مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 221 ـ 230
(221)
وفد الحبشة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للإستطلاع على أمر الدعوة :
    لمّا بلغ خبر رسول اللّه إلى الحبشة و هم نصارى ، فقدم منهم إلى مكّة عشرون رجلاً ليقفوا على حقيقة الأمر عن كثب ، فوجدوا النبي في المسجد ، فجلسوا إليه وكلّموه و سألوه ، و رجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلمّا فرغوا من مسألة رسول اللّه عمّا أراد ، و دعاهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى اللّه عزّ و جلّ و تلا عليهم القرآن ، فلمّا سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثمّ استجابو للّه وآمنوا بالنبيّ و صدّقوه و عرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلمّا قاموا عنه إعترضهم أبوجهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم : خيّبكم اللّه من ركب بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم ، و صدّقتموه بما قال ، مانعلم ركباً أحمق منكم ، فقالوا لهم : سلام عليكم لانجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، و لكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً ، و فيهم نزل قوله سبحانه :
    ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَ إِذَا يُتْلَى عَلَيهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * اُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَينِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَ إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَنَبْتَغِى الجَاهِلِينَ ) ( القصص/52 ـ 55 ) (1).
    إلى هنا تمّ الفراغ من بيان الحوادث المهمّة في الفترة الواقعة بين بعثته و هجرته وبقيت هناك عدّة حوادث يقف عليها من سبر التفاسير ، فتركنا ذكرها روماً للإختصار.
1 ـ السيرة النبويّة ، لابن هشام : ج1 ص392 ، مجمع البيان : ج4 ص358 ، مع اختلاف يسير بين المصدرين.

(222)

(223)
(8)
في رحاب الهجرة إلى يثرب
    الهجرة في اللّغة هو الخروج من أرض إلى أرض (1) فلو ترك إنسان أرضاً وانتقل إلى أرض اُخرى لغاية من الغايات ، يقال إنّه هاجر ، و لكنّها في مصطلح القرآن هو الإنتقال من أرض إلى أرض لغاية قدسية كحفظ الإيمان و التمكّن من إقامة الفرائض على وجه تكون قداسة الهدف مقوّماً لمفهوم المهاجرة إلى حدّ استعمله النبيّ في ترك المحرّمات و نبذ المعاصي و إن لم يكن هناك إنتقال من مكان إلى مكان ، بل كان هناك إنتقال الرّوح من العصيان إلى الطّاعة. قال : « المهاجر من هجر ما حرّم اللّه عليه » (2).
    و الهجرة في مصطلح أهل السيرة و التاريخ و التفسير من المسلمين هو هجرة الرسول من موطنه إلى يثرب للتخلّص من مؤامرة قريش على سجنه أو قتله أو نفيه ، وليس الرسول بدعاً في ذلك فقد ذكر القرآن مهاجرة لفيف من الأنبياء.
    فهذا هو إبراهيم الخليل لمّا اُلقي في النار ، و نجّاه اللّه سبحانه غادر موطنه ، قال سبحانه حاكياً قصّته :
    ( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِى مِنَ
1 ـ لسان العرب : مادة « هجر ».
2 ـ جامع الاُصول : ج1 ص154.


(224)
الصَّالِحِينَ ) ( الصافّات/97 ـ 100 ) فنزل الخليل الأراضي المقدّسة و وهبه سبحانه إسحاق و يعقوب. قال تعالى :
    ( وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ) ( مريم/49 ).
    و هذا لوط و قد تبع إبراهيم و غادر موطنه كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( العنكبوت/26 ).
    و هذا موسى بن عمران فلمّا وقف على أنّ الملأ يأتمرون به ليقتلوه غادر أرض الفراعنة و نزل مدين. يقول سبحانه : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( القصص/21 ).
    و أمّا النبيّ الأكرم فقد خرج في موسم الحج و لقيه فيه نفر من الخزرج فقال لهم : من أنتم ؟ فقالوا : نفر من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم. قال : أفلاتجلسون أكلّمكم ؟ قالوا : بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى اللّه عزّ و جلّ و عرض عليهم الإسلام ، و تلى عليهم القرآن. قال : و كان ممّا صنع اللّه بهم في الإسلام أنّ اليهود كانوا معهم في بلادهم ، و كانوا أهل كتاب و علم ، و كانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، و كانوا قد غزوهم ببلادهم ، و كانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إنّ نبيّنا مبعوث الآن قد أظلّ زمانه نتبعهُ فنقتلكم معهُ قتل عاد و إرم ، فلمّا كلّم رسول اللّه اُولئك النفر و دعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلموا و اللّه إنّه للنبيّ الذي توعدكم به اليهود ، فلاتسبقنّكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، و قالوا : إنّا قد تركنا قومنا ، و لاقوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فستقدم عليهم ، فندعوعم إلى أمرك ، و تعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعزّ منك.
    ثمّ انصرفوا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا و صدّقوا. فلمّا قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اللّه و دعوهم إلى الإسلام ، حتّى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلاّ و فيه ذكر لرسول اللّه.


(225)
    حتّى إذا كان في العام المقبل و أتى الموسم من الخزرجيين اثنا عشر رجلاً بالعقبة ، فبايعوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على بيعة النساء (1) و ذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب ...
    يقول عبادة بن الصامت : فبايعنا على أن لانشرك باللّه شيئاً و لانسرق و لانزني و لانقتل أولادنا ولانأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا و أرجلنا ، و لانعصيه في معروف. و قال النبيّ : فإن وفّيتم فلكم الجنّة و إن خشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عزّ و جلّ إن شاء عذّب و إن شاء غفر ...
    ثمّ إنّ النبي بعث إلى يثرب مصعب بن عمير ليعلّمهم القرآن ، و ذلك باستدعاء أسعد بن زرارة ـ أحد رؤساء الخزرجيين ـ ، فصارت نتيجة ذلك أن وافى النبيّ في العام المقبل في العقبة الثانية وفود من الخزرجيين و الأوسيين ، فبايعوا النبيّ في الشعب ...
    فتكلّم رسول اللّه ، فتلا القرآن ، و دعا إلى اللّه ، و رغَّب في الإسلام. ثمّ قال اُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم و أبناءكم ...
    فقام أبوالهيثم بن التيهان ، و قال يا رسول اللّه : إنّ بيننا و بين الرجال حبالاً وإنّا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال : فتبسمّ رسول اللّه ثمّ قال : بل الدم بالدم ، و الهدم بالهدم (2) أنا منكم وأنتم منّي ، أحارب من حاربتم ، و اُسالم من سالمتم ...
    ثمّ قال : اخرجوا إليّ منكم اثنّي عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم ،
1 ـ ذكر اللّه تعالى بيعة النساء في القرآن و قال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَيُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَ لاَيَسْرِقْنَ وَ لاَيَزْنِينَ وَ لاَيَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَ لاَيَأْتِينَ بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لاَيَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوف فَبَايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الممتحنة/12 ). ترى المماثلة بين بيعة الخزرجيّين و بيعة النساء في الموادّ والمضامين.
2 ـ الهدم : الحرمة ، أي ذمتي و حرمتي حرمتكم.


(226)
فأخرجوا منهم اثنّي عشر نقيباً تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس ...
    فلمّا انتشرت مبايعة الأوس و الخزرج لرسول اللّه ، خافت قريش على نفسها خصوصاً بعد ما وقفوا على أنّ المعذّبين في مكّة أخذوا يهاجرون إلى يثرب ، فأذعنوا أنّ النبيّ أيضاً سوف يخرج إليهم و يتّخذها مأوى لنفسهِ و أصحابه ، و ليشنّ عليهم الحرب و ينكّلهم ، فاجتمعوا ...
    قال ابن إسحاق : « فلمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قدصارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم و رأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنّهم قد نزلوا داراً ، وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليهم ، و عرفوا أنّه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة و هي دار قصيّ بن كلاب التي كانت قريش لاتقضي أمراً إلاّ فيها ، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين خافوه ...
    فتشاوروا فقال قائل منهم : إحبسوه في الحديد و اغلقوا عليه باباً ، ثمّ تربّصوا به ما أصاب من الشعراء الذين كانوا قبله : زهيراً و النابغة حتّى يصيبهُ ما أصابهم ، وقال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا ، و قال أبوجهل بن هشام : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابّاً جليداً نسيباً و سيطاً فينا ، ثمّ نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثمّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه فنستريح منه ، فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً ، فلم يقدر بنوعبد مناف على حرب قومهم جميعاً ، فرضوا منّا بالعقل فعقلناه لهم ، فتفرّق القوم على ذلك و هم مجمعون له ، فأتى جبرئيل و قال : لاتبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال فلمّا كان عتمة من الليل إجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه ، فلمّا رآى رسول اللّه مكانهم قال لعلي بن أبي طالب : نم على فراشي و تسبّح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فخرج عليهم رسول اللّه ، و أخذ اللّه تعالى على أبصارهم عنه ، وجعل القوم يتطلّعون فيرون عليّاً على الفراش متسجّياً ببرد رسول اللّه ، فيقولون : و اللّه إنّ هذا لمحمد نائماً عليه ، برده فلم يبرحوا كذلك ، و حتى أصبحوا ، فقام عليّ


(227)
( رضي اللّه عنه ) عن الفراش » (1) ... فباؤوا بالفشل وانصرفوا عن إيذاء علي وقتله.
    و إلى تلك المؤامرة يشير قوله سبحانه : ( وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوكَ أَو يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال/30 ). و فيه تصريح بآرائهم الثلاثة التي أبدوا بها في الندوة ، و أجمعوا على القتل.
    عزب عن قريش أنّه سبحانه تعهّد على نفسه نصر أنبيائه و رسله ، فقال سبحانه : ( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لَعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ ) ( الصافّات/171 ـ 172 ).
    أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليّاً أن يتخلّف بعده بمكّة حتّى يؤدّي عن رسول اللّه الأمانة التي كانت عنده للناس ، و ليس بمكّة أحد عنده شيء إلاّ وضعه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند علي ، فخرج رسول اللّه عامداً إلى غار بثور (2) و بقى فيها ثلاثاً و استنفدت قريش طاقتها في الوقوف على محلّه ، وجعلت مائة ناقة لمن يردّه إليها ، فخرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع دليله ( عبداللّه بن أرقط ) و معهما أبوبكر فسلك بهما أسفل مكّة ثمّ مضى على الساحل حتّى عارض الطريق أسفل من عسفان حتى قدم قباء باثنتى عشرة ليلة خلّت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين ، حتّى اشتدّ الضحى و كانت الشمس تعتدل (3).
    و إلى هجرته هذه و إختفائه في الغار و نزول نصرته سبحانه عليه يشير قوله سبحانه :
    ( إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْهُمَا فِى الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَتَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَ كَلِمَةُ اللّهِ هِىَ العُلْيَا وَ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة/40 ).
1 ـ السيرة النبوية ، لابن هشام : ج1 ص428 ـ 483.
2 ـ جبل بأسفل مكّة.
3 ـ السيرة النبويّة : ج1 ص485 ـ 492.


(228)
    و الضمير في قوله : ( أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) يرجع إلى النبيّ بشهادة قوله : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا ). فما هي النكتة في أفراد الضمير ؟
    روى البيهقي عن ابن عباس كان رسول اللّه بمكّة فاُمر بالهجرة و اُنزل عليه : ( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْق وَ أَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْق واجْعَلْ لِى مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) ( الإسراء/80 ) (1).
    و قد نقل غير واحد من المفسّرين : إنّ النبيّ لما بلغ في هجرته الجحفة تذكّر موطنه ، فنزل عليه الوحي مبشّراً بأنّه سوف يرد إلى موطنه و يزوره ، قال سبحانه : ( إِنَّالَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد ) ( القصص/85 ).
    روى السيوطي : « لما خرج النبي من مكّة فبلغ الجحفة إشتاق إلى مكّة فأنزلاللّه : ( إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد ) : إلى مكّة ، و عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : كل القرآن مكّي أو مدني غير قوله : ( إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد ) فإنّها اُنزلت على رسول اللّه بالجحفة حين خرج إلى المدينة فلاهي مكّية و لامدنية ، و كل آية نزلت على رسول اللّه قبل الهجرة فهي مكيّة نزلت بمكة أو بغيرها من البلدان ، و كل آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة فإنّها مدنيّة نزلت بالمدينة أو بغيرها من البلدان » (2).
    و قد أشار الذكر الحكيم إلى موطنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَنَاصِرَ لَهُمْ ) ( محمد/13 ).
1 ـ دلائل النبوّة : ج2 ص516 ، و أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن ، باب تفسير سورة الإسراء الحديث 3139.
2 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور : ج5 ص139و140 ، و مجمع البيان : ج7 ص268و269.


(229)
قدومه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى قباء
    قدم النبي حسب ما يذكره ابن هشام قباء لاثنتيّ عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين حين إشتدّ الضحى و كانت الشمس تعتدل ، و أقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاثة ليال و أيامها حتى أدّى عن رسول اللّه الودائع التي كانت لرسول اللّه عنده ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
    فأقام رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بـ « قباء » في بني أمر بن عوف يوم الإثنين و يوم الثلاثاء و يوم الأربعاء و يوم الخميس ، و أسّس مسجده الذي اُشير إليه في قوله سبحانه : ( لَمَسْجِدٌ اُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْم أَحَقُّ أَنْ تَقُومُ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ المُطَهّرينَ ) ( التوبة/108 ) (1).
     إطلالة على نشأة التاريخ الهجري
    المشهور إنّ أوّل من أرّخ بالتاريخ الهجري هو عمر بن الخطاب. يقول اليعقوبي : « و فيها ( سنة 16 هـ ) أرّخ عمر الكتب و أراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمّ قال من المبعث ، فأشار عليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أن يكتبه من الهجرة ، فكتبه من الهجرة (2).
    و روى الحاكم عن سعيد بن المسيب أنّه قال : جمع عمر الناس فسألهم من أي يوم يكتب التاريخ ؟ فقال علي بن أبي طالب : من يوم هاجر رسول اللّه ، و ترك أرض الشرك ، ففعله عمر ( رضي الله عنه ) ، هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاهُ (3).
1 ـ مجمع البيان : ج3 ص72.
2 ـ تاريخ اليعقوبي : ج2 ص135 ( طبع النجف ).
3 ـ مستدرك الصحيحين ، الحاكم : ج3 ص14.


(230)
    و يظهر من ابن كثير الدمشقي أنّ اليعقوبي و الحاكم لخّصا القصة و كانت هي أطول ممّا ذكراه. حيث نقل عن الواقدي أنّه قال :
    « و في الربيع الأوّل من هذه السنة ـ أعني سنة16 ـ كتب عمر بن الخطاب التاريخ و هو أوّل من كتبه.
    و أضاف ابن كثير قائلاً : قد ذكرنا سببه في سيرة عمر ، وذلك انّه رفع إلى عمر صكّ مكتوب لرجل على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان ، فقال : أي شعبان ؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها ، أم التي بعدها ؟ ثمّ جمع الناس فقال : ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم ، فيقال : إنّهم أراد بعضهم أن يؤرّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكهم كلّما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك ، و منهم من قال : أرّخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر فكرهوا ذلك ، ولطوله أيضاً ، و قال قائلون : أرّخوا من مولد رسول اللّه ، وقال آخرون من مبعثه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و أشار علي بن أبي طالب و آخرون أن يؤرّخ من هجرته من مكّة إلى المدينة لظهوره لكل أحد ، فإنّه أظهر من المولد و المبعث ، فاستحسن ذلك عمر والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرّخ من هجرة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأرّخوا من أوّل تلك السنة من محرّمها ، و عند مالك ( رحمه الله ) فيما حكاه عن السهيلي (1) و غيره أنّ أوّل السنة من ربيع الأوّل لقدومه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على المدينة ، والجمهور على أنّ أوّل السنة من المحرّم لأنّه أضبط لئلاّ تختلف الشهور ، فإنّ المحرّم أوّل السنة الهلالية العربية (2).
    و لكن الجزم و الإذعان بصحّة هذه النقول مشكل ، و الظاهر أنّ أوّل من أرّخ بالسنة الهجريّة ، هو النبيّ الأكرم حسب تضافر النصوص الموجودة في ثنايا الكتب وماظفرنا عليه من النصوص تدلّ على كون التأريخ بالهجرة في زمن النبي و بعده.
1 ـ كذا في المصدر و الظاهر زيادة كلمة « عن ».
2 ـ البداية و النهاية : ج7 ص75و76. طبع دار الكتب العلميّة.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس