فصمت القوم ، وكأن على رؤوسهم الطير ، وارادوا امتصاص النقمة ، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقام أبوذر في صلابته المعهودة فقال :
« لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول صلى الله عليه واله و سلم قال : الأمر بعدي لعلي ، ثم لابني الحسن والحسين ثم للطاهرين من ذريتي ، فأطعتم الدينا الفانية ، ونسيتم الآخرة الباقية ».
وقال المقداد : « يا أبا بكر : سلم الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك ».ثم قام بريدة الأسلمي فقال : « إنا لله و إنا أليه راجعون ، ماذا لقي الحق من الباطل ؟ يا أبابكر :أنسيت أم تناسيت ، وخدعت أم خدعتك نفسك ، أولم تذكر ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه واله و سلم من تسمية علي بإمرة المؤمنين .... ».
وقال عمار بن ياسر : « يا معاشر قريش ، ويا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا : إن أهل بيت نبيكم أولى به ، وأحق بإرثه ، وأقوم باُمور الدين .... وعليُّ أقرب منكم إلى نبيكم ، وهو بينهم وليكم بعهد الله ورسوله ».
ثم قال أبي بن كعب : « يا أبا بكر لا تجحد حقاُ جعله الله لغيرك ، ولا تكن أول من عصى رسول الله في وصيّه وصفيّه ، وصدف عن أمره ، أردد الحق الحق إلى أهله تسلم ».
ثم نهض خزيمة بن ثابت فقال : أيها الناس ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه واله و سلم قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري ، قالوا بلى ، قال فاشهدوا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله و سلم يقول : « أهل بيتي يفرقون بين
102
الحق والباطل ، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ».
وقام أبو الهيثم بن التهيان فقال : وأنا أشهد على نبيناصلى الله عليه واله و سلم أنه أقام علياً يوم غدير خم ، فقالت الأنصار ما أقامه إلا للخلافة ، وقال بعضهم ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله مولاه ، وكثر الخوض في ذلك ، فبعثا إلى رسول الله نسأله فقال : « عليُّ ولي المؤمنين بعدي ، وأنصح الناس لاُمتي ».
وقال سهل بن حنيف الأنصاري : « اشهدوا عليّ أني أشهد على رسول الله في هذا المكان » (الروضة ) وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب وهو يقول :
« أيها الناس علي إمامكم من بعدي ، ووصيي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ومنجز وعدي ، واول من يصافحني على حوضي ، فطوبى لمن تبعه ونصره ، والويل لمن تخلف عنه و خذله ».
وقال عثمان بن حنيف : سمعنا رسول الله صلى الله عليه واله و سلم يقول :« أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم ، فهم الولاة من بعدي ... » وقال أبو أيوب الانصاري : « اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم ، وأرددوا إليهم حقهم الذي جعل الله لهم ... والنبي يقول :اهل بيتي أئمتكم من بعدي ، ويومي إلى علي ويقول : هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة ، مخذولٌ من خذله ، منصورٌ من نصره ... ».
ومرّ الاحتجاج على صرامته كأن لم يكن ، وذهب أدراج الرياح ، ويخطيء من يظن أن الامر كان مستوسقاً دون معارضة ، وإجماعياً دون نقض ، ومسلماً به دون اصطدام ، فهذه الأصوات كانت عالية ، وقد بقيت أصداوها إلى اليوم ، وكادت أن تطيح بالأمر لولا إمساكه بيد من
103
حديد ، ولم تكن هذه الاصوات وحدها تدوي في الميدان ، بل تطاول غيرها ، فقد كان إجتماع جماعة سراً في فضاء بني بياضة من المهاجرين والأنصار ذا أثر في سير الأحداث ، وفي أثناء ذلك كان بلال مؤذن النبي يقيت هذه الأحداث ناراً ملتهبة ، فقد دعي إلى البيعة وهو مولى أبي بكر من ذي قبل ، فامتنع عنها ، وأخذ عمر بتلابيبه ، وقال له : هذا جزاء أبي بكر منك أن أعتقك فلا تجيء تبايعه ، فقال : إن كان قد أعتقني أبو بكر لله فليدعني لله ، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا ، و أما بيعته : فما كنت أبايع من لم يستخلفه رسول الله صلى الله عليه واله و سلم ، والذي استخلفه بيعته في أعناقنا إلى يوم القيامة . فقال عمر : لا أبا لك ، لا تقم معنا ، فارتحل بلال ألى الشام .
وكان هذا الإنكار مشجعاً للمجتمعين في فضاء بني بياضة في أطراف المدينة ، وكان قد اجتمع هناك : البراء بن عازب ، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، والمقداد بن عمرو ، وأبو الهيثم بن التهيان ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي وسواهم ممن تخلف عن بيعة أبي بكر ، وهم يرون علياً لا سواه أهلاً للأمر.
وتكلم عمار بن ياسر في جراءة نادرة :
« ما لتيم وهذا الامر ، إنه قد كان لرسول الله ، وهو من بعده في خير الناس بعد رسول الله » يعني علياً عليه السلام .
فقال البراء بن عازب « إنّما انتزعه الرجل بخق قريش ، وعاونه صاحباه ، ولكن البيعة ولم يشهدها المهاجرون الأولون فليس لها صحة ».وقال حذيفة بن اليمان : « إن الأنصار لتريد أن تنفض ما كان منها »
104
فقال المقداد : « فهذا والله خير ، وليردّن الحق إلى صاحبه ».
وتساءل سلمان : « فان أبى الرجل ».
فقال أبوذر : « فدعوه إنه ليس ولا صاحباه إلا ثلاثة من المهاجرين . والله لا يراني أبدأً أبايع ابن أبي قحافة وفي الناس ابن أبي طالب ».
وقال عمار : « هذه الأنصار تهم أن تنقض الأمر أمر السقيفة ».
وكان طلحة بحيث يستمع ما دار بين القوم ، فتطوع بإبلاغه أبا بكر ، وأنذر به عمر ، وسارّ به أبا عبيدة .
وابتدر القوم إلى المسجد ، فبدأهم عمربقوله :
« أيها الناس : إن الله قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول الله ثاني اثنين إذ هما في الغار » ، فقوموا فبايعوا ، واسترسل أبو بكر في سياسته الوئيدة :
« أما بعد ، فاني قد وليت عليكم ، ولست بخيرّكم ».
وكان هذا إيماء أو تصريحاً بافضلية علي فهو نقطة الانطلاق وكان عليٌّ في هذه اللحظة يسوي قبر رسول الله صلى الله عليه واله و سلم بمسحاة في يده ، فقال له رجل عندها :
إن القوم قد بايعوا أبا بكر ، ووقعت الخذلة للأنصار لا خذلة اختلافهم ، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر (1) .
(1) ظ : في نصوص هذ الفصل كلاً من :
ابن الأثير / الكامل في التاريخ + ابن حجر / الصواعق المحرقة + ابن سعد / الطبقات الكبرى + الصدوق / الأمالي والخصال + ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة+ =
105
فوضع عليٌّ عليه السلام المسحاة على الأرض ، ويده عليها ، وقال :
الم « 1 » احسب الناس ان يتركوا أن يقولوا اءمنا وهم لايفتنون « 2 » ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعمن الكذبين « 3 » ام حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون . (1)
فما كان موقفه بعد هذا و هو يستقبل عهد الشيخين .
=
الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد + الطبري / المعجم الكبير + الطبري / تأريخ الرسل والملوك + طه حسين / الفتنة الكبرى + ابن عبد البر / الأستيعاب + عبد الفتاح عبد المقصود / الإمام علي بن ابي طالب + عبد الحسين الأميني / الغدير + العقاد / عبقرية الإمام + ابن قتيبة / الإمامة والسيرة + القندوزي / ينابيع المودةّ + المسعودي / مروج الذهب + ابن هشام / السيرة النبوية + الواقدي / المغازي .
(1) سورة العنكبوت ، الآيات : 1 ـ 4 .
106
107
1 ـ الانصار تحتجُّ ... وعليٌّ يمسك عن البيعة
2 ـ ظلامة الزهراء في إنعطاف تأريخيٌّ
3 ـ شكوى الزهراء وخطبها يشقّان عنان السماء
4 ـ الثورة المضادة للإسلام ... و أعاصير الردّ َة
5 ـ أبو بكر يقدّس علياً ... ويعهده إلى عمر
6 ـ سيرةُ عمر ... و إتكاؤُهُ على أمير المومنين
7 ـ عمريتناسى علياً ... ويعين مجلس الشورى
8 ـ المسلمون يستقبلون بيعة عثمان بالكراهية
9 ـ سياسة عثمان من الصحابة والمعارضة
10 ـ المسلمون ينقمون على عثمان ... والأمصار تتجمع
11 ـ تفاقم الأمر على عثمان ومصرعه
108
109
تقول إحدى الروايات أن علياً عليه اسلام قال :
« إن أول من جرّأ علينا الناس سعد بن عبادة ».
وهذه الرواية تضع سعداً موضع الإتّهام ، بل وتعدّه منحرفاً عن علي ، وسعد رجل من العرب ، رأى المهاجرين قد أبوا على علي عليه السلام البيعة ، وصرفوها عن بني هاشم ، فلم لا يطلبها لنفسه ، هذا هو التعليل في أكبر الظن . وقد يقال بأنه أرادها لنفسه ظاهراً ليستولي على الأمر فيسلمها إلى علي عليه اسلام وليس على ذلك دليل نصي أو تأريخي سوى حسن الظن في شيخ من شيوخ الأنصار ، وكانت الأنصار عيبة نصح علي ، وهواها مع علي ، أكثريتها وأغلبيتها ، فلما انتهى أمر السقيفة ندمت على ما فعلت ، وتلاومت فيما بينها ، وأرادت نقض بيعة أبي بكر.
وعلي يرقب الأحداث ويشاهدها عن كثب في فيض من المشاعر الملتهبة ، وغمرة من الشؤون النفسية الجيّاشة ، بين لهفةٍ على ضياع الحق ، وخشيةٍ من اضطراب الأمر ، وقلق من حدوث الفتنة ، فها هم الأنصار يرجعون إلى حلومهم بعد أن طاشت ، ويعودون إلى تعقلهم به دون جدوى ، ويندمون على تفريطهم لات ساعة مندم . فلينظر إلى أين
110
تنتهي هذا الرواية ؟ وكيف تمثل فضول المأساة ؟
على أن الندم لم يصنع شيئاً ، و إلا حتجاج لم يغيرّ حدثاًُ ، والتراجع لا ينقض أمراً ، فقد جوبه الأنصار مضافاً إلى القيادة القرشية العليا ، جوبهوا بمسلمة الفتح تذبّ عن مرشح قريش ، فأشغل الأنصار ـ بدهاء منقطع النظير ـ بمسلمة الفتح ، واندمج بنو اُميه في رحاب البيعة التي أبعدت بني هاشم أعداءْ هم التقليديين ، وعطفت بنو زهرة عنانها مع تيم ، فما ينفع نداء الأنصار في آخرة ، وما أعذروا من ذي قبل ... إنه صيحة في وادٍ ، ونفخة في رماد، فهذا سهيل بن عمرو صاحبهم في الحديبية يدعو في نخوة : « يا أهل مكة ... كنتم آخر من أسلم في الناس ، فلا تكونوا أول من ارتد من الناس؛ يا أهل مكة . والله ليتمن الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله ، و من رابنا ضربنا عنقه ».
قال ذلك لأهل مكة عامة ، والتفت لقريش وقال لها خاصة ، وقد شاهد الأنصار يحاولون التغيير ، وكان التفاته هذا مزدوجا في ردوده ، ففيه إحكام للأمر دون تردد ، وفيه وعيد للأنصار دون رحمة ، وفيه أمر بالقتال بلا هوادة :
« يا معشر قريش : إن هؤلاء الناس قد دعوا إلى أنفسهم ، وإلى علي بن أبي طالب ، وعليّ في بيته لو شاء لردّهم ، ألا فادعوهم إلى صاحبكم والى تجديد بيعته ، فإن أجابوكم وإلاّ فأقتلوهم ، فوالله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم » . وتبعه عكرمة بن أبي جهل « لولا قول رسول الله : الأئمة من قريش ما أنكرنا إمرة الأنصار، إعذروا القوم فإن أبو فاقتلوهم » .
فالدعوتان تشيران إلى القتل والإبادة ، وكيف تكون الفتنة إذن ?