الملاك متناثرة في آثار السنن والحديث ، تكشف ، عن مقدرة الرجل الفقهية مما أجمع عليه أهل الإسلام ، لم يشاركه أحد في ذلك ، فكانوا عيالاً عليه ، وتبعاً له ، فيما استجد من مسائل ، وفيما درس من أحكام ، وفيما احتاجوا إليه من علم .
152
كان أبو بكر (رض) يطيل النظر في وجه عليّ عليه السلام ، فسئل عن سر ذلك ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « النظر إلى وجه عليّ عبادة » .
ليت شعري ؛ فهل استشف أبو بكر الغيب ليستقرئ مغزى ما يرويه ، فإذا كان النظر إلى وجه عليّ عبادة ، فالنظر في هديه وسيرته عبادة أيضاً ، والنظر في عدله واستقامته عبادة كذلك ، والتطلع إلى رأيه وفكره عبادة دون شك ، وما وجه علي إلا صورة من لحم ودم وعصب وشرائح وغضون ، فلماذا أضحى عبادة ؟ وما السر في ذلك ؟ النظر إلى هذا الوجه عبادة لما انطوى في أسراره من معرفة الله تعالى ، ولما ضم بين جنبتيه من أسارير تنقبض وتنبسط في ذات الله ؛ وعليٌّ نفس رسول الله ، فوجه علي وجه رسول الله ، ولا ريب أن النظر في وجه رسول الله عبادة وأية عبادة ، فهو علة الإيجاد ، وجمال الكون ، يتلألأ بنور الله ، ويشرق بجلال الله ، ويرضى لرضا الله ، ويغضب لغضب الله ، فعاد تكوينه مرتبطاً بالفيض الإلهي سروراً وحزناً ، ومستشعراً لإرادة الله حباً وإعراضاً ، والوجه الصالح على هذا يكشف عن الضمير الصالح ، والنظر إليه إمعان في زيادة الصلاح والإصلاح ، والتطلع لمعالمه تطلع في مناهج الحق ومراتب اليقين ، وهكذا كان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا ورثه علي في خصائصه الكبرى .
153
ليت شعري !! هل أفاد أبو بكر (رض) من هذا ، وجعله ميزاناً بينه وبين المسلمين ، أم هي العواطف الخالصة التي لا تتبع بالقول عملاً ، ولا تثني النظر بالاقتداء ، وأبو بكر الراوي : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة ونحن خارجان من الغار نريد المدينة : « كفي وكف علي في العدل سواء » .
فهل استجلى أبو بكر من ذلك في الأقل ضرورة مشاركته الحكم ، وأساسه العدل ، إن لم يُسلم إليه الحكم كله ؛ وَلِمَ إستأثر بقيادة الأمة دونه ، وبقي علي عليه السلام جليس الدار ، أو حليف المساقاة ، لا يضع ولا يرفع ، والمسلمون بمشهد وبمسمع .
أنكتفي من أبي بكر وهو الفطن الحاذق ، والرجل المجرّب الحصيف ، أن يروي هذا الحديث ونظراءه ، دون الاقتفاء لأثره وهو يقود الجماعة الإسلامية ، ويسوس الدولة العربية ، وعليّ دونه كل أمر وكل نهي ، وكأنه رجل من سواد الناس .
وليت أبا بكر (رض) إذ أطال النظر في وجه علي عليه السلام قد أطال النظر إلى قلب عليّ من وراء حجاب رقيق ، فاستشعر ذلك الألم الدفين في ذلك القلب الكبير ، وليته سبر أغوار هذا الجرح العميق فغير وبدل وجامل حاور وناظر عسى أن ينتزع هذا الحزن من ذلك القلب ، ولكنه أصر على تجاهل هذه الحقيقة الصارخة ، وغض النظر عن هذا الملحظ الدقيق طيلة خلافته ، فبقي الشجا في نفس علي ، وغص عليّ بريق الأسى ، ينظرون في وجهه ولا يترسمون خطاه ، ويطيلون النظر إليه ولا يستمعون لأنينه ، وهو في عزلة يرى تراثه نهباً ، وكفاءته لا يفاد منها ، وكأنه متاع رخيص في زوايا البيت الحافل بأغلى النفائس .
154
وكان ما لحقه من حيف وحرمان وتجاهل ، وما تجرعه من لوعة ومرارة وكمد ، حرياً بأن يؤلب الرجل ويثير مكامن حزازته ، أو يتجلى ذلك في ثورة عارمة في سيرته ، ولكنه أخلد إلى المسالمة ، واتسم بنقاء النفس وصفاء النية ، بل ذهب إلى أكثر من هذا فقد كان الناصح الأمين ، والمشير الورع ، وهذا لا ينافي كونه صابراً محتسباً ، أو مظلوماً مهتضماً .
حتى إذا تدهورت صحة أبي بكر ، وأشرف على الموت ، وإذا به يروغ عن علي عليه السلام وكأنه لم يكن ، ويتركه جانباً وكأنه لم يخلق ، ويصحر بسياسته دون مجاملة ، ويفصح عن رأيه دون ستار من عرفان المصالح العليا فتزاد آلام الرجل ويعبر عنها بقوله مستغرباً :
« فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشد ما تشطرا ضرعيها ، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثر فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون وإعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة » .
وإذا بأبي بكر يعهد إلى عمر مفصحاً :
« أيها الناس : أترضون بمن أستخلف عليكم ؟ إني والله ما ألوت من جهد في الرأي ، ولا
وليت ذا قرابة ، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب . فاسمعوا له وأطيعوا » .
وكانت بادرة تستدعي العجب ، ومفاجأة تستأهل التساؤل ، ليس على الطبقة الواعية لحقيقة المجريات ، ولكن لقول أبي بكر نفسه حينما
155
قال قبلها بقليل : « لوددت أني كنت سألت رسول الله ، عن هذا الأمر فلا يتنازعه أحد » .
فهلاّ استشار أحداً ، وهلا سأل علياً مثلاً ؛ نعم دعا إليه عبد الرحمن بن عوف فأدلى برأيه في عمر ، فقال : « هو والله أفضل من رأيك فيه ولكن فيه غلظة .
ودعا عثمان فسأله عن عمر فقال : « إن سريرته خير من علانيته » فقال أبو بكر : « لو كنت مستخلفاً أحداً غير عمر لاستخلفتك يا عثمان » . وهي إشارة ذكية أن سيأتيك الدور يا عثمان ، ومد عثمان لها عينيه ، وأصغى بأذنيه ، وصر عليها صراً ، فهي بارقة أمل عريض .
وعهد أبو بكر إلى عمر فيما كتبه عثمان وأقره عليه حينما غشيه الموت .
« أما بعد فإني قد استخلفت عليكم ابن الخطاب » .
ودخل على أبي بكر طلحة في تلك الحال فجبهه بقوله : « ما أنت قائل لربك غداً ، وقد وليت علينا فظاً غليظاً ، تفرق منه النفوس ، وتنفض عنه القلوب » .
فزجره أبو بكر زجراً عنيفاً . وتم استخلاف عمر ، وتناهى الخبر إلى علي ، وتجدد المصاب عليه ، وعاوده الحيف الجديد فما وهن عزمه في ذات الله ، ولا فوجئ بهذه النتيجة فهو يتوقعها ويدري خطتها في رؤية واضحة .
وكان الإجحاف الذي لحق بعليّ هذه المرة منظماً ، فما كان لأبي بكر ليعدو عمر في شأن الخلافة ، وما كان لعلي أن يطمع بها ـ وهو الزاهد ـ بوجود عمر ، فأبو بكر وعمر فرسا رهان ، إن كبا أحدهما نهض
156
الآخر ، وقد مات أبو بكر فولي عمر ، فما كان من علي إلا أن سمع وأطاع ، ونصح للإسلام بكل ما استطاع ، وإن حجز في بيته ، واستسلم لوحدته ، فصبر على هذا كله ، بل على أكثر من هذا كله .
قام عمر بالأمر جريئاً شديداً قوياً ، ولكنه لم ينس فضل هذا الرجل المغلوب على أمره ، ولم يجهل مقامه وإن تجاهله ، فقد قال لابن عباس :
« ما أرى صاحبك إلا مظلوماً » .
فأجابه ابن عباس بذكاء : « فأردد إليه ظلامته » .
فعدل عمر عن الجواب ، ولجأ إلى التعليل القديم ، والسبب التافه :
« ما أظن القوم منعهم منه إلا أنهم استصغروه » .
وأصغى ابن عباس للعلة فما وجدها تنهض بشيء ، فأضاف إليها أخرى : « أتدري يا ابن عباس ما منع منكم الناس » .
وبقي ابن عباس صامتاً ينتظر ما يدلي به داهية العرب :
« كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً ، فنظرت لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت » .
بهت ابن عباس لهذا التصريح ، فالمسألة إذن مسألة جاهلية ، والقضية على هذا الأساس قضية عنصرية قبلية ، فقريش تكره اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد ، والهاشميون يجحفون بالناس ، ومتى أجحف بنو هاشم بالنبوة ، ـ إن كان باستطاعتهم الإجحاف ـ حتى يجحفوا بالإمامة ، وهل هذا وذاك من المناصب التي تتحكم بها قريش
157
أو بنو هاشم ، حجج لا تقوم على أساس متين ، ومعاذير لا تستند إلى ركن وثيق . وهل لقريش أن تنظر لنفسها وتختار ، والقرآن يصرح :
( وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ ) (1) .
ولو انصاعت قريش لما اختاره الله لوفقت وأصابت ، ولكنها السياسة الدقيقة التي أحكمت الرتاج ، وأغلقت الأبواب ، وألقت من شاءت وما شاءت ومتى شاءت وراء الأسوار .
ولو أبصرت قريش رشدها يوماً لنظرت إلى علي عليه السلام نظرة فاحصة محققة لتجده ، أول القوم إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وأكثرهم غناء عن الإسلام ، وأعظمهم دفاعاً عن الدين ، وأثبتهم يقيناً بالله ، وأخشنهم نفساً في ذات الله ، وأحوطهم لنفسه وللمسلمين ، وأنصحهم لله ولرسوله ، وأفضلهم سابقة ، وأقومهم عوداً ، وأرفعهم منزلة ، أعلاهم درجة ، وأرسخهم شجرة ، وأينعهم ثمرة ، وأبلغهم منطقاً ، وأفصحهم كلاماً ، وأشدهم ساعداً ، وأثبتهم جناناً ، وأكفأهم مراساً في الحروب ، وأسبقهم حضوراً في المشاهد ، وأقلهم متاعاً في الدنيا ، وأكثرهم رغبة في الآخرة . فإذا أضفت لذلك العلم في الكتاب والسنة ، والحلم في السياسة والرعية ، والصبر على المكاره والشدائد ، والحزم في الملمات والنوازل ، والورع لدى الشبهات ، والمسارعة إلى الخير ، والإتباع لسنن العدل ، والإقتفاء لأثر الرسول ، والرفق بالضعفاء ، والعطف على الفقراء ، والشدة على أعداء الله ، والرحمة بأولياء الله ، والسبق لما يرضي الله ، لوجدت الإمامة بحاجة إليه ، والخلافة ينبغي أن تسعى إليه ، فبه تزان ، وعليه تنعقد ، وفيه تُشَرّفُ .
كل هذا لم ينظر إليه في علي عليه السلام ، بل ما شاؤوا أن ينظروا
(1) سورة القصص ، الآية : 68 .
158
إليه ، ولو نظروا لما عدته القيادة إلى سواه ، ولكن هذا هو منطق الحق ، والحق شديد لا تسيغه الذائقة السياسية ، ولا يقره منطق الأثرة والإستبداد .
وليت ما حدث يكتفى به وحده ، بل تعداه إلى ما هو أدهى وأمر ، وأشق عنتاً ، وأمض عسراً ، فلم تطلق لعلي حريته ، يتصرف أنى شاء ، ويتحرك كما يريد ، بل فرضت عليه الإقامة الجبرية في المدينة لا يتجاوز رحابها ، ولا يتعدى حدودها ، كما فرضت على سواه من شيوخ المهاجرين والأنصار ، فما برحوا مدينة الرسول ، ولا تخطوا جدرانها عسى أن يطمع أحد بهم ، أو يرغب بهم راغب ، فهم أهل السابقة ، وهم أهل الطموح فيما أوصى به أبو بكر عمر :
« احذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله ، الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم » فكان المنفذ الصارم ، والقائم الرادع ، والآخذ بالحجز والحلاقيم إذ يقول :
« إني قائم دون شعب الحرة ، آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار » . فاستماحه بعض المهاجرين والأنصار الجهاد في سبيل الله ، والإنسلال إلى الثغور ، وقد كثرت الفتوح ، وتدافعت البعوث ، إيذاناً بنصر الله وفتحه ، فقال جوابه التقليدي الرتيب لمن أراد ذلك : « أقعد ... قد كان في غزوك مع رسول الله ما يبلغك ، وخيرٌ لك من الغزو اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك » .
فكان الحجز المدني مواكباً للحجر العسكري ، وكلاهما سلاحان نافذان في صد طماح القوم في التحرر من الإقامة في المدينة ، والإبقاء عليهم تحت السيطرة الفعلية ، فكان لهم بالمخنق ـ كما يقال ـ ووقف بالمرصاد .
159
ولم يكن عليّ عليه السلام بمنأى عن هذا الإجراء ، بل هو أول من نُفِذّ بحقه هذا النظام الجديد ، وإذا منع علي عليه السلام من الحركة والحرية فمن يستطيع إذن بعده من البوح عما في نفسه ، ومن يقوى على التفكير في الخروج من هذه الدائرة المحكمة الأقفال .
القوة والصراحة تصاحبهما الدقة والمحاسبة ، من أوليات التعبير السياسي لدى الحاكم الجديد ، فكل شيء بقدر ، وكل خطوة بحذر ، شاء المقابل أم أبى .
هنالك أدرك بعض قريش أن قريشاً ما اختارت لنفسها ، ولكنها اختارت لهواها ، ولو اختارت لنفسها حقاً لوفقت وأصابت ، ولكنها اختارت لهواها ، فأوكلت إلى الهوى ، يتحكم بها أنى يشاء .
وما كان لعلي عليه السلام أن يقابل عمر بشيء من العصيان ، ولا يجدر به أن يشاركه بشيء من الحطام ، ولا كان مما يناسبه أن يشعره بشيء من المنافسة ، فهو أكبر من ذلك ، وكان الخليق به وبمقامه الرفيع ما صنعه من محايدة ومجاملة ومعاونة ، وما أبداه من ائتمان عند الاستشارة ، والصراحة عند السؤال ، والتجاوب المطلق لادارة الصالح من الشؤون ، فكان دوره في عصره دور الناصح الشفيق ، والمفتي الفقيه ، والقاضي العادل ، والمستشار المؤتمن فيما ستلمسه قريباً .
160
تسلّم عمر (رض) أزمة الحكم ، وسار بالأمة سيراً عنيفاً يتسم بالشدة والصرامة ، وقد يوسم بالقسوة وعدم المبالاة ، وكانت درّته تقوّم الأود ، وصيحته تهدّأ الهرج ، وغضبته تبدد الهوس ، وبشدته هذه ، ودفعته في التفكير إستقام له السلطان ، وانقادت له الرجال طائعة ومكرهة ، وما عليه أن لا يكون كذلك ، وهو الخبير بحقائق الأشياء ، ومن ذا يعترض مسيرته ، وقد اتكأ على عليّ عليه السلام حيناً في علمه وفقهه وقضائه ، وعلى ابن عباس حيناً آخر في تجربته وتأويله وأدبه ، وللناس ظاهر الحال ، منه الأمر وعليهم الطاعة .
ولم يكن للخليفة الجديد مندوحة يتخلى فيها عن علي في اللحظات الشائكة ، ولم يكن له منه بد في المشاهد الحرجة ، وهو أعلم بعواطف الناس تجاه علي عليه السلام تجلةً ومنزلة واحتراماً ، وهو أدرى بما تضم جوانح الإمام من علم فياض ، وفقه غزير ، ودراية متكاملة ؛ وهو زعيم بأن علياً لا يحيد عن الحق طرفة عين أبداً ؛ كان يعرف هذا كله ، ويعرف ما هو أكثر من هذا كله ، فليكن علي ـ إذن ـ المستشار الأول للخليفة ، وبصورة ظاهرية إن لم تكن واقعية ؛ وقد اتضح ميله الشديد لعلي ، وبدا تقريبه إليه واضحاً ، وحضوته السياسية عنده أثيرة ، وانجلت السحب الكثيفة في سماء العلاقات الجافة شيئاً فشيئاً ، واتصل بحبل من