هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية في التحوّل العلمي الأخير للغرب انطلق المكتشفون والمخترعون يعدون العالم البشري بأنّه لو تم لهم اكتشاف الضوابط والسنن المتحكمة في دنيا المادة ، ولو تم لهم الوقوف والاطّلاع على العلاقات السائدة بين الظواهر الطبيعية وبالتالي لو أمكنهم أن يكبحوا جماح غول الجهل الذي يطارد البشرية دونما رحمة.
لو تم لهم كل ذلك لاستطاع البشر أن يحصلوا على « المدينة الفاضلة » التي وعد بها إفلاطون ، بل لاستطاعوا أن يحصلوا على الجنّة التي طالما تحدث عنها الأنبياء ، وأخبر بها الرسل !! ولم يعد بعد ذلك أيّة حاجة إلى الدين والتعاليم الدينية !! فالتقدّم العلمي والتكنولوجي وحده كفيل بأن يحقق للإنسانية ما يليق بها من العزة والكرامة والسعادة!!
هذا ما كان يتحدّث عنه.
بيد أنّه الحوادث المريعة التي شهدتها أوائل وأواسط القرن الأخير والتي بلغت ذروتها في الحربين العالميتين اللتين كان مجموع ضحاياهما ما يزيد عن المائة مليون إنسان ما بين قتيل وجريح ومفقود الأثر. هذه الحوادث أفرغت اليأس في قلوب كل أُولئك المتشدّقين وفنّدت مزاعمهم ، وأثبتت بقوّة بأنّ عهد الدين لم يول بعد ، وأنّ الحاجة إلى التعاليم
(32)
الدينية لا ولن ترتفع أو تزول ، وأنّ من المستحيل أن تسعد البشرية وتنال الرفاه المنشود ورغد العيش دون الأخذ بالدين ، ودون التوجّه إلى اللّه ، و أنَّها على فرض حصولها على العيش الرغيد في معزل عن الدين ، فإنّها ـ ولا ريب ـ ستواجه مشكلات جديدة لا يمكن حلها وعلاجها بأدوات التطور العلمي المادي والتقدم الصناعي ، والتكنولوجي.
لأنّه ما الذي سيمنع ـ في ظل الأنظمة المعتمدة على العلم المجرّد عن الدين ـ من بروز الحروب المبيدة الساحقة ، واندلاع المعارك المدمرة؟
أم أي نظام حقوقي سيكون قادراً على تلبية كل احتياجات الإنسان الحقوقية ومعالجة كل المشكلات الطارئة على العلاقات الاجتماعية ؟!!
لقد أصبح عرض المبادئ والنظريات الفجة مع انتحال صفة « الآيديولوجية » لها ، شعار هذاالعصر ، ولكن الواقع العملي أثبت أنّ كل هذه المبادئ والنظريات وما يسمّى ب ـ « الآيديولوجيات التقدمية » عجزت ، وفشلت ، وسقطت على صعيد التطبيق السياسي والاجتماعي والأخلاقي ، وعجزت عن تقديم نموذج أعلى للحياة وطريقة فضلى للعيش ، فإذا بنا نجدها تختفي عن المسرح الواحدة تلو الأُخرى وبسرعة ، مسلمة نفسها إلى يد النسيان والفناء ، والاندحار. فالماركسية التي جعلت « الاقتصاد » مبدأ حركة التاريخ وغايته ومحور كل التحولات الاجتماعية لم تستطع ـ أبداً ـ أن تروي عطش الإنسان إلى القضايا الروحية والمعنوية ولم تستطع أن تشبع تلك الجوعة المتأصلة في كيان الكائن البشري إلى ما وراء المادة ، وبالتالي عجزت الماركسية عن الإجابة على أبسط الأسئلة في هذا المجال!!
(33)
فالإنسان يريد دائماً أن يعرف :
من أين جاء؟؟
ولماذا جاء؟؟
وإلى أين يذهب؟؟ ولكنَّ الفكر الماركسي يلوذ بالصمت تجاه هذه الأسئلة المحرجة ، ويعجز ـ تماماً ـ عن الإجابة عليها. ومن المعلوم أنّ الإنسان ما لم يحصل على إجابات مقنعة على أسئلته حول علة خلقه و الهدف منه و الغاية التي تنتظره فإنّه لن تنحل عنده بقية مسائل الحياة بصورة جدية وقطعية. وكيف ـ ترى ـ يمكن أن تنحل هذه المشاكل ويتضح جواب هذه التساؤلات والماركسية تعتبر الكون ككتاب مندرس سقط أوّله وآخره فلا أوّل له ولا آخر ولا مبدأ ولا منتهى حيث إنّها لا تعترف بالمبدأ الأوّل ولا تقرّ به ولا تعرفه كما لا تعرف الغاية من الخلق ولا تقرّ بها ولا تعترف. من هنا يعتقد المفكرون المتحررون و اقعيو النظرة في العالم ، اليوم بأنّ على البشرية أن تعود إلى أحضان الدين ، وأنّ المعتقدات والتعاليم الدينية يجب أن تؤخذ في الحسبان على أنّها جانب أساسي في حياة الإنسان وأنّ أي مبدأ وآيديولوجية تريد أن تشغل الإنسان بالطبيعة فقط متجاهلة ما وراء الطبيعة فإنّها ستكون محكومة بالفشل وسيكون مآلها إلى السقوط في وجه المشاكل العويصة والطرق المسدودة التي تعترض سبيلها ، وسبيل كل فكرة وعقيدة. وصفوة القول هو ما قاله العالم المعروف : « جان ديورث » :
(34)
كيفما فسرنا الأُمور الدينية وكيفما تصورناها ، فإنّ للدين سابق عهد في الحياة البشرية وله دور فعلي الآن ، ولا ريب أنّه سيكون له ذلك في المستقبل أيضاً. إنّ كون الآيديولوجية (إلهية) وكون المنهج إلهياً لا يعني أنّ نوجه عنايتنا إلى ما « وراء الطبيعة » ونتجاهل عالم المادة ونهمل دنيا الطبيعة ، بل انّ الفارق بين « الإلهي » و « المادي » هو أنّ الإلهي يجعل معرفته بالطبيعة سبيلاً إلى معرفة (ما وراء الطبيعة) هذا إلى جانب الاستفادة الكاملة والمعقولة من عالم الطبيعة والمادة ، في حين يقتصر المادي على الاستفادة من الطبيعة ويجعلها هدفه الوحيد ، وغايته القصوى ، ويحبس نفسه في سجن المادة دون أن يحاول التحليق إلى آفاق ما وراء الطبيعة كما يفعل المادي.
علماء الاجتماع وأصالة التديّن يذهب علماء الاجتماع المحقّقون المحايدون إلى أنّ للاعتقاد والإيمان باللّه جذوراً عميقة ، وتاريخاً عريقاً في حياة الإنسان ، بحيث لم يحدث للبشر حذف الدين من منهاج حياته ولا حتى لبرهة عابرة من الزمن. أمّا البلاد الشيوعية التي حذفت الإيمان باللّه من برنامج حياتها ، وتظاهرت بالإلحاد والكفر وإنكار الخالق وبكل ما يتعلق بما وراء الطبيعة « الميتافيزيقا » فلها تراجيديا واسعة سنشير إليها في خاتمة البحث. والآن إلى البحث حول أصالة التديّن وتجذّره في تاريخ البشر : إنّ حياة البشر على هذا الكوكب كنز غني وثمين متاح للإنسان المعاصر والقادم. ولكل فرد من أبناء البشر حسب رؤيته ، وتبعاً لمقدار معلوماته وتخصصه
(35)
أن يستفيد من هذا الكنز العظيم الزاخر بالعبر والدروس.
ومن أجل ذلك راح الأنبياء العظام والمصلحون العالميون ، والحكماء والفلاسفة ، ومن ورائهم المربون الاجتماعيون وأساتذة الأخلاق ، والنفسانيون وغيرهم يلفتون نظر المجتمعات البشرية إلى « تاريخ الأسلاف » ويدعونهم إلى قراءته واستلهام الدروس منه ، وراح كل واحد من هذه الطوائف التي ذكرنا يستفيد من هذا الكنز العظيم ، أعني : التاريخ البشري ، ما أمكنه لإنجاح مهمته ، وأهدافه لما في التاريخ من أدلة وشواهد لما يقولون. إنّ تصفح مثل هذا التاريخ ومطالعة حياة الأقوام والشعوب السالفة وعلل ظهور الحضارات « الواحدة والعشرين » (1) وأرضياتها وأُسسها ، وسيلة مطمئنة للباحث الذي يريد الاطلاع على جذور التديّن في قلوب البشر وفي تاريخه الطويل. فالمتصفح في التاريخ البشري الطويل يرى كيف أنّ البشر اختار ـ طوال آلاف السنين وخلال هذه الحضارات المتنوعة ـ عشرات المناهج والأساليب لحياته ، ولكنّه سرعان ما كان ينبذها ويحذفها من حياته تماماً.
لقد كان البشر ولا يزال طالباً للجديد ، وخاضعاً لسنة التطور والتحول والتغير ففيما هو يوجد لنفسه ولحياته ، أو يختار ، برامج وأساليب جديدة لنظامه نجده من جانب آخر يلغي أُموراً ـ تبعاً للعوامل الطبيعية والظروف المحيطية والعنصرية ـ طالما دافع عنها وأحبها إلى درجة بذل النفس في سبيلها. لكنَّ هناك أمراً واحداً بقي ثابتاً لا يتغير في قاموس الحياة البشرية ، رغم كل
1 ـ حسبما أحصاها بعض مؤرخي الحضارات.
(36)
تلك التغيّرات والتحوّلات. أمراً واحداً بالغ البشر في حفظه وصيانته وتوسيع دائرته ألا وهو : موضوع « الدين » ، والإيمان بما وراء المادة الذي لم يعرف فيه مللاً ولا فتوراً ولا إعراضاً. هذا القدم في الوجود وهذه الأصالة كاشفة ولا شك عن أنّ « التديّن » والدين يعتبر من العناصر التي تؤلِّف ذات الإنسان وتعد من غرائزه الأصيلة وحاجاته الروحية والنفسية التي كانت لا تزال معه بحيث لم تتسلل إليها يد التغيير والتبديل. يقول « ويل دورانت » المؤرّخ المعاصر : صحيح أنّ بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق ، إلاّ أنّ هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأنّ الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية. ثم يقول : إنّ الفيلسوف معني بمسألة العقيدة الدينية من حيث قدم ظهورها ودوام وجودها (1). ويقول العالم الاجتماعي المعروف « صموئيل كونيك » في بعض كلماته حول جذور الدين في الأسلاف من البشر : إنّ أسلاف البشر المعاصر ـ كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في
1 ـ قصة الحضارة : 1/99.
(37)
الحفريات ـ كانوا أصحاب دين ، ومتدينين ، بدليل أنَّهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم ، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر ، وراء هذا العالم. (1) انّ ذلك الفريق من البشر وان كان يعيش في عصر لم يتم فيه اختراع « الخط » بعد ، ولكنه مع ذلك كان الالتفات إلى الدين الذي يلازم بالضرورة « التوجه إلى الميتافيزيقيا » جزء من حياته. وفي موضع آخر يطرح « ويل دورانت » السؤال التالي ويقول : ما أساس هذه التقوى التي لا يمحوها شيء من صدر الإنسان ؟ (2) ثم يجيب هو بنفسه على هذا السؤال في موضع آخر من الصفحات التالية بنحو ما إذ يقول : إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع الإنسان الفطرية وغرائزه ، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو ألاعيب كهنوتية إنّما نشأت عن فطرة الإنسان. (3) وقد يقال : لو كان للدين والتدين جذور عميقة في فطرة الإنسان وأعماق وجدانه ، إذن فلماذا خاض أصحاب الأديان كل تلك الحروف طوال التاريخ البشري من أجل إقرار الدين في مجتمعاتهم. وجواب هذا واضح ، فإنّه لم يكن هناك خلاف في أصل « وجود اللّه »
1 ـ كتاب « جامعه شناسي » : 192. 2 ـ قصة الحضارة :
1/99. 3 ـ المصدر نفسه.
(38)
والالتفات إلى ما وراء المادة .. وإنّما الخلاف وقع في خصوصيات هذا الاعتقاد وليس في جوهره وأصله. وبهذا يتضح أنّ الصراع قام حول التفاصيل والخصوصيات ، وأمّا أصل العقيدة والإيمان بوجود اللّه فقد اتفقت عليه كلمة البشرية على مدار التاريخ الإنساني الطويل.
هل وجود اللّه بديهي؟ لقد اعتبر بعض العرفاء « وجود اللّه » في العالم أمراً بديهياً ، وادّعوا بأنّ استنباط هذه الحقيقة من آيات القرآن والوقوف عليها استنباط واضح ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه والتفكير مطلقاً. وكأنّ « توماس كارليل » الفيلسوف الانجليزي قد انتزع مقالته التالية من هذا التصور والاعتقاد إذ قال : إنّ الذين يريدون إثبات وجود اللّه بالبرهان والدليل ما هم إلاّ كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس. (1) ولدى مراجعة الآيات القرآنية والأدعية الواردة عن أهل بيت النبي ( عليهم السَّلام ) يمكن الوقوف على إشارات جلية إلى هذا المطلب ، ونعني بداهة « وجود اللّه ». (2) 1 ـ گلشن راز : 51. 2 ـ ليس المراد من البداهة أن لا يختلف فيه اثنان أو لا يحتاج إلى تذكير مذكر بل للبداهة مراتب بعضها يحتاج إلى تذكير مذكر أو إشارة مشير ، وربما يحتاج التصديق به إلى تخلية النفس من الرواسب والآراء السابقة ، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكون وجود اللّه معنى بديهياً وإن اختلف فيه الناس والفلاسفة.
(39)
ومن ذلك قوله
تعالى : ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ
فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالأرْضِ )
(1). فما يمكن أن يكون
إشارة إلى قضية « بداهة وجود اللّه » في هذه الآية هو قوله : ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ )
في حين أنّ المقطع التالي من الآية أعني قوله : ( فَاطِرِ السَّموَاتِ
وَالأرْضِ ) يعتبر دليلاً مستقلاً على وجود اللّه كما
سيأتي توضيحه وبيانه فيما بعد. وكما يمكن أن تكون الآية المذكورة إشارة
إلى « بداهة وجود اللّه » كذلك يستفاد ذلك من الآية التالية التي تصف اللّه
بالظهور إذ تقول : ( هُوَ الأوَّلُ
وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء
عَلِيمٌ ) (2). كما ويمكن استفادة إشارات
واضحة إلى هذا الأمر من دعاء الإمام أبي عبد اللّه الحسين بن علي سيد الشهداء
( عليه السَّلام ) ، ومناجاته يوم عرفة مع ربه إذ
يقول : « كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر
إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى
يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل
عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل
إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً ».
1 ـ إبراهيم : 9. 2 ـ الحديد : 3.
(40)
ويقول ( عليه السَّلام ) في ختام دعائه : « يا من تجلّ ـ ى بكمال بهائه ، كيف تخفى وأنت الظاهر؟! أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر؟ » (1). ولكن لابد أن نعلم أنّه لا تنافي بين « بداهة وجود اللّه » و « فطرية الإيمان به »فلا مانع من أن يكون وجود اللّه بديهياً ويكون الإيمان بوجوده فطرياً أيضاً. وفي الحقيقة فإنّ بداهة وجود اللّه ما هي إلاّ نتيجة فطريته ، لأنّ أحد أقسامالبديهي هو : « الفطريات » كما هو واضح لمن يراجع هذا البحث في محله (2). ولأجل ذلك لا مانع من أن تكون مسألة وجود اللّه بديهية وفطرية في آن واحد وما ذلك إلاّ لأنّ الإيمان بوجوده تعالى قد امتزج بوجداننا وبفطرتنا ، ولذلك يبدو وجوده لنا في صورة الأمر البديهي.
الإنسان يبحث عن اللّه فطرياً يذهب أكثر المفسرين إلى أنّ فطرية الإيمان باللّه أمر يمكن استفادته من الآيات القرآنية (3) وإذا بهم يجعلون الإيمان باللّه كسائر الغرائز المتأصلة في البشر
1 ـ راجع كتاب الأدعية في دعائه ( عليه السَّلام ) يوم عرفة. 2 ـ بحث « مواد الأقيسة » وهذا البحث من المباحث الهامة جداً في علم المنطق ، ولكنّ المتأخرين لم يهتموا به كما ينبغي مع الأسف ، وقد انفرد العلاّمة الحلي فقط في كتابه « الجواهر النضيدة » بهذا المبحث. 3 ـ بمعنى أنّ الآيات القرآنية تصرّح بأنّ الإذعان بوجود اللّه فطري لدى الإنسان.