الفَصـل الثـالِـث
تسيير أبي ذَر إلى الربذَة
وَوَداع أمير المؤمنين علي عَليه السّلام له
كما وصفه المؤرخون
* منَ الشّـام إلى المَدينَة إلى الرّبذَة
* في الـرّبـذَة
* بَين أبي ذَرّ وّحُذيفَة بن اليَمان
* يَمشي وَحدَهُ وَيمُوتُ وَحدَه
* المَـأسَـاة
(132)
(133)
من الشام إلى المدينة إلى الرّبذة
روى البلاذري : (1) .
لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بان الحكم إبن أبي العاص ، ثلاثمائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عز وجل : « والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، فبشرهم بعذاب أليم » . فرفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان . فأرسل الى أبي ذر ، ناتلا مولاه : أن انته عما يبلغني عنك .
فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله . وعيب من ترك أمر الله ؟ فوالله ، لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي ، وخير لي ، من أن أسخط الله برضاه .
فاغضب عثمان ذلك ، واحفظه ، فتصابر ، وكف .
وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !
فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ؟
____________
1 ـ الغدير 8 / 292 ـ 293 عن الانساب 5 / 52 / 54 .
(134)
فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك باصحابي ؟ إلحق بمكتبك ، وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسال عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيأذن له في ذلك ، وانما صار مكتبه بالشام ، لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعا (1) ، أني سمعت رسول الله يقول : اذا بلغ البناء سلعا ، فالهرب ، فاذن لي أن آتي الشام فأغزو هناك . فأذن له .
وكان ابو ذر ينكر على معاوية اشياء يفعلها ، وبعث اليه معاوية بثلاث مائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ؟ قبلتها ! وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها . وبعث اليه مسلمة الفهري بمائتي دينار ، فقال : أما وجدت أهون عليك مني ، حين تبعث الي بمال ؟ وردَّها .
وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة ، وان كانت من مالك ؟ فهذا الاسراف . فسكت معاوية ، وكان ابو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنة نبيه . والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه .
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : ان أبا ذر مفسد عليك الشام ، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة . فكتب معاوية الى عثمان فيه .
وجاء في شرح النهج :
عن جلاّم بن جندل الغفاري قال : كنت غلاما لمعاوية على قنسِّرين والعواصم ، في خلافة عثمان ، فجئت اليه اسأله عن حال عملي ، اذ سمعت صارخا على باب داره يقول : أتتكم القطار ، تحمل النار ! اللهم العن الآمرين بالمعروف ، التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له .
____________
1 ـ سَلع : موضع بقرب المدينة ( معجم البلدان ـ 3 / 236 ) .
(135)
فازبأرَّ (1) معاوية ، وتغير لونه وقال : يا جلاّم أتعرف الصارخ ؟ فقلت : اللهم لا .
قال : من عذيري من جندب بن جنادة ! يأتينا كل يوم ، فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ! ثم قال : أدخلوه عليَّ .
فجيء بأبي ذر بين قوم يقودنه ، حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية :
يا عدو الله وعدو رسوله ! تأتينا في كل يوم ، فتصنع ما تصنع ! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان ، لقتلتك ، ولكني أستأذن فيك .
قال جلاّم : وكنت أحب أن أرى أبا ذر ، لأنه رجل من قومي ، فالتفت اليه ، فاذا رجل أسمر ضَرب (2) من الرجال ، خفيف العارضين ، في ظهره جَنأ (3) فأقبل على معاوية وقال :
ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله . أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر . ولقد لعنك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعا عليك مرّات ألا تشبع .
سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : اذا ولي الامة الأعين ، الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه .
فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .
قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ، اخبرني بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسمعته يقول ـ وقد مررت به ـ : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه الا بالتراب . . الخ . .
____________
1 ـ ازبأرّ : غَضِب .
2 ـ ضرب : الخفيف اللحم .
3 ـ الجنأ : يقال جنئ ، جنأ ، اذا اشرف كاهله على ظهره حدبا .
(136)
فكتب عثمان الى معاوية : أن أحمل جندبا اليّ على اغلظ مركب ، وأوعره ، فوجَّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (1) ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة ، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد .
دخـوله علـى عثمـان
وفي رواية الواقدي : أن أبا ذر لما دخل على عثمان ، قال له :
لا أنعـم الله بقيـن عينـا * نعـم ولا لقـاه يومـاً زينـا
تحيـة الـسخـط اذا الـتقينـا
فقال أبو ذر : ما عرفت اسمي ( قيناً ) قط .
وفي رواية أخرى : لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب !
فقال أبو ذر : أنا جندب ، وسماني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي سماني به على اسمي .
فقال له عثمان : أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وان الله فقير ونحن أغنياء !
فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا ، لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول . « اذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ، جعلوا مال الله دُولا ، وعباده خَوَلا ، ودينه دَخَلا » .
فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟
قالوا : لا .
قال عثمان : ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ؟
____________
1 ـ الشارف : الناقة المسنَّة .
(137)
فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أني صَدقتُ !؟
قالوا : لا والله ، ما ندري .
فقال عثمان : ادعوا الي عليا . فلما جاء ، قال عثمان لأبي ذر : أقصص عليه حديثك في بني العاص . فأعاده .
فقال عثمان لعلي عليه السلام : أسمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
قال : لا . وقد صَدق أبو ذر .
فقال : كيف عرفت صِدقهُ ؟
قال : لأني سمعت رسول الله يقول : « ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء ، من ذي لهجة أصدقُ من أبي ذَرِّ » .
فقال من حضر : أما هذا ، فسمعناه كُلُّنا من رسول الله .
فقال أبو ذر : أحدثكم اني سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتتهموني ! ما كنت أظن اني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد (1) .
وجاء في رواية الواقدي ، عن صهبان مولى الاسلميين .
قال : رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان . فقال له : أنت الذي فعلت ، وفعلت !؟
فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ، فاستغشني !
قال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة ، وتحبها ، قد انغلت (2) الشام علينا .
فقال أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك ، لا يكن لأحد عليك كلام .
فقال عثمان : مالك وذلك ، لا أمّ لك !
____________
1 ـ شرح النهج 8 ص 257 ـ 258 ـ 259 و ج 3 منه .
2 ـ النغل : الافساد بين القوم .
(138)
قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذرا ، إلا الامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
فغضب عثمان ، وقال : اشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب ، إما ان أضربه ، أو أحبسه ، أو أقتله ، فانه قد فرَّق جماعة المسلمين ، أو أنفيَه من أرض الاسلام .
فتكلم علي عليه السلام ـ وكان حاضرا ـ فقال :
أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون « فان يَكُ كاذِباً فَعَليهِ كَذِبُه ، وإن يَكُ صادقاً ، يُصِبكم بَعض الذي يَعدِكم ، إن الله لا يهدي مَن هُو مُسرِف كذَّاب » .
فأجابه عثمان بجواب غليظ . وأجابه علي عليه السلام بمثله (1) . .
وجاء في مروج الذهب :
وكان في ذلك اليوم قد أتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فنثرت البدر ، حتى حالت بين عثمان وبين الرجل الواقف ، فقال عثمان :
إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا ، لأنه كان يتصدق ، ويقري الضيف ، وترك ما ترون .
فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين .
فشال أبو ذر العصا ، فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال :
يا ابن اليهودي ، تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك ، وانا سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول :
____________
1 ـ نفس المصدر السابق .
(139)
ما يسرني أن أموت ، وأدَعَ مايزن قيراطاً (1) .
قال الواقدي : ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ، أو يكلموه ، فمكث كذلك أياماً .
ثم أتي به ، فوقف بين يديه ، فقال أبو ذر : ويحك ياعثمان أما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورأيت أبا بكر وعمر ! هل هَديُكَ كهديِهم ، أما إنَّك لتبطُش بي بطشَ جبَّار ! .
فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا ـ (2) الى آخر الرواية .
وفي مروج الذهب :
فقال له عثمان : وارِ عني وجهك .
فقال : أسير الى مكة . قال : لا والله ؟
قال : فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت ؟ قال . إي والله .
قال : فالى الشام ، قال : لا والله .
قال : البصرة . قال : لا والله ، فاختر غير هذه البلدان .
قال : لا والله ما اختار غير ما ذكرت لك . ولو تركتني في دار هجرتي ، ما أردت شيئا من البلدان ، فسيرني ، حيث شئت من البلاد .
قال : فاني مسيرك الى الربذة .
قال : الله أكبر ، صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أخبرني بكل ما أنا لاق .
قال : عثمان : وما قال لك ؟
قال : أخبرني بأني أمنع عن مكة ، والمدينة ، وأموت بالربذة ، ويتولى
____________
1 ـ مروج الذهب 2 / 340 .
2 ـ شرح النهج 8 / 259 ـ 260 .
(140)
مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز (1) .
نـفيـه الـى الـربـذة
جاء في شرح النهج ، عن ابن عباس ، قال :
لما أخرج أبو ذر الى الربذة ، أمر عثمان ، فنودي في الناس : ألاّ يكلم أحد أبا ذر ، ولا يشيِّعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به . فخرج به ، وتحاماه الناس . إلا عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه ، وحسنا وحسينا عليهما السلام ، وعمارا فانهم خرجوا معه يشيعونه .
فجعل الحسن عليه السلام ، يكلم أبا ذر . .
فقال له مروان : إيها يا حسن ، ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ ! فان كنت لا تعلم ، فاعلم ذلك .
فحمل علي عليه السلام على مروان ، فضرب بالسوط بين أذني راحلته ، وقال : تنحَّ ، لَحَاك الله الى النار !
فرجع مروان مغضبا الى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على عليّ ( عليه السلام ) (2) .
كـلام الامـام ( عليه السـلام ) لابي ذر
وودع علي عليه السلام أبا ذر ( رض ) قائلا له :
يا أبا ذر ، انك غضبت لله ، فأرجُ من غضبتَ له إن القومَ خافوك
____________
1 ـ مروج الذهب 2 / 340 ـ 341 .
2 ـ شرح النهج 8 / 252 ـ 253 .
(141)
على دنياهم ، وخِفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرَب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوَجهم الى ما منعتهم ، واغناك عمَّا منعوك !
وستعلم من الرابح غدا ، والأكثر حُسَّدا ، ولو أن السمواتِ والأرضين كانتا على عبد رتقاً ، ثم اتقى الله ، لجعل الله له منهما مخرجا .
لا يؤنسنك الاّ الحق ، ولا يُوحشنَّك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبُّوك ولو قرضت منها لأمنَّوك (1) .
وجاء في رواية ابن عباس : عن ذكوان ـ وكان حافظاً ـ . كما في شرح النهج .
قال ذكوان : فحفظت كلام القوم . فقال علي عليه السلام : يا أبا ذر ، أنك غضبت لله ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فامتحنوك بالقِلى ، ونفوكَ الى الفلا . والله لو كانت السموات . . الخ .
ثم قال علي عليه السلام لأصحابه : « ودِّعوا عمَّكم ، وقال لعقيل : ودِّع أخاك .
كـلام عـقـيـل
فتكلم عقيل : فقال : ما عسى أن نقولَ يا أبا ذر ، وأنت تعلم أنا نحبُّك ، وأنت تُحبُّنا ! فاتق الله ، فان التقوى نجاة ، وإصبر ، فان الصبرَ كَرم ، وإعلم أن إستثقالك الصبرَ ، من الجزعِ . واستبطاءَك العافيةَ ، من اليأسِ ، فدَع اليأس والجزع .
____________
1 ـ نهج البلاغة 2 / ص 12 ـ 13 .
(142)
كـلام الحسـن عليه السـلام
ثم تكلم الحسن ، عليه السلام ، فقال : يا عمَّاه ، لو لا أنه لا ينبغي للمودِّع أن يسكت ، وللمشيِّع أن ينصرف لقصر الكلام ، وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم اليك ما ترى ، فضَع عنك الدنيا ، بتذكر فراغها وشِدَّة ما اشتد منها ، برجاء ما بعدها ، وإصبِر حتى تلقى نبيَّك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو عنك راض .
كـلام الحسيـن عليه السـلام
ثم تكلم الحسين عليه السلام فقال : يا عمَّاه ، ان الله تعالى قادر أن يغيِّر ما قد يرى ، والله كلَّ يوم هو في شأن ، وقد منَعَك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينَك ، فما أغناك عمَّا منعوك ، وأحوجهم الى ما منعتهم ! فاسأل الله الصبرَ والنصرَ واستعذ به من الجشع والجزع ، فان الصبرَ من الدين والكرم ، وان الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخِّر أجلا .
كـلام عمَّـار بن يـاسر
ثم تكلم عمار ـ رحمه الله ـ مغضباً ، فقال :
لا آنس الله من أوحشَك ، ولا آمنَ من أخافك ، أما والله ، لو أردتَ دنياهم ، لأمنُّوك ، ولو رضيت أعمالهم ، لأحبُّوك ، وما منع الناس أن يقولوا بقولك ، إلا الرضا بالدنيا ، والجزع من الموت ، مالوا الى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غَلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فَخسِروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين !
(143)
كـلام ابـي ذر رضي الله عنـه
فبكى أبو ذر رحمه الله ـ وكان شيخا كبيرا ـ وقال :
رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ! اذا رأيتكم ، ذكرت بكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مالي بالمدينة سَكن ولا شجن غيركم ، إني ثقلتُ على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام . وكَرِه أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ، فأفسد الناس عليهما ، فسيَّرني الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ! والله ما أريد إلا الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة .
بيـن علـي عـليه السـلام وعثمان
ورجع القوم الى المدينة ، فجاء علي ( عليه السلام ) الى عثمان ، فقال له :
ما حملك على ردّ رسولي ، وتصغير أمري !؟
فقال علي ( عليه السلام ) : أما رسولك ، فأراد أن يردَّ وجهي ، فرددته ، وأما أمرك ، فلم أصغِّره .
قال : أم بلغك نهيي عن كلام ابي ذر !؟
قال ( عليه السلام ) : أو كلما أمرت بأمر معصية ، أطعناك فيه !
قال عثمان : أقِد مروان من نفسك .
قال : ممَّ ذا ؟
قال : من شَتمِه ، وجَذبِ راحِلتَه .
قال : أما راحلتُه ، فراحلتي بها ، وأما شتمه إياي ، فوالله لا يشتمني شتمة ، إلا شتمتك مثلها ، لا أكذب عليك .
(144)
فغضب عثمان ، وقال : لِم لا يشتمكَ ؟ كأنك خير منه !
قال علي ( عليه السلام ) : إي والله ، ومِنكَ ! ثمّ قام ، فخرج (1) .
وبلغ أبا الدرداء * ـ وهو في الشام ـ ان عثمان قد سيَّر أبا ذر الى الربذة ، فقال : « إنا لله وانا اليه راجعون ، لو أن أبا ذر قطع لي عضوا أو يدا ، ما هجته ، بعد ان سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر (2) »
____________
1 ـ شرح النهج 8 / 253 الى 255 .
* الصاري ، واسمه عامر ، كان مصاحبا لابي ذر .
2 ـ المستدرك على الصحيحين 3 / 344 .
(145)
فـي الـرّبـذَة
عن أبي الاسود الدؤلي ، قال :
كنت أحب لقاء أبي ذر ، لاسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له :
الا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ، أم أخرجت كرها ؟
فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم ، فأُخرجتُ الى المدينة ! فقلت : دار هجرتي وأصحابي ! فأخرجت من المدينة الى ما ترى ! .
ثم قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد ، على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أذ مرَّ بي عليه السلام فضربني برجله ، وقال : لا أراك نائما في المسجد .
فقلت : ـ بأبي أنت وأمي ـ غلبتني عيني ، فنمتُ فيه .
قال : فكيف تصنع ، اذا أخرجوك منه ؟
قلت : الحق بالشام ، فانها أرض مقدَّسة ، وأرض الجهاد .
قال : فكيف تصنع اذا أخرجتَ منها ؟
قلت : أرجع الى المسجد !
قال : فكيف تصنع اذا أخرجوك منه ؟
(146)
قلت : آخذ سيفي ، فأضربهم به .
فقال : ألا أدلُّك على خير من ذلك ؟ إنسق معهم حيث ساقوك ، وتسمع وتطيع ، فسمعت وأطعت ، وأنا أسمع وأطيع ! والله ليلقَين الله عثمان ، وهو آثم في جنبي (1) .
وفي حلية الاولياء ، بسنده عن عبد الله بن خراش ، قال .
رأيت أبا ذر بالربذة ، في ظُلة له سوداء ، له امرأة سحماء ، وهو جالس على قطعة جوالق . فقيل له : انك إمرؤ ما يبقى لك ولد ؟
فقال : الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ، ويدَّخرهم في دار البقاء .
قالوا : يا أبا ذر ، لو اتخذت امرأة غير هذه ؟
قال : لئن أتزوج امرأة تضعني ، أحب اليَّ من امرأة ترفعني .
فقالوا : لو اتخذت بساطا ألين من هذا ؟
قال : اللهم غفرا ! خذ مما خوّلتَ ، ما بدا لك (2) .
ودخل عليه قوم من أهل الربذة . فقالوا : يا أبا ذر ! ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي !
قالوا : فما تشتهي ؟
قال : رحمةَ ربي .
قالوا : هل لك بطبيب . ؟
____________
1 ـ شرح النهج 8 / 260 ـ 261 .
2 ـ الاعيان 329 .
(147)
قال : الطبيبُ أمرضني (1) . !!
كـلامه ( رض ) على قبـر ولده
روى الكليني في الكافي ، بسنده عن علي بن ابراهيم ، رفعه ، قال :
لما مات ذر بن ابي ذر ، مسح ابو ذر القبر بيده ، ثم قال .
رحمك الله يا ذر ، والله إن كنت بي بارا ، ولقد قُبِضتَ واني عنك لراض ، أما والله ما بي فقدُك وما علي من غضاضة (2) وما لي الى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطَّلع ، لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك ، عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ! ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلتَ ؟ وماذا قيل لك ؟
ثم قال : اللهم إني قد وهبت له ما افترضتَ عليه من حقي ، فَهب له ما افترضتَ عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني (3) .
____________
1 ـ المصدر السابق / 373 .
2 ـ ما بي فقدك ، أي ليس علي بأس وحزن من فقدك .
3 ـ الفروع من الكافي ج 3 / 250 ـ 251 .
(148)
بَين أبي ذَرّ وَحُذيفَة بن اليمَان
ما كتبه أبو ذر ، الى حُذَيفَة بن اليمان يشكو اليه ما فعل به
في كتاب الفصول للسيد المرتضى ، عن أبي مخنف ، قال : حدثني الصلت ، عن زيد بن كثير ، عن ابي أمامة . قال : كتب أبو ذر الى حذيفة بن اليمان يشكو اليه ما صنع به عثمان .
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد يا أخي . فَخَف الله مخافة يكثر منها بكاء عينيك ، وحرِّر قلبك ، وأسهر ليلك ، وانصَب بدنك في طاعة الله . فحق لمن عَلِم أن النار مثوى من سخط الله عليه ، أن يطول بكاؤه ، ونَصَبُه ، وسهر ليله ، حتى يعلم أنه قد رضي الله عنه . وحق لمن علم أن الجنة مثوى من رضي الله عنه ، أن يستقبل الحق كي يفوز بها ، ويستصغر في ذات الله الخروج من أهله وماله ، وقيام ليله ، وصيام نهاره ، وجهاد الظالمين الملحدين بيده ولسانه ، حتى يعلم ان الله أوجبها له ، وليس بعالِم ذلك دون لقاء ربَّه . وكذلك ينبغي لكل من رغب في جوار الله ، ومرافقة انبيائه ، أن يكون .
يا أخي ، أنت ممن أستريح الى التصريح اليه ببثي وحزني . وأشكو اليه تظاهر الظالمين علي .
(149)
إني رأيت الجور ـ يعمل به ـ بعيني ، وسمعته يقال ، فرددته ، فحُرمت العطاء ، وسُيِّرت الى البلاد ، وغُرِّبت عن العشيرة والاخوان ، وحَرَم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعوذ بربي العظيم أن يكون مني هذا شكوى ، أن رُكب مني ما رُكب ، بل انبأتُك أني قد رضيت ما أحب لي ربي ، وقضاه علي ، وأفضيت ذلك اليك ، لتدعوَ الله لي ، ولعامَّة المسلمين بالروح والفرج ، وبما هو أعم نفعا ، وخير مغبَّة وعقبى ـ والسلام .
جـواب حـذيفـة لـه
فكتب اليه حذيفة :
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد يا أخي . فقد بلغني كتابك ، تُخَوّفني به ، وتحذّرني فيه منقلَبي ، وتحثني فيه على حظ نفسي ، فقديما ـ يا أخي ـ ما ، كنت بي ، وبالمؤمنين حفيَّاً لطيفا . وعليهم حدِبا شفيقا . ولهم بالمعروف آمِرا ، وعن المنكرات ناهيا ، وليس يهدي الى رضوان الله إلا هو ، ولا يُتناهى من سخطه الا بفضل رحمته ، وعظيم منِّه . فنسأل الله ربنا ـ لأنفسنا وخاصَّتنا ، وعامَّتنا ، وجماعة أمَّتنا ـ مغفرة عامة ، ورحمة واسعة ، وقد فهمتُ ما ذكرتَ من تسييرك ، يا أخي ، وتغريبك ، وتطريدك ، فعزَّ والله عليًّ يا أخي ، ما وصل اليك من مكروه ولو كان يُفتدى ذلك بمال ، لأعطيتُ فيه مالي ، طيِّبة بذلك نفسي ، ليصرَف الله عنك ـ بذلك ـ المكروه . والله ، لو سألتُ لك المواساة ، ثم أعطيتُها لأحببت احتمال شطر ما نزل بك ، ومواساتك في الفقر ، والأذى ، والضرر . لكنه ، ليس لأنفسنا ، إلا ما شاء ربنا . يا أخي ، فافزع بنا الى ربنا ، ولنجعل اليه رغبتنا ،
(150)
فقد استُحصِدنا ! واقترب الصَّرام (1) . فكأني ، واياك ، قد دعينا فأجبنا ! وعرضنا على أعمالنا ، فاحتجنا الى ما أسلفنا ! يا أخي : ولا تأسَ على ما فاتك ، ولا تحزن على ما أصابك ، واحتسب فيه الخير . وارتقب فيه من الله أسنى الثواب . يا أخي : لا أرى الموت لي ولك ، إلا خيرا من البقاء ، فانه قد أظلتنا فتن يتلو بعضها بعضا ، كقطع الليل المظلم ، قد انبعثت من مركبها ، ووطئت في خطامها ، تشهر فيها السيوف ، وتنزل فيها الحتوف ! يُقتل فيها من اطلع لها ، والتبس بها ، وركض فيها ، ولا يبقى قبيلة من قبائل العرب ، من الوبر والمدر ، إلا دخلت عليهم ! فأعزّ أهل ذلك الزمان ، أشدهم عتوَّا ! وأذلُّهم ، اتقاهم ! فأعاذنا الله واياك ، من زمان هذه حال أهله .
لن أدَعَ الدُعاء لك ، في القيام والقعود ، والليل والنهار ، وقد قال الله ، ولا خُلف لموعده : أدعوني ، أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ، فنستجير بالله من التكبُّر عن عبادته ، والاستنكاف عن طاعته ، جعل الله لنا ولك فرجاً ، ومخرجا عاجلا برحمته ، والسلام (2) .
____________
1 ـ الصرّام للنخل : أوان ادراكه وجزّه .
2 ـ أعيان الشيعة 16 / 366 ـ 368 .