لا شك أنّ هذا الاختلاف لا يرتبط بذات الكون وذات الحوادث والظواهر ، بل هو مرتبط بسعة رؤية الناظر إن كان محيطاً ، تلك السعة التي تمكّنه من مشاهدة كل نقوش البساط وألوانه ، وكل تموّجات النهر وتعرّجاته ، وكل عربات القطار دفعة واحدة كما في الأمثلة السابقة. في حين أنّ فقدان هذه السعة في رؤية الشخص الآخر يجعله لا يرى في كل لحظة إلاّ حادثة واحدة فقط ، وإلاّ تموّجاً واحداً من النهر ، وإلاّ لوناً واحداً من ألوان البساط. ومن هذا البيان يتبيّن أنّه ليس للعالم وجهان ونشأتان : نشأة باسم الباطن. وأُخرى باسم الظاهر. وبعبارة أُخرى انّه ليس للظواهر والحوادث مرحلتان : مرحلة الوجود الجمعي الدفعي. ومرحلة الوجود التدريجي. بل ليس للظاهرة ـ في الحقيقة ـ تحقّقان ووجودان إنّما هو وجود واحد ، وتحقّق واحد ، يرى تارة في صورة المجتمع ، وأُخرى في صورة المتفرّق. وأمّا الاختلاف ـ لو كان ـ فهو يرجع إلى قدرة الملاحظ وسعة نظرته وضيقها ، وليس إلى ذات الحوادث والظواهر. 2. انّ حضور الحوادث والظواهر عند اللّه دليل على علم اللّه بها جميعاً ، لأنّ حقيقة العلم ليست إلاّ حضور المعلوم عند العالم وحيث إنّ موجودات العالم من
(102)
فعله سبحانه وقائمة به فهي إذن حاضرة لديه. ونتيجة هذا الحضور ليست سوى علم اللّه بها ولكن لا يدل مثل هذا الحضور على علم الموجودات هي بالخالق الواحد سبحانه. وبعبارة أُخرى لو كان هدف الآية هو بيان أنّ اللّه أخذ من بني آدم « الإقرار » بربوبيته والشهادة بها من جهة حضور هذه الموجودات لدى اللّه ـ كما تفيده هذه النظرية ـ يلزم علم اللّه بهذه الموجودات والحوادث لا علم هذه الحوادث والموجودات باللّه تعالى ، فلا يتحقّق معنى الشهادة والإقرار. فإنّه ربّما يتصور إنّ حضور الأشياء عند اللّه كما يستلزم علمه بها ، كذلك يستلزم علم تلك الموجودات باللّه. ولكن هذا وهم خاطئ وتصور غير سليم ، لأنّ الحضور إنّما يكون موجباً للعلم إذا اقترن بقيام الشيء باللّه وإحاطته سبحانه بذلك الشيء ، ومثل هذا الملاك موجود في جانب اللّه حيث إنّه قيوم [تقوم به الأشياء ]محيط بالكون في حين أنّه لا يوجد هذا الملاك في جانب الموجودات ، لأنّها محاطة وقائمة باللّه (أي ليست محيطة باللّه ولا أنّ اللّه سبحانه قائم بها حتى تعلم هي به تعالى). 3. انّ هذا التوجيه والتفسير لآية الميثاق بعيد عن الأذهان العامة ، ولا يمكن إطلاق اسم التفسير عليه ، بل هو للتأويل أقرب منه إلى التفسير. نعم غاية ما يمكن قوله هو أنّ هذه النظرية تكشف عن أحد أبعاد هذه الآية ، لكنَّه ليس البعد المنحصر
والوحيد. هذا مضافاً إلى أنّ ألفاظ هذه الآية مثل قوله : ( فأشهدهم على أنفسهم ) ونظائره الذي هو بمعنى أخذ الشهادة والاعتراف والإقرار لا يتلاءم ولا ينسجم
(103)
مع هذا التفسير.
النظرية الرابعة وتظهر هذه النظرية من الشريف المرتضى في أماليه ، وإليك نص ما قاله الشريف بلفظه : (1) إنّ اللّه تعالى إنّما عنى جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على ألسن رسله ( عليهم السَّلام ) بمعرفته وما يجب من طاعته ، فأقرّوا بذلك ، وأشهدهم على أنفسهم به لئلاّ يقولوا يوم القيامة : ( إنّا كنّا عن هذا غافلين ) أو يعتذروا بشرك آبائهم. وحاصل هذا الكلام وتوضيحه أنّ اللّه تعالى أخذ الاعتراف من جماعة خاصة ، من البشر ، وهم العقلاء الكاملون ، لا من جميع البشر. وقد أخذ هذا الاعتراف والميثاق حيث أخذ بواسطة الرسل والأنبياء الذين ابتعثهم اللّه إلى البشرية في هذه الدنيا. وهذه النظرية مبنية على كون « من » في قوله سبحانه : ( من بني آدم ) تبعيضية لا بيانية ، ولأجل ذلك يختص بالمقتدين بالأنبياء. ويمكن تأييد هذه النظرية بأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد أخذ منهم الاعتراف في بعض المواضع على اختصاصه تعالى بالربوبية ، كما يحدّثنا القرآن الكريم إذ يقول : ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ للّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (2) ، وما يشابههما من الآيات التي أخذ فيها الاعتراف من الأشخاص ،
1 ـ الأمالي : 1/29. 2 ـ المؤمنون : 86 ـ 87.
وسيوافيك بعض هذه الآيات عند البحث في التوحيد الخالقي والربوبي. ولكن ضعف هذه النظرية ظاهر ، إذ مآلها انّ المؤمنين بكل نبي هم الذين اعترفوا ـ دون سواهم ـ بتوحيده سبحانه. ولو كان مقصود الآية هو هذا ، لكان ينبغي أن يكون التعبير عنه بغير ما ورد في الآية. ثم إنّه يجب أن يكون تعبير القرآن عن المعاني الدقيقة بأوضح العبارات وأحسنها وأبلغها. فلو كان مقصوده تعالى هو اعتراف جماعة خاصة ممَّن اقتدوا بالرسل ، بتوحيده سبحانه ، لوجب أن يبين ذلك بغير ما ورد في الآية من بيان. هذه هي الآراء والنظريات التي أبداها المفسرون الكبار حول مفاد آية الميثاق والذر .. ونحن نأمل أن يستطيع المحقّقون ـ في المستقبل ـ من إيقافنا على معنى أوضح وأكثر انسجاماً مع ألفاظ هذه الآية الشريفة ، وأن يوفقوا إلى توضيح حقيقتها ومغزاها. ذكرنا فيما سبق أنّ النظرية الأُولى تستند إلى طائفة من الأحاديث الواردة في المجاميع الحديثية ولابد من دراستها والتوصل إلى حل مناسب لها. فالعلاّمة المرحوم السيد هاشم البحراني نقل في تفسيره المسمّى ب ـ « البرهان » في ذيل تفسير آية الميثاق (37) حديثاً (1) 1 ـ البرهان : 2/46 ـ 51.
(105)
وكذا نقل نور الثقلين ـ وهو تفسير للقرآن على أساس الأحاديث على غرار تفسير البرهان ـ أيضاً (27) حديثاً في ذيل تفسير هذه الآية. (1) ولابد من الالتفات إلى أنّ هذه الأحاديث والأخبار تختلف في مفاداتها عن بعض ، فليست بأجمعها ناظرة إلى النظرية الأُولى ، فلا يمكن الاستدلال بها ـ جميعاً ـ على ذلك لوجوه : أوّلاً : أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في القول الثاني ، أو أنّها قابلة للانطباق على القول الثاني ، مثل الأحاديث : 6 و 7 و 20 و 22 و 35. وإليك نص هذه الأحاديث : أمّا الأحاديث 6 و 22 و 35 وجميعها واحد راوياً ومروياً عنه وان اختلفت في المصدر ، فهي : عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : كيف أجابوا وهم ذر؟ فقالعليه السَّلام : « جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ». ففي هذه الأحاديث ـ كما نلاحظ ـ ليس هناك أي كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيين بل قال الإمام : « جعل فيهم » وهي كناية عن وجود الإقرار التكويني في تكوينهم. أما الحديث 7 فقد روي عن عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه (الصادق) ( عليه السَّلام ) عن قول اللّه ( فطرة اللّه التي فطر الناس عليها ) ما تلك الفطرة؟
1 ـ نور الثقلين : 2/92 ـ 102.
(106)
قال : « هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ألست بربكم ، وفيه المؤمن والكافر ». وهذا الحديث كما هو واضح يفسر الميثاق المذكور في آية الذر بالفطرة ممّا يكون تصريحاً بأنّ الاستيثاق وأخذ الميثاق والإقرار أمر فطري جبلي تكويني. وفي الحديث 20 جاء عن المفضل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمدعليمها السَّلام في حديث طويل قال فيه : « قال اللّه عزّ وجلّ لجميع أرواح بني آدم ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، كان أوّل من قال بلى محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فصار بسبقه إلى بلى سيد الأوّلين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين ». وليس في هذا الحديث أي كلام عن اعتراف الذر وإقرار بني آدم وهم على هيئة ذرات صغيرة ، ولذلك فهو وإن لم يكن صريحاً في النظرية الثانية « القائلة بالإقرار التكويني لا اللفظي من جانب الذرية » ولكنّه قابل للانطباق عليها. ثانياً : أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في أنّ الإقرار والاعتراف بالربوبية جاء من جانب الأرواح كما لاحظنا في الحديث 20. أمّا ما يدل من تلك الأحاديث (المنقولة في تفسير البرهان) على النظرية الأُولى فهي 3 ، 4 ، 8 ، 11 ، 14 ، 17 ، 18 ، 27 ، 29. وعددها كما هو الظاهر (9) أحاديث ، ولكنّنا لو أمعنا النظر فيها لوجدنا أنّ عددها الحقيقي لا يتجاوز 5 أحاديث لا أكثر ، لأنّ خمسة من هذه الأحاديث رواها « زرارة بن أعين » بمعنى أنّ آخر راو في هذه الأحاديث من الإمام هو زرارة ،
(107)
ومن المسلم أنّ راوياً واحداً لا يسأل عن شيء من الإمام خمس مرات ، وأمّا نقل رواية زرارة (التي هي ـ في الحقيقة ـ رواية واحدة) في خمس صور ، فلتعدد من روى هذا الحديث عن « زرارة » ، ولذلك اتّخذ الحديث الواحد طابع التعدّد والكثرة ، وهذا لا يوجب أن يعد الحديث الواحد خمسة أحاديث. وعلى هذا فإنّ الأحاديث 3 و 4 و 11 و 27 و 29 التي تنتهي إلى راو واحد هو « زرارة » لا يمكن عدّها خمسة أحاديث ، بل يجب اعتبارها حديثاً واحداً لا غير. وفي هذه الحالة ينخفض عدد الأحاديث المؤيدة للنظرية الأُولى من 9 إلى5. يبقى أنّ الأحاديث الأربعة الأُخرى (أعني : 8 و 14 و 17 و 18) فهي مبهمة نوعاً ما ، وليست صريحة في المقصود. وبعض تلك الأحاديث تعتبر هذا الميثاق والميثاق الذي أخذه اللّه من خصوص النبيين وتحدّث عنه القرآن في الآية 81 ـ آل عمران : ( وإذ أخَذَ اللّهُ ميثاقَ النّبِيِّينَ لَما آتَيْتكُمْ مِنْ كِتاب وحِكْمَة ) تعتبر هذين الميثاقين واحداً مثل الحديث رقم 12. وها نحن ننقل لك أيها القارئ نص حديث زرارة أوّلاً ، وهذا الحديث هو ما جاء تحت رقم 3 و 4 و 11 و 27 و 29. وإليك نصها بالترتيب : عن ابن أبي عمير ، عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا جعفر الباقر ( عليه السَّلام ) عن قولاللّه عزّ وجل : ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ... ) فقال ، و أبوه
(108)
يسمع : « حدثني أبي أنّ اللّه عزّ وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات ، فخرجوا كالذر من يمينه وشماله ، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار ، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً » إلى آخر الحديث. وعن ابن أُذينة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر ( عليه السَّلام ) قال : سألته عن قول اللّه عز وجل : ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم ... ) قال : « أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذر ، فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ». ومثل هاتين الصورتين بقية الصور لحديث زرارة حرفاً بحرف. أمّا الروايات الأربع الأُخرى (أعني : 8 و 14 و 17 و 18) فهي بالترتيب : عن حمران عن أبي جعفر الباقر ( عليه السَّلام ) قال : « فقال اللّه لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون : إلى الجنة ولا أبالي ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أبالي ، ثم؟ قال : ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا ... » الخ. وعن ابن مسكان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) في قوله ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم ... ) قلت : معاينة كان هذا ؟ قال : « نعم ، فثبتت المعرفة و نسوا الموقف وسيذكرونه ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه ».
(109)
وعن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد اللّه الصادق ( عليه السَّلام ) في قوله عزّ وجلّ : ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم ... ) قال : « أخذ اللّه من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وهم كالذر ، فعرفهم نفسه ، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ، وقال : ألست بربكم ، قالوا : بلى ». وفي حديث طويل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) قال : « قول اللّه عزّ وجلّ ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم ... ) أخبرك أنّ اللّه سبحانه لمّا خلق آدم مسح ظهره فاستخرج ذرية من صلبه سيما في هيئة الذر فألزمهم العقل ، وقرر بهم أنّه الرب وأنّهم العبد فأقروا له بالربوبية ». هذه هي عمدة الأحاديث التي نقلها تفسير البرهان في ذيل الآية المبحوثة تؤيد النظرية الأُولى. وكذا نقل صاحب تفسير الدر المنثور أحاديث تؤيد هذه النظرية نذكر بعضها : فمنها ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم ... ) قال : خلق اللّه آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه ، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ». وغير ذلك كثير (1) 1 ـ راجع الدر المنثور : 3/141 ـ 142.
(110)
ثالثاً : لقد بين أئمّة الشيعة المعصومون ( عليهم السَّلام ) معياراً خاصاً لمعرفة الصحيح من الأحاديث وتمييزه عن غير الصحيح ، وأمرونا بأن نميز صحاح الأحاديث على ضوء هذه المعايير .. هذا المعيار هو اعتماد ما يوافق الحديث للقرآن وطرح ما يخالفه. وقد ذكرنا فيما سبق إنّ هذا القسم من الأحاديث (التي نقلناها عن البرهان) يخالف ظاهر القرآن ، ولذلك ينبغي التسليم أمامها ، ورد علمها إلى الأئمّة أنفسهم على فرض صدورها منهم.