فضائلهم في الإسلام ، وكان أنصحهم لله ولرسوله خليفته ، ثم خليفة خليفته ، ثم الخليفة الثالث ، فكلهم حسدتَ ، وعلى كلهم بغيتَ ، عرفنا ذلك من نظرك الشزر وقولك الهجر ، وتنفسك الصعداء ، وإبطائك عن الخلفاء في كل ذلك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش ، ولم تكن لأحدٍ أشدّ حسداً منك لابن عمّك . وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك لقرابته وفضله ، فقطعت رحمه ، وقبحّت حسنه ، أظهرت له العداوة ، وأبطنت له الغش ، وألبّت الناس عليه ، حتى ضربت أباط الإبل إليه من كل وجه ، وقيدت الخيل من كل أفق ، وشهر عليه السلاح في حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقتل معك في المحلة ، وأنت تسمع الهائعة لا تدرأ عنه بقول ولا فعل . ولعمري يا ابن أبي طالب لو قمت في حقه مقاماً تنهى الناس فيه عنه ، وتقبح لهم ما اهتبلوا منه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحداً ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة له والبغي عليه . وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنين ، إيواؤك قتلته ، فهم عضدك ويدك وأنصارك ، وقد بلغني أنك تنتفي من دم عثمان وتتبرأ منه ، فان كنت صادقاً فادفع إلينا قتلته نقتلهم به ، ثم نحن أسرع الناس إليك . وإلا فليكن بيننا وبينك السيف ، والذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أروحنا بالله . والسلام » .
     والطريف في هذا الكتاب أن يفتخر معاوية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عليّ عليه السلام وهو نفسه ، وعلي نفس محمد بصريح القرآن ، فهو أولى بالفخر ، وأن يسمي معاوية لعلي عليه السلام أعوان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنصاره الذين أيدّ الله بهم الإسلام ، وعليٌّ عليه السلام أولهم ، وأقدمهم سابقة ومناصرة ومجاهدة ، وأن يصنّف له الخلفاء وليس معاوية هناك ، وأن يتهمه بحسدهم والبغي عليهم ، عسى أن تبدر من عليّ كلمة بحقهم


282
فيرفعها شعاراً كما رفع قميص عثمان شعاراً ، وأن يصمه بحسد عثمان والإجلاب عليه والاتهام بقتله .
     ويتضح من هذا الكتاب أن معاوية لا يريد إصلاحاً ولا صلاحاً بل اشتط به كل الشطط لإيراء الحرب ، واتكأ في ذلك على أن علياً عليه السلام آوى قتلة عثمان ، ولم يكن الأمر كذلك ، إذ كان علي عليه السلام يخذل الناس عن عثمان ، وينهاهم ويزجرهم ، ونصح لعثمان ـ كما سبق ـ نصحاً أرضى به ربّه ونفسه حذر الفتنة .
     وحقٌّ لعلي أن يقول لهذا ولأمثاله :
     « أنزلني الدهر حتى قيل عليٌ ومعاوية » . فيا له من حرج في النفس ، ويا له من مقياس عند الناس ، ويا له من هوان يتأثم منه التقي ، ويتحرج ذو الدين .
     ومهما يكن من شيء فقد أنهى أبو مسلم الكتاب إلى أمير المؤمنين ، وجمع علي عليه السلام الناس في المسجد ، وقرىء الكتاب ، فتنادى الناس من جوانب المسجد « كلنا قتلة عثمان ، وكلنا كان منكراً لعمله » . واتضح لأبي مسلم أن علياً لا يستطيع أن يسلم هذا الجمع من الناس ، فهم يحكمونه الآن وهو لا يحكم ، كما اتضح له أن قاتليه رأوا في قتله صلاح أمر الدين ، فجعل أبو مسلم يردد ، مع وضوح الأمر لديه إعذاراً : الآن طاب الضراب .
     وبهذا فقد بلغ معاوية قصده ، فهدفه أن يجعل المترددين موقنين بمشروعية طلبه للثأر المزعوم ، والغريب ـ كما هو متوقع ـ أن الحكم حينما صفا لمعاوية لم يذكر عثمان ، ولا دم عثمان ، ولا ثأر عثمان ، ولا أبناء عثمان ، وكان كل ذلك نسياً منسياً ، وإنما شهر كل ذلك سلاحاً في


283
وجه أمير المؤمنين طلباً للسلطان ليس غير .
     وقد سفّه عليٌّ عليه السلام أحلام معاوية في هذا الكتاب ، وغيره من الكتب ، فردّه رداً عنيفاً ، جاء في جزء منه :
     « وزعمتَ أني للخلفاء حسدتُ ، وعلى كلهم بغيتُ ، فأن كان ذلك كذلك فليست الجناية عليك ليكون العذر لك ، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . وقلت إني أقاد كما يقاد الفحل المخشوش حتى أبايع ، فلعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحتَ ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ولا مرتاباً في يقينه ، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، وأما ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأينّا كان أعدى له ، وأهدى إلى مقالته ، أمن بذل له نصرته فاستقعده وأستكفّه ، أمن استنصره فتراخى عنه ، وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه ، وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فربَّ ملوم لا ذنب له ، وقد يستفيد الظنة المتنصحُ ، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله » .
     وفي رسالة أخرى ردّه الإمام بقوله :
     « وأما ما ذكرت من أنه ليس لي ولأصحابي إلا السيف ، فلقد أضحك بعد استعبار ، متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوفين ، فالبث قليلاً يلحق الهيجا جمل ، وسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زمامهم ، ساطع قتامهم ، متسربلين سربال الموت ، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ، وقد صحبتهم ذرية بدرية ، وسيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها بأخيك


284
وخالك وجدك وأهلك وما هي من الظالمين ببعيد » .
     وهكذا توالت الرسائل بين الإمام ومعاوية ، ومعاوية يكيد ويريد الحرب طلباً للملك ، وعليٌ عليه السلام يريد الإصلاح واستقرار الإسلام ، وأخيراً كان لا بد مما ليس منه بد ، فقد قدّم علي طلائعه إلى صفين ، وأمرهم أن لا يبدأوهم بقتال حتى يأتيهم ، وسار علي عليه السلام ببقية جيشه حتى وصل إلى صفين . وسار معاوية بجيوش الشام حتى انتهى إلى صفين أيضاً ، وكان وصول معاوية اسبق فاستولى على الماء و اهتلك شريعه الفرات يريد أن يحلئ علياً و اصحابه عن الماء وجرت خطوب كثيرة ، واشتد القتال على المشرعة فامتلكها علي عليه السلام ، وأراد أصحابه منع أهل الشام الماء ، فأبى الإمام ذلك لأن دينه يمنعه ، فالماء من المباحات المشتركة بين الناس ، عسى أن لا يتعجل حرباً ، ولا يسفك دماً ، يأتلف المخالف ، ويعفو عن المسيء ، ويلتمس العذر للآخرين ، ولكن للحرب بوادر ، ولها مظاهر ، ما نفع معها الجدل الهادىء ولا العنيف ، ولا أطفأ نائرتها التغاضي والصفح الجميل ، وإنما قامت على ساق رغم الظروف السياسية المتينة التي سيّرها أمير المؤمنين بحكمته ودرايته وتجربته لإخماد اللهيب ، ورغم الجهود التي أوجدها لإحلال الأمن والسلام .
     ذهبت كل المؤشرات الخيرة التي بذلها الإمام أدراج الرياح ، وحل محلها العنت والتزمت والعدوان ، فاستمسك الإمام بالأمر ما استمسك ، فلما فلت الزمام قامت الحرب .


285
(8)
معركة صفّين ... وإنحياز الخوارج

     امتلك عليٌّ عليه السلام مشرعة الفرات في صفين فأباح الماء لأهل الشام كما رأيت ، وقد أصبح جيشه وجهاً لوجه مع جيش معاوية ؛ وكان ذو الحجة من عام ستة وثلاثين للهجرة ، ومحرم من عام سبعة وثلاثين مجالاً للمحاورة وسجالاً بالسفراء ، عسى أن يجديا نفعاً كما أراد عليٌّ عليه السلام ، فلم يعكر صفواً ، ولم يتصنع غضباً ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويذكر أهل الشام بمنزلته وسابقته ، وكان معاوية يشحنهم بدعوى الطلب بثأر عثمان ، وكثرت الرسل بين الطرفين ، وعلا الإختصام والإحتجاج ، ولم يبلغ أحد من أحد شيئاً ، وكان لا بد بعد فشل الخصام باللسان أن يتطور إلى الخصام بالسيف ، فكانت الكتيبة من جيش الإمام تخرج إلى الكتيبة من جيش معاوية ، وكان الفريق من أهل الشام يقاتل الفريق من أهل العراق ، وكانت الحرب سجالاً نهاراً أو بعض النهار ويحجز بينهما الليل ، وكان لا بد لهذه الحالة أن تتصاعد ، ولهذا الصراع أن يستحكم ، ولهذه المجابهة أن تتحفز ، وما مضى شطر من صفر إلا استقتل هؤلاء وهؤلاء ، ودنا أولئك من أولاء ، فكانت الحرب الطاحنة الشاملة التي يشيب لهولها الوليد .
     وكان الجيشان على نحو من الكثرة والعدد ، فبين مبالغ فيه من المؤرخين ، وبين معتدل ، فجيش علي مائة ألف مقاتل فيما يزعمون ،


286
وجيش معاوية سبعون ألف مقاتل فيما يزعمون .
     جيش علي عليه السلام يشتمل على عدد كبير من المهاجرين والأنصار في طليعتهم عمار بن ياسر الذي قال عنه النبي وله : « يا عمَّار تقتلك الفئة الباغية » . وفيهم خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي سماه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بذي الشهادتين ، وفيهم ابن التيهان الصحابي الجليل ، وفيهم هاشم بن عتبة المرقال ، وقيس بن سعد بن عبادة ، والأحنف بن قيس ، ومالك الأشتر ، وجمهرة من أعلام بدر وأعيان أحد ، وأمثالهم كثير .
     وجيش معاوية يشتمل على جملة من رؤساء القبائل الشامية كذي الكلاع الحميري ، وعلى أبناء الذوات كعبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وعلى طائفة من الموتورين والإنتهازيين كمروان بن الحكم وعمرو بن العاص وأضرابهم .
     وتمثل هذه الأسماء قيادة الجيشين ، وأركان الحرب فيهما ، والتقى الجيشان فكانت ملحمة كبرى ، استمرت أياماً طويلة وليالي ، ندرت فيها الرؤوس ، وطاحت الأيدي ، وتهاوت الأجساد ، وزهقت الأرواح ، حتى إذا كانت ليلة الهرير كانت ليلة فاصلة في القتال ، هبت فيها رياح النصر مع أمير المؤمنين ، وعليّ عليه السلام يلتجىء إلى مسيرته من ربيعة ، فتستقتل دونه استقتالاً مريراً ، وتتحالف أفخاذها على الموت ، وقائلهم يقول : « لا عذر لكم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو فيكم » وتُبلي همدان بلاءً حسناً ، أهونه أن تقاتل في صبر وحمية وإباء ، فيرتجّ الميدان وتزلزل البيد .
     وميمنة أمير المؤمنين يقودها مالك الأشتر من نصر إلى نصر ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص يرقل بالراية إرقالاً ، ويستنزل الظفر


287
استنزالاً بحد السيوف ، ويقول :

أعورُ يبغي أهلَهُ محلاّ وعالجَ الحياةَ حَتى ملاّ قد أكثرَ القولَ وما أقـلاّ لا بدَّ أن يَفـلَّ أو يُفَّـلا
أشلُهُم بذي الكعوبِ شلاّ

     وعمار بن ياسر يصرخ في المقاتلين ، ويهيب بالمرقال والأشتر قائلاً : « الجنة تحت ظلال الأسنة » « غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه » ... وهو يرتجز مزمجراً :

نَحنُ ضَرَبناكُم على تَنزيلِهِ ضَرباً يزيلُ الهامَ عن مَقيلِهِ واليومَ نضربُكُم على تَأويـلِهِ ويُذهلُ الخَليـلَ عن خَليـلِهِ
أو يَرجعُ الحَقّ إلى سَبيلِهِ

     ويقاتل عمارٌ عمرو بن العاص ، وينظر إلى رايته الضالة فيقول :
     والله لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات ، وهذه الرابعة وما هي بأبرّهن .
     وهو القائل بين الصفين : والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق ، وأنهم على الباطل .
     ويستقتل ويقتل هو وصاحب اللواء هاشم المرقال ، ويستسقي عند مصرعه ، فيسقى لبناً فيكبر ويقول :
     « أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن آخر زادي من الدنيا ضياح من لبن » .
     وحينما يقتل عمار ، ينادي خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين معرّضاً بأصحاب معاوية : الآن استبانت الضلالة ، لأنه وأمثاله من الصحابة يروون الحديث المتواتر عن النبي :


288
     « يا عمار تقتلك الفئة الباغية » .
     وقد شاع هذا الحديث في صفوف الشاميين ، ورواه لهم : عمرو بن العاص وسواه منهم ؛ فلما قتل عمار ، اشتد الخطب على معاوية والتجأ إلى المرواغة وتزييف الحقائق ، فقال : ما نحن قتلنا عماراً ، وإنما قتله الذي أخرجوه ، فردّهم الإمام علي رداً بديهياً وقال على سبيل الإنكار ، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل عبيدة لأنه أخرجه إلى بدر ، وقتل حمزة لأنه أخرجه إلى أحد ، وقتل جعفراً لأنه أخرجه إلى مؤتة .
     وقتل في اشتداد القتال وعند مصرع عمار وذو الكلاع الحميري من أهل الشام ، وكان يستقصي أخبار عمار فيوهمه معاوية بأنه سيلتحق بنا ويقاتل علياً ، وكان ذو الكلاع ينظر عاقبه عمار ، ولكنهما قتلا بوقت واحد ، فقال معاوية : لست أعلم بأيهما أشد فرحاً بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع ، لأنه حاذر أنه يلتحق بعلي مع قبيلته لو أدرك مصرع عمار .
     وقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، قتله بغيه وتطاوله ، واستوهبت زوجته جثته فلم يمتنع الإمام من ذلك .
     ونجا عمرو بن العاص ، حينما برز إليه الإمام علي عليه السلام فحينما أدركه كشف سوأته ، فصرف الإمام بوجهه عنه ، وغض طرفاً ، وعيّر عمرو بذلك كثيراً حتى من معاوية فما أكترث .
     وتداعت صفوف أهل الشام في الإنهزام والفرار والقتل ن وبدا عليهم الخذلان التام ، وكاد معاوية أن يفر لولا أن تذكر قول ابن الاطنابة ، وقد أعدت له فرس للفرار :

أبت لي همتي وأبى بلائـي وإجشامي على المِكروهِ نَفسي وَأخذُ الحمدِ بالثمنِ الربيـحِ وضَربي هامةِ البطلِ المُشيحِ


289
وقولي كلما جَشَأت وجَاشَت مَكَانَكِ تُحمدِي أو تُستريحِي

     ويزعم المؤرخون أن جيش معاوية قد تضعضع بش كل لا يمكن إلتأمه ، وأن أركان حربه يلوذون بالفرار ، وأن الأشتر يزحف بالكتائب حتى يصل إلى فسطاط معاوية ، ومن خلفه الجيش العراقي يتجحفل بهجومه الكاسح على مقرّ قيادة الجيش الشامي ، وهنا يستنجد معاوية بعمرو بن العاص ، فيدبران المكيدة برفع المصاحف ، وإذا بمنادي أهل الشام يقول :
     « هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته ، اللهَ اللهَ في العرب ، الله الله في الإسلام ، الله الله في الثغور . من لثغور الشام إذا هلك أهل الشام ؟ ومن لثغور العراق إذا تفانى أهل العراق » .
     وكانت ليلة الهرير بما صاحبها من إنتصار ساحق لأهل العراق ، وإندحار شامل لجيش الشام مقدمة التفكير في هذه المكيدة .
     ولم تكن هذه الخديعة الكبرى وليدة ساعتها ، ولا بنت ليلتها ، وإنما سبقها عمل مستمر وكيد قائم على قدم وساق من قبل معاوية وقيادته ، فلقد ملّ معاوية الحرب الخاسرة التي يخوضها ، وقد أُخذَ عليه بالمخنق بها ، ولا أمل له بالنصر أو الخلاص فما هي إلا السقوط في المعركة أو الهزيمة الكبرى ، لا سيما بعد تناثر آلاف القتلى التي مني بها جيشه ، فقد ذكر المؤرخون أن قتلى أهل الشام قد بلغوا خمسة وأربعين ألفاً ، كما أن قتلى أهل العراق قد بلغوا خمسة وعشرين ألفاً ، وهب أن هذا العدد من المعسكرين مبالغ فيه ، فلو تنزلنا معه إلى نصفه لكان عدداً هائلاً ، وخسارة فادحة .
     كان بين أهل العراق عدد لا يستهان به من رؤساء القبائل ممن استهواهم معاوية بالمال والوعود وكان في طليعتهم الأشعث بن قيس


290
الكندي الذي قال عنه ابن أبي الحديد : « كل وهن لحق بخلافة أمير المؤمنين فمصدره الأشعث بن قيس » .
     وهذا يعني أن الأشعث ومن على شاكلته من أهل الدنيا لم يخلصوا النية للإمام ، ولم ينصحوا له سراً ولا علانية ، فهم أهل هوى لا أهل ورع ، والهوى يقود صاحبه إلى الضلال لا الهدى ، فكان هؤلاء يريدون الموادعة ، ولا يريدون نصراً لعلي عليه السلام ، يسير بعده بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
     وكان جيش الإمام مزيجاً من أقوام أخلص بعضهم إخلاصاً فذّاً ، وغدر بعضهم غدراً مبيّناً ، ووقف آخرون موقف المحايد المستفيد . فمن تابعه من المهاجرين والأنصار ومن إتبعوهم بإحسان يقاتلون ببصيرة نافذة ، ودوافع دينية محضة لأنهم يرون الحق مع علي وعلياً مع الحق ، وكذلك كان خيار أهل الكوفة ، وجملة من أهل البصرة . وأما من لحق به من أهل الجمل فكان فيهم المنهزم والدخيل والمعتزل . ولم يكن إخلاصهم للإمام خالصاً ؛ وهناك طائفة كبيرة من الإنتهازيين والوصوليين يظهرون الولاء لأمير المؤمنين ويضمرون الكيد له ، يغازلون معاوية سراً ، ويشايعون علياً علناً ، وليس من الصعب على معاوية استدراج هؤلاء لأغراضه ، وإستقطابهم في مخططاته الكبرى ، فما إن رفعت المصاحف حتى انتقض جيش الإمام على نفسه ، وطلبوا إلى الإمام إيقاف الحرب ، وأحاط به أكثر من عشرين ألفاً شاهري السيوف ، وقد يقال بأن بعضهم طلب من الإمام القبول بحكم القرآن وإلا لحق بعثمان ، والإمام كان يقاتل من أجل حكم القرآن ، ونظام القرآن ، وأوضح لهم أن معاوية وأشياعه ليسوا بأهل دين وإنما هم طلاب ملك ودنيا ، وأنها خديعة الطفل عن اللبن ، فكان أشد الناس عليه الأشعث بن قيس