1 ـ الثورة ترشح الإمام للخلافة ... والإمام يستقرئ الغيب المجهول
2 ـ إستقبال خلافة الإمام بين المحرومين والارستقراطيين
3 ـ المتمردون في مجابهة الإمام متظاهرين بالثأر لعثمان
4 ـ قيادة الناكثين بين الترددّ وإقتحام مشارف البصرة
5 ـ حربُ الجمل ... وهزيمة المتمردين
6 ـ عليٌّ في البصرة ... وسيرة رسول الله (ص)
7 ـ عليٌّ يتخذّ الكوفة عاصمةً ... ويقدّم طلائعه إلى صفين
8 ـ معركة صفين ... وإنحياز الخوارج
9 ـ الوفاءُ بشأن التحكيم ... ومعركة النهروان
10 ـ معاوية والخوارج يقتسمان الأحداثَ الدموية
11 ـ ظواهر العدل الإجتماعي عند الإمام تقلب الموازين
12 ـ المهمات القيادة السياسية ... والتعليمات العسكرية لأمير المؤمنين
13 ـ تهذيب النفس الإنسانية لدى الإمام في إرادة الحكم الإسلامي
14 ـ عليٌّ ومناوؤه ... حتى إستشهاد الإمام عَليهِ السَّلام
232
233
إِستيقظت المدينة المنورة صبيحة مقتل عثمان (رض) شاحبة الظلال ، باهتة الألوان ، يسودها الفزع والقلق ، ويغشاها الهول والإضطراب . فالحدث خطير في أبعاده ، وجرأة الثوار كبيرة فيما أقدمت عليه ، والناس في حيرة من أمرهم ، ينتاب بعضهم تأنيب الضمير في خذلان عثمان ، ويستبشر آخرون بمقتل عثمان ، ويأسى سواهما لما حلّ بعثمان ، بينما يفكر نفرٌ يسير بمصير الإسلام وحرمة البلد الذي يحكمه الثائرون ، فالأهواء ـ كما ترى ـ متباينة ، والوضع العام في شقاق مرير ، واللغط يشق عنان السماء .
والحاجة الآنية أن لا بد للناس من إمام يخلف الخليفة المقتول ، وقائد تلتقي برحابه أفئدة الناس ، والأمر كله في المدينة لأبي حرب الغافقى زعيم المصريين ، يؤم الناس في الصلاة ، ويتصدر القيادة الثائرة ، ويشرف على إدارة الحكم العرفي دون كفاية أو خبرة ، وينظر في الناس وهم يلتفون حول طلحة والزبير تارة ، ويهتفون باسم الإمام علي تارة أخرى ، ولا رأي سوى هذين .
ولكن أصابع الاتهام تشير إلى طلحة والزبير بكثير من الحذر والشفقة ، تحذر منهما ، وتشفق على المسلمين من إمارتهما ، فكلٌ منهما
234
قد أجلب على عثمان حتى قتل ، وقد حاولا رفع هذه التهمة بكثير من الدوران الذي
لم يخفَ على الناس قريبهم وبعيدهم ، فهما صاحبا عثمان بالأمس ، كثّرا عليه ، وخذّلا عنه ، وألبّا الناس وأسلماه ، فهما في حرج من نصب أنفسهما ، وترشيح ذاتيهما لمقامه .
وكان المصريون ـ وهم زعماء الثورة ضد عثمان ـ أكثر الناس حذراً ، وأشدّهم تحرزاً ، فضيقوا على طلحة والزبير فسحة الأمل ، وبادروا إلى إتخاذ القرار المناسب ، وتوجهوا إلى أهل الحل والعقد من بقية المهاجرين والأنصار في المدينة ، وقالوا : يا أهل المدينة : إنكم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة ، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع » .
فهتف الناس في ذلك الحشد « عليّ لنا رضى ، نحن به راضون » .
قالوا ذلك جميعاً بما فيهم طلحة والزبير ، لم ينافس علياً أحد في الترشيح ، ولم ترشح الجماهير سواه للخلافة ، وقال ممثلهم عمار بن ياسر :
« أيها الناس : إنا لن نألوكم خيراً وأنفسنا إن شاء الله ، وإن علياً من قد علمتم ، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه ، ولا أولى به » .
ورضي الناس بهذا العرض وأمنوا عليه ، وانطلقوا إلى أمير المؤمنين وهو في عزلته ، وقالوا :
« يا أبا الحسن : إن هذا الرجل قد قتل ، ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ، ولا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » .
235
وتأبّى عليٌّ على القوم ، ورّد الطلب برفق وأناة قائلاً :
« دعوني والتمسوا غيري ، فأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً » .
وازداد الإصرار ، وتكرر الطلب ، فعاود عليّ الامتناع قائلاً :
« اتركوني فأنا كأحدكم ، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لم وليتموه أمركم » .
وكان عليّ عَليهِ السَّلام زاهداً في الخلافة ، وهو يتطلع إلى الأفق البعيد فيجد المناخ السياسي مضطرباً ، ويلحظ الناس في اندفاع وغضب ، ويشاهد أولي الأمر بين رغبة ورهبة ، ويرى الوازع الديني ضعيفاً ، والعنف الثوري قائماً ، فيقول لهم : « لا حاجة لي في أمركم أيها الناس ، أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به » . ويعجب الجمع من هذا الإباء ، ويعزّ عليهم هذا الرفض القاطع ، ويشعر الإمام بحيرة القوم ، فيعلل لهم سبب امتناعه ، ويوضح علة إصراره :
« دعوني والتمسوا غيري إيها الناس ، إنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان ، لا تثبت عليه العقول ، ولا تقوم له القلوب » .
وهنا يتجلى البعد السياسي الحصين عند الإمام ، فهو يغوص إلى الأعماق ، وهو يستقرئ الغيب المجهول ، وهو يتوجس من الأحداث القادمة ، ويستخرج دغلها وغشها ودناءتها ، وهو ينفذ إلى خفايا القلوب ويسبر أغوارها فلم يكن ليعجبه الحكم ، وهو مجهول المعالم ، ولم تكن تستهويه الخلافة وهي محفوفة بالتنازع ، وما كان ليستسلم لأهواء الناس وهي مشبوبة العواطف ، وإنما كان يريد أن يخضع لمنطق العقل ويخضع الناس له ، ويحكم بسلطان المنطق ويحمل الناس عليه ، وهو الآن يشاهد الثورة جامحة لا تني ، والاندفاع هادراً لا يهدأ ، والمدينة
236
يحكمها الثوار ، والناس تقترب من الفتنة ، وهو يريد أن يغير هذه الظواهر ، فيقطع مادة الثورة ، ويحمل الناس على الجادة ، ويستقبل بالأمر السبيل المستقيم ، ولكن الناس لم يتركوه ، وانثالوا عليه ، وتمسكوا به :
« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » .
هكذا صور الحال بدقة متناهية ، فما هذا الإصرار من الناس إلا إستنفاراً لا مناص عنه ، وما هذه الغضبة الصارخة إلا نتيجة الألم الدفين ، وما هذا التصوير البليغ إلا بياناً للحال ، فهو بين أن يستجيب للثقة النابعة من الصميم ، وبين أن يتنكب مزلقة النوازل القادمة ، وبين أن يلقي حبلها على غاربها ...
خيارات أهونها الصعب ؛ وبينا هو في هذا التفكير الجدي ، وإذا بالأشتر يندفع قائلاً :
« ننشدك الله ، ألا ترى ما نرى ، ألا ترى ما حدث في الإسلام ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف الله » .
وكان صوت الأشتر جريئاً يستأهل التفكير ، ومجلجلاً يقطع الصمت ، وعنيفاً يدعو إلى الحسم ، وضع الإمام أمام مسؤوليته القيادية ، ليتدارك أمر الإسلام ، ويقطع دابر الفتنة ، فانطلق الإمام يستجيب معللاً ومقرراً :
« قد أجبتكم لما أرى منكم ، ألا فاعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم » .
237
وكانت الاستجابة مقترنة بحملهم على سبيل رسول الله ليس غير ، وهو ما يعلمه الإمام .
استبشر الناس بهذا القرار الحاسم ، ووافقوا على النهج الذي يختطه الإمام ، وهبوا لمبايعته ، ولكنه أبى وقال : « إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ، وفي ملأ وجماعة » .
وكأن علياً أراد ببيعته الإصحار لا الإسرار حتى لا يدعي أحد الإكراه ، وكأنه أراد المهاجرين والأنصار حتى لا يتخلف أحد ، وكأنه أراد كما في بعض المرويات أهل بدر بخاصة ، فلم يبق بدري إلا أتى علياً ، وقالوا له جميعاً :
ما نرى أحداً أحق بها منك يا أبا الحسن . وكان ما قالوا عين الصواب فهم يعرفون عليّا
وسابقته . وقد جاؤوا بعلي عليه السلام إلى المسجد النبوي ، وتمت بيعته جهاراً على كتاب الله وسنة نبيه ، فقال علي : « اللهم إشهد عليهم » .
وكانت البيعة رضا للمهاجرين والأنصار ، وبمباركة أهل بدر خاصة ، وكانت رضا للثوار من الأمصار والأقاليم ، وتخلف عن البيعة من طمع بالخلافة ، أو انحرف عن الإمام ، أو أظهر الاعتزال ، وهم جماعة يعدون بالأصابع ، فما ألح عليهم الإمام ، وفي طليعتهم سعد بن أبي وقاص ، فقد أبى أن يبايع وقال للإمام « ما عليك مني من باس » وعبد الله بن عمر بن الخطاب أبى أن يبايع فطلب إليه الإمام أن يقدم كفيلاً ، فما وجد كفيلاً أو أبى أن يقدم كفيلاً ، فقال الإمام : خلوه وأنا كفيله ، والتفت إليه قائلاً : « ما علمتك إلا سيىء الخلق صغيراً وكبيراً »
238
وأبى البيعة زيد بن ثابت وهو عثماني الرأي فيما يزعم ، ومحمد بن مسلمة وهو يحب أن يعتزل فيما يرى ، وأسامة بن زيد ، وقد انحرف عن الإمام منذ أن أمّر ، والبيت الأموي بعامة وفي طليعتهم مروان بن الحكم ولم يكن هناك ، وحسان بن ثابت الذي هنأ الإمام بالغدير في حياة النبي ، وانحرف عنه ، وحرضّ الناس عليه .
ما استكره الإمام أحداً على البيعة ، وكف عنهم ، وأبى أن يعرض لهم أحد بسوء ، فما كانت البيعة لينقصها هذا العدد الضئيل ، وهي ليست من الضعف بأن يؤثر عليها هذا النفر المحدود .
تمت البيعة لعلي عَليهِ السَّلام ، وكانت رضا لعامة المسلمين إلا هذا النفر الشاذ ، وكان حرياً أن تستقيم له الأمور ، لأنه ما أرادها ولكنها أرادته ، وما تزين بها ولكنها إزدانت به ، فهو أكبر منها قدراً ، وأعلى منزلة . والجدير بالذكر أن الإمام قد أوجز الحال فيها على الشكل الآتي :
« بسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى انقطعت النعل ، وسقطت الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب » .
وقد تمت البيعة لأمير المؤمنين بعد مقتل عثمان بخمسة أيام وكان أمام أمير المؤمنين جملة من المشكلات المهمة ، والقضايا العاجلة التي يجب أن يبتّ فيها فوراً ، وقد يطول الحديث عنها ، ولكنه حسم قضيتين مهمتين :
239
الأولى : سياسة الحكم الجديد ، فقال في أول خطاب رسمي له :
« أيها الناس إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم ، وإني حاملكم على منهج نبيكم ، ومنفّذ فيكم ما أمرت به » .
وقد وضح المنهج الإسلامي في اتجاه علي عَليهِ السَّلام وهو أنه كأحد المسلمين لا أكثر ولا أقل إلا أنه قائدهم ، وهو المنهج الديمقراطي الحديث بعينه هذا اليوم . والثاني أنه يحملهم على منهج النبي وسبيلة لا تأخذه في ذلك لومة لائم .
الثانية : إصلاح ما أفسده عثمان من المال ، واسترجاع ما اقطعه بغير حق ، فقد خطب الإمام في اليوم الثاني لبيعته وقال :
« ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته وقد تزوج به النساء ، ومُلِكَ به الإماء لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق » .
ثم نفّذ الإمام ما قال ، وأمر بقبض كل سلاح تقوّى به عثمان على المسلمين ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة ، وأن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها ، وبالكف عن أموال عثمان الخاصة به .
وقد وضحت سياسة الإمام في الحكم بأنه سائر على منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحيد عنه ، وفي المال بأن يعود لبيت المال .
وهنا تنبه أصحاب المطامع والمآرب والإمتيازات السابقة أن لا حياة لهم مع الإمام ، فقد قال الإمام مباشرة :
240
« فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يقسم بينكم بالسوية ، ولا فضل فيه لأحد على أحد ، للمتقين عند الله أحسن الجزاء ، فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء الله ، ولا يتخلفنّ أحد منكم عربي أو عجمي كان من أهل العطاء » .
وقد تحركت في هذا الإعلان الصريح مكائد القلوب ، واستوحشت منه ضمائر أهل الطمع ، وتنكر له أصحاب الملايين .
فبدأت الفتن تترى كقطع الليل المظلم ، وعليّ في أول الطريق .