مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 541 ـ 550
(541)
سبحانه : ( وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) . (1).
    وعلى ذلك فليس لأحد من المسلمين سب طائفة منهم وشتمها ورميها بالكفر والإلحاد ما دامت تتمسك بالشهادتين وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وذلك لأجل توسّلهم بالأنبياء أو تبرّكهم بآثارهم ، أو غير ذلك من المسائل الفكرية الدقيقة التي تضاربت فيها آراء علمائهم ونظرياتهم.
    فإن طعن فيهم طاعن أو رماهم بالشرك ، فقد خرج عن النهج الذي شاءه اللّه للمسلمين ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء ) (2) ، أو قال : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) . (3). وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) . (4).
    والمراد بحبل اللّه الذي يجب الاعتصام به هو دينه المفسر بالإسلام ، كما قال : ( إِِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلامُ ) (5) ، والإسلام هو إظهار الشهادتين ولا ريب في وجوده في طوائف المسلمين إلاّ من اتفقت كلمتهم على تكفيرهم كالخوارج والنواصب.
    ومن راجع الكتاب والسنّة يجد انّهما يركزان دعوتهما على لزوم التوادد والتحابب بين المسلمين لا على التنافر ، ورمي بعضهم بعضاً بالكفر ، والتعدي بالضرب والشتم والقتل.
    وأخرج البخاري بطرق عديدة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) انّه قال في حجة الوداع :
    « انظروا ولا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ». (6).
    فكيف يسمح الوهابيون لأنفسهم إذن بأن يرموا المسلمين الموحدين بالشرك ليس إلاّ لأنّهم يظهرون ما يضمرونه من محبة وود للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بتقبيل ضريحه وتعظيمه.

2. هل القدرة والعجز حدّان للشرك؟
    ربما يستفاد من كلمات الوهابيين أنّ هناك معياراً آخر للشرك في العبادة ،
    1 ـ النساء : 83.
    2 ـ الأنعام : 159.
    3 ـ النساء : 94.
    4 ـ آل عمران : 102 ـ 103.
    5 ـ آل عمران : 19.
    6 ـ البخاري : ج9 كتاب الفتن الباب السابع الحديث الأوّل والثاني ، ورواه أيضاً في مختلف كتبه ، ورواه ابن ماجة في باب سباب المسلم فسوق ، راجع 2/462 ، ط مصر.


(542)
وهو « قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة وعجزه عنه » ، فإذا طلب أحد من آخر حاجة لا يقدر عليها إلاّ اللّه عدّ عمله عبادة وشركاً ، فها هو ابن تيمية يكتب في هذا الصدد قائلاً :
    « من يأتي إلى قبر نبي أو صالح ، ويسأله حاجته ، ويستنجد به ، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه ، أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ ، فهذ شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلاّ قتل » (1).
    لقد جعل في هذه العبارة للشرك معياراً آخر ، وهو قدرة المسؤول وعجزه عن تلبية السائل ، ولو كان هذا هو الميزان يجدر بابن تيمية أن يضيف بعد قوله : « قبر نبي أو صالح » جملة أُخرى هي : « أو ولي حي » ليتضح أنّ المعيار الذي اعتمد هـ هنا ـ ليس هو موت المستغاث وحياته ، بل قدرته على تلبية الحاجة وعدم قدرته على ذلك ، كما فعل الصنعاني (وهو أحد مؤلّفي الوهابيين) إذ قال : « من الأموات أو من الأحياء ».
    وإليك فيما يأتي نص عبارة الصنعاني في المقام :
    الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه مما لا ينكرها أحد ، وإنّما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم ، وطلبهم منهم أُموراً لا يقدر عليها إلاّ اللّه تعالى من عافية المريض وغيرها ، وقد قالت أُم سليم : يا رسول اللّه خادمك أنس ادع اللّه له.
    وقد كانت الصحابة يطلبون الدعاء منه وهو حي وهذا أمر متفق على جوازه.
    1 ـ زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : 156. وفي رسائل الهدية السنية : 40 نجد ما يقرب من هذا المطلب أيضاً يراجع كتاب كشف الارتياب.

(543)
    والكلام في طلب القبوريين ، من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم ، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلاّ اللّه (1).
    وهكذا نعرف أنّ المعيار هنا هو غير ما سبق.
    ففي المبحث السابق كان المعيار هو : حياة وموت المستغاث ، فلم يكن الطلب من الحي موجباً للشرك بينما كان الطلب من الميت موجباً لذلك ، ولكن في هذا المبحث جعلت قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة المطلوبة منه ، أو عجزه عنها هي الميزان والمدار للتوحيد والشرك.
    فلو سأل أحد حاجة من آخر غير اللّه ، وكانت تلك الحاجة مما لا يقدر عليها غيره سبحانه ، فإنّه يعتبر ـ حسب هذا المعيار الجديد ـ مشركاً دون أن يكون لحياة وموت المستغاث أي ربط بذلك.
    فإذن لا تفاوت في هذا المعيار بين المستغاث الحي والميت.
مناقشة هذا الرأي
    والحق أنّ هذا الرأي أضعف من أن يحتاج إلى مناقشة ونقد ، وذلك لأنّ قدرة المستغاث أو عجزه إنّما يكون معياراً لعقلائية مثل هذا الطلب وعدم عقلائيته لا معياراً للتوحيد والشرك ، فالساقط في بئر مثلاً لو استغاث بالأحجار والصخور المحيطة به واستنجد بها عد ـ في نظر العقلاء ـ عابثاً ، أمّا لو استغاث بإنسان واقف عند البئر قادر على إنقاذه كان طلبه عملاً عقلائياً.
    وأغلب الظن أنّ مراد الوهابيين من قولهم : « مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ
    1 ـ كشف الارتياب : 272.

(544)
وجل » ليس هو التفريق بين القادر والعاجز ، وانّ طلب الحاجة من الثاني شرك دون الأوّل ، وإن كان هذا تفيده ظواهر كلماتهم وعباراتهم ، بل المقصود من تلك الجملة هو التفريق بين طلب ما هو من فعل اللّه وشأنه وما لا يكون من فعله وشأنه فتكون النتيجة أنّه لو طلب واحد من غير اللّه ما هو من فعل اللّه وشأنه ارتكب شركاً ، كما تشعر بذلك عبارة ابن تيمية إذ قال : « أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ » ، ومثله عبارة الصنعاني إذ قال : « من عافية المريض وغيرها ... ».
    ولا شك أنّ طلب ما هو من فعل اللّه وشأنه من غيره من أقسام الشرك ، ويعد السائل عابداً له ، وعمله عبادة ، وقد سبق منّا بيان هذا القسم من الشرك عند الكلام في التعريف الثالث للعبادة ، ونحن والمسلمون جميعاً نوافقهم في هذا الأصل.
    إلاّ أنّ الكلام كله إنّما هو في تشخيص ما يعد فعلاً للّه سبحانه عن فعل غيره ، وقد سلم ابن تيمية بأنّ إشفاء المريض وقضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعإله سبحانه ، ولذلك لا يجوز طلبه من غيره مطلقاً ، بيد أنّ الحق أنّ هذه الأُمور ليست من فعل اللّه مطلقاً بل القسم الخاص منها يعد فعلاً له سبحانه ، وهو قضاء حاجة المستنجد (كإبراء المريض وقضاء الدين ورد الضالّة وغيرها من الأفعال » على وجه الاستقلال من دون استعانة بأحد.
    وأمّا القسم الذي يقوم به غيره بإذنه سبحانه ، وإقداره فلا يعد فعلاً خاصاً به ، ولأجل ذلك لو طلب أحد هذه الأُمور من غير اللّه مع الاعتقاد بأنّ المستغاث يقوم بهذه الأُمور مستمداً من قدرة اللّه ونابعاً عن إذنه ومشيئته لم يكن شركاً.
    كيف لا وقد نسب القرآن الكريم إشفاء المرضى والأكمه إلى المسيح ( عليه السَّلام )


(545)
مع التلويح بالإذن الإلهي ، إذ قال : ( وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي ) (1).
    كما ونسب القرآن : الخلق والتدبير والإحياء والإماتة والرزق إلى كثير من عباده مع أنّها ـ ولا شك ـ من أوضح أفعاله سبحانه ولا يقل وضوح انتسابه إلى اللّه مما مثل به ابن تيمية.
    وليست هذه النسبة إلى غير اللّه إلاّ لأجل ما أشرنا إليه ، في محله (2) من أنّ ما يعد فعلاً للباري سبحانه ليس هو مطلق الخلق والرزق ، والتصرف والتدبير ، والإحياء والإماتة ، حتى يناقض نسبتها إلى غيره سبحانه (كما في كثير من الآيات) بل القسم الخاص منها وهو ما يكون الفاعل مستقلاً في فعله ، منحصر به سبحانه كما أنّه ليس ثمة مسلم يطلب هذه الأفعال بهذا النحو من غيره سبحانه حتى يعد عمله شركاً ويكون سؤإله عبادة.
    فالواجب على ابن تيمية وأتباعه دراسة أفعاله سبحانه وتمييزها عن أفعال غيره أوّلاً ، فإنّه المفتاح الوحيد لحل هذه المشكلة ، بل هو المفتاح والطريق لحل كل الاختلافات بين ظواهر الآيات التي تبدو متعارضة مع بعضها في نسبة الأفعال.
    وعلى ذلك فإنّ طلب إزالة المرض ورد الضالّة وغيرهما على نحوين :
    قسم يختص به سبحانه ولا يجوز طلبه من غيره وإلاّ لعاد الطالب مشركاً وعابداً لغير اللّه.
    1 ـ المائدة : 110.
    2 ـ راجع للوقوف على كيفية انتساب هذه الأفعال إلى اللّه سبحانه الفصل الثامن ص 404.


(546)
    وقسم يجوز طلبه من غيره ولا يعد الطالب مشركاً ، ولا يكون بطلبه عابداً لغير اللّه.
    وأمّا أنّ المسؤول والمستغاث هل يقدر على تحقيق الحاجة أوّ لا؟ وإنّ اللّه هل أقدره على ذلك أو لا؟ فهي أُمور خارجة عن موضوع بحثنا الفعلي.

3. هل طلب الأُمور الخارقة حد للشرك؟
    لا شك أنّ لكل ظاهرة ـ بحكم قانون العلية ـ علَّة لا يمكن للمعلول أن يوجد بدونها ، فليس في الكون الفسيح كله من ظاهرة حادثة لا ترتبط بعلة ، ومعاجز الأنبياء ، وكرامات الأولياء غير مستثناة من هذا الحكم فهي لا تكون دون علة ، غاية الأمر أنّ علتها ليست من سنخ العلل الطبيعية ، وهو غير القول بكونها موجودة بلا علة مطلقاً.
    فإذا ما تبدلت عصا موسى ( عليه السَّلام ) إلى ثعبان يتحرك ويبتلع الأفاعي ، وإذا ما عادت الروح إلى جسد ميت بال ، بإعجاز المسيح ( عليه السَّلام ) ، وإذا ما انشق القمر نصفين بإعجاز خاتم الأنبياء ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، أو تكلم الحصى معه ، أو سبّح في يده ، فليس معنى ذلك إنّها لا ترتبط بعلة كسائر الظواهر الحادثة ، بل ترتبط بعلل خاصة غير العلل الطبيعية المألوفة.
    فلو استمد إنسان من انسان آخر لقضاء حاجته عن علله الطبيعية لقد جرى على السنة المألوفة بين العقلاء ، إنّما الكلام في الاستمداد لقضاء الحاجة عن الطرق الغيبية والعلل غير الطبيعية ، وهذا هو ما يتصور أنّه شرك ، وفي ذلك يقول المودودي لو طلب حاجة وأمراً لتعطى له من غير المجرى الطبيعي وخارجاً عن إطار السنن الطبيعية كان شركاً وملازماً للاعتقاد بإلوهية الجانب الآخر المسؤول. (1)
    1 ـ راجع المصطلحات الأربعة : 14.

(547)
    غير أنّ هذا التفصيل لا يمكن الركون إليه إذ جرت سيرة العقلاء على طلب المعجزة والأُمور الخارقة للعادة من مدعي النبوة ، وقد نقل القرآن تلك السيرة عن الذين عاصروا الأنبياء من دون أن يعقب على ذلك بالرد والنقد ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَة فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ). (1)
    وقد كان الأنبياء يدعون الناس ليشهدوا ما يقع على أيديهم من خوارق العادات ، وعلى هذا فالإنسان المستهدي المتطلب لمعرفة صدق دعوى المتنبئ كالسيد المسيح وغيره إذا طلب منه أن يبرئ الأكمه ويشفي الأبرص ـ بإذن اللّه ـ (2) لا يكون مشركاً ، ومثله فيما إذا طلب ذلك منه بعد رفعه إلى اللّه سبحانه ، فلا يمكن التفريق بين الصورتين باعتبار الأوّل عملاً توحيدياً والثاني عملاً ممزوجاً بالشرك.
    أضف إلى ذلك أنّ بني إسرائيل طلبوا من موسى الماء والمطر وهم في التيه ليخلصهم من الظمأ إذ يقول سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ). (3)
    وقد طلب سليمان من حضّار مجلسه إحضار عرش المرأة التي كانت تملك قومها كما يحكي سبحانه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) . (4)
    فلو كان طلب الخوارق من غيره سبحانه شركاً كيف طلب بنو إسرائيل من
    1 ـ الأعراف : 106.
    2 ـ راجع للوقوف على معاجز سيدنا المسيح سورة آل عمران : 249 ، والمائدة : 110.
    3 ـ الأعراف : 160.
    4 ـ النمل : 37 ـ 38.


(548)
نبيّهم موسى ذلك الأمر؟ أو كيف طلب سليمان من أصحابه إحضار ذلك العرش من المكان البعيد؟! وكل ذلك يعطي بأنّ طلب الخوارق أو طلب الشيء عن غير مجاريه الطبيعية ليس حداً للشرك كما أنّ الحياة والموت ليسا حدّين للشرك ، فلا يمكن أن يقال بأنّ طلب الخوارق جائز من الحي دون الميت ، ولأجل ذلك يجب أن نركز البحث في التعرف على ملاك الشرك والتوحيد.
    وتصور أنّ طلب الخوارق ملازم للاعتقاد بالسلطة الغيبية الملازمة للإلوهية ، فقد عرفت جوابه في ذلك الفصل. (1)
    وتصور أنّ طلب شفاء المريض وأداء الدين طلب لفعل اللّه من غيره ، مدفوع بما عرفت من أنّ الملاك في تمييز فعله سبحانه عن غيره ليس هو كون الفعل خارجاً عن إطار السنن الطبيعية وخارقاً للقوانين الكونية ليكون طلب مثل هذا من غير اللّه طلباً للفعل الإلهي من غيره.
    بل المعيار في الفعل والشأن الإلهي هو ما كان الفاعل مستقلاً في الخلق والإيجاد غير معتمد على غيره سواء أكان الأمر أمراً طبيعياً أم غير طبيعي ، ويجب على متطلب الحقيقة أن يدرس فعل اللّه وفعل غيره دراسة معمقة نابعة عن الكتاب والسنّة والعقل السليم.
    وبكلام آخر : انّه ليس القيام بأمر عن طريق عادي فعلاً للإنسان ، والقيام به عن طريق غير عادي فعلاً للّه سبحانه ، بل الفعل على قسمين : قسم منه يعد فعلاً له سبحانه لا يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي ، وقسم يعد فعلاً لغير اللّه يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي أيضاً ، وبذلك يعلم أنّ طلب الشفاء من الأولياء على النحو الذي بيناه لا يخالف أُصول التوحيد.
    1 ـ راجع في الوقوف على حقيقة الأمر ص 497.

(549)
    ولما كان البحث في المقام عن تحديد معايير التوحيد والشرك يجب علينا أن نعود ونبحث في مسائل أربع :
    1. هل طلب الشفاء من غيره سبحانه شرك؟
    2. هل طلب الشفاعة من عباد اللّه سبحانه شرك؟
    3. هل الاستعانة بأولياء اللّه شرك؟
    4. هل دعوة الصالحين شرك؟
    أمّا الوهابيُّون فقد اتفقت كلمتهم على أنّ هذه الطلبات عبادة محرمة وأنّ المسؤول سيعود معبوداً حتى أنّهم ـ مثلاً ـ لا يجوِّزون أن يقول الإنسان في باب الشفاعة : يا رسول اللّه! اشفع لي عند اللّه بل يقولون إنّما يجوز أن يقول : اللّهم شفّعه فيَّ ، غير أنّ الفرق الأُخرى من المسلمين قد أجازوا ذلك واستدلّوا عليه بأدلة محررة في كتبهم ، ونحن نبحث هذه المسائل الأربع من زاوية خاصة وهي أنّ هذه الطلبات هل هي شرك أو لا ؟
    وبعبارة أُخرى : هل هي من باب طلب فعل اللّه من غيره سبحانه أو لا ؟ والجواب في هذه المسائل هو النفي قطعاً ويظهر وجهه مما حررناه في تحديد فعله سبحانه عن فعل غيره بمعنى أنّ الشفاء على وجه الاستقلال فعله سبحانه ، وعلى النحو المعتمد على قدرته سبحانه فعل للغير ، ومثله الشفاعة والإعانة فإنَّهما يتصوّران على قسمين : قسم يختص به سبحانه ، وقسم يعم عباده.
    غير أنّنا طلباً للوضوح الأكثر سندرس هذه المسائل الأربع في ضوء الآيات القرآنية ، وإن كان في ما تقدم غنى وكفاية.


(550)
9
هل طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة
ودعوة الصالحين شرك؟
1. هل طلب الإشفاء من غيره سبحانه شرك؟
    لا شك في أنّ هذا الكون عالم منظم ، فجميع الظواهر الكونية فيه تنبع من الأسباب والعلل التي ـ هي بدورها ـ مخلوقة للّه تعالى ، ومعلولة له سبحانه.
    وحيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها أي كمال ذاتي ، بل وجدت بمشيئة اللّه ، وصارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلك صح أن ينسب اللّه آثارها وأفعالها إلى نفسه ، كما يصح أن تنسب إلى عللها.
    هذا ما أوضحناه في ما سبق أتم إيضاح وبذلك يظهر أنّ الشفاء تارة ينسب إلى اللّه سبحانه وأُخرى إلى علله القريبة المؤثرة بإذنه ، وبذلك يرتفع التعارض الابتدائي بين الآيات ، فبينما يخص القرآن الإشفاء باللّه سبحانه ويقول : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ). (1)
    1 ـ الشعراء : 80.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس