مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 551 ـ 560
(551)
بعضاً ، فكأنّهم لميسمعوا قول الله عز وجل : ( فأصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إخوانا ) ( آل عمران/103 ) أو قوله عزّ وجلّ : ( إنّما المؤمنونَ إخْوَةٌ ) ( الحجرات/10 ) أو قول نبيّهم الأعظم : « إنّما المؤمنون في تراحمهم وتوادّهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى » (1).
    ترى أنّ كل قطر من الأقطار الإسلامية أصبح لقمة صغيرة قابلة للأكل والبلع لحماة الإستعمار أوّلاً والمستعمرين ثانياً ، فحاق بالمسلمين ألوان العذاب وأصناف العقاب.

7 ـ رسالة الإسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم وبيان دلائله من القرآن الكريم :
    إنّ رسالة النبي الأكرم رسالة عالمية غير مختصّة بشعب دون شعب ، وإن أصرّ الدعاة المسيحيون بتخصيص رسالتها بالاُمّة القاطنة في الجزيرة العربية ، غير أنّ تلك الفكرة فكرة خاطئة يكذّبها القرآن بخطاباته العامّة وهتافاته المطلقة ، فالقرآن يخاطب جميع العالم بلفظ : « يا أَيّها الناس » ويقول : ( يَا اَيُّهَا النَّاسُ اِنِّى رَسُولُ اللَّهِ اِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) ( الأعراف/158 ).
    كما أنّه يعرّف النبيّ رحمة للعالمين بقوله سبحانه : ( وَمَا اَرْسَلْنَاكَ اِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء/107 ).
    وبعد القرآن النبي الاكرم نذيراً للعالمين ، ويقول ( تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) ( الفرقان/1 ).
    كما أنّه يأمر النبي أن ينذر بالقرآن كل بشر يصل إليه ذلك الكتاب ، ويقول : ( وَاُوحِىَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لاُِنْذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ( الأنعام/19 ).
1 ـ مسند أحمد ج4 ص270.

(552)
    نعم هناك آية اُخرى ربّما تفع ذريعة لمن يريد الخدعة وتحريف الفكرة الصحيحة ، وهي قوله سبحانه : ( لِتُنْذِرَ اُمَّ القُرىَ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ولكن الآية واضحة ببركة الآية المتقدّمة عليها ، وذلك لأنّ المراد باُمّ القرى هي مكّة كما أنّ المراد بـ « من حولها » العالم كلّه فمكّة اُمّ القرى وقلب العالم التوحيدي فإذا أنذر مكّة وأنذر ماحولها فقد أنذر جميع العالم.
    فهذه الآيات ونظائرها أوضح دليل على عالميّة رسالته وانّها تشمل جميع أبناء البشر ، كيف والنبي الأكرم حسب قوله سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى اُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبيِّنَات مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ ) ( البقرة/185 ). يهدي كل الناس ببركة القرآن ، أفبعد هذه التصاريح القاطعة يمكن احتمال إختصاص رسالة النبي الأكرم بقوم دون قوم ؟
    وهذه الآيات ونظائرها الكثيرة الواردة في القرآن تصرّح بعموميّة رسالته وإطلاق نبوّته.

8 ـ تفسير قوله تعالى : ( يَا اَيُّهَالنَّاسُ اِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَر وَاُنْثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا اِنَّ اَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ اَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات/13 ).
    والآية تشتمل على نكات ستّ نشير إليها بإيجاز.
    1 ـ إنّ الآية تقسّم الإنسان إلى قسمين الذكر والاُنثى ويستند في التفسير باُمور ذاتية داخلة في جوهر ذاته وحقيقة وجوده وهي الذكورية والاُنوثية ولا يعتني بالاُمور الطارئة عليه حسب ظروفه وشرائط حياته.
    2 ـ تعترف بالشعوب والقبائل وتصرّح بأنّ هناك قوميّات ولا تنفيها أبداً.
    3 ـ تصرّح بأنّ اختلاف البشر من جهة الشعوب والقبائل كاختلافهم من حيث الذكورة والاُنوثة وإنّ كلا الاختلافين داخلان في جوهر وجوده وواقع شخصيّته.
    4 ـ يسند تكوّن الاختلاف في كلتا الجهتين إلى نفسه ( اِنَّا خَلَقْنَاكُم ... وَجَعَلْنَاكُم ).


(553)
    5 ـ إنّ الغاية من تكوين ذلك الاختلاف وجعل البشر شعوباً وقبائل ليست هي التفاخر والتناكر بل التعارف والتحابب.
    6 ـ إنّ الاعتراف بالقوميّات ليست بمعنى انّها الملاك في التفوّق والاعتلاء بل ملاك التعالي والكرامة في التقوى والتجنّب عن اقتراف المعاصي.
    هذه نكات ست جئنا بها على وجه الإيجاز والكل يحتاج إلى توضيج أكثر من هذا نتركه لآونة اُخرى.

9 ـ كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية :
    إنّ الرسول الأعظم جاء يحطّم القومية المبدّدة لكيان الإسلام ووحدة المسلمين وألقى جوامع الكلم في هذا المجال نأتي ببعضها.
    أ ـ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في خطبة حجّة الوداع : « يا أيّها الناس إنّ اللّه تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية و فخرها بالآباء ، كلّكم من آدم و آدم من تراب ، ليس لعربي على أعجمي فضل إلاّ بالتقوى » (1).
    ب ـ و قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الناس كلّهم سواء كأسنان المشط » (2).
    ج ـ و قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الناس كلّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالعبودية » (3).
    د ـ و قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ليس منّّا من دعا إلى عصبية ».
1 ـ سيرة ابن هشام ج2 ص417.
2 ـ كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق : ص122.
3 ـ وسائل الشيعة ج3 ص242.


(554)
    هـ ـ روى المحدّثون أنّه جلس سلمان إلى جنب سائر الصحابة من قريش فانتهى الكلام إلى الأنساب و الأحساب ، فعرّف كل واحد أصله و نسبه ، و لمّا وصل الكلام إلى سلمان فقال : هو أنا سلمان ابن عبد اللّه كنت ضالاًّ فهداني اللّه بمحمد ، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد ، و كنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد ، فلمّا وقف النبي على محاضرتهم أقبل إليهم و قال : « يا معشر قريش إنّ حسب الرجل دينه ، ومروءته خلقه ، و أصله عقله. قال اللّه عز و جلّ : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَ اُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) قال النبي لسلمان : ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلاّ بتقوى اللّه عزّ و جلّ ، و إن كانت تقوى لك فأنت أفضل (1).
    و ـ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ليدعن رجالاً فخرهم بأقوام إنّما هم فحم من فحم جهنّم أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن » (2).
    و قد نقل انّه اشترك في بعض المغازي شابّ إيراني ، فلمّا وجّه إلى العدو فقال : خذ هذه الضربة من شاب إيراني ، فاعترض عليه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : لماذا لم تقل من رجل أنصاري (3).
    ز ـ كان النبي واقفاً على أنّ العرب تفتخر بلسانها العربي و قال في هذا الصدد : « ألا انّ العربية ليست باب والد و لكنّها لسان ناطق فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه » (4).
    ح ـ إنّ النبي أسّس مجتمع إسلامي عظيم من قوميّات مختلفة فضمّ عليّاً العربي إلى صهيب الرومي و ضمّ بلال الحبشي إلى سلمان الفارسي و ضمّ إليهم خبّاب النبطي من دون أن يزعج واحد منهم الآخر و هم من قوميّات متشتّتة ، و لأجل
1 ـ روضة الكافي ص181 ، بحار الأنوار ج22 ص282.
2 ـ سنن أبي داود ج2 ص624.
3 ـ سنن أبي داود ج2 ص625.
4 ـ الكافي ج8 ص246.


(555)
ذلك قام علي ( عليه السلام ) يقول : « السباق خمسة فأنا سابق العرب و سلمان سابق فارس و صهيب سابق الروم و بلال سابق الحبشة و خبّاب سابق النبط » (1).
    ط ـ روي انّ عبد الرحمن بن عوف قال لعبده : يا ابن الأسود ، فوقف عليه النبي و قال : « ليس لابن الأبيض على ابن الأسود فضل إلاّ بالتقوى و اقتفاء الحق » (2).
    ي ـ روى المحدّثون أنّ عقيلاً أخا علي اعترض على أمير المؤمنين بأنّه ساوى بينه و بين رقّ أسود ، و قال : و اللّه لتجعلني و أسود بالمدينة سواء ، فقال علي : ومافضلك عليه إلاّ بسابقة أو بتقوى (3).
    ك ـ روي انّ سلمان كان جالساً في مجلس كانت فيه شخصيات قريش الذين هاجروا إلى المدينة و آمنوا بالنبي ، فاعترض واحد منهم و قال : من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب ، فلمّا سمع النبي ذلك الكلام اللائح منه القوميّة البغيضة صعد المنبر و قال : إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط لافضل للعربي على العجمي و لا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى » (4).
    هذه كلمات مضيئة من النبي حول القومية و كل واحدة منها تكفي في تحطيم القومية و تضادّها مع مبادئ الإسلام.

10 ـ الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أوّلاً والإسلام والمسلمين ثانياً.
    القومية تنمّي روح التوسّعية و السيطرة على أقوام اُخر باعتقاد أنّ حاملها أفضل
1 ـ الخصال للشيخ الصدوق : ص212.
2 . الحديث منقول بالمعنى ، رواه باقر شريف القرشي في كتابه « الحكمة والحكومة » : ص152.
3 ـ روضة الكافي ج8 ص262.
4 ـ الإختصاص للشيخ المفيد : ص227.


(556)
الأقوام و أمثلها ، و لأجل ذلك نرى أنّ رئيس ألمانيا ( هتلر ) في وقته دعى إلى القومية و انّ شعبه من أفضل الشعوب عقلاً و أطهرها دماً ، فأوجد في قومه نخوة كبيرة و حقداً و بغضاً لسائر الشعوب ، فنمت فيهم روح الطغيان و التوسّعية فأشعل فتيلة الحرب العالمية الثانية ، و دامت الحرب حوالي خمس سنين و تكبّد العالم البشري خسائر فادحة ، و أعطت لاطفاء نيرانها النفس و النفيس قرابة مائة مليون بين قتيل وجريح ومفقود.
    و أمّا الخسائر التي تفرضها القومية على الإسلام فهي تحطّم الوحدة الإسلامية وتبدّد المجتمع الواحد إلى مجتمعات ، و تبدّل الاُخوّة إلى البغضاء فيصير المجتمع الإسلامي اُمماً متفرّقة و أشلاء مبعثرة تقع فريسة للقوى الكبرى.
    ولو كان شعار القومية : نحن العرب ، نحن الفرس ، نحن الترك ، فشعار المسلم نحن حزب اللّه و دعاته تجمعنا عقيدة واحدة ، و هي الإعتقاد بربّ واحد ورسول خاتم و كتاب نازل و أحكام و اُصول و فروع خالدة.
    نحن كما يقول شاعر الاهرام حسن عبد الغني حسن :
إنّا لتجمعنا العقيدة اُمّة ويُؤلِّف الإسلام بين قلوبنا ويضمّنا دين الهدى أتباعاً مهما ذهبنا بالهوى أشياعاً
    و في الختام نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الدعوة إلى القومية تختلف عن العلاقة بالأوطان التي نشأ الإنسان فيها كما تختلف عن العلاقة بالثقافات القومية والآداب و الرسوم المورثة إذا لم تتعارض مع اُصول الإسلام و تعاليمه ، و هذا هو رمز تقدّم الإسلام بين الشعوب و الأقوام المختلفة ، فالإسلام في مفهومه يتحمّل جميع القوميات و الثقافات المحلّية و لاينفنّدها بل يعترف بالجميع شريطة أن لاتخالف المبادئ الإسلامية ، و لو كان نبيّ الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معارضاً لهذه الثقافات و الرسوم و الآداب لما نجح في نشر الإسلام و تربية الناس ، نعم الإعتراف بهذه الآداب و الرسوم يختلف من جعلها محوراً للتفوّق و ملاكاً للتصاغر.


(557)
    و قد روي أنّ النبي عندما وصل في هجرته من مكّة إلى المدينة إلى أرض الجحفة اشتاقت نفسه إلى موطنه فنزلت الآية : ( إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعاد ) ( القصص/85 ) و المعاد هو الوطن.
    تمّ الجزء السابع من هذه الموسوعة القرآنية الموضوعية التي استعرضت الجوانب المتعدّدة للشخصيّة المحمدية ، و يسعدنا أنّا استعرضنا تلك الشخصيّة الكبرى في ضوء أتقن و أصحّ مصادر الإسلام و هو القرآن الكريم ، فهي صورة معبّرة لأبعاد الشخصيّة المحمديّة و ما يدور حولها من منظار الوحي الإلهي.
    و هذه الصورة و إن لم تكن الصورة الكاملة الشاملة لتلك الشخصية الطاهرة السامية إلاّ أنّها تمثّل أبرز ملامحها المباركة.
    و ليس لنا هنا إلاّ أن نعتذر إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعجزنا عن أداء هذه المهمّة الجسيمة رغم السعي الكبير..
    و نرجو من اللّه سبحانه التوفيق لإتمام بقية هذه الموسوعة إنّه سميع الدعاء.
    تمّ عشية ليلة الأحد الخامس من شهر جمادي الآخرة من شهور عام1411 هـ.
والحمد للّه ربّ العالمين
قم مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام )
جعفر السبحاني
غفر اللّه له ولوالديه
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس