ويجذبه الإيمان والتبتل ، فيعزف بذاته عن اللهو ، فما رؤي لاهيا ، ويرتفع بمستواها الى مستوى الظروف الصعبة جدا ومثابرة ، ويجعل من نفسه دريئة للنبي ، ويروضّها اعنف الترويض عزيمة ، ويمعن في المواساة إمعانا في شتى الميادين .
وتفكر قريش في مصيرها على يد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصير آلهتها من دعوته هذه ، فلا يهدأ
لها جنان ، ولا يقر لها قرار ، ويجتمع علية القوم ، وتجيل الرأي فيما بينها ، فيستقّر الأمر : أن تنتدب لذلك ممثلا من كل قبيلة ، لتقتل في زعمها محمداً ، ويضيع دمه هدراً بين العرب ، وكان أبو جهل قد تولى كبر هذا الأمر ، ومن حوله أعيان الناس وزعماء الجاهلية يباركون سعيه ويترسمون كيده ، فينذر الله محمداً
صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى يثرب ، المدينة المنورة فيما بعد ، فيخلو النبي بعلي عليه السلام ،
ويطرح عليه الأمر ، ويرغب إليه بمواساته بهذه المحنة فيرّد بالإيجاب ، وينيمه النبي بفراشه ، ويشتمل هو ببرده الحضرمي ، ويعهد إليه بوصاياه ، ويسلمه ودائع الناس وأمانات العرب ، ليؤديها كما هي لأهلها ، وليسير أليه بعد ذلك بالفواطم . وعند منتصف الليل من ربيع الأول للسنة الثالثة عشرة من البعثة الشريفة ينسّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدار إنسلالا ، ويسلك من خلال القوم ، وهم يتأهبون للبيات ، وهو يتلو قوله تعالى :
( وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) (1) .
ويرمي وجوه القوم بحفنه من الحصى أو التراب « شاهت الوجوه ذلا » ويخرج من مكة هو وصاحبه أبو بكر الصديق ، وأفاق المشركون عند الفجر ، ليهجموا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ، وإذا يعليّ عليه السلام
(1) سورة يس ، الآية : 9 .
22
في الفراش ، فيسقط في أيديهم ، ويتبعونه فلا يفلحون بشيء ، ويتفرغ علي لإرجاع الودائع وتنفيذ الوصايا ثلاثة أيام ، ويخرج بالفواطم جهارا نهارا فتعرض له قريش ، ويكون قتال ، فيقتل « جناحا » مولى حرب بن أمية ، فيتراجع القوم بعض الشيء ، ويتنمر عليّ عليه السلام في ذات الله ، ويجالد ما شاءت له المجالدة ، فيخلي القوم بينه وبين الضعائن ، ويواصل المسير حتى يدرك النبي في قباء ، وكان ينتظره هناك ، وما شاء أن يدخل المدينة قبله ، ويدخل معه المدينة ، ويحط بها رحاله ، وتلتف حوله رجاله .
وفي المدينة المنورة حيث العزّ والنصرة والإيثار ، يشارك علي عليه السلام في بناء مسجد رسول الله حيث موضعه اليوم ، ويرتجز عند البناء :
لا يستـوي من يعمر المسـاجدا
يـدأب فيهـا قائمـا أو قاعـدا
ومن يرى عن الغبـار حائـدا
وفي المدينة المنورة أيضا : يؤاخي النبي بين المهاجرين أنفسهم ، ويؤاخي بينهم وبين الأنصار ثانية ، ويؤاخي بين نفسه وعلي ، فعليّ أخوه في أول عهدهما بمكة ، وعلي أخوه في جديد عهدهما بالمدينة ، وكانت الأولى أمام قريش والمهاجرين منهم بخاصة ، والثانية بين ظهراني المهاجرين والأنصار بعامة ، ليدرك الجميع بعد هذا الغور من المؤاخاة .
ويبقى هذا الأخ وفيا لأخيه في كل جزئية وكلية ، حريصا على القيام بأمره في كل كبيرة وصغيرة ، ويطيب لهما المقام بالمدينة عامهما الأول ، تلقينا للإسلام وتعليما للفرائض ، ويقبل الأوس والخزرج على الدين الجديد إقبالا ينسيهم ما هم فيه من الخصومة والصراع وسفك
23
الدماء ، وإذا بهم ينزعون عن هذا المسلك لينصهروا بالدين الجديد تفقها وعلما وتوجيها .
وما كان لمحمد أن يستريح أو يريح ، فقدره أن يناضل ويكافح ويستميت ، ففي العام الثاني من الهجرة ترسل قريشا عيرها في تجارتها الى الشام ، بقيادة أبي سفيان ، فتكتال وتعود ، ويعلم النبي وآله وأصحابه بذلك ، فيترصدون القافلة ويهبّون إليها خفافا وثقالا ، ويعدهم الله : « احدى الطائفتين » العير أو النفير ، ويستحبّون العير لما تحمل من الغنائم ، ويأبى الله إلا النفير لما فيه من البلاء والنصر والعزة للدين الوليد ، وقد عبّر القرآن عن هذا الملحظ :
( وإذ يعدكم الله إحدى الطآئفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشّوكة تكون لكم ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) (1) .
(1) سورة الأنفال ، الآية : 7 .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعّد علياً عليه السلام إعداداً خاصاً ، ويشفق عليه إشفاقاً غريباً ، يتطلع وراء الأفق لما سيحققه هذا الفتى من بناء الإسلام والتطويح بالوثنية ، فقد منحه الله بناء جسمياً متكاملاً ، وقد بدت عليه سمات الفتوة والرجولة والقيادة ، فهو قوي البدن ، مفتول الساعدين ، عريض ما بين المنكبين ، فيه سمرة العرب وهيبة الإسلام ، وعليه سيماء الفطنة ومظاهر الإعتداد ، وبه صدق العزيمة ومخائل الصبر ، وله حكمة الشيوخ وعزم الشباب؛ هذه صفات تعده لحرب أعدائه ، وهناك خصائص تعده لحمل رسالته ، فهو خشن في ذات الله ، وهو متورع في سبيل الله ، وهو عقلية تعي المفاهيم الجديدة ، وهو قطعة من الذكاء ورهافه الحس ، يدرك من محمد ما في نفسه ، ويستقرئ ما يجول بخواطره من هموم وآمال وتطلعات ، هذا الملحظان البدني والنفسي عند علي عليه السلام ينظرهما محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعين الرضا والإعجاب ، فيوليه نفحات الاصطفاء من جهة ، ويمنحه لهما الحب الخالص من جهة أخرى ، فيلتقى علي عليه السلام منه هذا السيل الهادر من الأمدادات مع التثقيف والتقويم والشمولية ، وينعطف منه على ذلك النبع الثرّ من العطف والإيثار والحذر ، يتحفه بكنوز من العلم لا تفنى ، ويضفي عليه من حلل الثناء ما لا يبلى ، يجتمع وإياه في صلة القربى ، ويختصه دون
25
سواه بالحكمة ضروب المعرفة ، ويعمله معالم الدين جملة وتفصيلاً ، حتى صيّره صورة صادقة له في الخلق العظيم ، وقدوة حسنة في الكمال المطلق ، فهو يدعوه أخاه ويعتبره نفسه ، ويجتبيه بكل لطف وعناية ، ويحذر عليه من كل بلية وداهية.
ولكن مقومات علي عليه السلام النفسية تقتضي أن يحملّه شطراً من رسالته ، وعبأ من ثقل أمانته ، وليس هذا وقت الحديث عن ذلك ، ومقومات عليّ البدنية وقدراته النضالية تقتضيان أن يقذف به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بطولات الحروب. ويشركه في عظائم الأمور ، إستئناساً بقابليته الفذّة ، ويرشحه لكبريات القضايا إعتداداً بكفايته الفريدة.
وتخرج قريش بعيرها عائدة من الشام ، وقد حملت ما شاء لها أن تحمل من تجارة القوم ، فيمسك لها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بالطريق ، ويحرّض المسلمين على الرصد والأخذ حين الغرّة ، ويقود الحملة بنفسه ، وعليًّ إلى جنبه ، وينتدب المسلمون لها ، وهم يطمعون بالعير ، ويأبى الله إلا النفير ، وهذا أبو سفيان يصله النذير فيتيامن جهة البحر ويساحل بأثقاله ، وهذه قريش تعمى عليها الأخبار فتهب هبة واحدة مستعدة للحرب ، أبو سفيان على العير ، و عتبة وأبو جهل على النفير ، وتصل العير إلى مكة ، ويخرج النفير منها ، ويتساءل بعض القوم ، وتلاوم بعضهم الآخر ، فيم الخروج أذن ، وقد وصل أبو سفيان بتجارة قومه إلى حيث الأمن والدعة ، ولكن القادة من قريش يصرّون على الحرب ، ويخرجون بقضهم وقضيضهم كما يقال ، هزجين فرحين بين المعازف والقيان ، والمسلمون يترصدون العير فلا يظفرون بها ، ويودّ المسلمون أن لو كانت غير الشوكة لهم ، ويأبى الله إلا أن تكون ذات الشوكة لهم ،
26
خرجوا للغنيمة لا للحرب ، فصكوا بالحرب لا بالغنيمة ، وقد إدخّر لهم الله النصر والغنيمة ، وأي نصر هذا الذي ينتظر هذه الفئة القليلة ، إنه النصر المؤزر الذي ذهب بجبروت قريش وطغيانها ، النصر الذي ثبّت الذين آمنوا تثبيتاً فأزدادوا إيماناً ، بل فتح عليهم مغالق الحياة بعد عسرها ، فإلى جنب النصر الغنائم وفداء الأسرى ، فينتقلون - بعض الشيء - من حياة الجفاف المحض إلى يسير من الدعة والخفض.
وكان عليٌّ عليه السلام السبّاق إلى هذه المعركة إلى ساحة « بدر الكبرى ».
ولم يكن ذا صيت في الحرب إذ لم يحارب إلا لماماً ، ولم يكن ذا سن متقدمة عركتها ميادين القتال ، كان قد قارب الخامسة والعشرين أو دون ذلك بقليل ، وإذا بعلي يحمل لواء الحمد في يد ، والسيف في يد ، وتتجمع قريش في « بدر »
بين مكة والمدينة يقودها الحين ومصارع السوء ، ويتحلق المسلمون حول بدر ، وتبدأ في السابع عشر من رمضان ذاك العام أعظم معركة بين الوثنية والإسلام ، والنبي يعبىء أصحابه ، ويعّد المقاتلين ، ويسوي الصفوف بنفسه ، وهو يرمق السماء تارة ، ويرمق أصحابه تارة أخرى ، يستنزل النصر :
« اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد » فيثبت الله المسلمين ويقلل في أعينهم عدّة المشركين و هم في حدود الألف من الرجال، و يقلّل الله في أعين المشركين عدة المسلمين وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ليقدم كل فريق على الحرب ، ويمدّ الله نبيه بالملائكة المردفين ، ويصطّف الجمعان ، جمع المسلمين وجمع القرشيين ، وتنتدب قريش أحدها ليخبرهم أمر القوم ، وإذا بالرائد بعد جولته حوالي المسلمين يعود إلى قريش ليقول : « إن نواضح يثرب
27
تحمل الموت الأحمر ، وأصحاب محمد يتلمّظون تلمظ الأفاعي »
فما فّت هذا من عضدهم ، وغلبهم شؤم ابن الحنظلية - أبي جهل - كما يقولون. ولكن القرآن يصدع بالأمر الواقع ، وينبىء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمصير هؤلاء : (
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
) (1)
وكان الأمر كما قال ومن ينظر كثرة قريش وجودة إعدادها الحربي يحكم بالنصر لها ، ومن يمعن بتردد قريش وخذلانها ، وتلاومها واختلافها ، وكثرة لغطها ، وتنافر رجالها ، ويقارنه إلى ثبات المسلمين وهم القلة ، وجلدهم وتعاضدهم وتساندهم يحكم بالنصر لهم ، وهكذا كان ، فقد أعجل أبو جهل قريشاً في مبادئة الحرب ، وحفزهم إلى مبادرة القتال ، بعد أن طوح بمتابعة القوم فيما بينهم للكف عن الحرب ، وأخذت العصبية القبليّة دورها في تأليب من تردد ووهن وضعف ، وتنادوا فيما بينهم بشعارات الجاهلية وحمية الوثنية ، فأغضب كثير من المشركين وكانوا كارهين للحرب ، وقد نشبت الحرب إذ برز الوليد بن عتبة ، وأبوه عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة يطلبون أكفاءهم من قريش ، لا السواد من الأنصار فكان لهم ما أرادوا ، فخرج علي وحمزة وعبيدة ، فأشرأبت الأعناق واستطالت الأبصار ، وتقابل المقاتلون ، فقتل عليٌ الوليد ، وشارك في قتل شيبة ، وذبّب على عتبة أو بالعكس ، وقتل الحمزة عتبة ، وقتل عبيدة شيبة ، وقتله قاتله ، وانجلت الغبرة عن مقتل فرسان قريش جميعهم ، وأستشهد عبيدة ، وكرّ الفارسان علي والحمزة يهدران ، وكان ذلك أول النصر. وتهلل وجه النبي فرحاً ، وبدأت الهزيمة النفسية عند قريش ، وتحفز المسلمون فكرّوا عليهم تقتيلاً وأسراً وتشريداً ، فكانت قتلى قريش سبعين فارساً ، وأسرى قريش سبعين بطلاً. وسلني عن علي ما موقفه آنذاك ، الروايات
(1) سورة القمر ، الآية : 45.
28
المتواترة تقول إنه قتل نصف قتلى المشريكن ، وشارك في جملة من النصف الآخر ، فهو وحده قد أحرز خمسة وثلاثين قتيلاً ، وكان ذلك من نصيب بني أمية ، وبني عبد الدار ، وبني مخزوم ، وبني سهم ، وما تبعهم من ذؤبان العرب ، مما طأطأ من رؤوسهم ، وغضّ من أبصارهم ، مما كان له فيما بعد وعند ظهر الإسلام حساب مع علي أي حساب ، تداركاً للثأر ، وعودة إلى الجاهلية ، كما ستقرأه فيما بعد من أحداث.
فهذا حنظلة بن أبي سفيان يهوي بسيف علي ، وهذا الوليد بن عتبة وهذا العاص بن سعيد بن العاص من بني أمية ، وهذا حليفهم عامر بن عبدالله تتهاوى رؤوسهم بيد علي عليه السلام.
وهذا طعيمة بن عدي من بني نوفل يقتله علي ، وهذان الحارث وأبو زمعة بن الأسود من بين أسد بن عبد العزى يقتلهما علي ، وهذا عقيل بن الأسود يقتله علي ، وهذا نوفل بن خويلد يقتله علي.
وهذا النضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار يقتله علي بأمر النبي. وهذا زيد بن مليص مولاهم يقتله عليٌّ.
وهذا عمير بن عثمان من بني تيم يقتله علي ، وهذا العاص بن هاشم المخزومي خال عمر بن الخطاب يقتله علي ، وهذا أبو قيس بن الوليد يقتله علي وهؤلاء السهميون : منبه بن الحجاج ، ونبيه بن الحجاج ، والعاص بن منبه وأبو العاص بن قيس يقتلهم علي ، وهذا وذاك بل و هؤلاء وهولاء يتهافتون على المنيه بسيف علي... ولا نطيل فمنذ ذلك اليوم عرف المناخ الحربي لعلي عليه السلام في القتال ، فهابه الرجال ، وتحاماه الأبطال.
وها هو الفتى في عنفوان شبابه ، ومقتبل رجولته : يحاول أن يجمع شمله بمن يسكن إليه؛ ويعيّن ذلك السكن؛ إنها الزهراء : فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه يجيل خاطره بالأحداث؛ فهذا أبو بكر يخطبها من النبي ، والنبي متلبث بذلك ينتظر بها القضاء ، وهذا عمر يتقدم لها بعده فيجابهه النبي بالرّد « أنتظر بها القضاء ».
فيا ترى ماذا يريد النبي؟ ، وما عسى أن يعزم عليه » ، فلعله أدّخرها له ، ومن يدري ما تنطوي عليه نفس محمد وهو يقول : « فاطمة بضعة مني » ولكن علياً شجنة منه أيضاً قربى وأخوةً وروحاً ، فيتقدم لها دون تردد ، ويفاتح الرسول بذلك دون إحجام؛ ولكن على استحياء يشوبه شيء من الخجل والإحراج ، ويبدد رسول الله هذا الخجل ، فيتهلل وجهه فرحاً ، وتطفح أساريره بالبشر ، وينعم عليه بالإيجاب ، ويضم إليه أهل بيته وأصحابه ليقول : « إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ ( زوّج النور من النور ) وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثال فضة ، إن رضا بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة ».
ويتم عقد القران ، ويولي أبا بكر بعص إحتياجاته ، ويرسل سلمان
30
لشراءبعض متاع البيت الجديد ، ويوحي لبلال بإصابة شيء من الطيب ، وتشرف أم سلمة زوج النبي على جملة من المتطلبات والشؤون ، وتتكامل آداة العرس هذه بما اختاره المنتدبون لذلك ، ويتم الزواج في دار متواضعة في أطراف المدينة يستأجرها علي ، ويقصدهما رسول الله بنفسه ، ويضمّ إليه علياً والزهراء ، يبارك لهما ويدعو ، ويسعد بهما ويستبشر ، فتغمرهما فرحة أية فرحة ، وتتلاشى بعض سحب الحياء ، وتختفي جملة من أصداء الخجل بهذا الفيض من الحب والحنان والرعاية ، والنبي يتهجد بصوته : « اللهم بارك فيهما ، وبارك عليهما و بارك لهما في نسلهما ....« و استجاب الله الدعاء، فقد بارك الله فيهما وعليهما و لهما؛ فكان عليٌّ قائد الغرّ المحجّلين ، وكانت الزهراء سيدة نساء العالمين؛ وبارك عليهما؛ فما عُلِمَ زواج أسعد من هذا الزواج في عظمته وتواضعه بوقت واحد ، العظمة في القرينين ، والتواضع في مرافقه وأسبابه التي لم تعرف ترفاً ، ولم تلمس بذخاً ، وإنما هي الملحفة محشوة بالليف ، والوسادة التي قد ترتفع لمستوى القطن ، والسرير من جريد النخل ، والبساط المتواضع وهو جلد كبش ليس غير ، وبعض الأنسجة الصوفية اليدوية ، وتلك الرحى التي ستمجل منها كف الزهراء ، وهذه الأواني الخزفية الساذجة البدائية التي هزت الرسول الأعظم فقال :
« بورك لقوم جل أوانيهم الخزف » أو نحو هذا.
وبورك لهما في نسلهما ، فها هي ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متمثلة بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، ومتسلسلة عما تناسل منهما أبد الدهر ، وها هم اليوم يعدّون بالملايين بين البشر.
وودعهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانصرف ، وفي نفسه أمنية لا كبير أمر لو تحققت ، وقد يعمل بنفسه على تحقيقها ؛ فأمنيته أن يكون علي وابنته