إنّ اتساع الحياة الاجتماعية للبشر على وجه الأرض من جانب ، وغياب العيش الفردي في الكهوف والغابات والبراري شيئاً فشيئاً من جانب آخر ، يكشف عن أنّ الإنسان ميّال بطبعه إلى النمط الاجتماعي من الحياة ، ليتمكن بالتعاون مع أبناء نوعه من التفوّق على المشكلات والمصاعب. ومن جهة أُخرى لما كان الإنسان أنانياً بطبعه مشدوداً إلى « حب الذات » وهو من الغرائز الأصيلة فيه ، فهو يريد ـ بمقتضى هذه الغريزة ـ حصر كل ّشيء لنفسه ، وإذا يخضع للقوانين والنظم فلأنّه يرى في خضوعه للنظام ضماناً لمصالحه الشخصيه ، ولأجل هذاإذا وجد فرصة للتمرّد عليه ولم يجده مخالفاً لمصالحه يتمرّد عليه بحرص وولع. ولذلك اتفق العقلاء على لزوم وجود ما ينظم العلاقات البشرية ، حتى يتسنّى تكوين مجتمع إنساني صحيح يستطيع في ظله جميع البشر من استيفاء حقوقهم ، ومعرفة واجباتهم وفي الحياة الاجتماعية ليقوموا بها دونما تجاوز أو عدوان ، غير أنّه يجب علينا أن نعرف من هو الذي يقوم بهذا الواجب الأساسي. فنقول : بما أنّ المقنّن يريد أن يقود المجتمع البشري نحو الكمال المنشود ،
(602)
ويعيّن في ضوء ذلك واجبات الأشخاص تجاه بعضهم وتجاه أنفسهم ويضمن حقوقهم ، ويقيّض لهم سعادتهم المادية والمعنوية ، يجب أن يتوفر فيه أمران أساسيان : 1. أن يعرف الإنسان بعامّة خصوصياته ، ويكون واقفاً على أسرار الكائن البشري وعارفاً بأُموره الروحية والجسمية بنحو دقيق ، كالطبيب الذي لا يمكن أن يقوم بواجبه إلاّ بعد أن يتعرف على أحوال المريض وأوضاعه معرفة جيدة دقيقة ليتسنّى له معالجة المريض بنحو صحيح. وبعبارة أُخرى : أنّ المقنّن يجب أن يكون ملمّاً جيداً بعلم النفس الإنسانية ، وعلم الاجتماع محيطاً بهما ، واقفاً على حقائقهما ، لتوقف غرض التشريع على ذلك ، وبالجملة يجب أن يكون واقفاً على الأحوال الفردية والاجتماعية. 2. يجب أن يكون منزّهاً عن الهوى وعن أي نوع من حب الذات والنفعية ، لأنّ حب الذات حجاب غليظ يحول دون رؤية المشرع للواقع ، ويغطي على بصره وبصيرته. لأنّ المرء مهما كان عادلاً ومنصفاً ربما يقع بصورة لا شعورية في شباك « الهوى » ويتأثر بغريزة « حب الذات » وينحرف تحت ضغط « النفعية » عن صراط العدل المستقيم. ويجب أن نرى الآن فيمن يتوفر هذان الشرطان بنحو كامل؟ لا ريب إذا كان يتعين على المقنن أن يكون ذا معرفة كاملة بالإنسان ، فلا ريب أنّه لا يوجد هناك من يعرف حقيقة النفس الإنسانية واحتياجاتها بكاملها سوى اللّه خالق الإنسان. ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة إذ قال :
(603)
( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوْ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) . (1) فاللّه الذي خلق جميع ذرات هذا العالم وركّب أجزاءه ولاءم بين مختلفاته ، هو الذي يعلم ـ علماً تاماً ـ أسرار ما خلق ، وهو الذي يعلم ما يصلح النفس الإنسانية وما يفسدها ، أحسن من غيره. وهو بعلمه المطلق وإحاطته الواسعة أدرى من غيره بعلاقات الأفراد ، وأبعادها وآثارها ، ويعرف العناصر الصالحة لإقامة مجتمع صالح سعيد ، فهو أدرى من غيره بالقوانين التي تليق بالمجتمع الإنساني وتسعده ، هذا بالنسبة إلى الشرط الأوّل. وأمّا الشرط الثاني ، أعني : تجرّد المشرّع عن أيّ نوع من أنواع الهوى والنفعية ، فلابد من الاعتراف بأنّه لا أحد هناك يتصف بهذه الصفة غيره سبحانه ، فهو الموجود الوحيد الذي لا نفع له في المجتمع الإنساني ليخشى عليه ويحرص على حفظه وصيانته عند سن القوانين. فهو الذي تنزّه عن الغرائز ، في حين يتصف جميع أبناء البشر بحب الذات ـ التي تعتبر من أخطر آفات التشريع الصحيح ـ فهم مشدودون إليها رغم سعيهم للتخلّص من مخالبها ، ومتأثرون بها مهما حاولوا عدم الخضوع لسلطانها. وقد أشار جان جاك روسو إلى هذه الحقيقة بقوله : لاكتشاف أفضل القوانين المفيدة للشعوب لابد من وجود عقل يرى جميع الشهوات البشرية ، ولكن لا يجد في ذاته ميلاً نحوها ، عقل لا يرتبط بالطبيعة ولا
1 ـ الملك : 14.
(604)
يخضع لضغوطها ، ولكنه يعرفها تمام المعرفة ، عقل لا ترتبط سعادته بنا ، ولكنه مستعد لأن يعيننا في
سعادتنا. (1). على هذا الأساس لا توجد في الإسلام أيّة سلطة تشريعية ، لا فردية ولا جماعية ، ولا يكون هناك مشرِّع إلاّ اللّه وحده. وأمّا المجتهدون والفقهاء فهم في الحقيقة ليسوا إلاّ متخصصين في معرفة القانون ، وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها ، وبالتالي تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها في بعض المجالات. فمن مراجعة الآيات القرآنية يثبت أنّ حق التشريع خاص باللّه فقط ، ولا يحق لأحد ـ في النظام التوحيدي ـ أن يفرض رأيه على الآخرين فرداً كان أو مجتمعاً ، وأن يدعوا الناس إلى الخضوع لها والأخذ بها. فالناس جميعاً ـ في النظام التوحيدي ـ متساوون كأسنان المشط ، كما قال الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « الناس كأسنان المشط ». (2). فلا فضل لأحد على أحد ، ولا امتياز. إنّ الإسلام كما لم يسمح لأحد بأن يختص بوضع القوانين دون سواه وحارب تلك الفكرة ، كذلك حارب كل الطبقيات السائدة في الأنظمة الطاغوتية التي تضع بعض الطبقات فوق القوانين ، فالجميع سواسية أمام القانون ، كما عبّر عن ذلك الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إذ قال :
1 ـ العقد الاجتماعي 2 ـ حديث مشهور.
(605)
« الناس أمام الحق سواء ». (1). ففي الأنظمة الطاغوتية نجد الأُمراء والحكام والملوك وحواشيهم ومن يدور في فلكهم ، يعفون أنفسهم من الضرائب والرسوم ، وكأنّهم بحاجة إلى الشفقة والعطف والمعونة ـ رغم امتلاكهم لأضخم الثروات ـ في حين يتحتم على أفراد الشعب حتى الضعفاء أن يتحملوا تلك الرسوم الثقيلة والضرائب الباهظة ، لا على الحاجات المهمة فقط ، بل حتى على الإبرة والخيط التي يستوردونها من الخارج ليكسوا عريهم ، ويقوا أبدانهم برد الشتاء ، وحر الصيف. هذه هي خصائص النظم الطاغوتية ، وهي تماماً على العكس من النظام الإسلامي التوحيدي الذي لا يقرّ أيَّ امتياز لأحد على آخر ، أو لطبقة على أُخرى ، ولا يعمل إلاّ بميزان العدل والمساواة. ومن الطبيعي أنّ هذه العدالة والمساواة في النظام الإسلامي ليستا ناشئتين إلاّ من تنزّه المشرّع (أي اللّه)عن الهوى والنفعية وحب الذات التي يخضع لها مشرّعو القوانين والنظم البشرية.
الآيات الدالّة على التوحيد في التقنين إنّ الآيات التي تعتبر حق التقنين خاصّاً باللّه تعالى ، والتي لا تأذن لأحد بأن يتعرّض لهذا المقام ، كائناً من كان ، تقع على أصناف ، إليك بيانها :
الصنّف الأوّل تدل الآيتان التاليتان على أنّه لا يحق لأحد غير اللّه أن يسن القوانين ، معلّلة
1 ـ حديث مشهور.
(606)
بأنّ مثل هذا الحق إنّما هو لمن يملك أزمّة الحياة البشرية برمّتها ، الذي هو نوع من السلطة عليهم ، وليس هو إلاّ اللّه تعالى دون سواه ، قال سبحانه : ( مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان إنِ الْحُكْمُ إلاَّ للّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (1) لقد وردت جملة ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّهِ ) في آيتين من سورة يوسف ، إحداهما الآية السابقة ، والأُخرى في قوله تعالى : ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة وَمَا أُغنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْء إنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ). (2) غير أنّ المقصود من حصر الحاكمية باللّه سبحانه في الآية الأُولى هو الحاكمية التشريعية ، كما أنّ المراد من حصرها به في الآية الثانية هو الحاكمية التكوينية. والدليل على ذلك هو مضامين الآيتين ، فالآية الأُولى تهدف إلى أنّه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرّم ويحل سوى اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك قال ـ بعد قول هـ ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّهِ ) : ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) ، فكأنّ أحداً يسأل عن أنّه إذا كان الحكم مختصاً به سبحانه والتشريع خاصّاً به ، فماذا أمر اللّه في مورد العبادة؟ فأجاب على الفور ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ).
1 ـ يوسف : 40. 2 ـ يوسف : 67.
(607)
وأمّا الآية الثانية ، فهي تهدف إلى أنّ يعقوب لا يملك لأبنائه أمراً ولا يضمن لهم في صفحة الوجود شيئاً ، فأُمور الكون كلّها بيده ، ولابد من التوكّل عليه رغم معرفة أسباب الظفر بالمطلوب ، ولأجل ذلك بعد ما عرفهم أسباب الظفر بقوله : ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة ) عاد يذكّرهم بأنّه لا يضمن ـ مع ذلك ـ لهم شيئاً بقوله : ( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْء إن الحُكْمُ إِلاَّ للّهِ ). وأوضح دليل على كون المراد من الحكم هو الحكم التكويني أمره بإيكال الأُمور إليه في مجاري الحياة بقوله : ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ). وعلى الجملة فالآية الأُولى من الآيتين صريحة في اختصاص التشريع باللّه سبحانه ، لا يتردد في مضمونها من له إلمام بمعارف القرآن. ويقرب من هذه الآية قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ الْسَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) . (1) فإنّ المفسرين فسّروا الأمر هنا بالأمر التشريعي ، قال الطبرسي : إنّما فصل بين الخلق والأمر ، لأنّ فائدتهما مختلفة لأنّه يريد بالخلق أنّ له الاختراع ، وبالأمر أنّ له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ويفعل بهم بما شاء (2) 1 ـ الأعراف : 54. 2 ـ مجمع البيان : 4/428 وهذه الآيات كما دلت على حصر التشريع باللّه سبحانه كذلك تدلّ على حصر الحاكمية باللّه سبحانه وسيوافيك بيان دلالة الآية على حصر الحاكمية باللّه سبحانه ولفظ « الحكم » والأمر في الآيتين أعم من التشريع والحاكمية.
(608)
ويمكن أن يقال إنّ المراد منه هو الأعم من الأمر التكويني والتشريعي بقرينة ( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ ) فإنّ المراد من لفظة بأمره بقرينة التسخير هو الأمر التكويني ، وعلى ذلك يمكن أن يراد من قوله : ( لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الأعم من تدبير العالم بالأوامر التكوينية وتدبير المجتمع بالأوامر التشريعية.
( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعينَ بِالعينِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذنَ بِالأُذنِ وَالسنَّ بالسنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه ُفَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ). ( وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعَيسى ابن مَرْيَم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مَنَ التَّوراةِ وَآتَيْناهُ الإِنْجِيلَ فيهِ هدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوراةِ وَهُدىً وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقين ). ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانْجِيل بِما أَنْزل اللّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ). (1) ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُون * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمَاً لِقَوْم يُوقِنُونَ ). (2). ولو تأمل القارئ الكريم في مضامين هذه الآيات لتبيّن له بوضوح أنّ اللّه تعالى منذ أن بعث الرسل والأنبياء لم يأذن لأحد في أن يشرّع لنفسه ولا لغيره قانوناً لقصور علم البشر ، وض آلة معلوماته ، ولذلك أنزل في كل عصر أفضل ما يناسبه
1 ـ المائدة : 41 ـ 47. 2 ـ المائدة : 48 ـ 50.
(610)
من الأحكام والقوانين. فقوله : ( يَحرِفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعَه ) إشارة إلى أنّهم يخالفون ما قرر اللّه لهم من الأحكام. وقوله : ( أَكّالُونَ لِلْسُّحْتِ ) يُراد منه أنَّهم كانوا يحرمون حلال اللّه ويحلّون ما حرمه. وأبلغ من كل ذلك قوله : ( وَعِنْدَهُمْ التَّوراة فِيهاحُكمُ اللّهِ ). وقوله : ( إِنّا أَنْزلْنا التَّوراة فِيها هُدى وَنُور يَحْكُم بِها النَّبِيُّون ). وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ). وقوله : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها انَّ النَّفْسَ ... ). وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ). وقوله : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيل بِما أَنْزَل اللّه فِيهِ ). وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ). فهذه المقاطع توضح لنا أنّ ممنوعية التقنين على البشر لم تكن في الإسلام فحسب ، بل كانت في كل الشرائع السماوية والماضية ، وإن حق التقنين حق منحصر باللّه فقط ، فهو من شأنه وفعله تعالى خاصة ، ولم يفوّض هذا الحق إلى أحد أبداً ، أليس هذا القرآن يصف كل من يستبدل النظام الإلهي بغيره ، بالكفر تارة ، وبالظلم أُخرى ، وبالفسق ثالثة. فهم كافرون ، لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد والإنكار والجحود. وهم ظالمون ، لأنّهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص باللّه إلى غيره.