قلناه في الآية المتقدّمة المشابهة لما نحن فيه ، إذ لو كان الرب بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وجه ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الرب يعني المدبر ، فتكون جملة ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) علّة للتوحيد في الربوبية ، إذ يكون المعنى حينئذ هو : أنّ الذي خلقكم هو مدبِّركم. ج. ( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْء ). (1) وهذه الآية حاكية عن أنَّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء ، وأنّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يفنّد رأيهم ويبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللّه رباً على خلاف ما كانوا عليه ، ومن المحتم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة « التوحيد في الخالقية » بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد في غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى ، ولذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية ، وليست هي إلاّ مسألة تدبير الكون ، بعضه أو كلّه. د. ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذا غَافِلِينَ ) . (2) فقد أخذ اللّه في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الإقرار بالتوحيد الربوبي ، وكانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة ، كما يقول : ( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ 1 ـ الأنعام : 164. 2 ـ الأعراف : 172.
(392)
الْمُبْطِلُونَ ) (1). إذا تبيَّن هذا فنقول : إنّ نزول هذه الآية في بيئة مشركة دليل ـ ولا شك ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق ، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبي في الخالقية ، ولكن الفرض هو عدم وجود أي اختلاف في مسألة « توحيد الخالقية » في عصر الرسالة ، فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور ، فلا محيص ـ حينئذ ـ من أنّ الخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم وإدارة الكون. وبهذا التقرير يكون معنى الرب في الآية المبحوث هنا هو المدبّر. هـ . ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2). تتعلّق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الذي كان يدافع عن النبي موسى ( عليه السَّلام ) وراء قناع الصحبة والصداقة لآل فرعون ، ويسعى تحت ستار الموافقة معهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبي العظيم ، وأمّا دلالتها على كون الرب بمعنى المدبّر فواضحة ، لأنّ فرعون ما كان يدّعي الخالقية للسماء والأرض ولا الشركة مع اللّه سبحانه في خلق العالم وإيجاده ، وهذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً ، وفي هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبي موسى بقوله : ( ربي اللّه ) هو حصر « التدبير » في اللّه سبحانه لا مسألة الخلق ، ولو كانت تتعلّق بمسألة الخلق والإيجاد لما كان بينه وبين فرعون أي خلاف ونزاع ، إذ المفروض اعتراف فرعون بخالقية اللّه ـ كما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى يقول في الآية السابقة
1 ـ الأعراف : 173. 2 ـ غافر : 28.
(393)
لهذه الآية : و. ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) (1). فإنّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكوين دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لأي تبدّل وتبديل. ومن هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون : ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ) (2). ز. ( فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهاً ) (3). إنّ الفتية الذين فرّوا من ذلك الجو الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بالوهية غير اللّه ، ولكن الوهية غير اللّه ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن في صورة تعدّد الخالق ، خاصة وأنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية وأفكارها قد تقدّمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظيت من الرقي بمقدار معتد به ، ولم يكن يعقل ـ في ظل هذا الرقي الفكري ـ وجود مجتمع منكر لخالقية اللّه ، أو مشرك فيها ، فلابد أن يقال أنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدّد المدبّر. ح. انّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبّرية وليس الخالقية كما يتوهم ، هو الآية المتكررة في سورة الرحمن : ( فَبِأَىِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ). فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة ، وجاءت لفظة رب جنباً
1 ـ غافر : 26. 2 ـ النازعات : 24. 3 ـ الكهف : 14.
(394)
إلى جنب مع لفظة الآلاء التي تعني النعم ، وغير خفي أنّ قضية النعمة مع التذكير بمقام ربوبية اللّه لحياة البشر وحفظها من الفناء أنسب وأكثر انسجاماً ، إذ ذكر النعم (التي هي من شعب التربية الإلهية التي يوليها سبحانه للبشر ) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم وإدامة الإفاضة. ط. لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الرب في خمسة موارد في القرآن الكريم ، والشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية ودوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد ، وليست حقيقة تدبير الإنسان إلاّ إدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء. وإليك هذه الموارد : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ). (1) ( قَالَ رَبّي أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَليَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ). (2) ( قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ). (3) ( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ). (4) ( كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ). (5) 1 ـ إبراهيم : 7. 2 ـ النمل : 19. 3 ـ النمل : 40. 4 ـ الأحقاف : 15. 5 ـ سبأ : 15.
(395)
ي. وممّا يدلّ على ما قلنا قوله سبحانه : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنيِنَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَاراً ). (1) ومثله في سورة هود الآية 52. وهكذا : يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون وتدبير شؤونه تفسيراً للرب : فهو الذي يرسل المطر ، وهو الذي يمدد بالأموال والبنين ، وهو الذي يجعل الجنات ، وهو الذي يجعل الأنهار ، وكلّ هذه الأُمور جوانب وصور من التدبير. نتيجة هذا البحث من هذا البحث الموسّع يمكن أن نستنتج أمرين : 1. أنّ ربوبية اللّه عبارة عن مدبِّريته تعالى للعالم لا عن خالقيته. 2. دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة « التوحيد في التدبير » لم تكن موضع اتفاق بخلاف مسألة « التوحيد في الخالقية » ، وانّه كان في التاريخ ثمّت فريق يعتقد بمدبّرية غير اللّه للكون كله أو بعضه ، وكانا يخضعون أمامها باعتقاد أنّها أرباب. وبما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين ، فيمكن أن يكون بعض الفرق موحداً في الثاني ، ومشركاً في القسم الأوّل ، فاليهود والنصارى تورّطوا في « الشرك الربوبي » التشريعي ، لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار
1 ـ نوح : 10 ـ 12.
(396)
والرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة ، فكأنّه فوَّض أمر التشريع إليهم!!. (1) فها هو القرآن يقول عنهم : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللّهِ ). (2) ( وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ ) . (3) في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل تمثل في اسناد تدبير بعض جوانب الكون ، وشؤون العالم إلى الملائكة والجن والأرواح المقدسة أو الأجرام السماوية ، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزى تدبير « كل » جوانب الكون إلى غير اللّه ، ولكن مسألة الشرك في الربوبية تمثّلت في الأغلب في تسليم « بعض » الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد والمخلوقات. إنّ الآيات الدّالّة على هذه النتيجة ـ في الحقيقة ـ أكثر من أن يمكن سردها هنا ، لهذا نكتفي بما ذكرنا من الآيات تاركين للقارئ الباحث التفتيش عنها في القرآن الكريم.
القرآن لا يعترف بمدبِّر سواه ينص القرآن الكريم ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّ اللّه سبحانه هو المدبِّر الوحيد للعالم ، وينفي أي تدبير مستقل يكون مظهراً لربوبية غير اللّه. ( إِنَّ رَبَّكُمْ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمرَ مَا مِنْ شَفِيع إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا 1 ـ سوف يوافيك في الفصل العاشر أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه ، لا يشترك فيها غيره. 2 ـ التوبة : 31. 3 ـ آل عمران : 64.
(397)
تَذَكَّرُونَ ). (1) ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأِجَل مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ). (2) ففي هاتين الآيتين وما شابههما تستدعي الجمل التالية التأمّل أكثر من أي شيء : 1. ثم استوى على العرش. 2 يدبّر الأمر. 3. ما من شفيع إلاّ بإذنه. فنقول توضيحاً لهذه الجمل : ينتقل القرآن الكريم في هاتين الآيتين ـ بعد ذكر مسألة خلق السماوات والأرض ـ إلى مسألة الاستيلاء على العرش ، والهدف من ذلك هو الإشعار بأنّ زمام الكون ـ بعد خلق هـ بيده تعالى ، ولم يفوّضه إلى غيره ، فهو الآخذ بزمام العالم كما هو خالقه ، دون إهمال أو إيكال أو تفويض. إنّ الاستيلاء على العرش (والمعني به مطلق عالم الوجود) كناية عن السيطرة الكاملة والتسلّط التام على كل أجزاء الكون ، وتمام عالم الممكنات. وفي هاتين الآيتين والآيات المشابهة لهما (3) طرح القرآن ـ بعد موضوع الاستيلاء على العرش ـ موضوع تدبير العالم ليفيد بأنّ المدبِّر هو تعالى ، وليس سواه
1 ـ يونس : 3. 2 ـ الرعد : 2. 3 ـ مثل : الأعراف : 54 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4.
(398)
من مدبِّر. ثم إنّ النكتة في ذكر شفاعة الشفيع بإذنه سبحانه بعد مسألة حصر التدبير باللّه سبحانه هو أنّ المراد من هـ في المقام ـ هو الشفيع التكويني ، أعني : نظام العلة والمعلول الحاكم على عالم الطبيعة ، فتشير الآية إلى أنّ تأثير أيّة علّة في العوالم العلوية أو السفلية منوطة بالإذن الإلهي كما أسلفنا. ولأجل ذلك صرح بأنّه « ما من شفيع » أي وسيط مادياً كان أم مجرداً إلاّ من بعد إذنه لكي يفيد بأنّ مدبّرية اللّه المطلقة لا تنافي الاعتقاد بنظام العلية في عالم الطبيعة ، إذ أنّ وجود هذا النظام العلّي السببي نفسه مظهر من مظاهر تدبير اللّه ، وناشئ عن إرادته العليا ، فالمدبِّر الأصيل والمستقل ليس إلاّ هو وحده ، ولا تدبير لسواه إلاّ بأمره ومشيئته ، وإنّما أطلق لفظ الشفيع على نظام العلية ، لأنّه من الشفع بمعنى الزوج ، فكأنّ نظام العلية يتسبب في إيجاد آثاره وظواهره بالإنضمام إلى إرادة اللّه ومشيئته ، فكل علّة مشفوعة إلى إرادته وإذنه سبحانه تكون مؤثرة. ولو أُريد من الشفيع الشفاعة التشريعية ، فهو أيضاً داخل في إطار تدبيره سبحانه ، فلا يشفع شفيع في الدنيا والآخرة في حق عباده إلاّ بإذنه سبحانه. وربما يتصور البعض أنّ القرآن الكريم طرح مسألة « التوحيد في الربوبية » دون أن يقيم عليها أي برهان ، في حين أنّ القرآن أثبت هذا المطلب بالبراهين الواضحة القاطعة. وإليك فيما يلي بعض هذه الأدلة.
(399)
1. التدبير لا ينفك عن الخلق إنّ النقطة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسسة وتصوروا أنّهما من نوع واحد. إنّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه أو رب البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنّ ذاك التدبير يتم بإصدار الأوامر ، في حين أنّ التدبير الإلهي هو إدامة الخلق والإيجاد ، وقد سبق أنّ الخالقية منحصرة باللّه سبحانه. فالفريق الذي يعتقد بأنّ اللّه تعالى هو الخالق الوحيد يجب عليه أيضاً أن يعتقد بأنّه تعالى هو « المدبّر الوحيد » لكون التدبير خلقاً بعد خلق وهو فعل اللّه خاصة. توضيح ذلك : أنّ النظام الإمكاني ـ بحكم كونه فقيراً ممكناً ـ فاقد للوجود الذاتي ، فإنّ فقره هذا ليس منحصراً في وجوده في بدء تحقّقه ، وإنّما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة ، كما أنّ فقره ليس منحصراً في أصل وجوده ، فحسب بل هو محتاج حتى في علاقاته وروابطه وتأثيراته مع الموجودات الأُخرى وانسجامه مع مجموع العالم. وليس التدبير إلاّ إفاضة الوجود وإعطاء « القدرة على التأثير » للشيء الممكن ، ثمّ إنّ وجود النظام الإمكاني كما أنّه مفاض عليه من جانب اللّه سبحانه ، فكذلك تدبيره وإدارة وجوده تقوم به سبحانه وليس هذا إلاّ نوع من الخلق. وإذ ليس هناك من خالق سواه سبحانه ، فليس هناك مدبِّر سواه أيضاً ، وبذلك يستلزم الاعتراف بوحدة الخالق ، الاعتراف بوحدة المدبِّر.
(400)
فإنّ « تدبير » الوردة ليس إلاّ تقوّمها من المواد السكرية في الأرض ثم توليدها الأوكسجين في الهواء ، إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها ، وليس هذا إلاّ شعبة من الخلق. ومثلها ، الجنين منذ تكونه في رحم الأُم ، فهو لم يزل يمر بالتفاعلات حتى يخرج من بطن الأُم ، وليست هذه التفاعلات إلاّ شعبة من عملية الخلق وفرع منه وإيجاد بعد إيجاد. ويمكن تقرير هذا المطلب بصورة أُخرى بأن نقول : إنّ التدبير مأخوذ من مادة دبّر أي تابع وواصل وعقب ، وحقيقة التدبير ليست إلاّ لأنّ خالق العالم جعل الأسباب والعلل بحيث تأتي المعاليل والمسببات دبر الأسباب وعقيب العلل بحيث تأتي أجزاء الكون وراء بعضها تباعاً وبحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كمإله المناسب وهدفه المطلوب ، فإذا كان المراد من « التدبير » هو هذا ، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق ، ومع هذا كيف يجوز أن نعتقد بأنّ التدبير مغاير للخلق ونعتبرهما أمرين مختلفين. ولذا يذكر القرآن الكريم ـ بعد ذكر مسألة الخلق للسماوات والأرض ـ مسألة تسخير الشمس والقمر (1) الذي هو من التدبير ، ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق.
وحدة النظام دليل على وحدة المدبِّر في البحث السابق تحدّثنا عن وحدة نظام الكون ، وأثبتنا بوضوح أنّ مطالعة كل صفحة من صفحات هذا الكتاب التكويني العظيم تقودنا إلى نظام موحد ،
1 ـ الأعراف : 54 ، الرعد : 3.