تتابعت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد عودته من حجة الوداع موجاتٌ من الألم والصداع ، يصحب ذلك شيء من الحمى ، فيستولي عليه الضعف والانهيار الجسدي ، وكان لبقايا السمّ المبيت له أثر من ذلك أيمّا أثر؛ وفجأة يجد نفسه قد ثقل بالمرض ، وانتابته العلل خفيفها وثقيلها حتى أيقن بالنهاية ودنو الأجل ، وكان الوحي به رفيقاً يخيّره عن الله بين البقاء في الحياة أو الالتحاق بالرفيق الأعلى ، فيختار الثانية زهداً بالحياة الفانية وقد استجيب له في ذلك
(
إنّك ميّتٌ وإنّهم مّيّتون
) (1)
فقام في أمته يذكرهم الوحدة ، ويحذرهم الفتنة والخلاف ، ويدعوهم إلى التمسك بالكتاب والعترة ، وهو فيما بين ذلك يؤكد لهم منزلة علي العليا ، ولم ينس أن يمهد له الأمور فيما يبدو من مجريات الأحداث ، فعقد لأسامة بن زيد بن زيد بن حارثة الأمرة على المسلمين ، وندبه للخروج نحو تخوم البلقاء من أرض فلسطين ، حيث استشهد أبوه في مؤتة ، وقال له : « أغزو باسم الله في سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله ». فتهيأ لذلك أسامة وعسكر بالجرف ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زعماء المهاجرين والأنصار بالالتحاق به ، وفيهم الشيخان وأبو عبيدة وسعد بن عبادة
(1) سورة الزمر ، الآية : 30
82
وجمهرة أهل الحل والعقد ، فكبر ذلك على جملة من المسلمين ، وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الاولين ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وعصب رأسه ورقى المنبر وقال : « ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ........ » ثم قال : أنفذوا بعث أسامة.
وتردد نفر كبير في ذالك فقال صلى الله عليه واله وسلم : أيها الناس أنفذوا بعث أسامة ..ثلاث مرات . ولكن أنباء مرض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أوقفت علية القوم عن الحركة ، وأقعدتهم عن النهوض مع أسامة ، فلم يرد هذا أمر ذاك مساءلة الركبان عنه فيما يزعم .
وتردد كبار المهاجرين في إنفاذ البعث بما فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، فتملك النبيّ صلى الله عليه وآله و سلم الأسف والأسى ، ولزم الفراش لما به. ثم تحامل على نفسه وخرج الى المسجد معتمدا على علي عليه السلام بيمنى يديه وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى ، وصعد المنبر فذكرّ وحذرّ ، وبشرّ وأنذّر ، ثم نزل وصلى بالناس صلاة خفيفة ، وعاد الى منزله وقدماه تخطاّن الأرض .
وأستمر به المرض حتى ثقل ، والناس بين ذاهل ومتفجع ، وبين غافل عما يراد به ، وبين جادّ في تخطيط لأمر ما ، وبين مشغول بتمريض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومتابعة مرضه وعلى رأس هؤلاء علي والعباس وأهل البيت بالاجماع .
وعند الفجر في تلك الأيام العسيرة يأتي بلال مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند صلاة الصبح ، فينادي : الصلاة الصلاة ، فيؤذن بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيروى أنه قال : مروا من يصلي بالناس فإني مشغول بنفسي ، فقالت عائشة مروا أبا بكر ، وقالت حفصة : مروا عمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
83
أكففن فإنكن صويحبات يوسف . ثم خرج الى المسجد ، ووجد أبا بكر قد سبقه الى المحراب ، فأومأ إليه أن تأخر فتأخر ، وقام النبي مقامه وصلى بالناس وقيل : بل أمر أبا بكر بالصلاة ، وقيل : بل أمرت عائشة بصلاة أبي بكر ، ولكن النبي خرج متوكأ على علي والفضل وصلى بالناس دون شك بالإجماع ، فلو أمر معنيا لأجاز صلاته ، ولما خرج في أثره وتقدم عليه ، وصلى بالناس .
ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى منزله في غاية الجهد والنصب .
وقد يبدو أن عليا عليه السلام أراد أن يتم ما أراده رسول الله ، فأبدى في تلك اللحظات الحاسمة من مرض رسول الله وهو ممرضه ، أنه معافى أو في طريقه الى ذلك ، فهذا أبو بكر يغادر الى السنح في أطراف المدينة ، وهذا عمر يتولى شؤونا سرية في غاية الدقة ، وهذا أسامة يتلكأ في تنفيذ البعث ، وهذا أبو عبيدة يراقب الحال أولا بأول ، وأولاء بنو أمية يلتفون حول عثمان ، وأولئك الأنصار في سقيفة بني ساعدة قد قدّموا سعد بن عبادة ؛ وبمثل هذا خرج علي عليه السلام من عند الرسول ، فتباشر الناس بسؤاله :
يا أبا الحسن : كيف خلفتّ رسول الله ؟
فأجابهم : أصبح بحمد الله بارئا .
ولكن النبي يستدعي عليا فيخلع خاتمه وحمل سيفه فيقدمهما الى علي عليه السلام في بادرة ذات معنيين : دنو أجله ووصايته الى علي من بعده ويستدعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشيخين أبا بكر وعمر وجماعة من المسلمين ، ويقول : الم آمركم أن تنفذوا جيش أسامة ؟ قال أبو بكر : إني خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهدا .
84
وقال عمر : إني لم أخرج لأني لم أخرج لأني لم أحب أن أسأل عنك الركب .
وهنا أغمي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وارتفع البكاء من منزله ثم أفاق صلى الله عليه وآله وسلم وفي نفسه لواعج من الأسى لا تنفك ، وفي ذهنه ما يخبىء المستقبل لهذه الأمة ، فأراد أن يستوثق من الأمر ، وأن يبلغ ما يجب عليه في تلك اللحظات القصيرة العاتية ، فنظر الى من حوله ثم قال : إئتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا . ثم إغمي عليه ثانية ، وقام من يلتمس ذلك فنهره عمر وأهانه ، وقال فيما يروي المتشدّدون : إن النبي ليهجر ، وقال فيما يروب المتخفّفون : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله .
أيّ الروايتين كان ؛ فذاك شأن عمر في اندغاعه ، فكثر اللغط واللغو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوم المسلمون فيما بينهم في إحضار الدواة والكتف أو عدمه ، وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد اشفقنا من خلاف رسول الله . فلما أفاق قال بعضهم ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول الله ، فقال أبعد الذي قلتم ؟ لا . ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا . وأعرض بوجهه عن القوم فنهضوا .
قال ابن عباس : إن الرزيّة كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب .
ويبدو من النص السابق أن رسول الله عرف بوادر الفتنة عند القوم فأراد حسم النزاع ، فلم يتأت له ذلك ، ولو صنعه بعد أن قيل ما قيل ، لما التزموا به ، فأعرض عنه وقال : ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا ، فأوحى لأهل البيت بأنهم قد أبعدوا عن الأمر ، واكتفى بما قال عن أن يكتب كتابا يضيع ما به هدرا ، ولو كتب لأوصى لمن يقوم مقامه ، ولكن
85
القوم شاؤوا غير ذلك ، وهذا أمر يطول الوقوف عنده ، ويكثر الجدل حوله ، ولكني أشرت إليه ملخصا من كتب غير الإمامية .
ومن البديهي أن ينهض القوم عن النبي وقد أغضبوه وأغاضوه ، ويبقى علي عليه السلام والعباس وأهل بيته خاصة ، ويستوحش العباس لما رأى وما سمع ، فأحب أن يتأكد مستوضحا : فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا رسول الله إن يكن هذا الأمر مستّقرا فينا من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي وأصمت . فيئس أهل البيت من النبي ، وخرج بنو هاشم ، فأفاق النبي ، وقال : ابعثوا الى علي فادعوه ، فقالت عائشة : لو بعثت الى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت الى عمر فاجتمعوا عنده جميعا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم .
وقيل : كان علي لا يفارقه في شدّته هذه إلا لضرورة قصوى ، فخرج لبعض شؤونه فافتقده النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أدعوا لي أخي وصاحبي ، و عاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة: أدعواله أبابكر، و قالت حفصة أدعوا له عمر ، فدعيا ، ثم قال أدعو لي أخي وصاحبي فقالت أم سلمة : أدعوا علياً فانه لا يريد غيره فحضر الامام ، فأوصاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصاياه ، وناجاه طويلاً ، ثم قام عنه ، فاغفى رسول الله ، فقال الناس ما الذي أوعز اليك يا أبا الحسن فقال : علمني ألف باب من العلم فتح لي كل باب ألف باب ،ووصاني بما أنا قائم فيه إن شاء الله .
واستدعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته الصديقة الزهراء عليها السلام وهي في أشد ساعات حزنهاء فأسرّ لها شيئاً لاذت معه ألى البكاء ، ثم أسر لها شيئاً اخر ، بدت و علائم البشر و الغبطة ، في ساعة واحدة جمع للزهراء
86
الحزن والفرح ، وظهر عليها الأسى والرضا .
كان الإسرار الاول من النبي للزهراء : « إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضني هذا العام مرتين ، وماأراه إلا قد حضر أجلي »
وكان من السرار الثاني من النبي للزهراء : « إنك أول أهل بيتي لحوقاً بي ، ونعم السلف أنالك ، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين »
فكان كما أخبر ، فقد حضره الموت وعلي إلي جنبه يسنده إلى صدره ، فأمره بتوجيهه نحو القبلة ، و أوعز إليه أن يتولى أمره في الغسل والكفن والصلاة و عدم مفارفته حتى مواراته في قبره ، فنفذ علي عليه السلام ذلك كله ، وكان اخر الناس عهداً به ، كما كان أقرب الناس إليه .
وتوفي النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر ، أو لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الاول سنة إحدى عشرة من الهجرة .
ويتضح مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أيام مرضه هذا مشفقاً على أمته من الفرقة ، وأنه أراد أن يمهد لقيادة الإمام علي بتنفيذ بعث أسامة ، وأنه قد استقر في داخله ـ با يحاء من الله ، أو بمعاينة مجرى الاحداث ، أوبهما معاً ـ أنه مغلوب على أمره ، وأن التيار القرشي معارض لمرجعية أهل البيت ، فهم المستضعفون من بعده .
ولا اشك في أنه أوصى علياً با لصبر والاناة ، وأسر أليه بالامر ، وأمره با لتريث و التامل خشية أن يرتدّ العرب ، ويختلط الحابل بالنابل ، ويتلاشى الاسلام .
لقد فهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل هذا دون ريب ، وفهمه علي كله كذلك ،
87
وعمد إلى تنفيذ وصاياه بمعزل عن الائتمار عليه ، ونشطت الجبهه المتصدرة في تسيير عقلية الناس كما تريد ، فقال عمر : إن السول الله ما مات ، ولكنه ذهب ألى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع ..... والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات .
والناس هم الناس بين سذاجة وغفلة ، وتصديق وتكذيب ، إلا أن هذا القول من عمر أثرّ أثره الوقتي في الاقل بالناس ، فكما صرفهم عن أمر الصحيفة أولاً ، صرفهم عن الادلاءبشيء أو التفكير بشيء من أمرالاستخلاف ، ما دام النبي لم يمت فيما يزعم ، حتى يحضر أبو بكر من منزله بالسنح ، فلما حضر نادى :
« يايها الناس من كان يعبد الله فان الله حي لا يموت ، ثم تلا :
( وما محمد ألا رسول قد خلت من قبله الرسول إفاين مات أو قتل انقلبتم على اعقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شياً ) » (1)
فأفاق عمر مما أصطنعه ، وذهبا معاً إلى السقيفه فيما سنعرضه فيما بعد .
وغسل عليّ عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعه الفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناولانه الماء من وراء الستر و هما معصوبا العين ، وتولى علي تغسيله وتحنيطه وتكفينه ، فلما فرغ من تجهيزه تقدم فصّلى عليه وحده .
وكان المسلمون في نزاع فيمن يؤمهم في الصلاة عليه ، وأين يدفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا أمر من حضر وفاته من المسلمين ، وأما من لم
(1) سورة عمران ، الاية : 144.
88
يحضر فله شأن غير هذا سنأتي عليه .
وبينا هم في هذا النزاع إذ خرج إليهم علي عليه السلام وقال : إن رسول الله أمامنا حيا وميتا ، فليدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلّون عليه بغير إمام ، وإن الله لم يبقض نبياً في مكان إلا وقد إرتضاه لرمسه ، وإني لدافنه في حجرته التي قبض فيها ، فسلّم القول لذلك ورضوا به ، وفعلوه .
وتولى عليّ والعباس وابنه الفضل وأسامة بن زيد وأوس بن خولّي من الانصار دفنه ، ونزل علي القبر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع خده الايمن على الارض مستقبلاً بوجهه إلى القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن ، وأهالى عليه التراب ، وربع قبره ، وجعل عليه لبناً ، ورفعنه من الارض قدر شبر ، ورشّ الماء عليه رشاً ، ولم يحضر دفنه أكثر الناس فهم في شغل من أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه .
ونعته ابنته الزهراء فيما يؤثر عنها : « يا أبتاه ، أجاب رباً دعاه ، يا أبتاه جنة الفردوس ماْواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا من أبتاه ربه ما أدناه »
ثم أخذث من تراب القرب الشريف ، ووضعته على عينيها ، وأنشات :
ماذا على من شمّ تربة أحمد صبّت عليّ مصـائب لو أنّها
أن لايشم مـدى الزمان غواليا صبّت على الأيام صرنا لياليا
وأنطلق تأبين علي للنبي في لوعة ومرارة وأسى ، والدموع تسبق عينيه :
« بأبي أن وأمي ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من
89
النبوة والأنباء وأخبار السماء ، لولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفا ... ولكنه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه ، بأبي أنت وأمي : اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك » .
وهاجت به الأحزان ، وهو يودعه مكّبا على القبر الشريف قائلا : « إن الصبر لجميل إلا عنك يا رسول الله . وإن الجزع لقبيح إلا عليك ، وإن المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك ويعدك لجلل » . وأنكفا عليّ راجعا الى بيته ، يعاني أقسى صنوف الآلام ، و يتجرع غصص فراق رسول الله ، فالليل طويل ، والصبر مرير ، والآهات متلاحقة ، والأنفاس متقطعة ، وهو بين ذلك في سهاد وقلق ، وحزن والتياع ، ووحشة إيمّا وحشة يمعن فيها الشعور بالفراغ التام إيمّا إمعان .
ولكن قلب علي أكبر من كل هذه المصائب وإن جلت وعظمت ، فقد خلق لمهمة أصعب ، وخلّف لقضية أعظم .
وأسدل الستار على المدينة المنورة في روايتها الحزينة ، فتجاوبت بأصداء الفاجعة سهولها وجبالها ، واهتزت بفادح المصاب ظلالها وأفياؤها ، وسرى النعي في كل مكان ... مات محمد ، مات رسول الله .
كانت قياده قريش ـ لدى احتضار الرسول الكريم ـ إلى ثلاثه من المهاجرين دون بني هاشم : أبي بكر في لينه ودماثته ، وعمر في شدته وغلظته ، وابي عبيدة بن الجراح في تعقله ودهائه ، وكان نجاح بيعة الصّديق يعود إلى هذه الطبائع الثلاث ، مجتمعة ، فما إن يجترح عمر حوباً في شدته حتى يبدده أبو بكر في لينه ، ويدفعه أبو عبيده في دهائه ، وما إن يقترح أبوبكر أمراً في حكمته حتي يحققه عمر في اند فاعه، و ينفذه أبو عبيدة في مرونته ، وما أن يعالج أبو عبيدة مناخاً في تعقله ، حتى يمهّده أبوبكر في يسره ، ويجسده عمر في جراءته .
هذه خلفيات مختلفة تمتع بها الزعماء الثلاثة ، وعملوا بإيحائها طيله أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنفاذ جيش أسامة ، إن لم يكن أيام حجة الوداع ، والتصريح بولاية علي عليه السلام آنذاك .
كانو ياتمرون و يجيلون الرأي و يضمرون التخطيط ، ولم يكن انطلاقهم الحثيث لسقيفه بني ساعدة عن فورة وعجلة ، وانما كان عن تريث وتلبّث ، ولم يحدث ما تنادوا به عن مفاجأة وعفوية ، بل عن دراسة و دراية وترصد ، يشتّد عمر فيهدأه أبوبكر ، ويعنفّه أبو عبيدة ، ويهادن أبو عبيدة ، فيزجره عمر ، ويرفق به أبو بكر ، ويلين أبو بكر فيغضب عمر ويوفّق بينهما أبو عبيدة .