(75)
    أقول : بديهي أنه إذا لم يكن نوم تستريح وتستجم به الأعضاء قواها لم يمكنها أداء وظائفها كما يرام فيضعف البدن وتسقط قواه ولكن النوم يريحه والروح التي تريد إبداء مافي النفس من مآب وما في القلب من خاطرات وما في الفكر من نتائج فلابد لها من نطق تستريح به في إبداء كلما تريد وتطلب ، أما السكوت فهو إجمام العقل وراحته لينظر إلى عواقب الامور ويرمق الحوادث عن كثب فيقيس ويستنتج ويحكم باعتدال .
    وقال «ع» : ليس فيما أصلح البدن إسراف ، إنما الإسراف فيما أتلف المال وأضر البدن (1) .
    وقال «ع» : الدواء اربعة : الحجامة والطلاء والقي والحقنة(2) .
    أقول : يعتقد القدماء من الأطباء أن أكثر الأمراض تحصل من فساد الأخلاط وبعبارة أخرى إذا كثفت المايعات داخل البدن ، ويقولون أيضاً أن جميع مايعات البدن تتولد من الدم ، فاذا كان الدم صافياً نقيا سليماً كانت المايعات سالمة فيكون البدن صحيحاً وإلا فيمرض ، إذن فيجب أن يصفى الدم إذا كثف لكيلا تكون كثافته سبباً لعروض الجراثيم المرضية عليها فتتولد الامراض
    وقد إتخذوا لتصفية الدم وسائل مختلفة من جملتها الحجامة التي هي اليوم مورد الخلاف لدى أطباء هذا العصر إذ يعتبر الدم مادة الحياة وليس من الصحيح للمريض المنهك القوى أن ينقص من دمه الذي هو القوة والحياة ، ونقول أن هذه الملحوظة مقبولة معقولة في جميع الأمراض التي يصاحبها فقر الدم أو التي تنشاء عن فقر الدم ، اما في غير هذه الأمراض ولدى الأشخاص كثيري الدم أو كثيفي الدم أو ما أشبههم فان الحجامة لهم من أفيد العلاجات وهكذا إذا ملئت المعدة بالطعام الزائد أو المواد الكثيفة فان أحسن علاج لها هو القيء لإخراجه من الفم أو الحقنة لإخراجه من

(1) الفصول المهمة .
(2) نفس المصدر .

( 76 )
الاسفل أما إذا كانت أوجاع البدن تحت الجلد من غازات منتشرة أو مواد فاسدة فانه يعالج بالطلاء الموضعى من أدهان وأمثالها لأن تأثيرها أقرب وأسرع لذلك
    قال «ع» الدواء أربعة كما فصلناه .
    وقال «ع» : لاتدخل الحمام إلا وفي جوفك شيء يطفيء عنك وهج المعدة وهو أقوى للبدن ، ولا تدخل وأنت ممتليء من الطعام (1) .
    أقول : يقال أن حرارة الجوف تشتد إذا حمى البدن في الحمام وعند ذلك تهيج المعدة فان كانت خالية ضعفت لخلوها كما أن ذلك يضر بها إذ كانت ممتلئة كثيراُ لذلك فقد أمر الإمام «ع» أن يكون مافي المعدة معتدلاً ليقوى البدن .
    وقال عليه السلام : الاستلقاء بعد الشبع يسمن البدن ويمريء الطعام ويسل الداء (2) .
    أقول : ذلك لأن الأعضاء إذا إستراحت وهدأت بعد الطعام عملت بوظيفتها على مايرام فهضم الطعام كاملاً واستخرج منه الغذاء الجيد الوافي والدم الصالح ثم وزع على البدن وبالمداومة يسمن البدن ويقوى وإذا قوى كافح الداء واستله من البدن .
    قال ((ع)) وقيل عن الرضا«ع» لاتقربوا النساء من أول الليل صيفاً أوشتاء ، وذلك لأن المعدة والعروق تكون ممتلية ، وهو غير محمود إذ يتولد منه القولنج والفالج واللقوة والنقرس والحصاة أو تقطير البول أو الفتق أو ضعف البصر فان أردت ذلك فليكن في آخر الليل فانه أصح للبدن وأرخى للولد وأذكى للعقل في الولد . ولا تجامع إمرأة حتى تلاعبها وتكثر مداعبتها وتغمز ثديها ، فانك إذا فعلت ذلك غلبت شهوتها واجتمع ماؤها لأن ماءها يخرج من ثديها والشهوة تظهر في وجهها وعينيها ، ثم اشتهت منك مثل الذي تشتهيه منها ، ولا تجامع إمرأة إلا وهي طاهرة

(1) الفصول المهمة .
(2) بحار الأنوار .

( 77 )
فاذا فعلت ذلك فلا تقم قائما ولا تجلس جالساً ولكن تميل على يمينك ، ثم إنهض للبول إذا فرغت من ساعتك فانك تأمن من الحصاة ، ثم إغتسل (1).
    أقول : إن تهيأة المرأة بهذه الطريقة التي أرشدنا إليها الامام «ع» لهي التي تحفظ حياة الطرفين لا سيما نفس المرأة . وإن عدم رعاية هذا الإرشاد أو أن يفعل كما يفعل البعض من المنع بواسطة أوبغير واسطة لمما يحدث بعض العوارض المنهكة كالحريق والحكة في المجرى ، ذلك لأن المني إذا خرج من محله ثم منع من الوصول إلى محله الآخر من المرأة بقي منها مواد وأجزاء متخلفة في المجرى فيتكون منها الحصاة ، مضافاً إلى أن شهوة المرأة لا تطفى تماماً بهذا العمل غير الطبيعي إذ لم تكتمل المقاربة فيحدث من ذلك الهستريا بأنواعها .
    وقال «ع» : إن للدم وهيجانه ثلاث علامات : البثرة في الجسد والحكة في الجلد ودبيب الدواب ( وما يتخيله الانسان كدبيب النمل في بدنه ) (2) .
    وقال «ع» : الحمى تخرج في ثلاث : في العرق ، والبطن ، والقيء .
    أقول الحمى هي إفراط الحرارة الغريزية والصحة إعتدالها والضعف قلتها والموت إنعدامها . وهذه الحرارة هي الخادمة الطبيعية للبدن وهي التي توجد فيه النشاط والقوة والحركة ، لاكنها اذا صادفت مواد سامة او اجزاء معدنية فجة منتشرة في البدن أو جامدة في زاوية من زواياه ( سدة ) فإنها تشتد وتفرط لغرض اذابة تلك المواد ودفعها اصلاحا للبدن فتكون على هذا الحمى ، وعليه فلا بد من إعانة هذه الخادمة على عملها الاصلاحي بما أمر به «ع» وأرشدنا إليه وذلك بالتعريق أو إسهال البطن أوالقيء فان كلاً من هذه الثلاثة تعين على تلك السمومات .
    وقال «ع» : خير ما تداويتم به الحجامة والطلي والحمام والحقنة .

(1) البحار وغيره .
(2) أيضاً البحار ج 14 .

( 78 )

    أقول : قد مر تفصيل ذلك فلا حاجة للتكرار .
    وقال عليه السلام : إغسلوا أيديكم قبل الطعام وبعده فانه ينفي الفقر ويزيد في العمر .
    أقول : بهذا أمر الامام الصادق «ع» أصحابه وتابعيه ، وحثهم على العمل به مشوقاً إياهم بقوله : إنه ينفي الفقر ويزيد في العمر ، وأنت جد خبير بأن نفي الفقر وأطالة العمر هما من نتاج الصحة الحاصلة من غسل اليدين قبل الطعام وبعده . وقد أثبت الطب وحكمت التجارب العلمية والعملية الكثيرة أن عدم غسلها مماتوجب الامراض المختلفة التي قد ينتهي بعضها بالموت أو الفقر المحتم ، فان اليد الملوثة بجراثيم الامراض بواسطة لمس الاجسام الخارجية إذا مالمسنا بها الطعام ولم نغسلها ثم أكلناه ملوثاً إنتقل الميكروب إلى الفم ومنه إلى المعدة ومنها إلى الكبد والقلب ثم سار في انحاء البدن . ومن البديهي أن الميكروب يفتك اين ما وجد مجالاً للفتك أو محلاً مستعداً لقبول نموه وتفريخه وبالأخير الفتك به والاضرار بجميع البدن ، فاذا مرض الانسان بواسطة هذا الميكروب المنتقل ألى البدن بواسطة اليد الملوثة فانه سوف يخسر ماله بالمداواة وعمره باستفحال ذلك المرض ، أما إذا إلتزم بغسل اليدين ولم يجعل مجالاً لدخول الميكروبات إلى جسمه إكتسب الصحة ولم يخسر ماله فينفي عنه الفقر ولا عمره إذ تطول حياته وهذا هو المقصود من قول الإمام «ع» أنه ينفي الفقر ويزيد في العمر .
    وإني إنما شرحت هذه الكلمات ولو على وجه الاجمال لأبين لك أن الإمام عليه السلام كان يجمل في القول ويشير في أكثر كلمه القيمة إلى أفيد الخواص وأنفع ما يمكن أن يدركه السامع ، وكأنه كان يلاحظ على الدوام حال المستمع وقابلية السامع وينظر إلى القول المشهور : كلم الناس على قدر عقولهم ـ حرصاً على الفائدة وطلباً للنفع العام ، على أن كلامه كان بعيد المرمى عظيم المغزى يدركه كل عقل على حسب تقدمه وتدرجه . لذلك ترى في هذا العصر قد إكتمل العقل ، أخذ
( 79 )
يدرك منه ما لم تكن تدركه تلك العقول الماضية ، وهذا وأيم الله هو الكلام الملهم والعلم السماوي الذي علمهم إياه جدهم النبي الامين صلى الله عليه وآله عن جبرائيل عن الله جل جلاله .
    وماأبلغ قول القائل :
وتابع أناساً قولهـم وحديثهم روى جدنا عن جبرئيل عن الباري


الصادق عليه السلام والطب الروحي

    كما أن الأجسام تمرض فتفقد صحتها إلى العلاج بما يعدل إنحرافها ويعيد إليها الصحة المفقودة . كذلك الأرواح والنفوس ، فإنها تمرض بانحرافها إلى الرذائل والصفات الذميمة ،فتحتاج عند ذلك إلى العلاج بما يقوم أودها ليرجعها سيرتها الاولى من صحة الاتصاف بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة
    وبعبارة أوضح أن الأرواح والنفوس إذا تغلبت عليها الرذائل من الصفات وتسيطر عليها الشهوات الحيوانية والعواطف الدنيئة إنحرفت صحتها وفقدت رونقها الروحي وميزتها النفسية التي بها إمتازت عن الجسمية الكثيفة ، وعدمت شفافيتها ولطافتها التي كانت عليها حال صحتها يوم كانت سليمة .
    ولقد عالج الفلاسفة تلك الأدواء النفسية والاسقام الروحية بأنواع العلاجات منذ العصور الغابرة حتى اليوم ، ووضع علماء النفس وأساتذة التربية أحكم القوانين وأتقن النظم والقواعد لاصلاحها فلم يفلحوا ، إذ لم يجدوا لها


( 80 )
علاجاً حاسماً ولم يعثروا على دواء ناجع سوى الدين السماوي الذي هبط على الانبياء والرسل ليرفع هذه الأنسانية من حضيض الرذائل والجهل الى مرتفع الفضائل والعرفان والذي جاء لاسعاد هذا الخلق كيما يعيشوا بسلام وهناء ، ولينبلج في الأرض صبح الرشاد ، فتزهو مخضرة الجوانب برياض النعيم مادام الناس يعملون بقوانينه ويتبعون سبل تعاليمه وإرشاداته . فما من طبيب أدرى بأدواء النفوس من باريء النفوس ولا حكيم أخبر بأسقام الأرواح كالدين المرسل من الحكيم ، ولا عالم أعرف بطرق علاجها وأسباب شفائها كالشارع المقدس .
    إذن فللدين أثره الفعال في تطبيبها ، وإن له لمعاجز باهرة في إصلاحها تفوق معاجز الطب الفنية في مداواة الأجسام .
    فما أشبه الدين بالسحر ، لولا أن الدين خير كله والسحر شر كله ، وما أشبه مبلغيه ينطس الاطباء الذين عرفوا الداء والدواء فأرجعوا الأمزجة المنحرفة إلى صحتها وإعتدالها ، لولا أن الأطباء قد يخطئون والأنبياء لا يخطئون .
    وقد جاء الدين الاسلامي الحنيف بالأخلاق الفاضلة حفظاً لصحة النفوس البشرية وأمر متبعيه بالعمل عليها وقاية لأرواحهم من شرورها . كما أن النبوة الكبرى قد تكلفت بصلاح البشر وإصلاحه من ناحيتي الروح والجسد فكانت فيها حياته وسعادته وتقدمه ورقيه في عالمي الدنيا والآخرة .
    قال تعالى : إستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ليحييكم .
    وقال جل جلاله : من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة .
    وقال تعالى : قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور .
    وقال تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين .
    هذا وقد بعث النبي الأمين صلى الله عليه وآله وهو ينادي : إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق . فعاش طيلة حياته (ص) الشريفة وهو يبذر تعاليمه الحكيمة ويغرس
( 81 )
مكارم الاخلاق الاسلامية الفاضلة في نفوس الأمة ، وينير لها الطريق إلى الحياة السعيدة روحاً وجسماً حتى رفعه الله تعالى إليه ، فلم يهمل هذة الناس سدى بل خلف فيهم الثقلين : كتاب الله وعترته ، فكان القرآن المجيد كتاب الله الصامت والعترة النبوية كتابه الناطق الذي يوضح للناس ماخفي عليهم من تعاليمه الأصلاحية ويرشدهم بتوضيحه إلى مالم يدركه سواهم من الكنوز القرآنية الخفية
    فكانوا هم الأدلاء على الخير والهدى والمرشدين إلى طريق الحياة الحقة ، كما كانوا هم أطباء النفوس بكل ماتحتاج من العلاجات الروحية والمداواة النفسية لذلك ترى كل إمام من أولئك العترة الطاهرة كان يعالج بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدواء أهل عصره بنوع من العلاج الروحي يوافق عقولهم ويلائم مداركهم ، كطبيب يوصي مرضاه بكل عطف وحنان ورأفة حتى يوصلهم إلى ساحل الصحة والهناء .
    ولما كان عصر الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عصراً مليئاً بالأهواء المتعاكسة والآراء المختلفة والأخلاق المتفاوتة والمذاهب المتشعبة عصراً تفسخت فيه الأخلاق الاسلامية وتسممت فيه النفوس وانحرفت صحة الأرواح . كان الامام «ع» يرى نفسه بطبيعة الحال وحسب وظيفته السماوية هو الطبيب المسؤول أمام الدين عن صحتها والمتكفل بعلاجها .
    وكيف لا يرى نفسه كذلك وهو كتاب الله الناطق الذي قال النبي (ص) فيه وفي آبائه وفي القرآن : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً .
    نعم كان «ع» يرى نفسه هو المسؤول الأول عن علاج هذه الامة ومداواة أمراضها الروحية التي إنتابت نفوسها بطغيان الرذائل على الفضائل فكان «ع» يطبها بأنواع من أقواله الحكيمة ومختلف إرشاداته القيمة وتعاليمه الشافية ، حسب مداركهم وشعورهم . شأن الفيلسوف المداري والطبيب المداوي .
    وإليك نموذجاً من طبه الروحي ومعالجته النفسية التي أراد بها شفاء النفوس
( 82 )
من أسقامها الفتاكة بالفرد والمجتمع ، مكتفين بالقليل لعدم إتساع هذا الجزء لكل ما ورد عنه «ع» في هذا الباب ، فنقول :
[[ 1ـ الغضب ]]

    الغضب حالة في النفس تثيرها أمور منتظرة أوغير منتظرة فتخرج العقل عن إستقامته وتصد الغضوب عن رشده وصوابه ، وتفقده سلطانه على فكره وإدراكه فيختل مزاج الذهن ، وتتهيأ الأعضاء فيها للفتك والانتقام ، ذلك لأن الدم يثور فيها فيسرع إلى القلب ثم ينتشر منه في العروق ويرتفع الى أعالي الرأس فيحمر الوجه وتنتفخ الودجان ثم يجيش في الصدر فيعبس الوجه وتنكمش الشفتان عن الأسنان وهناك تتأهب الأعضاء بسبب هذا الثوران في الدم للفتك والانتقام وقد قيل فيه :

ولم أر في الأعداء حين إختبرتهم عدواً لعقل المرء أعدى من الغضب

    وأهم أسبابه الوراثة والامراض . أما الأسباب المهيئة له فكثيرة ، منها المزاج العصي والتسممات الحادثة من المآكل الحادة والمشروبات الروحية ، كما أن للمحيط والبيئة والتربية الأثر البليغ في أحداث الغضب وشدة وطأته .
    قال بعضهم : إن الأسباب المهيجة للغضب الزهو والعجب والمزاح والهزء والممارت والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه ، وهي باجمعها أخلاق رديئة مذمومة . ولاخلاص منه مع بقاء هذه الاسباب إلا بازالتها إلى أضدادها
    وللغضب عواقب كثيرة من الأمراض التي لا يستهان بها كالاصابة بالسل الرئوي وسوء الهضم وإلتهاب الأعصاب والنزيف الدموية بأنواعه ، وقيل ان الغضوب قد يصاب بحالة شبيهة بداء الكلب بحيث إذا عض أحداً أدى إلى موته وهذا مما يدل على أن في ريق الغضبان سماً زعافاً لا يؤثر على صاحبه فقط بل يؤثر على من يقع عليه .
    فالغضب داء روحي ومرض خطير يضر بصاحبه أولاً وكثيراً ما يتعداه

( 83 )
إلى غيره ويوقع صاحبه في إرتكاب الجرائم من غير وعي أو إدراك .
    وكم عالج الحكماء والفلاسفة والاطباء والعلماء هذا الداء بأنواع العلاجات رجاء شفائه فلم يفلحوا ولكن الدين الإسلامي الحكيم قد عالجه باخف العلاجات وأنجعها وصده صداً بمختلف الواقيات كما في الحديث الشريف قوله (ص) :
    إذا وجد أحدكم من ذلك ( الغضب ) سيئاً فان كان قائماً فليجلس أو جالساً فليقم ، فان لم يزل بذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فان النار لا يطفيها إلا الماء (1) .
    وقال الإمام الصادق «ع» : الغضب مفتاح كل شر (2) .
    وقال «ع» : الغضب ممحقة لقلب الحكيم (3) .
    وقال «ع» : من لم يملك غضبه لم يملك عقله (4) .
    وقال «ع» : إذا لم تكن حليماً فتحلم . وفي حديث آخر : كفى بالحلم ناصراً (5) .
    وقال «ع» : من ظهر غضبه ظهر كيده ، ومن قوي هواه ضعف حزمه (6) .

[[ 2ـ الكذب ]]

    الكذب إنحراف النفس عن صحة الصدق والتواء الروح عن أداء وأجبها الانساني وهو مرض فردي وأجتماعي خطير إذ يحدث في صاحبه الكثير من أعراض الرذائل كالغش والنفاق والمداهنة والغدر والخيانة والرياء وخلف الوعد ونقض العهد مما كان الصدق واقياً منها وحافظاً للنفس من الوقوع فيها . على أن الكذب هو نفسه لا يليق بالانسان معتدل المزاج أن يتصف به فيكون عضوا فاسداً في مجتمعه ، يهلك نفسه ويعدي الآخرين فيمرض بمرضه .

(1) البحار وكشف الاخطار .
(2، 3 ، 4 ، 5) الكافي .
(6) البحار ج 14 .

( 84 )
    وقد قال الامام «ع» فيه : لاداء أدوى من الكذب (1) .
    وقال «ع» : من كثر كذبه ذهب بهاؤه (2) .
    وقال «ع» : من صدق لسانه زكا عمله (3) .
    وقال «ع» : إن الله خلق للشر أقفالاً ومفاتيح تلك الاقفال الشراب والكذب شر من الشراب (4) .
    وقال «ع» : إياك وصحبة الكذاب ، فان الكذاب يريد أن ينفعك فيضرك ويقرب لك البعيد ، ويبعد لك القريب (5) .

[[ 3ـ الحسد ]]

    الحسد كراهة نعمة الآخرين وحب زوالها ، وإن الحاسد لم يزل يتطلع إلى نعم الله جل جلاله على عباده فلا يهنأ له حال . وما ألطف ما وصف الحساد أبو الحسن التهامي بقوله :

إني لأرحـم حاسـدي لشر ما نظروا صنيع الله بي فعـيونهم ضمـت صدورهم من الاوغار في جنـة وقلوبهم فـي نـار


    وهو داء في النفس أشد من داء البخل ، لأن البخيل يضن بماله على غيره أما الحسود فانه يضن بمال الله ونعمه على عباده ، ويتألم من وصولها إلى غيره فهو العدو بلا سبب وطالب زوال النعمة عن غيره وإن لم تصل إليه ، ولقد قال رسول الله (ص) : إن لنعم الله أعداء ، قيل له ومن هم يا رسول الله ؟ قال (ص) :

(1) الحلية ج 7.
(2) الوسائل .
(3) الكافي .
(4) جامع السعادات .
(5) كتاب العترة .

( 85 )
الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله .
    وهذا الداء النفساني لم يحدث إلا عن خبث في الروح وإنطراء النفس على الشر فاذا ما تمكن من إمريء أفسد أخلاقه ، وساقه إلى القبائح والجرائم ، وأوقع صاحبه في أشد الآلام النفسية والاسقام البدنية كما قيل :

أفسـدت نفسـك بالحسد وهدمــت أركـان الجسـد

    فاذا حصل في أمة أوقعها في الشقاق والنفاق ثم الدمار ، وإذا أستولى على أحد أرجع عذابه على صحابه ، لأن الحسود دائم العذاب مستمر الألم ، ولذا قال «ع» : لا يطمع لحسود في راحة القلب (1) .
    وقال «ع» : ليس الحسود غنى (2) .
    وقال «ع» : الحسود ذو نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم ، وإنه لكثير الحسرات متضاعف السيئات ، دائم الغم وإن كان صحيح البدن .
    وقال «ع» : إن الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب (3) .

[[ 4 ـ الكبر ]]

    الكبر في الانسان حالة تعتري النفس تدعو إلى مجاوزة الحد في إعظامها واحتقار غيرها ، وبعبارة أوضح : هو إستعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير
    وهو داء عضال في النفوس الواطئة يحدث عن ضيق دائرة نظر المتكبر إلى نفسه ، عندما يرى فيها فضيلة ليست عند غيره ، دون أن ينظر إلى نقصه وكمال غيره وإن لهذا الداء من العوارض المرضية النفسية ما يوقع صاحبه في كثير من الرذال المستقبحة ، كاغتراره بالظلم وعدم إحتفائه بحقوق الناس والحقد والحسد

(1) الخصال باب العشرة .
(2) الحادي عشر.
(3) الكافي في باب الحسد .

( 86 )
الانقياد للحق ، وعدم قبول النصيحة وإعراضه عن الارشاد ، وغير ذلك مما يلجي تكبر المتكبر إلى إرتكابها والابتعاد عن مكارم الأخلاق . وقد أشار الامام «ع» إلى تعريفة بقوله : ما من أحد يتيه من ذلة يجدها في نفسه (1) .
    وقال «ع» : لايطمع ذو كبر في الثناء الحسن (2) .
    وقال «ع» : لاجهل أضر من العجب (3) .
    وقال «ع» :رأس الحزم التواضع(4) .
    وقال «ع» : ثلاثة مكسبة البغضاء : العجب والنفاق والظلم (5) .

[[ 5 ـ خلف الوعد ]]

    خلف النفس حالة تتصف بها النفس الخسيسة ، وتستسيغها الروح الواطئة وهو داء نفساني إذا إبتلى به المرء حرم ثقة الناس به ، وجر إلى نفسه في مجتمعه ومحيطه الويل وفقد في أصحابه وإخوانه التعرف وللحبة ، هذا ضرره في صاحبه أما إذا ما فشا ـ خلف الوعد ـ في المجتمع كان داءاً إجتماعياً خطيراً يقف سداً دون سعادة ذلك المجتمع وإنتظام معاملاته وحصول الثقة بين أفراده .
    ومن المعلوم أن مثل هذا الداء العضال إذا ما تعلق بالنفوس الواطئة لم يجد لشفائه عقار الطبيب مجالاً ولا ذكاء الفيلسوف سبيلا إذا لم يردعه وازع ديني أوواعظ داخلي ، يقيم أود تلك النفس الخسيسة ويرفعها إلى مستوى الانسانية الفاضلة لذلك ترى الامام عليه السلام جاء لعلاج أمثال تلك النفوس من هذا الطريق المستقيم فقال عليه السلام :

(1) الكافي باب الكبر .
(2) الكافي في باب العشرة .
(3) تحف العقول .
(4) البحار ج 17 .
(5) تحف العقول .

( 87 )
    من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف بالوعد (1) .
    وقال «ع» : ثلاثة من كن فيه فهو منافق وإن صام وإن صلى : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أوتمن خان (2) إلى غير ذلك .

[[ 6 ـ الحرص ]]

    الحرص شدة الكدح والاسراف في الطلب ، وفوقه الشره ، وكلاهما داء ينتاب الروح والنفس بسبب غلبة القوة البهيمية على العقل وإندحار العقل أمامها مغلوباً وما الحريص المصاب بهذا الداء إلا فقير كلما إزداد حرصه إزداد فقره ، لأن الفقر هو الحاجة ، والحريص والشره مازالا محتاجين ، إذ لم يقنعا بكل ما أعطيا ولم تفتأ نفساهما تطلب الزيادة على مافي أيديهما فهما فقيران على وقد قيل : الغنى هو غنى النفس والقناعة كنز لايفنى .
    وعلى هذا قال الامام «ع»: أغنى غنى من لم يكن للحرص أسيراً (3) .
    وقال «ع» : من قنع بما رزقه الله فهو أغنى الناس (4) .
    وقال «ع» : الحرص مفتاح التعب ومطية النصب ، وداع إلى التقحم في الذنوب والشره جامع للعيوب (5) .
    وقال «ع» : حرم الحريص خصلتين . ولزمته خصلتان . حرم القناعة فأفتقد الراحة ، وحرم الرضا فافتقد اليقين (6) .

(1) كشف الأخطار .
(2) تحف العقول .
(3) الكافي في باب حب الدنيا .
(4) الكافي في القناعة .
(5) الفصول المهمة .
(6) خصال الصدوق باب الثاني .

( 88 )
[[ 7 ـ المراء والجدل ]]

    المراء والجدل داءان مذمومان مهلكان ، وشهوتان باطنيتان يعتريان النفس مفادهما الاعتراض على الآخرين باظهار الخلل في قوله أو فعله من باب الطعن والاستحقار له طلباً للتفوق عليه بابراز الكياسة والمعرفة .
    وهما داءن خطران أقل ما يحدث منهما في النفس ، حصول التباغض والعداء والنفرة بين المتحابين ، وهذا ما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه .
    ولقد عالجهما الامام الصادق «ع» بارشاداته القيمة ونصائحه الدينية إذ قال «ع» المؤمن يداري ولا يماري (1) .
    وقال «ع» : الجهل في ثلاث : شدة المراء ، والكبر ، والجهل بالله (2) .
    ومن حديث عنه «ع» : سبعة يفسدون أعمالهم ، سابعهم الذي لا يزال يجادل أخاه مخاصماً له (3) .
    إلى هنا ننهى البحث في هذا الموضوع الوسيع الذي لو أردنا ذكر كلما ورد عن الإمام «ع» فيه لضاقت في هذه الرسالة المختصرة به وقد سلكنا فيها الاختصار الايجاز، ولم يكن قصدنا بها إلا أن نقدم للقاريء الكريم إضمامة من تلك الرياض الزاهرة التي تزهو بتعاليم الامام العالم والمرشد الحكيم ، والمقتدي الناصح ، أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه وعلى آله الطاهرين أفضل التحية والسلام ، مرجئين التفصيل فيها إلى الكتب المفصلة .
    والآن وبعد أن ذكرنا لك شيئاً من طب الامام «ع» وهو بلا ريب غيض من فيض وقطرة من بحر علومه ومعارفه ، إرتأينا ان نذكر لك ترجمة أشهر

(1) البحار ج 17 .
(2) البحار ج 1 .
(3) خصال الصدق وبات السبعة .

( 89 )
الاطباء في ذلك العصر ، أي عصر الامام ، وذلك لما كان لهم من الأثر في إنتشار الطب يومذاك وبالطبع إنا سنجمل تراجمهم سيراً على منهجنا في الاختصار .

[[الأطباء في عصر الامام عليه السلام ]]

    ليس القصد من تخصيص هذا العصر بالبحث والعناية لكونه عصر إنقراض دولة وتأسيس أخرى فحسب ، ولا لأنه مليء بالحوادث التاريخية والوقائع الحربية والتغييرات السياسية الزمنية . بل لأنه عصر النهضة العلمية في الجزيرة وربوع الرافدين بالخصوص ، وإبتداء عهد الحضارة الاسلامية ، والمعارف والعلوم العربية من طب وفلسفة وأدب وغيرها من الفنون التي أخذت منها أرقى ما وصل إليه الأولون من الأمم المتمدنة ، ثم قدمته بعد التنقيح العلمي وبعد الصقل العقلي ، لقمة سائغة مرية إلى الأجيال المتأخرة بقوالبها العربية الجذابة وبيانها الفصيح الخالي من شوائب النقص والتعسف ، والمشتمل على تلك الآراء الجبارة المطابقة للعقل والوجدان والدين والفطرة ، فقد صادفت بذرة العلوم يومذاك من مفكري العرب وفلاسفة الاسلام أطيب أرض صالحة أثمرت للأجيال المتعاقبة أشهى الثمر وأمراه فهو والحق يقال ، كان كحلقة وصل بين الثقافتين القديمة والحديثة ، وواسطة العقد بين العقلية البشرية لدى الأمم السالفة وهذا العصر الحديث .
    إذن فلا غرو إذا ما خصص هذا العصر بالبحث ، وأعطى من الأهمية والعناية ما هو جدير بهما ، سيما وقد بذر الامام أبو عبدالله عليه السلام في نفوس أصحابه وتلاميذه والوافدين عليه من العلماء والحكماء والمفكرين ، تلك البذرة التي لم يدرك مغزاها ولم يصل إلى معرفتها إلا جهابذة هذا العصر الحديث بعد تقدم الطب والتجارب العلمية مدة قرون وقرون . وإليك تراجم أولئك الأطباء :