تلك هي أُصول البراهين وأُمهات الأدلّة المتعارفة (1) التي يستدل بها لإثبات وجود اللّه سبحانه في مقدور كل فرد من أفراد البشر أن يستفيد منها حسب مذاقه وحسب إدراكه فيهتدي إلى اللّه ويتوصل إلى معرفته تعالى. ولذلك يقول القرآن الكريم : ( وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ) (2). ويعني بذلك أنّ لكل فرد أن يستدل على وجود اللّه بشيء من هذه البراهين والأدلة .. فهي أدلة توصل إلى معرفة اللّه ، والإذعان بوجوده لا محالة. غير أنّ أكثر هذه الأدلة شهرة وشمولاً وأقربها إلى الأذهان هو برهان النظم .. فهو برهان يلتفت إليه كل أحد مهما بلغت معلوماته من الضيق والض آلة ومهما هبط مستواه الفكري ، لأنّ هذا البرهان قائم على إثبات الصانع عن طريق المشاهدات والاستنباطات والمقدمات البسيطة التي يدركها ويلمسها كل إنسان حتى العادي. ولكن هناك طائفة أُخرى من الأدلة العقلية تفوق مستوى الفهم العام وهي تحتاج ـ لعمقها ـ إلى إمعان ومزيد تعمّق وتدبّر ... بل وإلى إرشاد « معلم إلهي » متخصّص في هذا العلم ، متضلّع في هذا الفن من المعارف .. وليس ذلك إلاّ لدقة مسالكها ، وعمق محتوياتها. ومن هذه الأدلة ما يلي :
9. برهان الصدِّيقين وهو أحد البراهين ذات الدلالة القوية على « وجود اللّه » سبحانه.
1 ـ والتي يندرج تحت كل واحد منها آلاف بل آلاف الآلاف من الأدلّة. 2 ـ البقرة : 148.
(122)
ويتلخص هذا البرهان في : أنّ للإنسان أن يتوصل إلى معرفة اللّه من مطالعة الوجود نفسه ... بمعنى أنّه لا يحتاج ـ هنا ـ لإثبات الصانع إلاّ إلى مطالعة نفس الوجود لا غير. ولهذا البرهان أصل قرآني وجذور في كتاب اللّه الكريم. وربما يكون قوله تعالى : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) (1) إشارة إلى هذا الدليل. (2) كما ورد في أدعية أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) ما يشير إلى هذا البرهان من قريب أو بعيد : فقد ورد في الدعاء المعروف بدعاء « الصباح » وهو الدعاء القيّم الذي علّمه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) لتلميذه « كميل » قوله : « يا من دل على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ». (3) وقد تعرض ابن سينا ، الفيلسوف الإسلامي إلى هذا البرهان في كتابه « الإشارات ». (4) كما تبعه في ذلك المحقّق نصير الدين الطوسي في كتابه المعروف ب ـ « تجريد الاعتقاد » الذي شرحه تلميذه العلاّمة الحلي رحمهما اللّه. (5) 1 ـ فصلت : 53. 2 ـ وهناك آيات أُخرى ربّما حملوها على هذا البرهان وسيوافيك بيانها في موضعه. 3 ـ راجع كتب الأدعية. 4 ـ الإشارات : 3/18 ـ 28. 5 ـ التجريد : 172 ، وقد قرر هذا البرهان المرحوم صدر المتألّهين بشكل آخر في كتابه « الأسفار » فليراجعه من أراد أن يقف على تقريره.
(123)
وحيث إنّ لهذا البرهان أصلاً قرآنياً ـ كما أسلفنا ـ لذلك سنذكره مفصلاً في محله من هذه البحوث.
10. براهين أُخرى مثل : برهان الوجوب. برهان الترتب. برهان الأسد والأخصر. وهي براهين خارجة عن إطار الهدف الذي من أجله عقدنا هذه البحوث وكتبنا هذه الدراسة ، إذ غاية ما نرمي إليه في هذه البحوث هو ذكر البراهين ذات « الأصل القرآني » أي ذكر ما له جذور في كتاب اللّه من هذه البراهين ، لأنّ هدفنا ـ كما يتضح من عنوان هذه الدراسة ـ هو استجلاء « معالم التوحيد في القرآن الكريم ». (1) 1 ـ وقد تحدث المرحوم صدر المتألّهين حول برهان « الوجوب » وبرهان « الأسد والأخصر » في كتاب الأسفار : 2/165 ـ 166.
ذكرنا فيما مضى أنّ هناك طريقين لإثبات وجود اللّه تعالى : طريق الاستدلال ، وطريق الفطرة. وها نحن نستعرض في هذا الفصل « الأدلّة » العقلية والعلمية الواردة في القرآن لإثبات وجود اللّه سبحانه .. ولن نتقيّد بتطبيق هذه الأدلّة القرآنية على البراهين التسعة التي ذكرناها .. نعم لو حصل أن انطبق دليل قرآني على واحد من تلك البراهين التسعة أشرنا إلى ذلك ، وعمدنا إلى توضيحه قدر المستطاع والإمكان. بعث رسول الإسلام ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في بيئة كانت تسودها الوثنية ، وكان الناس إلاّ الشاذ منهم وثنيين يعبدون الأصنام ويعكفون على الأوثان رغم اعتقادهم باللّه ظناً بأنّ هذه الأصنام والصور المعبودة مقربة عند اللّه ، وشفعاء بينه وبين البشر. ولأجل هذا تركز اهتمام القرآن على تنزيهه سبحانه عن « الشريك » في العبادة لا على إثبات وجوده ، لأنّ وجوده تعالى كان أمراً مسلّماً ومفروغاً عنه في ذلك المجتمع.
(125)
وفيما يلي نذكر الآيات التي تبيَّن اعتقاد وثنيي عصر الرسالة حول اللّه وكيف أنّهم كانوا يعتقدون بوجوده : ( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (1). ( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (2). ( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (3). ( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (4). ( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (5). ( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (6). إنّ ملاحظة مفادات هذه الآيات تفيد ـ بوضوح لا يقبل جدلاً ـ بأنّ المجتمع الجاهلي المعاصر لعصر الوحي ونزول الرسالة لم يكن معتقداً بوجود اللّه فحسب بل كان معتقداً ـ فوق ذلك ـ بأنّه الخالق الوحيد لهذا الكون والمدبّر الحقيقي لأُموره وشؤونه ، بمعنى أنّهم كانوا موحِّدين في الخالقية والربوبية ـ كما هو
1 ـ لقمان : 25. 2 ـ الزمر : 38. 3 ـ الزخرف : 9. 4 ـ الزخرف : 87. 5 ـ العنكبوت : 61. 6 ـ العنكبوت : 63.
(126)
المصطلح ـ . ولذلك فإنّ أوّل موضوع طرحه الرسول الأكرم على قومه هو الدعوة إلى « توحيد اللّه » في العبادة لا الاعتقاد بوجوده. على أنّ مراجعة معتقدات المشركين والوثنيين في عصر الوحي وقبله ، والتي سوف نوردها في الفصل التاسع : « التوحيد في العبادة » أفضل شاهد ودليل على ما قلناه من أنّ انحراف المشركين كان في مسألة « الوحدانية » في العبادة لا في أصل وجود اللّه. فهناك ـ في الفصل التاسع ـ سوف نذكر كيف أنّ غالبية وثنيي العرب ما كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام خالقة السماوات والأرض ، ولا أنّها مدبّرة للكون إلى جانب اللّه ، بل كانوا يعتقدون بأنّها مقربة عند اللّه ، وشفعاء لديه وكانوا يظنون بأنّ عبادتهم لها ستقربهم إلى اللّه تعالى ، وتوجب الزلفى لديه (1). ويدل على وجود مثل هذا الاعتقاد لدى من كان يعبد الأصنام آيات هي : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ ) (2). ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (3). ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلاَ يَعْقِلُونَ ) (4).
1 ـ نعم لا يمكن القول بأنّ كل وثنيي العرب أو كافة وثنيي العالم على مثل هذا الاعتقاد ، بل هناك من يعتقد بتعدد « واجب الوجود » كالمثلثة ، أو تعدد « الخالق » تعدداً حقيقياً كالثنويين ، أو من يعتقد بتعدد « المدبّر » وسيوافيك بيان مفصل عن مقالاتهم وعقائدهم في الفصل التاسع. 2 ـ يونس : 18. 3 ـ الزمر : 3. 4 ـ الزمر : 43.
(127)
( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ ) (1). ولكن رغم كل هذا لا يمكن لأحد أن يدّعي عدم وجود ملحدين ـ بتاتاً ـ في عصر الرسالة ، أو يدّعي أنّ القرآن الكريم لم يتحدث أبداً حول أصل وجود اللّه ، بل على خلاف هذا النظر فإنّ بعض الآيات القرآنية تكشف عن وجود ملحدين في عصر الرسالة ، كما أنّ هناك مجموعة من البراهين العلمية في القرآن الكريم قد وردت ـ في الحقيقة ـ لإثبات وجود اللّه. وسنذكر الآيات الدالة على كلا الأمرين. ونذكر أوّلاً الآية التي تذكر عقيدة جماعة من الماديين الذين كانوا يعاصرون عهد الوحي ، حول الإنسان وما سواه من الظواهر الكونية مبدأ وم آلا ، حيث يقولون ـ حسبما يحدثنا القرآن ـ : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (2). ومن الطبيعي أنّ هذا المنطق أعني : زعم هؤلاء بأنّ سبب هلاك البشر هو مرور الزمن لم يكن إلاّ بسبب عدم اعتقادهم بوجود « خالق » اسمه اللّه ، هو الذي يميت كما خلق. فهم كانوا يعتقدون بأنّ الحياة والموت ما هما إلاّ أثرين من آثار المادة. أي
1 ـ الأنعام : 94. 2 ـ الجاثية : 24.
(128)
من الآثار الفيزياوية والكيمياوية للمادة ـ حسب المصطلح الحديث ـ . فحينما تشيخ المادة وتهرم بسبب مرور الزمن فتأخذ طريقها ـ في الم آل ـ إلى البلى وتؤول إلى دنيا العدم ، فذلك هو الموت. إذا تبيّ ـ ن هذا نقول : هل من المعقول أن يطرح القرآن هذه النظرية الإلحادية عن لسان أتباعها في عصر الرسالة ثم لا يعمد إلى نقدها والرد عليها ، ولا يقيم ضدها ما يرفع الشك ويزيل الشبهة؟!! لقد كان الأُستاذ العلاّمة الطباطبائي ـ صاحب تفسير الميزان ـ يصر في محاضراته العلمية على أنّ القرآن الكريم لم يتعرض مطلقاً لإثبات أصل وجود اللّه ، ولم يقم عليه أي دليل أبداً ، وذلك إمّا لبداهة وجود اللّه وفطريته ، أو لأنّ ذات اللّه أسمى من أن يحتاج إثباتها إلى دليل. ولكنّنا نتصور أنّه قد وردت في الكتاب العزيز براهين لإثبات وجود اللّه تعالى ، وسوف نورد هذه البراهين في هذه الدراسة بنحو من الأنحاء بإذن اللّه.
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيد * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيز ) (1). (2) قبل الورود في توضيح الآيات التي وردت لإثبات وجوده سبحانه نأت بنكتة وهي : أنّه قد سبق منا ـ آنفاً ـ أنّ البراهين الواردة في القرآن حسب النوع تناهز عشرة براهين أو أكثر ، ولسنا مدّعين أنّ هذه الآيات صريحة في تلك البراهين أو منطبقة عليها انطباقاً تاماً حسب العناوين التي نأتي بها في أوّل البحث ، وإنّما هدفنا هو طرح الأدلّة التي تعرّض لها القرآن واستدلّ بها لإثبات الصانع ، سواء كانت هذه الأدلّة الواردة في القرآن منطبقة مع الأدلّة والبراهين السالفة الذكر أم لا.
1 ـ فاطر : 15 ـ 17. 2 ـ يصف القرآن الكريم (اللّه تعالى) في الآية الأُولى من الآيات الثلاث بأنّه الغني الحميد ، وقد جاء في الآيتين التاليتين دليل ذلك : 1 ـ أمّا أنّ اللّه غني ، فلأنّه يمكنه أن يعدمنا لنعلم أنّه لا يحتاج إلينا ، وأنّه لو شاء لأتى بخلق جديد ، وهذا مفاد (الآية 16). 2 ـ وأمّا أنّه تعالى حميد ، فلأنّه قادر على ذلك وهذا هو مفاد (الآية 17).
(130)
وصفوة القول : إنّ ما نبغيه هنا هو التتلمذ على القرآن واتّخاذه إماماً ومعلماً لنا في هذا المجال لا ما يقوله الحكماء والفلاسفة والعلماء نعم لو طابق شيء من كلامهم مع ما ذهب إليه القرآن واستدل به أشرنا إليه ، وقلنا انّ هذا الاستدلال يشير إلى دليل النظم أو الإمكان أو ... وفي كل ذلك نستعين اللّه على فهم مراد كتابه ومفاهيمه ، وهو ولي التوفيق. لا ريب أنّ « فقر » الشيء دليل قاطع على احتياجه إلى « غني قوي » يزيل حاجته ، ويمسح عن وجهه غبار الاحتياج والافتقار ، فما لم تمتد يد من الخارج إلى ذلك الشيء لم يرتفع فقره ، ولم يندحر احتياجه. تلك حقيقة لا يمكن أن يجادل أو يشك في أمرها أحد. من هنا لا بد أن يكون لهذا الكون ـ بأسر هـ من أفاض عليه الوجود. فالظواهر الكونية من الذرة إلى المجرة مقرونة ب ـ « الفقر الذاتي » .. فجميعها مسبوقة بالعدم ، ولهذا فهي تحتاج في تحقّقها ووجودها إلى « غني » يطرد عنها غبار العدم ، ويلبسها حلّة الوجود. افترض ـ للمثال ـ أيّة ظاهرة شئت تجد أنّها قبل أن ترتدي حلّة الوجود كانت تختفي خلف حجاب العدم وتنغمس في ظلماته ، ثم استطاعت ـ في ظل قدرة فعّالة ـ أن تمزّق حجب العدم ، وتشق طريقها إلى عالم الوجود. ومن المعلوم أنّه لو لم يكن ثمت غني باسم « العلة » لما قدر لهذه الظاهرة المعدوم ـ ةأصلاً ـ أن تدخل إلى ساحة الوجود ، ذلك لأنّ نسبة أي شيء ممكن يتصوّره الذهن ، إلى الوجود والعدم سواء ، بمعنى أنّه كما لا يترجح وجوده ذاتياً كذلك لا يترجح عدمه ذاتياً أيضاً.