يَمشي وَحْـدَهُ وَيمُوتُ وَحْـدَه
« صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »
حين استعدَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحاربة الروم قاصدا « تبوك » من أرض الشام ، كان الفصل قائضا شديد الحرارة . وكان العدو شديد البأس ، كثير العدّة والعدد ، مما دعا نفرا من المتاخذلين ـ ممن أسلم رهبة أو رغبة ـ الى القعود ، والتخلف عن الجهاد .
وتابع المسلمون سيرهم بكل ثقة وشجاعة ، وانتهى الامر بالصلح مع الروم على دفع الجزية .
فقد ألقى الله في قلوب زعمائهم الهيبة ، لما تناهى الى أسماعهم من أنباء الانتصارات الساحقة التي سجلها المسلمون في أكثر من موقع بالرغم من قلتهم ، ولما سمعوه عن بسالة المقاتل المسلم ، واستماتته في سبيل الدفاع عن اسلامه واضعا نصب عينيه الجنة ، قاتلا أو مقتولا . لذلك ، فقد آثروا الانسحاب على المواجهة .
ووجه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى يوحنا بن رؤبة ـ أحد زعماء المنطقة ـ رسالة يدعوه فيها الى الاسلام ، أو دفع الجزية ، فقدم على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حاملا الهدايا ، ومعلنا الطاعة . فصالحه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الجزية ، في كل سنة ثلاثمائة
(152)
دينار ، كما صالحه على ذلك أهل المناطق الاخرى ، وكتب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينه وبينهم كتبا تتضمن شروط الصلح بما يحفظ للمسلمين حقهم في الجزية ، والتجول في تلك المنطقة ، آمنين على انفسهم وأموالهم ، ويضمن لأصحاب تلك المناطق حرية العقيدة ، والعيش مع جيرانهم المسلمين بأمان .
في هذه الغزوة ، تخلف بأبي ذر جمله ، فعالجه حتى أعياه أمره ، فأخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتابع سيره ماشيا على قدميه .
« ونظر الناس ، فقالوا يا رسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كن أبا ذر !
فلما تأمله الناس ، قالوا : هو أبو ذر .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ، ويشهده عصابة من المؤمنين .
فلما نفى عثمان أبا ذر الى الربذة ، أصابه بها أجله ، ولم يكن معه الا مرأته وغلامه (1) .
____________
1 ـ الكامل 2 / 280 .
(153)
المَـأسَـاة
(154)
(155)
المَـأسَـاة
عن أم ذر زوجة أبي ذر ، قالت : لما حضرت أبا ذر الوفاة ، بكيت . فقال : ما يبكيك ؟
فقلت : مالي لا أبكي ، وأنت تموت بفلاة من الارض ، وليس عندي يسعك كفنا ، لي ولا لك . ولا يد لي للقيام بجهازك !
قال : فأبشري ، ولا تبكي ، فاني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان ، أو ثلاثة ، فيصبران ، ويحتسبان ، فيريان النار أبدا .
وقد مات لنا ثلاثة من الولد !
واني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الارض ، يشهده عصابة من المؤمنين ! وليس من أولئك النفر أحد ، إلا وقد مات في قرية ، أو جماعة . ( ولم يبق غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت (1) ) . فأنا ذلك الرجل ، فوالله ما كَذِبت ، ولا كُذبت فأبصري الطريق .
قلت : أنى ؟ وقد ذهب الحاج ، وتقطَّعت الطريق .
____________
1 ـ كذا في أعيان الشيعة 16 / 368 .
(156)
قال : اذهبي ، فتبصَّري .
قالت : فكنت أشتد الى الكثيب ، فانظر ! ثم أرجع اليه ، فأمرِّضه . فبينما أنا وهو كذلك ، أذ أنا برجال على رحالهم ، كأنهم الرُخُم * ، تخب بهم رواحلهم ، فأسرعوا الي ، حتى وقفوا علي ، فقالوا :
يا أمة الله ، مالَكِ ؟
قلت : إمرؤ من المسلمين ، يموت ! تكفنونه ، « وتؤجرون فيه » (1) .
قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر ! . قالوا : صاحب رسول الله ! ؟ قلت : نعم .
قالت : فَفدَّوه بأبائهم ، وأمهاتهم ، ثم ( وضعوا سياطهم في نحورها ) . وأسرعوا اليه حتى دخلوا عليه (2) . . الخ الرواية .
وفي رواية الكشي ، عن جلاّم بن ذر . وكان له صحبة ( مع رسول الله ) قال :
مكث ابو ذر في الربذة حتى ، مات فلما حضرته الوفاة ، قال لامرأته : اذبحي شاة من غنمك واصنعيها ، فاذا نضجت ، اقعدي على قارعة الطريق ، فأول ركب ترينهم ، قولي :
يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد قضى نحبه ، ولقي ربه ، فأعينوني عليه ، وأجنوه ، فان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخبرني أني أموت في أرض غربة ، وانه يلي غسلي ودفني والصلاة علي رجال من أمته صالحون .
____________
* الرّخم : طائر على شكل النسر مبقع بسواد وبياض .
1 ـ كذا في أعيان الشيعة .
2 ـ الاستيعاب ، حاشية على الاصابة 1 / 214 الى 216 .
(157)
عن محمد بن علقمة بن الاسود النخعي ، قال : خرجت في رهط أريد الحج ، منهم مالك بن الحارث الأشتر ، وعبد الله بن فضل التيمي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، حتى قدمنا الربذة ، فاذا امرأة على قارعة الطريق تقول :
يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد هلك غريبا ليس أحد يعينني عليه !
فنظر بعضنا الى بعض ، وحمدنا الله على ما ساق الينا ، واسترجعنا على عظيم المصيبة . ثم أقبلنا معها فجهزناه ، وتنافسنا في كفنه حتى خرج من بيننا بالسواء ، ثم تعاونا على غسله ، حتى فرغنا منه ، ثم قدمنا مالك الأشتر فصلى عليه ، ثم دفناه .
فقام الأشتر على قبره ثم قال : اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبدك في العابدين وجاهد فيك المشركين ، لم يغير ولم يبدل ، لكنه رأى منكرا فغيَّره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي ، وحرم واحتقر ، ثم مات وحيدا غريبا ، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره ، وحرِم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
فرفعنا أيدينا جميعا ، وقلنا : آمين .
فقدمت الشاة التي صنعت ، فقالت أنه أقسم عليكم أن لا تبرحوا ، حتى تتغدوا فتغدينا ، وارتحلنا (1) .
« رواية ثانية حول كيفية وفاته »
في تفسير علي بن ابراهيم في تتمة خبره في غزوة تبوك :
____________
1 ـ أعيان الشيعة / 372 نقلا عن الدرجات الرفيعة . و373 .
(158)
فلما سيَّره عثمان الى الربذة ، كان له غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقاب ، فماتت كلها . فأصاب أبا ذر وابنته الجوع ، فقالت ابنته :
أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا ! فقال لي أبي : يا بنية ، قومي بنا الى الرمل ، نطلب العبب ( نبت له حب ) فصرنا الى الرمل ، فلم نجد شيئا ، فجمع أبي رملا , ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبتا ، فبكيت ، فقلت له ـ يا أبه كيف أصنع بك ، وأنا وحيدة ؟
فقال : يا بنيتي لا تخافي ، فاني اذا مت ، جائك من أهل العراق من يكفيك أمري ، فاني أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، فقال لي : يا أبا ذر تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك أقوام من أهل العراق ، يتولون غسلك ، وتجهيزك ، ودفنك ، فاذا أنا مت فمدي الكساء على وجهي ، ثم اقعدي على طريق العراق ، فاذا أقبل ركب ، فقومي اليهم وقولي :
ـ هذا ابو ذر صاحب رسول الله قد توفي .
قالت : فدخل اليه قوم من أهل الربذة ، فقالوا : يا أبا ذر ، ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ! قالوا : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي ! قالوا : هل لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني !!
قالت ابنته : فلما عاين ، سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم ! اللهم خنقني خناقك ، فوحقك إنك لتعلم أني أحب لقاءك .
قالت ابنته : فلما مات ، مددت الكساء على وجهه ، ثم قعدت على
(159)
طريق العراق ، فجاء نفر ، فقلت لهم : يا معشر المسلمين ، هذا أبو ذر ، صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد توفي .
فنزلوا ، ومشوا يبكون ، فجاؤا ، فغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه ، وكان فيهم الأشتر .
فروي أنه قال : دفنته في حلَّة كانت معي ، قيمتها أربعة آلاف درهم (1) .
____________
1 ـ أعيان الشيعة / 372 نقلا عن الدرجات الرفيعة و 373 .
(160)
(161)
الفَصْـل الـرّابِـع
* أبو ذَرّ عَلى لِسَان النّبي الكَريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
* بَيـنَ النّبـي وَأبي ذَرّ .
* أبـو ذَرّ العَـالِـم .
* الـزّاهـِد الـمتعبّدِ .
* مِـن فَضَـائِلـه .
* مِـن كَـلاَمـه .
* وَصـفه لآخر الزمَان .
(162)
(163)
أبو ذَرّ عَلى لِسان النّبي الكَريم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
ونستعرض هنا ، ما جاء على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشأن هذا الصحابي الجليل من كلمات مضيئة هي بمثابة أوسمة منحها اياه النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باستحقاق وجدارة . ونقتصر هنا على ذكر الرواية بذلك ، دون ذكر السند .
قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّتِ الغَبراء من ذي لهجة أصدق ، ولا أوفى من أبي ذر ، شِبهُ عيسى بن مريم .
وفي لفظ آخر : ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة ، أصدق من أبي ذر ، من سرّه أن ينظر الى زُهدِ عيسى بن مريم ، فلينظر الى أبي ذر .
من أحبّ أن ينظر الى المسيح عيسى بن مريم ، الى بره وصدقه ، وجدِّه ، فلينظر الى أبي ذر .
إن أبا ذر ليباري عيسى بن مريم في عبادته .
رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده .
إن الله عز وجل أمرني بحُبِّ اربعة ، وأخبرني انه يحبُّهم : عليّ ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان .
(164)
عن أبي ذر قال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا ذر ! كيف أنت اذا كنت في حثالة ؟ وشبَّك بين أصابعه . قلت : يا رسول الله ! فما تأمرني ؟ قال : إصبر . إصبر . إصبر . خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم .
عن أبي ذر أيضا ، قال : بَينَا أنا واقف مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال لي : يا أبا ذر ، أنت رجل صالح ، وسيُصِيبُك بلاء بعدي ! قلت : في الله ؟ قال : في الله . قلت مرحبا بأمر الله .
عن أبي ذر قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا ذر ! كيف أنت اذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفيء ؟ قال : قلت : اذاً ، والذي بعثك بالحق ، أضربُ بسيفي حتى ألحقَ بك . فقال : أفلا أدلُّك على ماهو خير من ذلك . ؟ إصبر حتى تلقاني (1) .
____________
1 ـ هذه الأحاديث اخذناها عن المستدرك ج 3 ص 342 و 343 / وعن الغدير ج 8 ص 312 الى 316 .
(165)
بَينَ النّـبي وَأبي ذَرّ
قال أبو ذر : ودخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو في المجلس جالس وحده ، فاغتنمت خلوته !
فقال : يا أبا ذر ، إن للمسجد تحيَّة !
قلت : وما تحيته يارسول الله . ؟
قال : ركعتان . فركعتهما . ثم التفتّ اليه ، فقلت : يا رسول الله ، أي الاعمال أحبّ الى الله جلَّ ثناؤه ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الإيمان بالله ، ثم الجهاد في سبيله .
قلت : يا رسول الله ، أمرتني بالصلاة ، فما الصلاة ؟
قال : خير موضوع ، فمن شاء أقلّ ، ومن شاء أكثر . !
قلت : يا رسول الله ، أي المؤمنين ، اكمل إيماناً . ؟
قال : أحسنهم خُلقاً .
قلت : فأيّ المؤمنين أفضل ؟
قال : من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه . !
قلت : فأيّ الهجرة أفضل . ؟
قال : من هجر الشر !
(166)
قلت : فأيّ الليل أفضل (1) ؟
قال : جوف الليل الغابر ! .
قلت : فأي الصلاة أفضل ؟
قال : طول القنوت !
قلت : فأي الصدقة أفضل ؟
قال : جَهد (2) من مُقلّ الى فقير في سر .
قلت : فما الصوم ؟
قال : فرض مجزيء . وعند الله أضعاف ذلك .
قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ (3)
قال : أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها .
قلت : فأي الجهاد أفضل ؟
قال : من عقر جواده ، وأهريق دمه !
قلت : فأيّ آية انزلها الله عليك أعظم ؟
قال : أية الكرسي ! ثم قال : يا أبا ذر ، مالسموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ! وفضل العرش على الكرسي ، كفضل الفلاة على تلك الحلقة .
قلت : يا رسول الله ، كم النبيون ؟
قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي !
____________
1 ـ يعني : للعبادة .
2 ـ جهد المقل : قدر ما يحتمله قليل المال .
3 ـ للعتق .
(167)
قلت : كم المرسلون منهم ؟
قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر ! جمَّاً غفيرا * .
قلت : من كان أول الأنبياء ؟
قال : آدم .
قلت وكان من الانبياء مرسلا ؟
قال : نعم ! خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه . ثم قال : يا أبا ذر ! وأربعة من الأنبياء سريانيون . آدم ، وشيث ، وأخنوخ ( وهو إدريس ) وهو أول من خط بالقلم ، ونوح . وأربعة من الأنبياء من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وأول نبي من بني اسرائيل : موسى ، وآخرهم : عيسى بينهما ستمائة نبي .
قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله من كتاب ؟
قال : مائة كتاب ، وأربعة كتب . أنزل الله على شيث ، خمسين صحيفة . وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم ، عشرين صحيفة ، وانزل التوارة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان .
قال ، قلت : يا رسول الله ، فما كانت صُحُف ابراهيم ؟
قال : كانت أمثالا كلها ! وفيها : ـ أيُّها الملِكُ المتسلِّط ، المبتلى ، المغرور . إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ، ولكن بعثتك لتردّ دعوة المظلوم ، فاني لا أردّها ، وان كانت من كافر أو فاجر !! وفجوره على نفسه .
وكان فيها : على العاقل ـ ما لم يكن مغلوبا على عقله ـ ان يكون له
____________
* الجم الغفير ، هنا : الكثير البركة .
(168)
ساعات ، ساعة يناجي فيها ربَّه ، وساعة يصرفها في صنع الله تعالى ، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدّم وأخَّر ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب . فانَّ هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب ، وتوديع لها ؟ وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : تزوّد لمعاد . أو مرمَّة لمعاش . أو لذة في غير محرّم . وعلى العاقل ، أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه . ومن حسب كلامه من عمله ، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه .
قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف موسى ( ع ) ؟
قال : كانت اعتبارا كلها !
عجباً لمن أيقن بالنار ، كيف يضحك ؟! عجباً لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح ؟! عجبا لمن أبصر الدنيا ، وتقلُّبها بأهلها حالا بعد حال ، ثم يطمئن اليها !؟ عجباً لمن أيقن بالحسنات غدا ، كيف لا يعمل !؟
قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا مما أنزل الله عليك ، شيء مما كان في صحف ابراهيم ، وموسى ؟ .
قال : إقرأ يا أبا ذر : قد أفلَحَ من تَزكَّى ، وذكَر إسم ربِّه فصلَّى ، بل تُؤثرونَ الحَياةَ الدُنيا . والآخرة خير وأبقى إنَّ هذا ( يعني ذكر هذه الأربع آيات ) لفي الصحف الأولى ، صُحُفِ ابراهيمَ وموسى . .
قلت : يا رسول الله ، أوصني .
قال : أوصيك بتقوى الله ، فانها رأس أمرِكَ كلِّه .
قلت : يا رسول الله : زدني .
قال : عليك بتلاوةِ القرآن ، وذكرِ الله كثيرا ، فانه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الارض .
(169)
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : عليك بالجهاد ، فانه رهبانية أمتي .
قلت : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، زدني .
قال : عليك بالصمت ، إلا من الخير ، فانه مطرَدة للشيطان عنك ، وعون لك على أمر دينك .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : إياك وكثرة الضحك ، فانه يميت القلب ، ويَذهب بنور الوجه .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : انظر ( الى ) من هو تَحتك ، ولا تنظر الى من هو فوقك ، فانه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : صِلْ قرابتك وإن قطعوك ، وأحِبّ المساكين وأكثر مجالستهم .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : قل الحق ، وان كان عليك مرّاً .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : لا تَخف في الله لومة لائم .
قلت : يا رسول الله زدني .
قال : يا أبا ذر ، ليرُدَّك عن الناس ما تعرف من نفسك ، ولا تجد
(170)
عليهم فيما يأتي ، فكفى بالرجل عيباً أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ، ويجد عليهم فيما يأتي .
قال : ثم ضرب بيده على صدري ، وقال : يا أبا ذر ، لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكفّ ، ولا حسَب كحُسن الخلق (1) .
____________
1 ـ تنبيه الخواطر ـ 2 / 314 الى 316 / ومعاني الاخبار 333 الى 335 . وقد وجدت بعضا من مقاطع هذا الحوار في الكامل 1 / ص 47 ـ 60 ـ 124 .
(171)
أبـو ذَرّ العَـالِم
نكتفي هنا بعرض لما قيل وكتب حول علم أبي ذر ( رض ) فان في ذلك صورة واضحة عما يتمتع به هذا الصحابي الجليل من العلم والفضل .
قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : وعى علماً عُجز فيه ، وكان شحيحا حريصا على دينه ، حريصا على العلم ، وكان يكثر السؤال ، فيعطى ويمنع ، أما أن قد ملئ في وعائه حتى امتلأ .
وقال أبو نعيم في الحلية : أول من تكلم في علم البقاء والفناء ، وثبت على المشقة والعناء وحفظ العهود والوصايا ، وصبر على المِحَن والرزايا . . الى أن قال : أبو ذر الغفاري رضي الله عنه خدم الرسول وتعلم الاصول ، ونبذ الفُضول .
وقال ابن حجر في الإصابة : كان يوازي ابن مسعود في العلم (1) .
وجاء في كتاب فنون الاسلام ، في أول من جمع حديثا الى مثله في باب واحد ، وعنوان واحد من الصحابة الشيعة ، وهم : أبو عبد الله سلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ( رض ) وقد نص على ذلك ، رشيد الدين بن شهر آشوب في كتابه : معالم علماء الشيعة . وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي
____________
1 ـ الغدير 8 / 311 ـ 312 .
(172)
شيخ الشيعة ، والشيخ أبو العباس النجاشي في كتابيهما ، في فهرست اسماء المصنفين من الشيعة ، مصنفاً لأبي عبد الله سلمان الفارسي ، ومصنفاً لأبي ذر الغفاري ، وأوصلا اسنادهما الى رواية كتاب سلمان ، وكتاب أبي ذر ، وكتاب سلمان : كتاب حديث الجاثليق . وكتاب أبي ذر : كتاب كالخطبة ، يشرح فيه الامور بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخ (1) . .
وقد ذكر بعض الاعلام : « أنه كان بينه وبين عثمان مشاجرة في مسألة من مسائل الزكاة ، فتحاكما عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فحكم لأبي ذر على عثمان »(2) .
____________
1 ـ كتاب الشيعة وفنون الاسلام / 31 .
2 ـ رجال بحر العلوم 2 / 151 .
(173)
الـزّاهد المتعبِـّد
في حلية الاولياء بسنده عن أبي ذر ، قال :
والله لو تعلمون ما أعلم ، ما انبسطتم الى نسائكم ، ولا تقَاررتهم على فرشكم ، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني ، يوم خلقني ـ شجرة تُعضد ، ويؤكل ثمرها .
وروى الصدوق في الخصال بسنده ، عن الصادق ( عليه السلام ) عن أبيه قال :
بكى أبو ذر من خشية الله عز وجل ، حتى اشتكى بصره !
فقيل له : يا أبا ذر ! لو دعوت الله أن يشفي بصرك ! ؟
فقال : اني عنه لمشغول ! وما هو من أكبر همي . قالوا : وما يشغلك ؟
قال : العظيمتان ! الجنة والنار !! .
قال أبو ذر : من جزى الله عنه الدنيا خيرا ! فجزاها الله عني مذمة ، بعد رغيفي شعير ، أتغدى بأحدهما ، وأتعشى بالآخر ، وبعد شملتي صوف ، أتَّزر باحداهما ، وأرتدي بالأخرى .
وقال : كان قوتي على عهد رسول الله من تمر ، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله !
(174)
عن عيسى بن عميلة الفزاري قال : أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غُنيمة له ، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه ، ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء ، إلا مَصَره وقرَّب اليهم تمراً ، وهو يسير ، ثم تعذر اليهم وقال : لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا ، لجئنا به ! وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئاً .
وقيل له : ألا تتَّخذ ضيعة ، كما إتَّخذ فلان وفلان !؟
قال : وما أصنع ، بأن أكون أميرا ؟ وانما يكفيني كل يوم شربه ماء أو لبن ، وفي الجمعة قفيز من قمح .
قال أبو ذر : يولدون للموت ، ويعمرون للخراب ، ويحرصون على ما يفنى ، ويتركون ما يبقى ألا حبذا المكروهان : الموت ، والفقر ( في سبيل الله ) .
عن ابي جعفر ( عليه السلام ) قال : أتى أبا ذر رجل يبشره بغنم له قد ولدت . فقال : يا أبا ذر ! أبشر فقد ولدت غنمك ، وكثرت !
فقال : ما يسرّني كثرتها ، وما أحب ذلك ! فما قلَّ وكفى ، أحب اليّ مما كَثر وألهى ! اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : على حافتيّ الصراط يوم القيامة : الرحم ، والامانة ، فاذا مرَّ عليه الوصول للرحم ، المؤدي للأمانة ، لم يتكفأ به في النار .
وقيل له عند الموت : يا أبا ذر ، ما لك . ؟
قال : عملي !
قالوا : إنا نسألك عن الذهب والفضة .!
قال : ما أصبح ، فلا أمسى ، وما أمسى فلا أصبح ، لنا كندوج *
____________
1 ـ هذا الفصل اخذناه من أعيان الشيعة 16 ص 326 الى 331 .
* الكندوج : لفظ معرب ، معناه : الخزانة .
(175)
ندع فيه خير متاعنا ، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كندوج المرء ، قبره (1) .
وفي حلية الاولياء ، بسنده ، عن محمد بن سيرين ، قال :
« بلغ الحارث ( رجلا كان بالشام ) أن أبا ذر به عوز ، فبعث اليه بثلاثمائة دينار .
فقال : ما وجد عبداً لله تعالى هو أهون عليه مني ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سأل ، وله أربعون ، فقد ألحف ! ) ولآل أبي ذر أربعون درهماً ، وأربعون شاة .
مـن فضـائلـه
ما روي عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال :
دخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعه جبرئيل ، فقال جبرئيل : من هذا يا رسول الله ؟
قال : أبو ذر .
قال : أما انه في السماء أعرف منه في الأرض ، وسله عن كلمات يقولهن اذا أصبح ، قال : فقال : يا أبا ذر ، كلمات تقولهن اذا أصبحتَ ، فما هنَّ ؟
قال : أقول ، يا رسول الله : ( اللهم اني أسألك الايمان بك ، والتصديق بنبيك ، والعافية من جميع البلايا ، والشكر على العافية ، والغنى عن شرار الناس (2) ) .
____________
1 ـ معجم رجال الحديث 4 / 171 .
2 ـ نفس المصدر 4 / 168 .
(176)
مِـن كَـلاَمه
روي عن أبي جعفر ( الباقر ) عليه السلام قال :
قام أبو ذر رضي الله عنه ، بباب الكعبة ، فقال : أنا جندب بن جنادة الغفاري ، هلموا الى أخ ناصح شفيق .
فاكتنفه الناس ، فقالوا : قد دعوتنا ، فانصح لنا .
قال : لو أن أحدكم أراد سفرا ، لأعدَّ فيه من الزاد ما يصلحُهُ ، فما لكم لا تزوّدون لطريق القيامة ، وما يصلحكم فيه ؟
قالوا : كيف نتزوّد لذلك ؟
فقال : يحج الرجل حجة لعظام الامور ، ويصوم يوما شديد الحرّ ليوم النشور ، ويصلي ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور . ويتصدق بصدقة على مسكين لنجاة من يوم عسير .
يا ابن آدم ! اجعل الدنيا مجلسين ، مجلساً في طلب الحلال ، ومجلساً للآخرة ، ولا تزد الثالث ، فانه لا ينفعك . واجعل الكلام كلمتين ، كلمة للآخرة ، وكلمة في إلتماس الحلال ، والثالثة تضرّك . واجعل مالك درهمين ، درهماً تنفقه على عيالك ، ودرهماً لآخرتك ، والثالث لا ينفعك . واجعل الدنيا ساعة من ساعتين ، ساعة مضت بما فيها ، فلست قادراً على ردِّها ، وساعة آتية لست على ثقة من ادراكها ، والساعة التي أنت فيها ساعة عملك ،
(177)
فاجتهد فيها لنفسك ، وإصبر فيها عن معاصي ربِّك ! فان لم تفعل ، فقد هلكت ! .
ثم قال : قتلني همّ يوم لا أدركه (1) .
وعن أبي عبد الله الصادق ، عن أبيه ـ عليهما السلام ـ أنه قال :
في خطبة أبي ذر : يا مبتغي العلم ، لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك . أنت يوم تفارقهم كضيف بتَّ فيهم ثم غدوت الى غيرهم . الدنيا والآخرة كمنزل تحولت منه الى غيره . وما بين البعث والموت ، إلا كنومة نمتها ، ثم استيقضت منها .
يا جاهل العلم تعلَّم ، فانَّ قلباً ليس فيه شرف العلم ، كالبيت الخراب الذي لا عامرَ له .
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، عن أبي ذر قال :
يا باغي العلم ، قدّم لمقامك بين يدي الله ، فانك مرتهن بعملك ، كما تدين تُدان .
يا باغي العلم ، صلِّ قبل أن لا تقدر على ليل ولا نهار تصلي فيه ! إنما مَثلُ الصلاة لصاحبها ، كمثل رجل دخل على ذي سلطان فأنصتَ له حتى فرغ من حاجته . وكذا المرء المسلم باذن الله عزَّ وجلّ ، ما دام في الصلاة ، لم يزل الله عز وجل ينظر اليه حتى يفرغ من صلاته .
يا باغي العلم ، تصدّق من قبلِ أن لا تُعطى شيئا ، ولا جميعه ، إنما مَثل الصدقة لصاحبها ، مَثلُ رجل طلبه قوم بدم ، فقال لهم . لا تقتلوني ،
____________
1 ـ تنبيه الخواطر 2 / 274 .
(178)
إضربوا اليّ أجلا أسعى في رجالكم ! كذلك المرء المسلم باذن الله ، كلما تصدق بصدقة ، حلَّ بها عقدة من رقبته ، حتى يتوفى الله عز وجل أقواماً وهو عنهم راض ، ومن رضي الله عز وجل عنه ، فقد أمن من النار .
يا باغي العلم ، إن هذا اللسان مفتاح خير ، ومفتاح شر ، فاختم على فمك كما تختم على ذَهبك وعلى وَرِقِك .
يا باغي العلم ، إن هذه الأمثال ضربها الله عز وجل للناس ، وما يعقلها إلا العالمون (1) . !
____________
1 ـ تنبيه الخواطر ـ 2 / 316 .