مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 461 ـ 470
(461)
المصلحة و ناجماً عن سوء تدبيره ، و بالتالي كان ذنباً و معصية ، أو أنّ الآية خرجت لبيان أمر آخر ؟ و الصحيح هو الثاني و إليك البيان :
    إنّ دراسة الموضوع توقفنا على أنّ إذن رسول اللّه كان مقروناً بالمصلحة إذ لولاه فلايخلوا حالهم بين أن يكونوا مطيعين أو عاصين ، فلو أطاعوه و ساهموا المسلمين لكان ضررهم أكثر من نفعهم لقوله سبحانه : ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلاََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( التوبة/47 ).
    و لأجل أنّ ضررهم كان أكثر من نفعهم ، أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لايشاركهم في الجهاد و لو طلبوا منه ، قال سبحانه : ( فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلِى طَائِفَة مِنْهُمْ فَاسْتَئْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقَلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدَاً وَ لَنْ تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة/83 ).
    ولو خالفوا و اثّاقلوا إلى الأرض لكان الفساد أعظم ، لأنّ المخالفة الواضحة توجب تهبيط عظمة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الأعين وربّما تتّخذ خطة عادية للمنافقين في مجالات اُخر.
    ولأجل هذا لمّا استأذنوا أذن لهم وما هذا إلاّ دفعاً للفاسد أو الأفسد.
    وبعبارة اُخرى : أنّهم كانوا عازمين على عدم الخروج مع المؤمنين لغزو الروم ، بل كان لهم في غياب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تخطيط ومؤآمرة أبطله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتخليف عليّ ( عليه السلام ) مكانه كما هو مذكور في السيرة ، قال سبحانه : ( وَلَوْ اَرَادُوا الخُرُوجَ لاََعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ) ( التوبة/46 ).
    والآية صريحة في أنّهم كانوا عازمين على ترك الخروج وكان الإستئذان نوع تغطية لقبح عملهم فما كانوا يخرجون إلى الجهاد سواء أذن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )


(462)
أم لم يأذن ، لكن ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإذنه حفظ مكانته ومنزلته بين المسلمين.
    نعم ، إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإذنه فوّت مصلحة اُخرى وهو التعرّف على المؤمن وتمييزه عن المنافق ، وتمحيص المطيع عن المتمرّد ولولاه لم يعرف الصديق من العدو عاجلاً.
    وليس لحن الآية في مجال تفويت هذه المصلحة لحن العتاب والإعتراض ، بل اُسلوبه اُسلوب عطف وحنان ، وأشبه بإعتراض الولي الحميم على الصديق الوفي ، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولينة ، فيقول بلسان الإعتراض : « لماذا أذنت له ولم تقابله بخشونة حتّى تعرف عدوّك من صديقك ومن وفي لك ممّن خانك. على أنّه وإن فات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معرفة المنافق من هذا الطريق لكنّه لميفته معرفته من طريق آخر ، صرّح به القرآن في غير هذا المورد ، فإن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعرف المنافق وغيره من المؤمن من طريقين آخرين.
    1 ـ كيفيّة الكلام ، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول وذلك إنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته ، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه ، قال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : « ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَلَوْ نَشَاءُ لاََرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القَوْلِ واللّهُ يَعْلَمُ أعْمَالَكُمْ ) ( محمد/30 ).
    2 ـ التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه ، قال : ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا اَنْتُم عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ( آل عمران/179 ) والدقّة في الآية تفيد بأنّ اللّه سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب ، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيّب.
    وعلى ذلك فلم يفت النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيء وإن فاتته


(463)
معرفة المنافق من هذا الطريق ولكنّه وقف عليها من الطريقين الآخرين.
    وعلى كل تقدير فاستئذان اُولوا الطول منهم لترك الخروج آية النفاق ، كما أنّ مساهمتهم آية الإيمان ، يقول سبحانه : ( وَاِذَا أُنْزِلَتْ سُورَهٌ اَنْ آمِنُوا باللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ اُوْلُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ القَاعِدِينَ * رَضُوا بِاَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِاَمْوَالِهِم وَاَنْفُسِهِمْ وَاُوْلَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَاُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * اَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) ( التوبة/86 ـ 89 ).
    نعم استثنى سبحانه ذوي الأعذار وهم الضعفاء ، والمرضى والفقراء ، فإنّ هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب ، قال سبحانه : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى المَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ اِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ اِذَا مَا اَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ اَجِدُ مَا اَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَاَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً اَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * اِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَاْذِنُونَكَ وَهُمْ اَغْنِيَاءُ رَضُوا بِاَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة/91 ـ 93 ).

الاعتذار بالخوف من نساء الروم
    ثمّ إنّ بعضهم إعتذر بأنّه يخشى من نساء بني الأصفر فقال : يا رسول الله : « إئذن لي ولا تفتني فو اللّه لقد عرف قومي أنّه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء منّي وإنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر » فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : لقد أذنت لك ، فنزلت في حقّه هذه الآية : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلاَ تَفْتِنِّى اَلاَ فِى الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ ) ( التوبة/49 ).


(464)
    والمراد أنّه أنّما خشي الفتنة من نسائهم ولكن ما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلّفه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجزاؤه جهنّم (1).
    ثمّ خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن المدينة وضرب عسكره على ثنية الوداع وخلّف علي بن أبي طالب ( رضوان اللّه عليه ) على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلّفه إلاّ إستثقالاً له وتخفّفاً منه ، فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ علي بن أبي طالب ( رضوان اللّه عليه ) سلاحه ثمّ خرج حتّى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو نازل بالجرف ، فقال : يا نبي الله ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني لأنّك استثقلتني وتخفّفت منّي ، فقال : كذّبوا ، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ؟ إلاّ انّه لا نبي بعدي ، فرجع علي إلى المدينة ، ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على سفره (2).

حديث تخلّف الثلاثة
    ثمّ إنّه تخلّف بعضهم لا عن نفاق بل عن توان وهم : كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن اُميّة. فلمّا قدم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و تقدّم إلى المسلمين بأن لايكلّمهم أحد منهم ، فهجرهم الناس حتى الصبيان ، و جاءت نساؤهم إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقلن له : يا رسول اللّه نعتزلهم ؟ فقال : لا ولكن لايقربوكنّ ، فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال ، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، فقال بعضهم لبعض : قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلاّ نتهاجر نحن أيضاً ، فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين
1 ـ السيرة النبوية : ج2 ص516.
2 ـ السيرة النبويّة ج2 ص520.


(465)
يوماً يتضرّعون إلى اللّه تعالى ، فقبل اللّه توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية (1) :
    ( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى اِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم اَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَاَ مِنَ اللَّهِ اِلاَّ اِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم لِيَتُوبُوا اِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبه/118 ).
    والذي يستفاد من هذا القرار الحاسم الذي أصدره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأن اُولئك ، إنّ الدواء الناجع لعلاج كل تصدّع يطرأ على الجبهة الإسلامية يتمثّل في فرض الحصار وتضييق الخناق على العدوّ ليستأصل كلّياً قبل استفحال أواره ، ، واشتداد شوكته.
    وبعبارة اُخرى : نستخلص درساً هامّاً لحياتنا في مستقبلها المصيري من موقف النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا وهو أنّه كلّما شعرت القيادة الإسلامية بخطر يترقّب من أقلّية تسكن داخل البلاد الإسلامية ، فإنّه يجب عليها أن تفرض عليها الحصار الإقتصادي وتستنهض عزائم المسلمين للمجابهة الصارمة مع اُولئك ليرتدعوا عن بكرة أبيهم عمّا كانوا عليه من شطط وإيذاء للمسلمين.
    نرى في البلاد الإسلامية أقلّيات مذهبية من غير المسلمين وقد بلغوا الذروة في الثروة وجمع المال وامتصّوا دماء المسلمين في عقردارهم ، واستنفدوا قواهم وسخّروهم لصالح منافعهم الخاصّة على غفلة من أمرهم ، وما هذه الظاهرة إلاّ لأنّ الأكثرية صارت دمية بيد اُولئك لتشتّت المسلمين وإنقسامهم على أمرهم ، فلو قام المسلمون بأعمال السياسة التي قام بها النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في العام التاسع من الهجرة وضربوا الحصار على تلك الأقلّية بأن يقطعوا الأواصر الإقتصادية مع هؤلاء ، لدحضت مخطّطاتهم ولردّ كيدهم إلى نحورهم.
1 ـ و نقله القمّي في تفسيره بصورة مفصلّة ، ومن أراد فليرجع إلى ج2 ص278 ـ 280 ، لاحظ مجمع البيان ج3 ص79.

(466)
    هذا ما يرجع إلى الأقلّيات المذهبية في داخل البلاد الإسلامية وأمّا القوى الكافرة الخارجة عنها فيجب كبح جماحهم بشكل آخر وهو :
    إنّ المسلمين اليوم يملكون زمام الطاقة الحياتية المتمثّلة في النفط والتي تمثّل عصب الحضارة الحديثة ، فلو أنّهم امتنعوا عن إعطاء ثروتهم النفطية للقوى الكبرى ، لتوقّفت واُصيبت الحياة الصناعية والإقتصادية بشكل رهيب. واضطرّت على أثرها للرضوخ للواقع والإعتراف بحقوق المسلمين المشروعة.
    ( إنّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد ) والتفصيل موكول إلى محل آخر.

مسجد ضرار
    كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على جناح السفر إلى تبوك إذ وفد جماعة من بني غنم ابن عوف وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلّي في مسجدهم الذي بنوه في حيّهم وقالوا إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وانّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعوا بالبركة ، فقال لهم : إنّي على جناح سفر ولوقدمنا أتيناكم إن شاءالله.
    فلمّا انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تبوك وأراد الصلاة فيه نزلت عليه آية في شأن المسجد وهي :
    ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَاِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ اِنْ اَرَدْنَا اِلاَّ الحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ اِنَّهُم لَكَاذِبُونَ * لاَ تُقِمْ فِيهِ اَبَداً لَمَسْجِدٌ اُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ اَوَّلِ يَوْم اَحَقُّ أن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ اَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ * اَفَمَنْ اَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَان خَيْرٌ اَمْ مَنْ اَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُف هَارِ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ


(467)
الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيْبَةً فِى قُلُوبِهِمْ اِلاَّ اَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة/107 ـ 109 ).
    وفي حقيقة الأمر كان إنشاء هذا البناء لأجل غاية خبيثة وأهداف مستبطنة منها بثّ الفرقة والشقاق بين صفوف المسلمين ، ومنها جعل هذا المكان ملجأً لأبي عامر الراهب وهو من أشد محاربي اللّه ورسوله وكان من قصّته أنّه قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبوحنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في واقعة اُحد وكان جنباً فغسّلته الملائكة.
    وسمّى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا عامر : « الفاسق » ، وقد كان أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا و ابنوا مسجداً فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود واخرج محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة ، فكان المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر ، فبنوا هذا المسجد لتلك الغاية.
    فلمّا نزلت الآية أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم بهدم المسجد وتحريقه ، وروي أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشي أن يحرقاه وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.
    وهذه المؤامرة لم تكن الاُولى في تاريخ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنّ القوى الكافرة ما برحت تبذل جهودها في البلاد الإسلامية من خلال إنشاء المشاريع الخيرية كالكنائس والمستشفيات وملاجىء الأيتام ومعاهد التربية والتعليم لتأصيل بذور عوامل الإختلاف بين المسلمين ، وتضعيف عقائدهم وافسادهم إلى حد تبلغ بهم فيه إلى مسخ شخصيتهم الإسلامية.
    وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ المشاريع الخيرية أفضل وسيلة للنفوذ إلى أوساط المسلمين وتنفيذ مآربهم العدائية المحاكة ضدّهم.


(468)
    وفي الواقع أنّ الخطّة التي تنتهجها القوى الكافرة غالباً للقضاء على الإسلام والمسلمين تكمن في إستغلال الصبغة الدينية التي تدين بها الشعوب الإسلامية لضرب الإسلام والإنسانية باسم الإسلام نفسه وتحت شعارات دينية تنبع من أهدافه في ظاهر أمرها.

وقعة تبوك :
    فلمّا انتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى تبوك أتاه صاحب أيله (1) وأهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية ، فكتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهم كتاباً ، فأ قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تبوك بضعة عشر ليلة ولميجد من العدو فيها أثراً فرجع إلى المدينة قافلاً.
     تآمر المنافقين على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
    روى المفسّرون أنّ اثنى عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمّار كان يقود دابّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحذيفة يسوقها ، فقال حذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحّاهم ، فلمّا نزل قال لحذيفة من عرفت من القوم ؟ قال : لم أعرف منهم أحداً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّه فلان وفلان حتى عدّهم كلّهم ، فقال حذيفة : ألاتبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال : أكره أن تقول العرب لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم (2).
    روى الواقدي : لمّا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بعض
1 ـ مدينة في فلسطين.
2 ـ مجمع البيان ج3 ص46.


(469)
الطريق مكر به اُناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق ، فلمّا بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خبرهم.
    فقال للناس : اسلكوا بطن الوادي فإنّه أسهل لكم وأوسع ، فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) العقبة وأمر عمّار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه ، فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسير في العقبة إذ سمع حسيس القوم قد غشّوه ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمر حذيفة أن يردّهم ، فرجع حذيفة إليهم وقد رأوا غضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده ، وظن القوم إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قداطّلع على مكرهم فانحظوا من العقبة مسرعين حتّى خالطوا الناس.
    وأقبل حذيفة حتّى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فساق به ، فلمّاخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من العقبة نزل الناس فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا حذيفة هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم ؟ قال : يارسول اللّه عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثّمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل ، فنزلت في حقّهم هذه الآية :
    ( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ اَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزءُوا اِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ اِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَ آيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُم تَسْتَهْزِؤُنَ ) ( التوبة/64 ـ 65 ) (1).
1 ـ المغازي للواقدي ج3 ص1042 ـ 1043.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس