مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 381 ـ 390
(381)
1 ـ إستحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب :
    إنّ الآية الاُولى ترسم لنا كيفيّة نزول الأحزاب على المدينة و إنّهم جاؤها من أعاليها و أسافلها ، فقد جاءت قبيلة غطفان و بني النضير من الجانب الشرقي للمدينة و هي الجهة العليا و جاءت قريش و من انضم إليهم من الأحابيش و كنانة من الجانب الغربي و هي الجهة السفلى ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مَنْ أسفلَ مِنْكُمْ ).
    كما أنّها تعكس الحالة النفسية التي عايشها المسلمون أثناء تطويق المدينة وهم على طوائف :
    1 ـ من مالت أبصارهم عن كل شيء فلم تنظر إلاّ إلى عدوّهم مقبلين من كل جانب.
    2 ـ من شخّصت قلوبهم من مكانها ولولا أنّه ضاق الحلقوم عنها إن تخرج لخرجت.
    3 ـ من ظنّ بالله ظنّ الجاهلية متقوّلين بأنّ الكفّار سيغلبون وسيستولون على المدينة وبالتالي ينمحق الدين وتعود الجاهلية أدراجها الاُولى.
    وإلى هذه الحالات الثلاث أشارت الآية بجملها الثلاث :
    أ ـ ( وَاِذْ زَاغَتِ الاَبْصَارُ ).
    ب ـ ( وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ).
    ج ـ ( وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ).
    والجملتان الأوّليتان كناية عن مبلغ استحواذ الخوف والهلع عليهم حتى انتقل بهم إلى حالة شبيهة بالإحتضار التي يزيغ فيها البصر وتبلغ القلوب الحناجر.
    وأمّا الجملة الثالثة : فلم تكن تشير إلى عموم المسلمين بل تستعرض حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، فهؤلاء ظنّوا بالله ظنّ الجاهلية ، كما يدل عليه


(382)
صريح لفظها حيث تضمّنت ما لفظه :
    ( وَاِذُ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ اِلاَّ غُرُوراً ).
    والمراد من قوله : ( وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ ) ضعفاء الإيمان من المسلمين وهم غير طائفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والشرك وإنّما يسمّون محمّداً رسولاً لمكان إظهارهم الإسلام.
    وأمّا الوعد الذي وعدهم الله ورسوله به هو انه كان يكرّر قوله تعالى : ( هُوَالَّذِى اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْكَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة/33 ).
    ولو افترضنا نزول الآية بعد غزوة الخندق فقد كان النبي يعد هم أنّه يفتح مدائن كسرى وقيصر خصوصاً عند حفر الخندق على ما في كتب السير والتواريخ (1).
    قال ابن هشام :
    وعظم عند ذلك البلاء ، واشتدّ الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب للتخلّي.
    وايم الله كانت هذه الغزوة كاُختها أي غزوة أحد تمحيصاً وغربلة وتمييزاً للمؤمن الواقعي عن المنافق المتظاهر بالإيمان كما تشير إليه الآية الثانية.
    ( هُنَالَكِ اْبُتِلَى المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَديِداً ) وإنّما استعمل كلمة هنا لك مع أنّها يشارُ بها إلى البعيد لأنّ الآية نزلت بعد جلاء المعركة وأشار بها إلى زمان مجيء الجنود المتأخّر عن نزولها.
1 ـ السيرة النبويّة لإبن هشام ج2 ص219 ، لاحظ محادثة النبي لسلمان عند حفر الخندق.

(383)
2 ـ حياكة الدسائس لفتح الثغرات :
    لم يكن عمل المنافقين منحصراً بإثارة القلاقل والارهاصات النفسية على مامرّ بيانه في كلماتهم بل كان دورهم أوسع من ذلك فقد كانوا يقومون بشن حرب نفسيّة تهدف إلى تفريق المسلمين عن الدفاع عن الخندق وكانوا يقولون للمسلمين لاوجه لإقامتكم ها هنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة ولا مناص من الفرار.
    وكان لفيف منهم يتذرّعون بقولهم ( اِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي لا يؤمن عليها من السارق وزحف العدو عليها ، حتّى يتملّصون ويتخلّصون من الخطر الذي يحدق بهم في ساحة المعركة. وكان هذا الكلام واجهة للفرار ، وإليه يشير قوله سبحانه :
    ( وَاِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا اَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَاْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ اِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَة إِنْ يُرِيدُونَ الاَِّفِرَاراً ).
     3 ـ المشارفة على أعتاب الردّة :
    ولقد بلغ الحال بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض في تهاونهم بأمر التمسّك بالدين إنّه لو رجع إليهم العدو مرّة ثانية ودخل المدينة من أقطارها وأطرافها ونواحيها ثم سألوهم الرجوع إلى الشرك لأجابوا مسرعين ولم يتوانوا ولم يلبثوا في الاجابة إلاّ زماناً يسيراً بمقدار الطلب والسؤال منهم ، فالمنافقون ومن تبعهم من مرضى القلوب يتظاهرون بالإسلام مادام الرخاء سائداً والأمن حالاًّ فإذا خيّمت الشدّة وحاق بهم البأس لم يلبثوا إلاّ قليلاً دون الرجوع والردّة.
    وهذا يعطي لنا درساً إضافيّاً بأنّ النظام الإسلامي يجب أن يرتكز في دعوته وكافّة اُُموره السياسية والإجتماعية والروحية على المؤمنين الصادقين ، والمعتنقين لمبادئه وأحكامه بصدق ويقين وتفان وإخلاص ، يتحاشى عن الركون والإعتماد على المنافقين بل يحذر منهم دائماً ، ويطلب نبذهم من الحياة فإنّهم يعدون ولا يوفون ، يبايعون وينقضون ، ويحالفون ويغدرون ، وهذه سجيّتهم وديدنهم ، وإليه يشير


(384)
قوله سبحانه :
    ( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَيُوَلُّونَ الاَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً ).
    وأمّا أنّهم في أي مكان وزمان بايعوا النبى فغير معلوم ، ولعلّ إيمانهم بالله ورسوله وبما جاء به من الجهاد وحرمة الفرار منه ، نوع عهد لله ورسوله أن لا يولّوا الأدبار ، وعلى كل تقدير فهؤلاء لا يتحمّلون المسؤولية وإن تحمّلوها بادئ بدء ، رفضوها في خاتمة المطاف.

4 ـ عدم جدوى الفرار :
    هؤلاء يتركون ساحة القتال وأطراف الخندق ، لأجل الفرار من خطر الموت والقتل ، غير أنّهم قد جهلوا سنّة الله الحكيمة القاضية بأنّه : ( فَاِذَا جَاءَ اَجَلُهُمْ لاَيَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف/34 ).
    وقد ردّت هذه النظرية ( الفرار سبيل النجاة ) في غير واحد من الآيات ، قالسبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْس اَنْ تَمُوتَ اِلاَّ بِاِذْنِ اللَّهِ ) ( آل عمران/145 ).
    وقال سبحانه : ( قُلْ لَوْ كُنْتُم فِى بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ اِلَى مَضاجِعِهِمْ ) ( آل عمران/154 ).
    ويقول في شأن أولئك الذين نكصوا على أعقابهم في معركة الخندق من المسلمين : ( قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ اِنْ فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ اَوِ القَتْلِ وَاِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ اِلاَّ قَلِيلاً ) وما ذلك إلاّ لأنّ لكل نفس أجلاً ، مقضيّاً ومحتوماً لا يتأخّر عنه ساعة ولايتقدّم عنه ، فالفرار على فرض التأثير لا يؤثّر إلاّ قليلاً ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَاِذاًلاَتُمَتَّعُونَ اِلاَّ قَلِيلاً ).
    كيف وإنّ الخير والشر تابعان لإرادته سبحانه ، ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء ، فإذاً الأولى إيكال الأمر إلى إرادته والتوكّل عليه ، قال سبحانه : ( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِنَ اللَّهِ اِنْ اَرَادَبِكُمْ سُوءاً اَوْ اَرَادَبِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ


(385)
وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ).

5 ـ سعة علمه :
    إنّ المنافقين ومن في قلبه مرض من المسلمين ، ما عرفوا الله حقّ قدره ، وماعرفوا أسماءه وصفاته ، وإنّه عالم بكل شيء ، ما تكنّه صدورهم وتضمره قلوبهم وتوحيه نفوسهم ، فكيف كلامهم وأعمالهم العلنية فقد كانوا يعيقون غيرهم من جنود المسلمين عن الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويثبطونهم ويشغلونهم ليعرضوا عن نصرته وينصرفوا عن القتال ، وكانت اليهود تساندهم في هذا الأمر ويقولون مع نظرائهم من المنافقين : لا تحاربوا وخلّوا محمداً فإنّا نخاف عليكم الهلاك ، ولأجل ذلك ما كانوا يحضرون القتال إلاّ رياءً أو سمعة قدر مايوهمون أنّهم مع المسلمين ولكنّهم كانوا كارهين لكون قلوبهم مع المشركين ، وإليه يشير قوله سبحانه :
    ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لاِِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ اِلَيْنَاوَلاَ يَاْتُونَ البَأْسَ اِلاَّ قَلِيلاً ) ( الأحزاب/18 ).
     6 ـ جبناء حين البأس ، شجعان حين الأمن
    عجيب أمر هؤلاء ومن حذى حذوهم :
    فهم حين البأس جبناء ، تدور أعينهم في رؤوسهم وجلاً وخوفاً ، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه ، فعند ذاك يعذّب لبّه ويشخص بصره فلايتحرّك طرفه.
    وحين إقتسام الغنيمة أشحّاء إذا ظفر بها المؤمنون لا يريدون أن يفوتهم شيء ممّا وصل إلى أيديهم ، وكان الشاعر يشير إليهم :
وفي السلم أعيار جفاءً وغلظة وفي الحرب أمثال النساء العواتك


(386)
    ولهم مع ذلك كذب في القول ومراء في الكلام ، فإذا كان الأمن والرخاء مخيِّما فخروا بمقاماتهم المصطنعة من النجدة والشجاعة والبأس ، وإلى هذه الحالات الثلاثه يشير قوله تعالى :
    ( اَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَاِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَاَيْتَهُم يَنْظُرُونَ اِلَيْكَ تَدُورُ اَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَاِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِاَلْسِنَة حِدَاد اَشِحَّةً عَلَى الخَيْر اُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاَحْبَطَ اللَّهُ اَعْمَالَهُم وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ).
    إلى الحالة الأولى ـ أي جبنهم في الحرب ـ يشير قوله : ( اَشِحَّةً عَلَيْكُم ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة ، فهم لا يودّون مساعدتكم ولا نصرتكم لا بنفس ولانفيس.
    وإلى الحاله الثانية يشير قوله : ( اَشِحَّهً عَلَى الخَيْرِ ) أي الغنائم.
    وإلى الحالة الثالثة يشير قوله : ( فَاِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِاَلْسِنَة حِدَاد ).
    وفي النهاية كتب على أعمالهم الضئيلة بالإحباط كما في قوله : ( اُولَئِكَلَمْيُؤْمِنُوا فَاَحْبَطَ اللَّهُ اَعْمَالَهُم ).
    وفي نهاية المطاف يتناول سبحانه هؤلاء ما هو مفاده : إنّ مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم ، وعظيم الدهشة والحيرة التي أحاطت بهم ، بلغ إلى حد أنّهم يظنّون إنّ الأحزاب ما زالت مرابطة في ثكنات معسكرهم في الوقت الذي رحلوا فيه.
    والذي يعرب عن عظم ما انتابهم من الوجل ، أنّه لو رجعت الأحزاب تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة حتّى لا ينالهم أذى أو مكروه ويكتفون بالسؤال عن أخبار من قاوم من جانب المدينة ، وإليه يشير قوله سبحانه :
    ( يَحْسَبُونَ الاَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا واِنْ يَأْتِ الاَحْزابُ يَوَدُّوا لَو اَنَّهُمْ بادونَ في الاَْعرابِ يَسْاَلُونَ عَنْ اَنْبائِكُم وَلَو كَانُوا فِيْكُم ما قاتَلُوا اِلاّ قليلاً ).
    إنّه سبحانه بعد أن فصّل أحوالهم ، وكشف عّما كنّته صدورهم وما أضمروه ،


(387)
أبان لهم طريق الهداية مرّة اُخرى وانّهم لو راموا النجاة والسعادة فليقتدوا برسول الله وليجعلوه اُسوة لهم ، قال سبحانه :
    ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَهٌ حَسَنَهٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَاليَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ).

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب
    ثمّ إنّه سبحانه لما بيّن حال المنافقين ومن في قلبه مرض ، ذكر حال المؤمنين الواقعيين الذين كانوا في الرعيل الأوّل في سوح الجهاد ، وكيف إنّهم كانوا على طرفي نقيض من المنافقين ، حيث قال سبحانه : ( وَلَمَّا رَاَى المُؤْمِنُونَ الاَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَاوَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَازَادَهُم اِلاَّ إِيْمَاناًَ وَتَسْلِيمأَ * مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ اِنْ شَاءَ اَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورَأً رَحِيماً ) ( الأحزاب/22 ـ 24 ).
    إنّ قوله سبحانه ( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ ) إشارة إلى ما وعدهم النبي بأنّ الأحزاب ستجتمع شوكتهم عليهم ، فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الذي وعدهم ، وربّما يقال بأنّ المراد ما وعده الله ورسوله من الابتلاء والإمتحان في الآيات التي نزلت في غزوة اُحد في قوله سبحانه ( اَمْ حَسِبْتُم اَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُم مَسَّتْهُمُ البَأسَاءُ وَالضَّرِّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ اَلاَ إنَّ نَصْرَاللَّهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة/214 ).
    فتحقّقوا من ذلك إنّه سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدّة والمحنة التي تزلزل القلوب ، وتدهش النفوس فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود وانّ الله سينصرهم على عدوّهم.
    ثمّ إنّه سبحانه وصف الكاملين من المؤمنين الذين ثبتوا عند اللقاء ، واحتملوا ا


(388)
لبأساء والضرّاء في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات ، بأنّ بعضهم استشهد يوم بدر ويوم اُحد ، وبعض منهم يترقّب أجله ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( مَنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ).
    والنحب : النذر المحكوم بوجوبه ، يقال قضى فلان نحبه ، أي وفى بنذره ، ويعبّربه عمّا انقضى أجله ، ثم إنّه سبحانه يقول : إنّ كلاًّ من المؤمن والمنافق مجزى بأعماله ، قال سبحانه : ( سيجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين ان شاءأويتوب عليهم اِنّ الله كان غفوراً رحيماً ).
    وهو سبحانه إستعرض جزاء عمل الصادقين بنحو القطع والجزم بقوله : ( لِيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ ) في الوقت الذي نجد فيه أنّه تناول جزاء المنافقين بقوله : ( وَيُعَدِّبَ المُنَافِقِينَ اِنْ شَاءَ ) بالتعليق على المشيئة ، وما ذلك إلاّ لبيان سعة رحمته وفضله ، وأنّه فسح المجال لتوبة من عصاه ، وعلى ذلك يكون معنى الآية يعذّب المنافقين لو شاء تعذيبهم ، فيما لم يتوبوا أو يتوب الله عليهم إن تابوا.

خاتمه المطاف :
    وفى ختام الآيات يقول أنّه سبحانه : قد صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وردّ المشركين على أدبارهم ، خائبين مخذولين تختنقهم الغصّة وتؤلمهم الحسرة ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِم لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ).
     النتائج التي تمخّض عنها هذا البحث فهي :
    أ ـ إنّّ في هذه الغزوة تحالفت الوثنية مع اليهود على أن يكون تحمّل أعباء نفقات الحرب على عاتق اليهود وكاهلهم ، ويكون القتال والاصطكاك في ساحة المعركة من نصيب المشركين ، وليس هذا التآمر المشترك هو الأوّل من نوعه بل له


(389)
نظائر متعدّدة على إمتداد التاريخ الإسلامي ، فقد تحالفت الوثنية مع النصرانية في القرن السادس والسابع الهجريين ، فشنّوا الغارات الشرسة على العالم الإسلامي ، ومزّقوه شر ممزّق ، فقد جاء التتار وهم الوثنية من الجهة الشرقية ، بينما جاءت النصرانية من جانب الغرب فهجموا على البلاد ، وفتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً لم يذكر التاريخ له مثيلاً.
    ب ـ إنّ الإنتصار رهن عاملين قويين : أحدها بشري والآخر غيبي.
    فأمّا الأوّل وهو القيام بالتخطيط العسكري ، وحفر الخندق ، وحشد القوى بتمام طاقاتها ، وبذل كل ما كانوا يملكونه لصدّ هجوم العدو ولم يكن التخطيط العسكري الذي انتخبه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منحصراً بحفر الخندق ، بل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كسر جبهة الأعداء استعان بالجواسيس وبث العيون وقد كان لنعيم بن مسعود في الفتك بوحدتهم دورهام ، على ما مر بيانه وربّما يوازي عمله عمل أدهى أجهزة الإستخبارات العالمية.
    وأمّا الثاني وهو الغيبي فقد سلط الله عليهم الريح والبرد القارس ، حتى سلبت عنهم الراحة والاستقرار والقدرة على البقاء ، فهذا حذيفة بن اليمان الذى ارسله الرسول جاسوساً إلى القوم حيث قال له : اذهب فادخل فى القوم ، فانظر ما ذا يصنعون ولا تحدثن شيئا ، حتى تأتينا ، قال فذهبت فد خلت فى القوم ، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، لا تقّر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً ، فقام ابوسفيان فقال : احذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه ، قال حذيفه فالتفت إلى عمرو بن العاص فقلت : من انت ، وهو عن يمينى فقال : عمرو بن العاص ، والتفت إلى معاوية بن ابى سفيان فقلت : من انت فقال : معاوية بن ابى سفيان ، ثم قال ابوسفيان : انكم والله لستم بدار مقام ، لقد هلك الخف والكراع ( الى ان قال حذيفه ) فقام ابوسفيان وجلس على بعيره ، وهو معقول ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائمه فما اطلق عقاله الا بعد ما قام (1).
1 ـ المغازي ج2 ص489و490 ، و السيرة النبويّة لابن هشام ج2 ص232.

(390)
4 ـ غزوة بني المصطلق
    بلغ رسول الله أنّ بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم ، حتّى لقيهم على ماء لهم ، يقال له : ( المُرَيسيع ) فتزاحف الناس ، واقتتلوا ، فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، وسبي من سبي ، وقد قتل من أصحاب رسول الله رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.
    فبينا رسول الله على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول الله صرختهما قال : دعوها فإنّها متنه ـ يعني إنّها كلمة خبيثة ـ لأنّها من دعوى الجاهلية ، فإنّ الله جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً ، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.
    ثمّ لمّا بلغ الأمر إلى عبدالله بن اُبيّ بن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم : زيد بن أرقم ، وهو غلام حدث ، فقال إبن اُبيّ : أو قد فعلوها ، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدّنا و جلابيب قريش إلاّ كما قال الأوّل : سَمِّن كلبك يأكلك! أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس