ومن ذلك يظهر ضعف دليل رابع لمحمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ، ما حاصله : إنّ الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد في قوله : ( مُخْلِصينَ لَهُ الدين ) (1). إنّ دعوة الشفيع ـ بعد ثبوت الإذن له والرضا من اللّه ـ ليست عبادة للشفيع حتى تنافي إخلاص العبادة للّه سبحانه ، بل هو طلب الدعاء منه ، وإنّما يشترط الإخلاص في العبادة ، لا في طلب الدعاء من الغير ، كما لا تنافي دعوة اللّه ولا تنفك عنها ، إذ الشفاعة من الشفع ، وطلب الشفاعة من الشفيع بمعنى أنّ المستشفع يدعو الشفيع لأن ينضم إليه ، ويجتمعا ويدعوا اللّه سبحانه ـ معاً ـ فدعوة المستشفع للشافع ليس إلاّ دعوة الثاني إلى أن يدعو اللّه لا أكثر ، فأيُّ ضير في هذا يا ترى؟! ومن العجب تفسير طلب الشفاعة من النبي وغيره بأنّه دعاء للنبي مع اللّه كما في أسئلة الشيخ ابن بليهد : قاضي القضاة عن علماء المدينة (2) حيث قال : وما يفعل الجهّال عند هذه الضرائح من التمسّح بها ودعائها مع اللّه. ولا يخفى ما في كلامه من ضعف : أمّا أوّلاً : فإنّ هؤلاء المتوسلين عند الضرائح لا يشركون أحداً في الدعاء (الذي هو مخ العبادة) ولا يدعون إلاّ اللّه الواحد القهّار ، وإنّما يطلبون من أوليائهم أن يضموا دعاءهم إلى دعاء المتوسلين ، فيشتركوا معهم في دعاء اللّه
1 ـ كشف الشبهات : 8. 2 ـ نقلت جريدة أُم القرى في عددها 69 المؤرخ 17 شوال عام 1344 هـ كل نص هذه الأسئلة والأجوبة.
(562)
لنجاح حاجتهم ، ولولا ذلك لما كان لطلب الشفاعة معنى ، فإنّ الشفاعة مأخوذة من الشفع ـ كما قلنا ـ الذي هو ضد الوتر ، فهو يطلب من وليّه أن ينضم إليه في الدعاء ويجتمع معه في العمل ، فأين ذلك من تشريك غير اللّه معه في الدعاء؟ وثانياً : أنّ المسلمين لا يدعون الضرائح ، بل يطلبون من صاحب الضريح أن يشترك معهم في الدعاء ، لأنّه ذو مكانة مكينة عند اللّه ، وإن كان متوفّياً ، ولكنّه حي يرزق عند ربّ هـ بنص الكتاب العزيز ـ وانّه لا يرد دعاؤه لقوله سبحانه في حق النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مثلاً : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) . (1) ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ). (2) ثم إنّه يظهر من ابن تيمية في بعض رسائله (3) ، وتلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب في رسالة « أربع قواعد » (4) إنّهما استدلا على تحريم طلب الشفاعة من غير اللّه بقوله سبحانه : ( قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) . (5) وكأنّ الاستدلال مبني على أنّ معنى الآية هو : وللّه طلب الشفاعة فقط. ولكنه تفسير للآية بغير ظاهرها ، إذ ليس معنى الآية أنّ اللّه وحده هو الذي يشفع وغيره لا يشفع ، لأنّه تعالى لا يشفع عند أحد ، ثم قد ثبت أنّ الأنبياء
1 ـ النساء : 64. 2 ـ التوبة : 103. 3 ـ رسالة « زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور » : 156. 4 ـ ص 25 ، راجع كشف الارتياب : 240 ـ 241 وكشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب : 8. 5 ـ الزمر : 44.
(563)
والصالحين والملائكة يشفعون لديه. كما أنّه ليس معناها أنّه لا يجوز طلب الشفاعة إلاّ منه سبحانه ، بل معناها أنّ اللّه مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه. قال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) ، وقال : ( وَلا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى ) . ويتضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآية وهو : ( أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) . (1) فالمقطع الأخير من الآية بصدد الرد على الذين اتَّخذوا الأصنام والأحجار شفعاء عند اللّه ، وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه مع أنّها ما كانت تملك شيئاً ، فكيف كانت تملك الشفاعة وهي لا عقل لها حتى تشفع؟ يقول الزمخشري ـ في كشاف هـ : ( مِنْ دُونِ اللّهِ ) أي من دون إذنه ( قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعاً ) أي مالكها فلا يشفع أحد إلاّ بشرطين : أن يكون المشفوع له مرتضى ، وأن يكون الشفيع مأذوناً له ، وهاهنا الشرطان مفقودان جميعاً. (2) وما ذهب إليه ابن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية وأتباعهما من أنّ الآية هذه تدل على أنّ طلب الشفاعة لا يكون إلاّ من اللّه وحده ، دون طلبها من
1 ـ الزمر : 43 و 44. 2 ـ تفسير الكشاف : 3/34.
(564)
المخلوق وإن كان له حق الشفاعة ، لم يذكره أحد من المفسرين. ثم إنّه كيف يمكن التفريق بين طلب الشفاعة من الحي وطلبها من الميت ، فيجوز الأوّل بنص قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (1) ، وبدليل طلب أولاد يعقوب من أبيهم الشفاعة وقولهم : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ) (2)ووعد يعقوب ( عليه السَّلام ) إيّاهم بالاستغفار لهم ، بينما لا يكون الثاني (أي الاستشفاع بالميت) جائزاً؟ أفيمكن أن تكون الحياة والممات مؤثرتين في ماهية عمل؟! وقد سبق أنّ الحياة أو الممات ليست معياراً للتوحيد والشرك ، وبالنتيجة لجواز الشفاعة أو عدم جوازها. وإذا لاحظت كتب الوهابيين لرأيت أنّ الذي أوقعهم في الخطأ والالتباس هو مشابهة عمل الموحدين في طلب الشفاعة والاستغاثة بالأموات والتوسّل بهم ، لعمل المشركين عند أصنامهم ، ومعنى ذلك أنّهم اعتمدوا على الأشكال والظواهر وغفلوا عن النيّات والضمائر. وأنت أيها القارئ لو وقفت على ما في ثنايا هذه الفصول ، لرأيت أنّ الفرق بين العملين من وجوه كثيرة ، نذكر منها : 1. انّ المشركين كانوا يقولون بالوهية الأصنام بالمعنى الذي مرّ ذكره ، بخلاف الموحّدين.
1 ـ النساء : 64. 2 ـ يوسف : 97.
(565)
2. انّ الأوثان والأصنام كانت أعجز من أن تلبي دعوتهم ، وهذا بخلاف الأرواح الطاهرة المقدسة ، فإنّها أحياء بنص الكتاب العزيز ، وقادرة على ما يطلب منها في الدعاء. 3. انّ الأوثان والأصنام لم يأذن اللّه لها ، بخلاف النبي الأكرم فإنّه مأذون بنص القرآن الكريم : قال سبحانه : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ). (1) والمقام المحمود ـ باتّفاق المفسرين ـ هو مقام الشفاعة. 3. هل الاستعانة بغير اللّه شرك؟ إنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين : 1. أن نستعين بعامل ـ سواء كان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه وإذنه. وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك عن الاستعانة باللّه ذاته ، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر وأذن به وإن شاء سلبها وجرّدها منه. فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض ، فقد استعان باللّ هـ في الحقيقة ـ لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل ، القدرة على
1 ـ الإسراء : 79.
(566)
إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حد الكمال. 2. وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي أو غير طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقل في وجوده ، أو في فعله عن اللّه فلا شك أنّ ذاك الاعتقاد يصير شركاً والاستعانة معه عبادة. فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها ، أو أنّها مستقلة في وجودها ، ومادتها كما في فعلها وقدرتها فالاعتقاد شرك والطلب عبادة. مع مؤلّف المنار في تفسير حصر الاستعانة إنّ مؤلف المنار تصوّر أنّ حد التوحيد هو : أن نستعين بقدرتنا ونتعاون فيما بيننا ـ في الدرجة الأُولى ـ ثم نفوّض بقية الأمر إلى اللّه القادر على كل شيء ، ونطلب من هـ لا من سوا هـ ويقول في ذلك : يجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك ونبذل لإتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة وأن نتعاون ، ويساعد بعضنا بعضاً ، ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء ونلجأ إليه وحده ، ونطلب المعونة للعمل والموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه (1). إذ صحيح أنّنا يجب أن نستفيد من قدرتنا ، أو من العوامل الطبيعية المادية ولكن يجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأية أصالة وغنى واستقلال وإلاّ خرجنا عن حدود التوحيد.
1 ـ تفسير المنار : 1/59.
(567)
فإذا اعتقد أحد بأنّ هناك ـ مضافاً إلى العوامل والقوى الطبيعية ـ سلسلة من العلل غير الطبيعية التي تكون جميعها من عباد اللّه الأبرار الذين يمكنهم تقديم العون (1) لمن استعان بهم تحت شروط خاصة وبإذن اللّه وإجازته دون أن يكون لهم أي استقلال لا في وجودهم ولا في أثرهم ، فإنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غير الطبيعية ـ مع الاعتقاد المذكور ـ لا تكون استعانته عملاً صحيحاً فحسب ، بل تكون ـ بنحو من الأنحاء ـ استعانة باللّه ذاته كما لا يكون بين هذين النوعين من الاستعانة (الاستعانة بالعوامل الطبيعية والاستعانة بعباد اللّه الأبرار) أي فرق مطلقاً. فإذا كانت الاستعانة بالعباد الصالحين ـ على النحو المذكور ـ شركاً لزم أن تكون الاستعانة في صورتها الأُولى هي أيضاً معدودة في دائرة الشرك ، والتفريق بين الاستعانة بالعوامل الطبيعية و الاستعانة بغيرها إذا كانتا على وزان واحد وعلى نحو الاستمداد من قدرة اللّه وبإذنه ومشيئته بكونها موافقة للتوحيد في أُولى الصورتين ، ومخالفة له في ثانية الصورتين ، لا وجه له. من هذا البيان اتضح هدف صنفين من الآيات وردا في مسألة الاستعانة : الصنف الأوّل : يحصر الاستعانة باللّه فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه. والصنف الثاني : يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة غير اللّه ويعتبرها ناصرة ومعينة إلى جانب اللّه.
1 ـ البحث مركز في أنّ طلب العون والحال هذه شرك أو لا ، وأمّا أنّه هل أُعطيت لهم تلك المقدرة على العون أو لا ؟ فخارج عن موضوع بحثنا وإنّما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنية الأُخرى وقد نبهنا على ذلك غير مرة.
(568)
أقول : من البيان السابق اتضح وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً ، إلاّ أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصّنف الأوّل من الآيات فيخطّئون أي نوع من الاستعانة بغير اللّه ، ثم يضطرون إلى إخراج الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص بمعنى أنّهم يقولون : إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّ باللّه ، إلاّ في الموارد التي إذن اللّه بها ، وأجاز أن يستعان فيها بغيره ، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير اللّه ـ جائزة ومشروعة على وجه التخصيص ، وهذا مما لا يرتضيه الموحّد. في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً ، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد وهو : عدم الاستعانة بغير اللّه ، وانّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة باللّه بل تكون بحيث تعد استعانة باللّه لا استعانة بغيره. وبتعبير آخر : أنّ الآيات تريد أن تقول : بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمد منه كل معين وناصر ، قدرته وتأثيره ، ليس إلاّ اللّه سبحانه ، ولكن هـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمره ، استمداد الفرع من الأصل ، ولذلك تكون الاستعانة بها كالاستعانة باللّه ، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل. وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) . (1).
1 ـ آل عمران : 126.
(569)
( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ). (1). ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) . (2). هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل ، وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والأسباب : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ). (3). ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِ وَالتّقْوَى ). (4). ( مَا مَكّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة ) . (5). ( وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) . (6). ومفتاح حل التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه : إنّ في الكون مؤثراً تاماً ، ومستقلاً واحداً غير معتمد على غيره لا في وجوده ولا في فعله وهو اللّه سبحانه. وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه ، وهي تؤدي ما تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته ، ولو لم يعط تلك العوامل ما أعطاها من القدرة ، ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أية قدرة على شيء.
1 ـ الحمد : 4. 2 ـ الأنفال : 10. 3 ـ البقرة : 45. 4 ـ المائدة : 2. 5 ـ الكهف : 95. 6 ـ الأنفال : 72.
(570)
فالمعين الحقيقي في كل المراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً ، لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة باللّه وحده ، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقل (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية) ، ومعلوم أنّ استعانة ـ كهذ هـ لا تنافي حصر الاستعانة باللّه سبحانه لسببين : أوّلاً : لأنّّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى ، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي : ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات ، وبدون الاعتماد على غيرها ، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه إنّما هي على نحو آخر ، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية ، لا بالذات ، وبنحو الاستقلال ، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الأوّل ـ خاصة باللّه تعالى ، فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً. ثانياً : أنّ استعانة ـ كهذ هـ غير منفكة عن الاستعانة باللّه ، بل هي عين الاستعانة به تعالى ، وليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كله من فعل اللّه ومستند إليه) مناص من هذا. وممّا سبق يتبيَّن لك أيها القارئ الكريم ما في كلام ابن تيمية من الإشكال ، إذ يقول : أمّا من أقرّ بما ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع من شفاعته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والتوسّل به ونحو ذلك ، ولكن قال : لا يدعى إلاّ اللّه وإنّ الأُمور التي لا يقدر عليها إلاّ اللّه فلا تطلب إلاّ منه ، مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك ، فهذا مصيب في ذلك ، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين