أقله ضعف القوى وتعب الكسب والعناء. ومتى حصل محبوب كانت آلامه تربو على لذاته ، والسرور به لا يبلغ معشار حسراته ، وأقل آفاته في الحقيقة الفراق الذي ينكث (4) الفؤاد ، ويذيب (5) الأجساد. فكلما تظن في الدنيا أنه شراب سراب ، وعمارتها ـ وإن حسنت ـ إلى
1 ـ رواه الكليني في الكافي 2 : 196 / 2 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1334 / 4023 ، والترمذي في سننه 4 : 28 / 2509 ، وأحمد في مسنده 1 : 172 ، 180 ، 185 ، والدارمي في سننه 2 : 320 ، والحاكم النيسابوري في مستدركه 1 : 41 و 4 : 307 ، باختلاف يسير. 2 ـ رواه الصدوق في الفقيه 4 : 262 ، والطوسي في أماليه 2 : 142 ، ومحمد بن همام في التمحيص : 48 : 76 ، ومسلم في صحيحه 4 : 2272 / 2956 ، وأحمد في مسنده 2 : 323 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1378 / 4113. 3 ـ القذى : ما يقع في العين والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك « مجمع البحرين ـ قذى ـ 1 : 335 ». 4 ـ ينكث : من النكث وهو النقض والهدم والهزال « القاموس المحيط ـ نكث ـ 1 : 176 ». 5 ـ في « ح » : ويذهب.
خراب ، ومالها ـ وإن اغتر بها الجاهل ـ إلى ذهاب ، ومن خاض الماء الغمر (1) لا يجزع من بلل ، كما أن من دخل بين الصفين لايخلوه من وجل ، ومن العجب من أدخل يده في فم الأفاعي كيف ينكر اللسع ، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع ! وما أحسن قول بعض الفضلاء (2) في مرثية ابنه :
طبعت على كدر وأنت تريدهاومكلف الأيام ضد طباعهاوإذا رجوت المستحيل فإنما
صفواً من الأقذاء والأكدارمتطلب في الماء جذوة نارتبني البناء على شفيرٍ هار
وقال بعض العارفين : ينبغي لمن نزلت له مصيبة أن يسهلها على نفسه ، ولا يغفل عن تذكّر ما يعقبه من وجوب الفناء وتقتضي المسار ، وأن الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، يجمعها من لا عقل له ، ويسعى لها من لا ثقة له ، وفيها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، من صح فيها سقم ، ومن سقم فيها برم ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن استغنى فيها فتن. واعلم أنك قد خلقت في هذه الدار لغرض خاص ؛ لأن الله تعالى منزه عن العبث. وقد قال الله تعالى : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) (3) وقد جعلها مكتسبا لدار القرار ، وجعل بضاعتها الأعمال الصالحة ، ووقتها العمر ، وهو قصير جداً بالنظر إلى ما يطلب من السعادة الأبدية ، التي لا انقضاء لها. فإن اشتغلت بها ، واستيقظت استيقاظ الرجال ، واهتممت بشأنك اهتمام الأبدال ، رجوت أن تنال نصيبك منها ، فلا تضيع عمرك في الإهتمام بغير ما خلقت له ، يضيع وقتك ، ويذهب عمرك بلا فائدة ؛ فان الغائب لا يعود والميت لا يرجع ، وتفوتك
1 ـ الغمر : بفتح الغين وسكون الميم : الكثير. 2 ـ هو علي بن محمد بن نهد التهامي ، أبو الحسن ، شاعر مشهور من أهل تهامة ، زار الشام والعراق ، وولي خطابة الرملة ، ثم رحل إلى مصر ، متخفيا ، فعلمت به حكومة مصر ، فاعتقل وحبس في دار البنود ، ثم قتل سراً في سجنه سنة 416 هـ ، قال ابن خلكان : له مرثية في ولده وكان قد مات صغيراً ، وهي في غاية الحسن. ويقال : إن بعض أصحابه رآه في النوم بعد موته. فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقال : بأي الاعمال ؟ فقال : بقولي في مرثية ولدي الصغير :
السعادة التي خلقت لها. فيالها حسرة لا تفنى ، وغبن لا يزول ، إذا عاينت درجات السابقين ، وأبصرت منازل المقربين ، وأنت مقصر من الأعمال الصالحة ، خلي من المتاجر الرابحة ! فقس ذلك الالم على هذه الآلام ، وادفع أصعبهما عليك وأضرهما لك ، مع أنك تقدر على دفع سبب هذا ، ولا تقدر على دفع سبب ذاك. كما قال علي عليه السلام : « إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت مأجور ، وأن جزعت (1) جرى عليك القضاء وأنت مأزور (2) ، فاغتنم شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، واجعل الموت نصب عينك ، واستعد له بصالح العمل ، ودع الإشتغال بغيرك ، فإن الموت يأتي إليك دونه ». وتأمل قوله تعالى : ( وان ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى ) (3) فقصر أملك ، وأصلح (4) عملك ، فإن السبب الأكثري الموجب للإهتمام بالاموال والأولاد طول الأمل. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله لبعض أصحابه : « إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء ، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح ، وخذ من حياتك لموتك ، ومن صحتك لسقمك ، فإنك لا تدري ما اسمك غداً » (5). وقال علي عليه السلام : « إنّ أشدّ ما أخاف عليكم خصلتان : إتّباع الهوى ، وطول الأمل ؛ فأمّا اتّباع الهوى فإنّه يعدل عن الحق ، وأمّا طول الأمل فإنه يورث الحبّ للدنيا » (6) ثم قال : « ألا إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ويبغض ، وإذا أحب عبداً أعطاه الإيمان ، ألا إن للدين أبناء ، وللدنيا أبناءً ، فكونوا من أبناء الدين ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، ألا إن الدنيا قد أرتحلت مولية ، ألا إن الآخرة قد أرتحلت مقبلة ، إلا وإنكم في
1 ـ في « ح » : لم تصبر. 2 ـ ورد في نهج البلاغة 3 : 224 / 291. 3 ـ النجم 53 : 39 و 40. 4 ـ في هامش « ح » : وأحسن. 5 ـ رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر 1 : 271 ، والشيخ الطوسي في أماليه 2 : 139 ، والديلمي في إرشاد القلوب : 18 ، وزكي الدين في الترغيب والترهيب 4 : 243 / 17. باختلاف يسير. 6 ـ ورد في نهج البلاغة 1 : 88 / 41 ، ورواه الديلمي عن النبي صلى الله عليه وآله في إرشاد القلوب : 21 باختلاف يسير.
يوم عمل ليس فيه حساب ، ألا وإنكم توشكون في يوم حساب ليس فيه عمل » (1). واعلم ان محبوبا يفارقك ، وتبقى على نفسك حسرته وألمه ، وفي حال إصاله (2) كدك وكدحك وجدك واجتهادك ، ومع ذلك لا يخلو زمانك معه من تنغيص (3) به أو عليه ، لأجل أن تتسلى عنه ، وتطلب لنفسك محبوباً غيره ، وتجتهد في أن يكون موصوفاً بحسن الصحة ، ودوام الملازمة ، وزيادة الأنس ، وتمام المنفعة. فإن ظفرت به فذلك هو الذي ينبغي أن يكون بغيتك التي تحفظها ، وتهتم بها ، وتنفق وقتك عليها ، وهو غاية كل محبة ، ومنتهى كل مقصد ، وما ذاك إلا الإشتغال بالله ، وصرف الهمة إليه ، وتفويض ما خرج عن ذلك إليه ، فإن ذلك دليل على حب الله تعالى ، يحبهم ويحبونه والذين آمنوا أشد حباً لله. وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحب لله من شرط الإيمان ، فقال : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما » (4). ولا يتحقق الحب في القلب ( أحدكم لأحد) (5) مع كراهته لفعله وسخطه به ، بل مع عدم رضاه على وجه الحقيقة ، لا على وجه التكلّف والتعنت. وفي أخبار داود عليه السلام : « يا داود ، أبلغ أهل أرضي : اني حبيب من أحبني ، وجليس من جالسني ، ومؤنس لمن أنس بذكري ، وصاحب لمن صاحبني ، ومختار لمن اختارني ، ومطيع لمن أطاعني. ما أحبني أحد (6) أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي ، ( وأحببته حباً ) (7) لا يتقدمه أحد من خلقي ، من طلبني بالحق وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني. فارفضوا ـ يا أهل الأرض ـ ما أنتم عليه في غرورها ، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي ، وأنسوا بي اُؤانسكم ، واُسارع إلى محبتكم » (8).
1 ـ رواه الديلمي عن النبي صلى الله عليه وآله في إرشاد القلوب : 21 باختلاف في ألفاظه. 2 ـ في نسخة « ش » : اتصاله. 3 ـ التنغيض : التكدير ، يقال نغص عليه العيش تنغيصاً. كدره. « مجمع البحرين ـ نغض ـ 4 : 186 ». 4 ـ أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8 : 4 ، ورواه ـ باختلاف يسير ـ أحمد في مسنده 3 : 172 و248 ، النسائي في سننه 8 : 95 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1338 / 4033. 5 ـ في نسخة « ش » : أحد. 6 ـ في نسخة « ش » : عبد. 7 ـ في « ح » : وأحييته حياة. 8 ـ أخرجه المجلسي في البحار 70 : 26 / 28 ، والحر العاملي في الجواهر السنية : 94 عن مسكن الفؤاد.
وأوحى الله تعالى إلى بعض الصديقين : « إن لي عباداً من عبادي ، يحبوني واُحبهم ، ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، فإن أخذت طريقتهم وأحببتك ، وإن عدلت عنهم مقتك. فقال : يارب وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار ، كما يراعي [ الراعي ] (1) الشفيق غنمه ، ويحنون إلى غروب الشمس ، كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب ، فإذا جنهم الليل ، وأختلط الظلام ، وفرشت الفرش ، ونصبت الأسرة ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، ونصبوا إلي أقدامهم ، وافترشوا لي وجوههم ، وناجوني بكلامي ، وتملقوني بإنعامي ، ما بين (2) صارخ وباك ، وما بين متأوه وشاك ، وبين قائم وقاعد ، وبين راكع وساجد ، بعيني ما يتحملون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبي ، اقل (3) ما أعطيهم ثلاثاً : الاول : أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني ، كما اُخبر عنهم. والثاني : لو كانت السماوات والأرضون (4) وما فيهما في موازينهم ، لا ستقللتها لهم. والثالث : أقبل بوجهي عليهم ، أفترى من أقبلت بوجهي عليه ، يعلم أحد ما أريد أن أعطيه » (5). وها هنا نقطع الكلام في المقدمة ، ونشرع في الأبواب :
1 ـ أثبتناه من المحجة البيضاء. 2 ـ في نسخة « ش » : فبين. 3 ـ في نسخة « ش » أول. 4 ـ في نسخة « ش » : والأرض. 5 ـ أخرجه المجلسي في بحار الأنوار 70 : 26 / 28 ، عن مسكن الفؤاد ، وأخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8 : 58.
إعلم أن الله ـ سبحانه ـ عدل ( كريم ، وأنه ) (1) غني مطلق ، لا يليق بكمال ذاته وجميل صفاته ، أن يُنزل بعبده المؤمن في دار الدنيا شيئاً من البلاء وإن قل ، ثم لا يعوضه عنه ما يزيد عليه ، إذ لو لم يعطه شيئاً ( بالكلية كان له ظالماً ) (2) ، ولو عوضه بقدرة كان عابثاً ، تعالى الله عنهما علواً كبيراً. وقد تظافرت بذلك الأخبار النبوية ، ومنها : « إن المؤمن لو يعلم ( ما أعد الله له ) (3) على البلاء ، لتمنى أنه في دار الدنيا قرض بالمقاريض » (4). ولنقتصر منها على ما يختص بما نحن فيه ، فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزيد من ثلاثين صحابياً. وروى الصدوق ـ رحمه الله ـ بإسناده إلى عمرو بن عبسة (5) السلمي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « أيما رجل قدم ثلاثة أولاد ، لم يبلغوا الحنث ، أو امرأة قدمت ثلاثة أولاد ، فهم حجاب يسترونه عن (6) النار » (7). وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : ما من مسلمين يقدمان عليهما ثلاثة أولاد ، لم يبلغوا الحنث ، إلا أدخلهما (8) الله الجنة بفضل رحمته (9).
1 ـ في نسخة « ش » : حكيم. 2 ـ في نسخة « ش » : كان ظالماً. 3 ـ في نسخة « ش » ما اعده الله تعالى له. 4 ـ رواه الكليني في الكافي 2 : 198 / 15 ، والحسين بن سعيد في كتاب المؤمن : 15 / 3 ، والشيخ ورام في تنبيه الخواطر 2 : 204 ، ومحمد بن همام في التمحيص : 32 / 13 باختلاف في الفاظه. 5 ـ في « ح » : عمر بن عتبة ، وفي نسخة « ش » : عمر بن عنبسة ، والصواب ما أثبتناه من ثواب الأعمال ، اُنظر « اُسد الغابة 4 : 120 ، تهذيب التهذيب 4 : 369 ». 6 ـ في نسخة « ش » وثواب الأعمال : من. 7 ـ ثواب الأعمال 233 / 2. 8 ـ في ثواب الأعمال أدخلهم. 9 ـ ثواب الأعمال 233 / 3.
الحنث بكسر الحاء المهملة ، وآخره ثاء مثلثة : الإثم ، والذنب ، والمعنى : أنهم لم يبلغوا السن الذي يكتب عليهم فيه الذنوب والآثام ، قال الخليل : بلغ الغلام الحنث ، أي : جرى عليه القلم (1). وبإسناده إلى جابر ، عن أبي جعفر بن محمد بن علي الباقر عليهما السلام ، قال : « من قدم أولاداً يحتسبهم عند الله تعالى ، حجبوه من النار بإذن الله عز وجل » (2). وبإسناده إلى علي بن ميسرة (3) عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : « ولد واحد يقدمه الرجل أفضل من سبعين ، يخلفونه (4) من بعده ، كلهم قد ركب الخيل ، وقاتل في سبيل الله » (5). وعنه عليه السلام : « ثواب المؤمن من ولده (6) الجنة ، صبر أو لم يصبر » (7). وعنه عليه السلام : « من اُصيب بمصيبة ، جزع عليها أو لم يجزع ، صبر عليها أو لم يصبر ، كان ثوابه من الله الجنة » (8). وعنه عليه السلام : « ولد واحد يقدمه الرجل أفضل من سبعين ولداً ، يبقون بعده ، يدركون القائم عليه السلام » (9). وروى الترمذي بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله ، أنه قال : « مانزل » (10).
1 ـ العين 3 : 206. 2 ـ رواه الصدوق في الفقيه 1 : 119 / 574 ، وثواب الأعمال : 233 / 1 ، والأمالي : 434 / 6 ، والكليني في الكافي 3 : 220 / 10. 3 ـ في « ش » : علي بن ميسر عن أبيه ، وما أثبتناه من البحار ، وهو علي بن ميسرة بن عبد الله النخعي ، مولاهم ، كوفي ، هو وأبوه من أصحاب الصادق عليه السلام ، اُنظر « رجال الشيخ : 242 / 310 ، معجم رجال الحديث 12 : 207 / 8545 ». 4 ـ في « ح » : يخلفهم. 5 ـ رواه الصدوق مرسلاً في الفقيه 1 : 112 / 519 باختلاف في الفاظه ، ورواه الكليني باسناده إلى أبي إسماعيل السراج في الكافي 3 : 218 / 1 ، ورواه سبط الطبرسي في مشكاة الأنوار : 23 مرسلاً. وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 116 / 8 عن مسكن الفؤاد. 6 ـ في الفقيه والكافي زيادة : اذا مات. 7 ـ رواه الصدوق في الفقيه : 1 : 112 / 518 ، والكليني في الكافي 3 : 219 / 8 ، والبحار 82 : 116 / 8 عن مسكن الفؤاد. 8 ـ الفقيه 1 : 111 / 517 ، والبحار 82 : 116 / 8. 9 ـ ثواب الأعمال : 233 / 4. 10 ـ في المصدر : ما يزال.