مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 181 ـ 190
(181)
    2 ـ ( هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) و معناه أنّه بشر مأمور لايستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلاّ بإذنه سبحانه ، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.
    و بعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر ، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر ، و إن كنتم تطلبون مني بما إنني رسول مبلغ فلاأستطيع التصرف بلاإذن و رخصة منه سبحانه ، و على كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا و لو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى : ( وَ لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلاَئِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَ حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْء قُبُلاً مَا كَانُوا لَيُؤْمُنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ وَ لَكِنْ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام/111 ).
    و المراد من قوله : ( إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة ، و عندئذ لايقام لمثل هذا الإيمان وزن و لاقيمة (1).

4 ـ طلب طرد الفقراء
    روى الثعلبي باسناده عن عبداللّه بن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول اللّه و عنده صهيب و خباب و بلال و عمّار و غيرهم من ضعفاء المسلمين ، فقال : يامحمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ اللّه عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ ... ) (2).
1 ـ لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز ، لاحظ : ص95 ـ 154من ذلك الجزء.
2 ـ مجمع البيان : ج4 ص305.


(182)
    قال ابن هشام : و كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا جلس في المسجد و جلس إليه المستضعفون من أصحابه : خباب و عمّار و أبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمَيّة بن محرث و صهيب و أشباههم من المسلمين ، هزأت بهم قريش و قال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون ، أهؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا بالهدى و الحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه ، و ما خصّهم اللّه به دوننا ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَ لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاوَةِ وَ العَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمُ مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَ كَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَيَقُولُوا أَهَؤُلاَء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَ إِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَة ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنعام/52 ـ 54 ) (1).
    و قد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لامكيّة ، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة و هذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.
    و مثله قوله سبحانه : ( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدوةِ وَ العَشِىِّ يُرِيدُنَ وَجْهَهُ وَ لاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) ( الكهف/28 ).
    و السورة مكيّة و مفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة ، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة ، و إليك النص الدال على ذلك :
    روى السيوطي في الدر المنثور : جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال و صهيب و عمّار و خباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم ، فأتوه فخلوا به فقالوا : إنّا نحب أن تجعل
1 ـ السيرة النبويّة ، لابن هشام : ج1 ص392و393.

(183)
لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً ، فإنّ و فود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت ، قال نعم ، قالوا : فاُكتب لنا عليك بذلك كتاباً ، فدعا بالصحيفة و دعا عليّا ليكتب و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية : ( وَ لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدوةِ وَ العَشِىِّ ) إلى قوله ( فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول اللّه الصحيفة من يده ، فأتيناه و هو يقول : ( سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا ، فأنزل اللّه : ( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدوةِ وَ العَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال : فكان رسول اللّه يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا و تركناه حتى يقوم (1).
    يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً ، هذا و التأمل في سياق الآيات لايبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً ، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لابمعنى أنّ الآية إنّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة و رفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة و نظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله : ( وَ لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ... ) الآية ، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و اقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة و عنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين و في مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها (2).
1 ـ الدر المنثور : ج3 ص13 ، و نقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.
2 ـ الميزان : ج7 ص110 بتصرّف يسير.


(184)
    و يضيف قائلاً : « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء و الفقراء من المؤمنين تعزّزاً و تكبّرا و قد حكى اللّه سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّته ( عليه السلام ) حجاجا يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى : ( فَقَالَ المَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَ مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَأْيِ وَ مَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْل بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذَيِين ) إلى أن قال : ( وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَ لَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمَاً تَجْهَلُونَ * وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنُصُرُنِى مِنَ اللّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) ( هود/27و29و30 ) (1).
1 ـ الميزان : ج7 ص110 بتصرّف يسير.

(185)
د ـ تعذيب النبيّ و أصحابه
    قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم و مصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم و الضرب و القتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى و السب و التنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.
    و قد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر و الثبات بتعابير و أساليب مختلفة و إليك توضيح ذلك :
    1 ـ نزل الوحي مسليّاً بقوله : ( وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَاكُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَ لَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام/34 ) و قوله : ( وَ اصْبِرْ وَ مَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَ لاَتَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل/127 ).
    2 ـ و محفزاً تارة اُخرى بتذكيره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ اُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لاَتَسْتَعْجِل لَهُمْ ) ( الأحقاف/35 ).
    3 ـ و ثالثة داعياً له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تفويض الأمر إلى اللّه و التريث حتى يأتي موعده بقوله : ( وَ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس /109 ).
    4 ـ و رابعاً مروّضا له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قبال ما يكال إليه من


(186)
صنوف الايذاء بقوله : ( وَ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) ( المزمل/10 ).
    5 ـ و خامساً منبّهاً له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه : ( وَ لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم/48 ).
    فهذه الآيات و نظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء و الوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس ، و على الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه و عنادهم بالحكمة و الموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة
    و قد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم و على رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار ، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقداُستشهد أبو عمّار و اُمّ عمّار بتعذيب المشركين و أمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه و بقي قلبه مطمئن بالإيمان و عندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلم يزل يلهج بهم و يدعو لهم و يقول : اصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة ، و يقول : أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة ، و يقول : اللّهمّ اغفر لآل ياسر و قد فعل.
    يقول ابن هشام : و كان بنو مخزوم يخرجون بعمّار و أبيه و أمّه و كانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول اللّه فيقول : صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة (1).
1 ـ سيرة ابن هشام : ج1 ص319 ـ 320.

(187)
    يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال : لقيت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه ، فمرّ بعمّار و اُمّ عمار و هم يعذّبون ، فقال : صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.
    و روى أيضاً عن مجاهد : أوّل من أظهر الإسلام سبعة ، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.
    و كانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ماشاء اللّه أن يبلغ من حر الحديد و الشمس ، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه اللّه ـ و معه حربة فجعل يشتمهم و يوبّخهم (1).
    ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول اللّه فحدّثه بالذي لقي من قريش.
    و في رواية : أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئرميمون و قالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك و قلبه كاره.
    و في رواية ثالثة : أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكى ذلك إلى النبي ، فقال النبي : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فإن عادوا فعد ، فنزل قوله سبحانه : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل/106 ).
    فأخبر اللّه سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من اللّه و له عذاب أليم ، و أمّا من أكره و تكلّم بها لسانه و خالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلاحرج عليه ، لأنّ اللّه سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم (2).
1 ـ حلية الأولياء : ج1 ص140.
2 ـ تفسير الطبري : الجزء14 ، ص122.


(188)
    لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر ، فقال النبي : إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه ، و جاء عمّار إلى رسول اللّه و هو يبكي ، فقال : ماوراءك ؟ فقال : شر يا رسول اللّه ، ماتركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول : إن عادوا لك فعدلهم بما قلت ، و أضاف الطبرسي أنّ ياسراً و سميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام (1).
    إنّ الأساليب التي أنتهجتها و تبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لمّا أضحت فاشلة ، أضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر و هو اثارة الضوضاء والضجيج ، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن
    كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي و كانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر ، و أنّ له لحلاوة و أن عليه لطلاوة و أن أعلاه لمثمر و أن أسفله لمغدق و أنّه يعلو و ما يعلى عليه (2).
    هكذا و صف القرآن بعض أعداء النبي ، و قد كانت الشباب من قريش و غيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم و يوردهم المنهل العذب من الإيمان ، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه و قد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام ، فاحتالوا بالمكاء و التصفير و التخليط في المنطق على رسول اللّه حتى لايسمع صوته و لايعلم كلامه ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَ قَالَ الذِينَ كَفَرُوا لاَتَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَ الْغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت/26 ). حتى يصدّوا بذلك
1 ـ مجمع البيان : ج3 ص388.
2 ـ اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة ، راجع مجمع البيان : ج5 ص387 ، و السيرة النبويّة : ج5 ص382.


(189)
من اَراد استماعه ، فإذا لم يسمع و لم يفهم لايتبعه فيغلبون بذلك محمداً (1). فأوعدهم اللّه سبحانه بقوله : ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ اَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْلَمُونَ ) و لقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل و أسر منهم من اُسر ، فنالوا جزاء أعمالهم ، و بقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه : ( ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت/27و28 ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة
    و أقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم و عدم إعتناقهم لدين النبي ، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام ، فقالوا : لو إعتنقنا دين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و رفضنا الأصنام و الأوثان ، لثار الجميع علينا ، و هذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه : ( وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ... ) ( القصص/57 ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حق و لكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم و ليس لهم طاقة بهم (2).
    فردّه الوحي بأنّ اللّه سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن و أمان و دفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا و أعتنقوا دين اللّه يعمّهم الأمن و السلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى اللّه سبحانه من حالة الكفر ، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين و إليه يشير قوله سبحانه : ( ... أَوَلَمْنُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إلَيِهِ ثَمَرَات كُلِّ شَيْء رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لَكِنَّ
1 ـ تفسير الطبري الجزء 24 ص72.
2 . التخطّف : أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه ، و المصطلح الدارج هو الإختطاف.


(190)
أَكْثَرَهُمْ لاَيَعْلَمُونَ ) ( القصص/57 ).
    كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة ، فلميعرفوا حق النعمة و كفروا فعمّهم الهلاك و هذه ديار عاد و ثمود و قوم لوط صارت خالية عن أهلها و هي قريبة منهم ، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف و هو موضع بين اليمن و الشمال و ديار ثمود بوادي القرى ، و ديار لوط بسدوم و كانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَة بَطِرَتْ (1) مَعِيشَتهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ ) ( القصص/58 ).
    هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق
    كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لاناقد إعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية و فق ما ورد في القرآن الكريم ، فما جاء في خلال آياته نذكره و ما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة و التاريخ غير أنّ هذه القصة لمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً و زوراً ، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك ـ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية ، ص34 ، و كتاب « الإسلام » لفرويد هيوم ، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة و تحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين و الحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ و لا لمريب ريب إلاّ من أخذته العصبية العمياء فأنّها داء لا علاج له ، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا و طبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » و منحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال ، و الرجل
1 ـ البطر : الطغيان عن النعمة.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس