مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 201 ـ 210
(201)
(7)
إسراءه و معراجه
    إنّ الأنبياء و الرسل هم أوّل من سبروا أعماق الفضاء بأكنافه و آفاقه ، و لو صحّ لنا تسميتهم : « روّاد الفضاء » فهم أولى بإطلاق ذلك الإسم عليهم دون غيرهم ، فقد عرجوا قبل أن يكون هناك أثر لوجود روّاد الفضاء في روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية ، بل لم تكن هناك أية فكرة لتسخير الفضاء أو التجاسر على التفكير به ، وأخطاره في الأذهان ، فقد كانت العلوم الرائجة في تلك العصور تستحيله و تجعله في مصافّ المحالات ، لأنّهم كانوا على القول بإمتناع الخرق و الإلتئام في طبقات السماء فهم ( عليهم السلام ) أوّل من كسروا حاجز هذه الخرافة و أثبتوا بتطبيقهم العملي عن طريق العروج و الإسراء إنّه ليست هناك حجب تخرق ، أو تلتئم بعد الخرق ، بل السماء فضاء رحب ، و الكواكب إنّما هي عبارة عن أجرام معلّقة في أرجائه ، تحكمها قوانين الطرد و الجذب المركزية ، و إنّ الإنسان بفضل معونة القدرة الغيبية ، يستطيع الإفلات من قوّة الجاذبية الأرضية ، كما أنّه يقدر على اختراق الغلاف الكثيف المحيط بالأرض كل ذلك بفضل المواهب السنيّة التي يجلّل بها الخالق جلّ جلاله عبده.
    إنّ الاُمنية البعيدة غوراً في تاريخ الفكر الإنساني ، و التي أصبحت في متناول إنسان العصر الحديث بفضل إزدهار ورقي حضارته المادّية ، و تسخير قوى الطبيعة لصالحه ، تحقّقت بالأنبياء و اُمناء الغيب بفضل ما حباهم الباري عزّ شأنه به من الوسائل الغيبية للصعود و الإرتقاء في أعماق الفضاء الواسع.
    و بذلك يفترق عمل الأنبياء في ذلك المجال عن عمل روّاد الفضاء و إن كان الكل مثيراً للإعجاب لأنّهم كانوا يعتمدون على أسباب غيبية لاتخضع للموازين


(202)
البشرية ، و هذا بخلاف عمل روّاد الفضاء فإنّهم يستمدّون في تحقيق اُمنيتهم ، بتوسّط الأسباب و العلل الطبيعية و الأجهزة الصناعيّة التي عكف على صنعها وإعدادها مئات بل اُلوف من المفكّرين و العباقرة في مختلف العلوم البشرية و بإنفاق المليارات من العملة الصعبة.
    هذا هو الذكر الحكيم يصوّر لنا كيفيّة إرتقاء النبي سليمان ( عليه السلام ) إلى السماء و سياحته في جوّ الأرض و ذلك بتسخير الريح العاصفة له تسير به طواعية تحت أمره حيثما شاء في قوله : ( وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْء عَالِمِينَ ) ( الأنبياء/81 ).
    فهذه الآية تعرب عن أنّ الريح العاصفة تسير به إلى الأرض التي باركها سبحانه و هي أرض الأنبياء المشار إليها في آية اُخرى : ( إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) ( الأسراء/1 ).
    و مثلها قوله سبحانه : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) ( ص/36 ).
    و الرخاء هو اللين و لعلّ المراد بأنّ الريح العاصفة التي من طبيعتها الجموح والإهلاك كانت مطيعة لسليمان تجري بأمره طواعية ذلولاً كما أنّ قوله ( حيث أصاب ) أي بمعنى حيث شاء سليمان و قصد ، سواء كان المقصد البقاع المباركة أو غيرها.
    كما أنّ هناك آية اُخرى تحدّد لنا مقاطع حركتها الزمنية و كيف إنّه كانت في يوم واحد تقوم بقطع مسافة كانت تقطعها وسائل النقل في تلك العصور مدّة شهرين في قوله :
    ( وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ ) ( سبأ/12 ).
    فلو إفترضنا أنّ وسائل النقل تقطع في كلّ يوم أربعاً و أربعين كيلومتراً على وفق ما هو المتعارف عليه يومذاك ، يكون مجموع مقدار المسافة اليوميّة في إمتداد شهر ( 1320 ) كيلومتراً فإذا كان غدوّها شهراً و رواحها شهراً يكون مجموع المسافة التي كان يقطعها سليمان في يوم واحد تبلغ ( 2640 ) كيلومتراً.


(203)
    و الحقّ إنّه كانت كرامة عظيمة كرّمه اللّه سبحانه بها ، و ليس سليمان وحيداً في الإختصاص بتلك المكرمة بل تلاه المسيح عيسى بن مريم عند ما إجتمع أجلاف اليهود و جلاوزتهم على قتله حيث رفعه إليه و نجّاه من كيدهم. يقول سبحانه :
    ( وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكّ مِنْهُ مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَ كَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكَيماً ) ( النساء/157و158 ).
    فالآية تتضمّن دعويين :
    الاُولى : ما يقوله اليهود و هو قتل المسيح وصلبه.
    الثاني : ما يصرّح به القرآن و هو نفي قتله و عدم صلبه بل رفعه.
    و بما أنّ متعلّق القتل و الصلب هو الوجود الخارجي أي جسم المسيح وروحه فيكون ذلك متعلّق الرفع أيضاً ، فهو رفع بجسمه و روحه ، و بعبارة أكثر وضوحاً إنّه رفع حيّاً لا أنّه قد اُميت ثمّ رفع على ما هو المصرّح به في الأناجيل المحرّفة من موت المسيح ثمّ رفعه بعد إسبوع من صلبه أو أيام قلائل ، فما ربّما يظهر من جنوح بعض المتأخّرين من المفسّرين إلى هذا التفسير ، فهو تفسير بمحض الرأي و مخالف لظاهر الآية فإنّ الإضراب الوارد في قوله تعالى ( بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ ) لايكون إضراباً عن قول اليهود إلاّ برفعه حيّاً لابرفعه ميّتاً ، فإنّ هذا الرفع كان لغاية تخليص المسيح من سطوة اليهود سواء أمات بعد ذلك أم بقي حيّاً بإبقاء اللّه تعالى له ، و على كل تقدير فلايكون قوله ( بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ ) إبطالاً لقول اليهود إلاّ إذا رفع حيّاً.
    و أمّا قوله سبحانه : ( إِذْ قَالَ اللّهَ يَا عِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَ رَافِعُكَ إِلَىَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) ( آل عمران/55 ) ، فليس التوفّي هناك بمعنى الإماتة و الإزهاق بل ليس للتوفّي إلاّ معنى واحد و هو القبض و الأخذ ، يقال : توفّيت المال منه واستوفيته : إذا أخذته كلّه ، و يقال توفّيت عدد القوم : إذا عددتهم كلّهم ، كما يقال : توفّي فلان


(204)
وتوفّاه اللّه إذا قبض (1). و على ذلك فليس للتوفّي إلاّ معنى الأخذ و له مصاديق مختلفة ، فالإماتة من مصاديقه كما أنّ النوم بما أنّه نوع أخذ للإنسان مصداق آخر له قال سبحانه : ( وَ هُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) ( الأنعام/60 ) وعلى ضوء ذلك فمعنى ( إِنِّيمُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ) : قابضك من الأرض حيّاً إلى جواري ورافعك من بين أعدائك ، فالآيات متضافرة المضمون على أنّه رفع من الأرض حيّاً إليه سبحانه.
    و رفعه من الأرض حيّاً يلازم رفعه إلى السماء ، و بذلك تقف على تفسير قوله سبحانه حيث يحكي عن المسيح قوله : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواللّهَ رَبِّى وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتَ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ( آل عمران/155 ).

معراج النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    إنّ الوقوف على إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و عروجه منه إلى سدرة المنتهى من معاجزه و كراماته التي أثبتهما القرآن الكريم في سورتي الإسراء و النجم ، و تفصيل ما ظهر له فيهما من الآيات يتوقّف على نقل شأنهما في الذكر الحكيم. أمّا الإسراء فقال فيه :
    ( سُبْحَانَ الَّذِى أَسَرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إَلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذَى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ( الإسراء/1 ).
    1 ـ إبتدأ سبحانه كلامه بالتسبيح و قال : ( سُبْحَانَ ) (2) و هي كلمة تنزيه للّه عزّ
1 ـ لسان العرب : ج15 ص400 مادّة « وفى ».
2 ـ سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل ، و انتصابه بفعل مضمر لايظهر تقديره يسبّح اللّه سبحان ، ثمّ نزل سبحان منزلة الفعل و سدّ مسدّه و دلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداؤه.


(205)
اسمه عمّا لايليق به من الصفات ، و قد يراد به التعجيب ، ولكن الظاهر هو الأوّل.
    و لعلّ الوجه في إبتدائها بالتنزيه هو التصريح بتنزيهه سبحانه عن العجز لماسيذكر بعده من الإسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فترة زمنية قصيرة ، و يمكن أن يكون الوجه إرادة تنزيهه سبحانه عن التجسيم و الجهة والرؤية وكل ما لا يليق بعزّ جلاله و صفات كماله ، حتّى لايتوهّم متوهّم أنّ المقصود من المعراج هو رؤية اللّه تبارك و تعالى في ملكوت عرشه و جبروت سلطانه ، و الأوّل أقرب.
    2 ـ الإسراء لغة هو السير في الليل. يقال : سرى بالليل و أسرى بمعنى ، و أمّا الإتيان بلفظة « ليلاً » مع الإستغناء عنه فيأتي وجهه.
    3 ـ قوله « بعبده » يدل على أنّ الإسراء كان بمجموع الروح و الجسد يقظة لامناماً و لم يطلق العبد في القرآن إلاّ على المجموع منهما. قال سبحانه : ( الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ ) ( البقرة/178 ). و قال سبحانه : ( وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك ) ( البقرة/221 ).
    إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظ العبد و التي تناهز 28 آية ، و يؤيّد ذلك أنّه سبحانه ابتدأ السورة بالتنزيه فقال : ( سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ... ) خصوصاً إذا قلنا بأنّه للتعجّب فإنّه يكون في الاُمور العظام الخارقة للعادة ، و لو كان الإسراء بمجرّد الروح ، مناماً لم يكن فيه كبير شأن و لم يكن مستعظماً ، و ما ورد في المقام من الروايات المنتهية إلى أمثال معاوية ابن أبي سفيان بأنّه قال : كان رؤيا من اللّه صادقة ، مرفوض فإنّ معاوية يومئذ كان من المشركين لايقبل خبره في مثل هذا ، ومثله ما روي عن عائشة زوجة النبي بأنّه قال : ما فقد جسد رسول اللّه و لكن اُسري بروحه ، فإنّ عائشة يومئذ كانت صغيرة و لم تكن زوجة رسول اللّه ، بل لم تولد بعد على إحتمال ، و هناك كلام لأبي جعفر الطبري في تفسيره نقتطف منه ما يلي :
    « الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنّ اللّه أسرى بعبده محمد ( صلّى


(206)
اللّه عليه و آله و سلّم ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر اللّه عباده وكما تضافرت به الأخبار عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ اللّه حمله على البراق حتى أتى به فصلّى هناك بمن صلّى من الأنبياء و الرسل فأراه ما أراه من الآيات ، و لامعنى لقول من قال : اُسري بروحه دون جسده ، لأنّ هذا الإسراء لايشكّل دليلاً على نبوّته و لاحجة له على رسالته ، و لا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك. إذ لم يكن منكراً عندهم و لا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل ؟ وبعد ، فإنّ اللّه إنّما أخبر في كتابه أنّه أسرى بعبده و لم يخبرنا أنّه أسرى بروح عبده ، فليس جائزاً لأحد أن يتعدّى ما قال اللّه إلى غيره ـ [ مضافاً ] إلى أنّ الأدلّة الواضحة والأخبار المتداولة عن رسول اللّه أسري به على دابة يقال لها البراق ، فلو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدواب لاتحمل إلاّ الأجساد (1).
    4 ـ « ليلاً » و هو يدل على أنّ الإسراء في بعض الليل كما يفيده التنكير فلايستفاد ذلك من لفظ الإسراء ، فإنّه يدل على صرف كونه في الليل.
    قال الزمخشري : إنّ تنكير « ليلاً » للدلالة على أنّه اُسرى به بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، و ذلك إنّ التنكير قد دلّ على معنى البعضيّة و يشهد لذلك قراءة عبداللّه بن حذيفة : « من الليل » أي بعض الليل ، كقوله : ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ) ( أي من بعضه ) (2). ثمّ إنّ الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها ، فقد جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان إلى المواقع البعيدة في الأوقات الزمنية القليلة كما مرّ.
    و حكى سبحانه عن الذي كان عنده علم من الكتاب أنّه أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر ، حيث قال : ( قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرِّاً عِنْدَهُ قَالَ
1 ـ تفسير الطبري : ج15 ص130.
2 ـ الكشّاف : ج2 ص223 ( طبع مصر ).


(207)
هَذَا مَنْ فَضْلِ رَبِّى ) ( النمل/40 ).
    فإذا أجاز هذا لدى طائفة من الناس ، ممّن سبقه ، صحّ وقوعه منه (1).
    و ها نحن في كل يوم نشاهد من صنوف المخترعات في ميادين النقل والمواصلات ما يتمكّن بواسطتها من قطع المسافات الشاسعة كالطائرات التي تجتاز المحيطات في ساعات قلائل و ينتقل من قارة إلى قارة و من قطر إلى قطر بيسر وسهولة ، و هذا ليدفعنا إلى الإعتقاد الجازم بشهادة العيان بأنّ ما جاء في هذه الرحلة الخارقة لقوانين الطبيعة ليس أمراً عزيز الحصول أو مستحيلاً ، فإذا كان هذا بوسع الإنسان بحسب طاقاته المحدودة و هو الذي خلق ضعيفاً ، فاللّه سبحانه أقدر عليه وعلى غيره من كل أحد ( وَ مَا قَدَرُو اللّه حَقَّ قَدْرِهِ ).
    5 ـ ( مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) و هذه الجملة تعرب عن تحديد بدء السير و منتهاه ، و أنّه إبتدأ من المسجد الحرام و انتهى إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدس بقرينة قوله : ( الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) و القصى العبد ، وسمّي المسجد الأقصى به لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي و من معه من المخاطبين و هو مكّة التي فيها « المسجد الحرام ».
    و ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّه أسري به من دار اُم هاني اُخت علي بن أبي طالب و زوجها هبيرة بن أبي لهب المخزومي ، وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نائماً تلك الليلة في بيتها ، و أنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة ، و الحرم كلّها مسجد (2).
    و قال بعضهم : إنّما اُسري به من شعب أبي طالب.
    و الوجه الأوّل هو الأوفق بظاهر الكتاب و مع ذلك يمكن تصحيح الوجهين الأخيرين بوجهين :
1 ـ تفسير المراغي : ج15 ، ص6 ، بتصرّف يسير.
2 ـ مجمع البيان : ج6 ص399.


(208)
    الأوّل : إنّه لو كان في المكان الوسيع شيء معروف و متبرّك يطلق اسمه على جميع المكان نظير ذلك مسجد الشجرة حيث يطلق و يراد منه ذو الحليفة ، و مشهد الإمام عليّ ( عليه السلام ) يطلق و يراد منه النجف برمّتها ، إلى غير ذلك ، و من الممكن أن يكون المراد من المسجد الحرام ، الحرم كلّه بالملاك المذكور فيشمل مكّة و البيت الذي اُسري منه النبي أو الشعب الذي كان النبي لاجئاً إليه يومذاك.
    الثاني : أن يكون الإسراء قد حدث مرّتين أحدهما من المسجد الحرام و الآخر من بيت أم هاني أو من الشعب ، و يؤيّد ذلك ما رواه الكليني أنّه سأل أبو بصير أباعبداللّه ( عليه السلام ) فقال : جعلت فداك و كم عرج برسول اللّه ؟ فقال : مرّتين (1).
    6 ـ ( أَلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار و الثمار والنبات و الأمن و الخصب حتّى لايحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. أضف إلى ذلك إنّه سبحانه جعله مقر الأنبياء و مهبط الملائكة ، فقد إجتمعت فيه بركات و خيرات الدين و الدنيا.
    7 ـ ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) و الجملة متكفّلة ببيان الهدف من الإسراء و هو إراءة عجائب الآيات و غرائب الصنع ، و منها إسراءه في ليلة واحدة من مكّة إلى المسجد الأقصى ، و هي فترة قياسية خارقة للعادة.
    فلو كان المسجد الأقصى منتهى سيره في ذلك الإسراء ، فيكون المراد من الآيات التي أراه اللّه سبحانه إيّاها مجرّد ما رأته عيناه في طريقة إلى المسجد الأقصى وما فيه من مقامات الأنبياء و قبورهم و آثارهم.
    و أمّا إذا كان العروج إلى السماء متّصلاً بذلك الإسراء فتتّسع نطاق الآيات ، وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي كشف له عنها اللّه سبحانه ، و حيث أراه بعضها لاكلّها ، و فيه تصريح بأنّ الهدف هو إراءة الآيات الكونية الباهرة ليرجع
1 ـ نور الثقلين : ج3 ص98.

(209)
النبي من إسرائه بصدر منشرح و قلب متفتّح قد إنعكست فيه آيات العظمة و سبحات الجلال و الجمال ، و أمّا ما يتخيّل من أنّ الهدف رؤية اللّه سبحانه فهو ممّا حاكته يد الدس و نسجته أغراض التزوير.
    و في الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت تنديد بهذا الفكر النابي. روى الصدوق في علل الشرائع : عن ثابت بن دينار ، قال سألت زين العابدين ـ علي بن الحسين ـ ( عليه السلام ) عن اللّه جلّ جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال : تعالى عن ذلك ، قلنا : فلم أسرى نبيّه إلى السماء ؟ قال : ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه.
    و في حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمان ، قال : قلت لأبي الحسن موسى ابن جعفر ( عليهما السلام ) : لأيّ علّة عرج اللّه ـ عزّ و جلّ ـ نبيّه إلى السماء و منها إلى سدرة المنتهى ؟ و منها إلى حجب النور ؟ و خاطبه و ناجاه هناك ؟ و اللّه لايوصف بمكان ؟ فقال ( عليه السلام ) : إنّ اللّه تبارك و تعالى لايوصف بمكان و لايجري عليه زمان ، و لكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف ملائكته و سكّان سماواته و يكرمهم بمشاهدته و يريه من عجائب عظمته و يخبر به بعد هبوطه ، و ليس ذلك على ما يقوله المشبّهون. سبحان اللّه و تعالى عمّا يشركون.
    8 ـ ( إنّه هُوَ السَمِيعُ العَلِيمُ ) و هذا تعليل لإراءة آياته ، و معناه أنّه سميع لأقوال عباده ، بصير بأفعالهم ، يسمع أقوال من صدّقه أو كذّبه و يبصر أفعالهم.

عروجه إلى السماء
    هذا كلّه حول إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، و قد جاء في القرآن في سورة واحدة و هي سورة الإسراء ، و أمّا عروجه إلى السماء فقد تكفّلت ببيانه سورة النجم ، و إليك نصّ ما ورد بشأن ذلك فيها :


(210)
    قال سبحانه : ( وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى * وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى * وَ هُوَ بِالاُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى )
    ( وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَاطَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ) ( النجم/1 ـ 18 )
    والطائفة الاُولى من الآيات راجعة إلى بدء الدعوة و لاتمتّ إلى حديث المعراج بصلة ، وأمّا الطائفة الثانية فهي مصرّحة بمعراجه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    و لأجل الوقوف على ما تهدف إليه الآيات يحتّم علينا أن نفسّرها واحدة بعد الاُخرى ، فنقول :
    1 ـ ( وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى ). و هو حلف من اللّه بمخلوقه ، و المراد من الهوى سقوطه للغروب.
    2 ـ ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى ) أي لم يخرج عن الصراط المستقيم ، والمراد من الصاحب هو النبي ، كما أنّ المراد من الغيّ هو الإعتقاد الفاسد ، أي ماخرج النبي عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولم يخطئ في إعتقاده ورأيه.
    3 ـ ( وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى ) المراد بالهوى هوى النفس و رأيها ، و مقتضى ورود النفي على النطق هو نفي الهوى في مطلق نطقه ، إلاّ أنّ ذيله قرينة على أنّ المراد نفي سلطة الهوى في ما يدعوهم إلى اللّه.
    4 ـ ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ) أي لاينطق فيما يدعوكم إلى اللّه عن هوى نفسه ورأيه و ليس ذلك إِلاَّ وحياً يوحى إليه من اللّه تعالى.
    5 ـ ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى ) المراد من شديد القوى هو جبرئيل بقرينة قوله
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس